موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١ مارس / آذار ٢٠٢٣

وَأَبوكَ الذي يَرى في الخُفيةِ يُجازيك

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
﴿وَأَبوكَ الّذي يَرى في الخُفيةِ يُجازيك﴾ (متّى 4:6)

﴿وَأَبوكَ الّذي يَرى في الخُفيةِ يُجازيك﴾ (متّى 4:6)

 

عظة أربعاء الرّماد

 

الرّمَاد! هُوَ هذا العُنصرُ الوَضيع، الّذي يَبْقى بَعدَ أَنْ لا تُبْقيَ النّارُ عَلَى شَيءٍ إلّا وَقَد أَحرَقَتهُ! فَالرَّمَادُ يحمِلُ مَعانيَ الفَناءِ وَالزَّوَالِ والانْتِهَاء، وَهوَ وَسيلةٌ مَادّيةٌ تُذِكّرُ الإنسانَ بِعَاقِبَتِه الحَتْمِيَّة بَعدَ الحياة، أَي الْمَوتُ وَفَنَاءُ الأجساد. لِذلِكَ يَقولُ الكَاهِنُ وَهوَ يَذُرُّ الرَّمَادَ فَوقَ الرُّؤوس: "أُذكُر يَا إنْسَان أَنَّكَ تُرابٌ، وإلى التُّرابِ تَعود"، مُذَكِّرًا الإنسانَ أَنّهُ سَيَعودُ يَومًا إلى الأرضِ، يَومَ يُوارَى كُلٌّ مِنَّا الثَّرى.

 

وَإنْ كَانَت هَذهِ هيَ إِحدَى الحَقائقِ الْمُطْلَقَةِ لِلكائنِ البَشَري، يَا أَحبَّة، فُهناكَ أَيضًا حَقيقةٌ مُطْلَقَةٌ أُخْرَى، أَلا وَهيَ حَقيقةُ الحياةِ الّتي نُؤمِنُ بها وَنَرجوهَا، وَقَدْ استَحَقَّهَا لَنَا الْمَسيحُ بِسِرِّ فِصْحِهِ، أَيْ مَوتِهِ وَقِيامتِهِ الْمَجيدَة. وَلِهذهِ الحياة نحنُ نستعِدُّ وَنتحضَّر. فَأنْتَ يَا إنْسَان، وَإنْ كَانَ مَصيرُ جَسدِكَ الفَناءُ وَلَو لِحين، إلّا أَنَّك مَدعوٌّ لحياةِ البَقَاءِ، مِنْ خِلالِ دُنياكَ الّتي بِها تَستَعِدُّ لآخِرَتِك، مُمارِسًا أَعمَالَ البرِّ وَالتَّقوى، وَالقَدَاسَةِ وَالتَّوبَة، جَميعَ أَيّامِ حَياتِك!

 

إنجيلُ أَرْبعاءِ الرّماد، والّذي بِهِ نَستَهِلُّ صَومَنَا الكَبير، يُلَخِّصُ مَحاوِرَ هذا الزّمنِ الْمُبارَك. فَهوَ زَمَنٌ لِلصَّدَقَةِ بامْتِياز أَي العَلاقَة مع الآخَر، وَهذا هو الْمحورُ الأُفُقي. وَزَمنٌ للصَّلاةِ بامتِياز أَي العَلاقَة مع الله، وَهذا هو الْمحورُ العَامُودي. وَزمنٌ للصّومِ بامتِياز أَي العلاقَة مَع النَّفس، وَهذا هو الْمحورُ الذَّاتي.

 

وَإذا أَمْعَنا النّظرَ في الْمَحاوِرِ الثّلاثَة، وَجَدَنَا أنَّ الْمَسيحَ لَم يَضع الصّلاةَ أوَّلًا ولا الصَّومَ أوَّلًا، بَل قَدْ جَعَلَ الصَّدَقَةَ أوَّلًا، أَي الْمِحوَرِ الأُفقي الّذي يربِطُ الإنسانَ بالإنسان. لِمَاذا؟ وَهُنا يُجيبُ القدّيس يُوحنّا في رسالتِه الأولى فَيَقول: ﴿مَنْ كَانَتْ لَهُ خَيراتُ الدُّنيا وَرَأَى بِأَخيهِ حَاجَةً، فَأغلَقَ أَحشَاءَهً دونَ أَخيه، فَكيفَ تُقيمُ فيهِ مَحبّةُ الله؟﴾ (1يو 17:3).

 

لِذلِكَ يَا أَحبَّة، الْمِحورُ الأفُقي هوَ بِمثابَةِ كاشفٍ يُشيرُ إلى صدقِ العَلاقةِ مَع اللهِ أَو زِيفِها! لأنَّ ادِّعَاءَ التَّقوى وَالْمَحَبَّة شَيء، وَمُمارَسَةُ أَعمالِ التَّقوى والْمحبّةِ الصّادِقَة، شَيءٌ آخرٌ مُختلِفٌ تمامًا. فَمَحبَّةُ الله تُترُجَم مِن خلالِ أَعمالٍ محسُوسَةٍ وَمَلموسَةٍ نحوَ إِخوةِ يَسوعَ الصّغار، نحوَ القَريب. لِذلِكَ يُكمِلُ يُوحنّا فَيَقول: ﴿يا بَنيَّ، لا تَكُنْ مَحبَّتُنا بالكلامِ والّلسان، بَل بالعملِ والحَق﴾ (1يو 18:3). وَأَيضًا يَكتُبُ يَعقوبُ الرّسولُ فَيَقول: ﴿الشّياطينُ هيَ أيضًا تُؤمِنُ بِهِ وَترتَعِد! إنَّ الإيمانَ مِن غيرِ أعمالٍ شَيءٌ عَقيم﴾ (يعقوب 19:2-20). أَفَلا تَخشَى إذًا أَنْ يَكونَ إيمانُكَ كإيمانِ الشَّياطين، مُجَرّدَ مَظَاهِرٍ، خَالِيًا مِنْ ثَمارِ البِرِّ وَأعَمَالِ الرَّحمَة؟

 

أَلَمْ يَقل الْمسيحُ: ﴿كُلَّمَا صَنَعتُم شَيئًا مِن ذلِكَ لِواحِدٍ مِن إخوَتي هؤلاءِ الصّغار، فَلي قَدْ صَنَعتموه﴾؟ (متّى 40:25). أَلَم يَقُل أيضًا: ﴿اِذْهَب أوَّلًا فَصَالِح أَخَاكَ، ثُمَّ عُدْ فَقدِّم قُربانَك﴾ (متّى 24:5). وَكَم مِنَ النُّفوسِ في هَذا الزّمنِ تَحتاجُ إلى نِعمةِ الْمُصَالَحة؟! وَكَمْ مِن القَرابين وَالصَّلواتِ باطِلة، لأنَّ القُلوبَ مُتَّسِخَة عَلَى بَعضِنَا البَعض، مَليئةٌ حِقْدًا وَحَسَدًا وَبُغْضًا وَانْتِقامًا؟!

 

فَكَفانَا تَقْوَى هُلاميّة، سَطحيّة، فَارِغَة، عَقيمَة! تَقوَى الْمَظاهِر اللهُ يَمقُتُها! لأنَّ هذا الزّمنَ هوَ أَيضًا زَمَنُ الْمُتَكبّرين الْمُتَبجِّحين، الفِريّسيّينَ بامتياز! أُولئِكَ الّذينَ يَتَبَاهونَ بِصومِهم الجَسَدي، مُعتَقِدينَ أَنّهم أَفضلُ مِن غيرِهم، وَلَكنَّ صومَهم فَارِغٌ وَعَبثي، لأنَّ الرّوحَ غَيرُ نَقيَّةٍ وَلا مُسْتَقيمَة، وَصومُهم هو جُوعٌ وَتوفيرٌ فَقط، يَفْتَقِرُ إلى التَّقوَى الحقيقيّة.

 

فَمَا الفَائِدَةُ مِنْ كَثرةِ الصّومِ، وَأَنت تَكَادُ لا تَلْتفِتُ خِلالَ هَذا الزّمنِ إلى إخوَةِ يَسوعَ الصّغار؟! مَا الفَائِدةُ مِن كثرةِ الصّومِ، وَأَنت لا تُقَدِّمُ قِيمَةَ مَا وَفَّرتَهُ، جَرّاءَ امْتِنَاعِكَ عَنْ بَعضِ الأطْعِمة، لِعَملِ خَيرٍ وَنَجدَةِ مُحتَاج؟! فَصَومُ الكثيرين يَندَرِجُ ضِمنَ عَالمِ الاقتصادِ وَالتَّوفير، لا ضِمنَ عَالمِ الرّوحِ والتّقوى. مَا الفَائِدةُ مِن كثرةِ الصّومِ، وَأَنت لا تَزالُ مُمتَلِئًا غَضبًا وحِقدًا وَحَسدًا وَكَذِبًا وَدَنسًا وَكِبرياء؟!

 

دَعونَا يا أَحبَّة، نعودُ إلى مُقَدّمةِ إنجيلِ هذا اليومِ الْمبارَك: ﴿إِيَّاكُم أنْ تَعْمَلوا بِرَّكُم بِمَرْأىً مِن النّاس، لِكَي يَنظُروا إليكُم﴾ (متّى 1:6). فَكُلُّ عَملِ بِرِّ، سَواءً كَانَ صَدَقةً أَو صَلاةً أو صَومٍ، لَم يُمارَس بِروحِ التَّواضُع، كَانَ نِفَاقًا وباطِلًا. فَالّذينُ يُمارِسونَ البِرَّ أو يَصْنَعونَ الخيرَ بِكبرياءٍ، طَلَبًا لِلمديحِ وَنَيلِ الثَّناءِ والجَزاء، وَقُبولِ الْمَجدِ والكرامَةِ مِنَ النَّاس، بِرُّهُم بَاطِلٌ وَسَبيلٌ للخطيئَة.

 

أَمّا أَنتَ أَيّها الْمَسيحيُّ الصَّادِقُ الأمين، فَلا تَجعَلْ شمالَكَ تَعلَمُ مَا تَفعَلُ يَمينُكَ! ولا دَاعٍ لأنْ يَرى النّاسُ أو يَعلَموا، وَلا بأسَ إن لم يَشكُروا وَيُصَفِّقوا، ولا تَحزَن إنْ لم يرفَعوك فَوقَ الأكُفِّ والأكتَاف، ولا تَغْضَبْ إِنْ نَسوا يومًا وَأنْكَروا! إنَّمًا اصنَعْ كُلَّ بِرٍّ في اللهِ وَلأجلِ اللهِ وَحُبًّا في الله: ﴿وَأَبوكَ الّذي يَرى في الخُفيَةِ يُجازيك﴾ (متّى 4:6).