موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد الحادي والعشرون من زمن السنة-أ
أيّها الأحبّاء جميعًا. بعدَ أَنْ شَفى يسوعُ ابنةَ المرأةِ الكنعانية في إنجيلِ الأحد الماضي. ثمَّ أبرأَ المرضى الّذين أَتَت بهم الجموعُ إليهِ عند شاطِئ بحر الجليل. وبعدَ أن أَطعمَ الجموعَ هناك. ها نحنُ نراه اليوم يَصعدُ شمالًا، ويصِلُ إلى نواحي قيصريّة فيلبّس، أو ما يُعرف اليوم ببانياس. وهي مدينةٌ تقع إلى الشّمال الغربي من بحيرةِ طبريا، عندَ سفوحِ جبل الشّيخ. وسُميّت بقيصريّة فيلبّس نسبة إلى فيلبّس ابن الملك هيرودس، وتكريمًا للقيصر طيباريوس.
وهناك في تِلك النّواحي، يُبادرُ يسوعُ بالسّؤال إلى تلاميذِه قائِلًا: "مَن ابنُ الإنسانِ في قَولِ النّاس؟". أَتَعجّبُ من هذا السّؤال! لماذا يا تُرى نرى يسوع يهتمُّ فجأةً بآراءِ النّاسِ فيه؟! ونحن نَعرفِهُ لا يُقيم وزنًا أو اعتبارًا لآراء النّاس فيه أو لانتقاداتِهم لهُ ولأفكاره ومنطِقِه، ولأقوالِه وأفعاله! بل يقول ما يُفكّر، ويعمل ما يجب أن يُعمل، بصرفِ النّظر عن الرّاضين أو الرّافضين. فما الذي حدث، حتّى نراهُ يُحدِثُ نوعًا من التّبدّل، وكأنّه صار يهتمّ فجأةً لما يَعتقدون أو يَظنّون فيه؟!
طَرحتُ هذا السّؤال على أحد الأشخاص، فقلتُ له: (هل تهتمُّ لرأيِ النّاسِ فيك؟) فَأَجابَني: (كلّا. ما دمتُ واثق الخطوةِ أمشي ملِكًا). ويبدو أنّه اتّخذَ من هذهِ الجُزئيّة لأحمد ناجي، في قصيدته الأطلال، منهجًا وشعارًا. وهذا شيء جميل بالمناسبة. يسوع كان هكذا. واثِقَ الخُطى، راسِخَ القدم، ثابتَ القلب، سديدَ الرّأي، راجِحَ العقل. ولا أعتقِدُ أنّه سألَ هذا السّؤال لتلاميذه لِشكٍّ يساوِرُه في عقله، أو لِزلزلةٍ أصابت ثِقتَه بنفسِه، أو لخوف يختلِجُ في قلبه. هو لا يريد أن يحصلَ من تلاميذه على تَطمينات وَهميّة أو ضمانات مزيّفة، أو ليرى هل هو عُرضة لانتقاداتِ الجموع. وليسَ هو من النّوع الّذي يبحث عن أكيال المديح والثّناء، حتى يُشبِعَ غروره أو يُرضي كبرياءَه.
إذًا، لماذا يسأل يسوع هكذا سؤال؟! "مَن ابنُ الإنسانِ في قولِ النّاس؟". في لُغة السّياسة هناك ما يُسمّى بِنَبضِ الشّارع. أي معرفة رأي النّاس في قضية معيّنة، وأحوال النّاس عند ظرف معيّن. لِتَكوين فكرة عامّة عن واقع البلد والمجتمع، ووضع سيناريوهات لما يمكن أن يحدث، وكيف يُمكن للأمور أن تتطوّر مُستقبلًا. يسوع من خلال جَسِّه لنبض الشّارع وَرأيِهِ فيه، يريد أن يصل إلى هَدفٍ آخر. فبعد أن سمعَ الإيجاز الّذي قَدّمَه له التّلاميذ عن آراء النّاس المختلِفة، واعتقاداتِهم المنتشرة بينهم، يُباغِتُهم بالسّؤال الجوهري: "وَمَن أنا في قولِكُم أنتم؟".
هذا هو هدف المسيح. يُريد أن يعرف ما هي الصّورة الّتي كوّنها تلاميذُه، والنّتيجة الّتي وصلوا إليها. هُم الّذينَ رَافَقوه في تِجوالِه، وَصَحِبوه في جَولاتِه، وسَمِعوا ما قال، وشاهدوا ما صنع. بعد كلّ هذا، مَن أنا في قولِكم أنتم؟ وهو بالمناسبة سؤال آني، أي الآن وهنا. سؤال يُطرح على كلّ واحدٍ منّا اليوم كتلميذ ومؤمن بالمسيح، وبشكلٍ شَخصي. مَن أنا في قولِك أنتَ يا فلان، ومَن أنا في قولِكِ أنتِ يا فلانة؟ ماذا يعني لكَ المسيح؟ شخصية اعتبارية؟ شخصية فولاذيّة؟ شخصية فريدة استثنائيّة؟ شخصية مثيرة للفضول؟ مثيرة للإعجاب؟ شخصية مُستفزّة أو متطلّبة صعبة الإرضاء؟ تتفاوت الآراء في يسوع وتختلف وتتباين. ربّما الآراء النّظرية حفظناها مُذ كنّا في المدراس أو من خلال الكتب وغيرها. ولكن الرّأي الشّخصي، يبقى نتيجة خبرتِك مع المسيح، وحصيلةَ عيشك معه.
بطرس بعدَ كلّ ما سمع وشاهد، اِستطاعَ أن يَصِلَ إلى نَتيجة إيمانية راسخة: "أنتَ المسيح ابنُ الله الحي". وأنتَ بِدَورِكَ هل وَصلتَ لنتيجة إيمانية راسخة، ولقناعة ثابِتة عن المسيح؟ أم لا يزال الأمر مُجرّد آراءٍ تَتَباين وتختلف، باختلاف وَضعِكَ وظروفِكَ وحالتِكَ النّفسية والجسدية والمادّية. تمامًا كما حدث في الفصل السّادس من إنجيل يوحنّا. فعندما أطعمَ المسيحُ الجموع أَرَادتهُ ملكًا عليها، وعندما حَدّثهم عن كَونِه خبز الحياة، تركوه وانقطعوا عن السّير معَه! هذا ما نُسمّيه بتأرجُحِ المواقِف وتذبذب الآراء!
يا أحبّة، عندما يسألُني المسيح اليوم: مَن أنا في قولِك أنت؟ لا بدّ أن أكون قد وصلت إلى نتيجة، أو إلى شبه نتيجة. مع المسيح لا ينفعُ الحياد ولا التّأرجُح، فهو لا يرضى بأنصافِ الحلول، ولا يَرضى بأن يكون مجرّد بطاقة صرّاف آلي، تنتفِعُ به حينًا وتَتركُه أحيانًا أخرى.
أنتَ المسيحُ ابنُ الله الحي. هذه الجملة ليست مجرّد حقيقة لاهوتيّة نَظَريّة. إنّما هي نهجُ حياة، نعيشُ بموجبِها ونحيا بحسب مُقتضاها. لذلك، أَرني إيمانَك من غير أعمال، أُرِكَ أنا إيماني بأعمالي (يعقوب 18:2). من السّهل جدًّا على المسيحي أن يتحدّث عن المسيح بكلام معسول يسلب العقول. ولكن، كم هو صعب أن يحيا المسيحي حقًّا ما يقول، أن يُطعّم أقوالَهُ بأعمالِه. فأقوالُ كثيرٍ من المؤمنين، تبقى مجرّد ادّعاءات أو شعارات انتخابية، بما أنّنا مقبِلون على انتخابات برلمانية، لا ترى النّور في كثير من الأحيان، وتبقى مجرّد خطط، نستخدمها عندَ الحاجة ثم نُقفِلُ عليها.
بطرسُ الّذي أَعلنَ اليوم فعل إيمانٍ خالد، هو بطرسُ الّذي خاف وأنكرَ مُعَلّمَه ثلاث مرّات (متّى 69:26-75)، وهو أيضًا الّذي أوكل إليه الرّب رعايةَ الخراف والعناية بها (يوحنّا 15:21-17). أحيانًا نكون كبطرس. تجتمع فينا عدّة شخصيات، نتأرجح في مواقِفنا، نتذبذبُ في ردّات فعلِنا، وقد تختلِفُ آراؤنا إزاءَ موقف نضطرب أمامَه، فنُنكر أو ندّعي خلاف ما نعتقد. ولكنّ المسيح يظلُّ واثقًا بِنا، فلا تفقِد أنت ثقتَك به.
وليسَ بطرس وَحده، ولكن التّلاميذ بأجمعِهم خافوا وهربوا، وأنكروه وتركوه وحيدًا في لحظة من الّلحظات. بولس أيضًا اعترفَ أنه متسربلٌ بالضّعف. ولكنّه أقرَّ أنّه في الضّعف تبدو كمال قدرة الله فيه (2قورنتوس 9:1). هذا هو المسيح بالنّسبة لي، وهذا هو قولي فيه: أنتَ الرّبُّ الحنون، المشفِق المسامِح، الّذي ينشلُني من سَقطَتي، في كلِّ مرّة أضعف فيها وأهوي، ويبقى واثِقًا فيَّ بالرّغم من كثرة أخطائي.
الآن دورك أنت لكي تُجيب: من أنا في قولِك أنت؟!