موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٧ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢١

هَيَئوا قلوبَكم

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
هَيَئوا قلوبَكم

هَيَئوا قلوبَكم

 

عظة الأحد الأول من زمن المجيء- ج

 

أَيُّها الأحبّة، نَبدَأُ اليوم زَمنَ المجيء، اِسْتِعدادًا روحيًّا، لحدثٍ ضِمنَ سِلسلةِ أَعظمِ الأحداثِ الّتي تَمّت في التّاريخ. فَزمنُ المجيء هو زَمنُ تحضيرٍ، مُكوّنٍ من أربعةِ أسابيع، لحَدثِ ميلادِ الرّبّ الْمَجيد. زَمنٌ نُحييهِ في الصّلاة والعِباداتِ التّقويّة. والبعضُ يُضيفُ إليه صومًا كالصّومِ الكَبير. زَمنٌ نُهيِّأُ فيهِ الأجواءَ الخارجيةَ من حولِنا، لِتَوفيرِ بيئةٍ ملائِمةٍ تُساعِدنا على تهيئةِ الأجواءِ الدّاخليّة أيضًا. ولكِن، كَم هو مؤسِفٌ عندَما تَطغى الاحتفالاتُ الخارجيّة، وتلكَ التّحضيراتُ ذاتُ الطّابعِ التِّجاري فقط، على الاستعداداتِ الرّوحيةِ لِكُلّ مُؤمِنٍ ومُؤمِنة!

 

بهجةُ العيد لَيست فقط مُجرّدَ شَجرةٍ وإضاءةٍ وحَلوى وأُمسية وملابس جديدة. بهجةُ العيد قَلبٌ مُهَيّأ وفؤادٌ مُستعِدٌّ ومُهَجٌ تَوّاقةٌ لاستقبالِ المسيح، كَما استَقبَلَتهُ جدرانُ مغارةِ بيت لحم.

 

أَمّا تَسمِيَتُهُ بِزَمنُ المجيء، فَيَرجعُ إلى التّسميةَ الّلاتينية. فَهوَ يُدعى (Adventus)، وِمنها اِشتُقَّت التَّسمية الإنجليزية (Advent)، أَي قُدوم ومِجيء، فَفي هذا الزّمن نحن نَنَتظِر مجيءَ الّربّ، وميلادَه المجيد.

 

قِراءاتُ وصلواتُ هذا الزّمن تَتمحور حولَ مجيءِ الرّبّ الخَلاصي، وَمشاعِرِ الرّجاءِ والفرحِ الْمرافقة لانتظارِ هذا الْمَجيء. دُونَ أن نَنسى دعوةَ هذا الزّمنِ إلى التّوبة: "أَثمِروا ثمرًا يدلُّ على توبتكم". (لوقا 8:3)، كَما كانَ يُنادي يوحنّا المعمدان في البرية.

 

الّلونُ الّليتورجيّ الْمُستَخدم في هذا الزّمن هو الّلونُ البَنفسَجي، والّذي بَدَأَ اسْتخدامُه مع القرنِ الثّالثِ عشر. وهو الّلونُ الذي يُوحي بمشاعرِ التّوبةِ والنّدامة، الواجبِ أن يَتَحلّى بها المؤمن، في انتِظارِهِ لمجيء الرّبِّ وميلاده. ومِن هنا رسالةُ المجيء حثٌّ على ممارسةِ أعمالِ التّوبة، وَطَلبِ الْمغفرة من الله، والْمُصَالحة مع القريب، دونَ إغفالِ وَاجبِ التّقرّبِ من سرِّ الْمُصالحةِ والاعتراف.

 

في هذا الزّمن نَنقَطِعُ عن تلاوةِ نَشيد (المجدِ للهِ في العُلى)، لِنُنشِدَه مُجدَّدًا لَيلةَ الميلاد، وكأنَّ الأرضَ وخلائِقَها تَنضمُّ إلى جوقةِ الملائكةِ الْمَجيدين، في إنشادِ نَشيدِ ملائِكةِ العُلى، في تلكَ الّليلة المجيدة.

 

زمنُ المجيء كَزَمنَ الصّوم، زمنٌ قديم جِدًّا، مارَسَه المسيحيّون منذُ قرونٍ مُبكّرة. حتّى أنَّ بَعضَ الباحثين والدّارِسين يُرجِعونَ هذا الزّمنَ إلى أيّامِ الرّسُلِ أنفُسِهم. ولكنَّهُ من الْمؤكّد، أَنَّهُ صَارَ زمنًا مُتَّبَعًا في الكنيسةِ وعندَ الْمؤمنين، منذُ القَرنِ الرّابعِ والخامس للميلاد، وتَحديدًا لَدى كنيسةِ إسبانيا وفَرَنسا. إذ كانَ يَتَألّفُ مِن ثلاثةِ أسابيعٍ، لا يُتلَى فيها نشيدُ المجد لله في العّلى، وتُمنع أشكالُ الزّينة داخل الكنيسة. ومع منتصفِ القرن السّادس، وَبالرّجوعِ إلى عِظات البابا غريغوريوس الكبير، نجد أنّ هذا الزّمن قَد صار يَتَكوّن مِن أربعة أسابيعٍ تحضيريّة للميلاد، دون أن ترِد إشارة إلى وجوب الصّوم خِلالَه.

 

ومَع ذلك، فَقَد ظَلَّ صومُ الْميلاد مُتّبَعًا لَدى الكنيسة الغربية كَأُختِها الشّرقية حتى بداياتِ القرن الماضي. ثمّ تَلاشت هذا العادة شيئًا فشيئًا، وَبَقيَت مُتَّبَعةً في الكنيسةِ الشّرقية. فَفي القرن الخامس وتحديدًا في مدينة تور في فرنسا، طَلَب أُسقُفُها بيربتوس من الْمؤمنين أن يَصوموا استعدادًا للميلاد، مِن عيدِ القدّيس مَرتينوس، أُسقفِ هذهِ الْمَدينة في 11 تشرين الثّاني، وحتّى 25 كانون الأوّل. ثُمّ فَرَضَ مجمعُ تور، سنة 567، على الرّهبان واجب الصّومِ مِن بدايةِ شهر كانون الأوّل وحتّى الخامسِ والعشرين منه، ما عَدا أيّام السّبوت والآحاد، توبَةً واستعدادًا. ومِن فَرنسا اِنتَشَرت عادةُ الصّوم الْميلادي إلى عمومِ الكنيسة الغربية. ولكنّه لم يُقَر كَفَريضة، بِقدرِ ما كان عادة تَقَويّة يُمارِسُها المؤمنون.

 

وبما أنّه لم تَرِد تَعليمات رَسميّة من السُّلطةِ الكنسية بخصوص فريضة الصّوم الميلادي، فَقَد أدّى ذلكَ إلى انقِطاعِ هذه العادة لَدى المسيحيّين الكاثوليك. وَبقيَ زمنُ المجيء زمنَ توبة، لكِن دون فَرض عادة الصّوم، كما هو الحال في صومِ الأربعين.

 

في زَمن المجيء تُرافِقُنا شموعٌ أربع، نُضيءُ واحدةً مِنها، في كُلِّ أَحَدٍ مِن آَحادِ هذا الزّمن. هذه الشّموع رمزٌ لِشُعلةِ الانتظارِ الْمُتّقِدة في قلبِ كُلّ مؤمن: فإنّا ساهرون، كالعذارى الحكيمات، ومصابيحُنا مُشتَعِلة، نَنتظِرُ عودَتَكَ أيّها الربُّ يَسوع. أمّا كُلُّ شمعةٍ مِن هذهِ الشّموع، فَلَهَا دلالةٌ تُضافُ إلى دلالةِ الشّمعةِ الّتي تَسبِقُها.

 

فالشّمعةُ الأولى تُضاُء في الأحدِ الأوّل للمجيء، وترمُز إلى النّبيّ أشعيا وجَميعِ الأنبياءِ الَّذينَ أَشاروا إلى مجيء المسيح: "فلِذلك يُؤتيكُمُ السَّيِّد نَفْسُه آيَةً: ها إِنَّ الصَّبِيَّةَ تَحمِلُ فتَلِدُ آبناً وتَدْعو آسمَه عِمَّانوئيل" (أشعيا 14:7). أمّا الشّمعةُ الثّانية، فَتَرمُزُ إلى العهدِ القديم مِن الكتاب المقدّس، إذ أنَّ الْمسيح هو كمالُ الشّريعةِ ومُتمِّمُ النّبوءات. والشّمعةُ الثّالثة تَرمُز إلى العذراء مريم، الّتي فيها حلّ كلمةُ الله وصارَ بشرًا، ووُلِدَ لنا. أمّا الشّمعةُ الرّابعة فَتُضاءُ في الأحدِ الرّابع للمجيء، رمزًا إلى يوحنّا المعمدان، سابقِ الرّب ومُعدِّ الطّريق، والّذي يُشكّل جسرًا يربط بينَ العهدين القديم والجديد.

 

لِزمنِ المجيء معانٍ كثيرة، ولكنّ أبرَزَها هو الاستعدادُ الّلائِق، والتّحضيرُ الجَيّد للاحتفالِ بميلاد كلمة الله الّذي: "صار بشرًا، فسكنَ بيننا، فرأينا مجدَه" (يوحنا 14:1). هذا الزّمن بِكُلّ صلواتِه وقراءاتِه وطقوسِه وأناشيدِه ومظاهِرِه، يُحضِّرُنا ليسَ فقط للاحتفال بعيد ميلاد الربّ، بل أيضًا يُعِدُّنا نحن لولادةٍ وحياةٍ جديدة، عِندَمَا يسكنُ فينا كلمةُ الله، مُحرِّرًا إيّانا من قيودِ ذنوبِنا وآثامِنا، الأمرُ الّذي يُحتِّمُ عَلينا أنْ: "نخلعَ أَعمالَ الظّلام، ونلبِس سلاحَ النّور. ونسيرَ سيرةً كريمةً، كَما نَسيرُ في وَضحِ النّهار، لابِسين الرّبَّ يسوعَ الْمسيح". (رومة 11:13-14).