موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٣ يوليو / تموز ٢٠٢٤

"هل أنا مُرسل؟ إلى أين؟" بين كاتبّي نبؤة عاموس والإنجيل الثّاني

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (عا 7: 12- 15؛ مر 6: 7- 13)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (عا 7: 12- 15؛ مر 6: 7- 13)

 

الأحد الخامس عشر بالزمن العادي (ب)

 

مُقدّمة

 

هل أنا، بمدينتيّ وبكنيستيّ وبمنزليّ، مُرسل من الرّبّ؟ وإذا نعم إلى أين يرسلنيّ؟ هناك الكثير من التساؤلات حول شكل الرسالة الّتي يرسلنا لها الرّبّ اليوم في عالمنا. سواء مكرسين أم متزوجين، نساء أم رجال، داخل أو خارج مجتمعاتنا، هل هناك رسالة حقيقيّة للمسيحيّ اليّوم؟ في قرائتنا لرسالتنا فيما بين العهديّن، سنناقش شخصية كتابيّة بالعهد الأوّل تقدم إعتراف علنيّ بأنها لم تختار أنّ تكون مُرسلة ولكنها قبلت بسبب دعوة وتهئية الرّبّ لها، وهي شخصيّة عاموس النبي (7: 12- 15). في مرحلة تاليّة نقرأ بالعهد الثاني بحسب مرقس (6: 7- 13) إرسال يسوع لتلاميذه وسيرهم بين البشر متسلحين باللاشئ بحسب أمر يسوع لهم. وهذا هو الغريب، كيف لإنسان يتنقل من مكان لآخر دون أن يحمل الأشياء الضرويّة بعض المال ولو قليلاً، ملبس آخر، ... هناك الجديد الّذي سنسمعه على لسان عاموس ويسوع. نهدف أن نتتبع مسيرة النصييّن لأنهما يحملان الكثير من التعاليم الجوهريّة ورسالتنا إينما وجدنا وفي كلّ وقت.

 

 

1. الوعيّ بالإرسال (عا 7: 12- 15)

 

الرسالة النبويّة لعاموس، وهو أحد الأنبياء الصغار. الّذي تنبأ بمملكة الجنوب وهي ممكلة يهوذا وعاصمتها أورشليم  فهو لم يكن أصلاً فئة الأنبياء ولا نسله ينتمي لنسل الأنبياء، بل يعترف بأنّه مجرد راعي للغنم ودعاه الرّبّ ليتولى دور الرائي وهو الـمُتحدث باسم الرّبّ الّذي يرى ما يكشفه الله له من رُؤى ويعلنه للشعب. ففي واقع الأمر، ترويّ نبؤة عاموس الرؤى الخمس (الأوّلى: رؤية سرب من الجراد راج عا 7: 1- 3؛ الثانية: رؤية النار راج عا 7: 4- 6؛ الثالثة: رؤية الجدار وميزان البناء راج عا 7: 7- 9؛ الرابعة: رؤية سلة الثمار الصيفيّة راج عا 8: 1- 3؛ الخامسة: رؤية الرّبّ الواقف بجوار المذبح راج عا 9: 1- 4)، من خلالهم أراد الله أنّ يتواصل مع نبيّه ليحمل رسالته للشعب.

 

فيرويّ دعوته بواقعها البسيط وكيف أن عمل الله جَمَّلَ حياته برّوح النبؤة الّتي نالها من الرّبّ حينما إعترض على حضوره كاهن بيت إيل، أمصيا القائل: «أَيُّها الرَّائي، إنطَلِقْ وإهرُبْ إِلى أَرضِ يَهوذا، وكُلْ هُناكَ خُبزَكَ وتَنَبَّأْ هُناك. وأَمَّا بَيتَ إِيل، فلا تَعُدْ تَتَنَبَّأُ فيها، لِأَنَّها مَقدِسُ المَلِكِ وبَيتٌ مِن بيوتِ المُلْك» (عا 7: 12- 13). من خلال هذا التحذير يرتفع صوت عاموس الّذي يعتبر من فئة فقيرة إجتماعيًا إذ يرد عل أمصيا قائلاً: «إِنِّي لَستُ نَبِيّاً ولا ابنَ نَبِيٍّ، إِنَّما أَنا راعي بَقَرٍ وواخِزُ جُمَّيز. فأَخَذَني الرَّبُّ مِن وَراءِ الغَنَمِ وقالَ لِيَ الرَّبّإِنطَلِقْ وتَنَبَّأْ لِشَعبي إِسْرائيل» (عا 7: 14- 15). حتّى الآن، ندرك إنّه بالرغم من حياة النبي الفقيرة، مُقارنة بالكهنة والملوك بحقبته، إنّه مُرسل ليس من ذاته بل من الرّبّ. إذن قلب رسالة النبي عاموس هي الرسالة الّتي يعطيها إياه الرّبّ. لذا رسالته ذات قيمة ساميّة بناء على من كفلّه ووكلّه برسالته بين الشعب. إذن رسالة النبؤة ليست منه ولا تعتمد عليه ولكن من الله. ها هو عاموس النبي، يُمثل جميعنا اليّوم، بالرغم من بساطة حياتنا البشريّة، إلّا أنّ الله لازال يختارنا ويرسلنا لـمَن حولنا فهل نحن مستعدين لنكون أداة وصوت الله في عالمنا البشري؟

 

2. اللّاهوت المرقسيّ (مر 3: 1- 3)

 

بناء على توقفنا على إعتراف عاموس، بالعهد الأوّل، لإرسال الله له، هكذا يكشف لنا مرقس بحسب لّاهوته كيف يستمر يسوع، وهو الـمُرسل من الله الآب لعالمنا الأرضي. ها هو بدوره يقوم بإرسال تلاميذه مستخدمًا ذات المنطق الإلهيّ. بناء على ما قرأناه بالمقال السابق نستمر في تتبع البشارة المرقسيّة إذّ نرافق يسوع بعد رفضه من الناصريين، أهل بلدته (راج مر 6: 1- 6). فها هو يحاور تلاميذه وبدوره التعلّيمي كمعلّم لهم بعد أنّ رافق التلاميذ معلمهم، بعد أنّ دعاهم بالمرة الأوّلى منذ بدء البشارة المرقسيّة «ليكونوا معه وليرسلهم أيضًا» (راج مر 3: 1 – 3). سواء البقاء مع المعلّم أم الإرسال من قِبله هما عنصرين أسياسييّن للتلّمذة في اللّاهوت المرقسيّ. وها نحن مع التلاميذ، بعد فترة زمنيّة من البقاء، كتلاميذ، مع يسوع يحيّن الوقت لإرساله لنا. ففي اللّاهوت المرقسيّ لا يمكن أنّ يكون هناك وجه حقيقي لتبعيّة يسوع، إذّ لم تكن هاتان الحركتان اللتان تبدوان ظاهريًا كمتناقضتان. سواء البقاء أم الإرسال هما عنصران متحدتان معًا في ذات الوقت. كيف يمكننا أنّ نكون مع يسوع كتلاميذ له ونُرسل في ذات الوقت؟ ومع ذلك، فإن هاتين الحركتين للتلمذة لا يمكن فصلهما. فالواحدة دون الأخرى تؤدي إلى فقدان معنى أنّ نكون تلاميذ حقيقييّن ليسوع.

 

3. قلب رسالة التلاميذ (مر 6: 7)

 

بحسب هذا المقطع بمقالنا اليّوم، يتم تركيز الإنجيلي من خلال حوار يسوع مع التلاميذ وتهيئتهم للإرسال، كعنصر ثانٍ. أما العنصر الأوّل فهو ينبثق بهذا النص من خلال إرسال التلاميذ حيث إنّ: «دَعا [يسوع] الإثَنيْ عَشَر وأَخَذَ يُرسِلُهُمُ اثنَينِ اثنَين» (مر 6:7). إنّ الّذين أرسلهم يسوع من أجل الإنجيل، البشرى السّارة، لا يمكن أن يحمل تناقضًا في ذاته. حتّى لو كانت طرق الإرسال متعددة، إلّا أنّ هناك دائمًا بُعدًا كنسيًا، حتى ولو كان ضئيلًا من الناحية العدديّة عدد الـمُرسلين! فلمّ يُرسل أيّ منا كمؤمنين بمفرده أبدًا. إننا نسير معًا دائمًا كجماعة، حتى لو كانت صغيرة في شكل إثنين. فهذه الجماعة الصغيرة هي الّتي تحافظ على ذكرى يسوع وتعلّنها. وهنا نجد إتمام لقول يسوع بحسب متّى: «حَيثُما اجتَمَعَ اثنانِ أَو ثلاثةٌ بِاسمِي، كُنتُ هُناكَ بَينَهم» (مت 18: 20). لتقديم شهادة عن الراسل لابد وأنّ يكونا إثنين فلهذا السبب بالذات، يلزم الأمر إثنين لتوضيح إنّ المرسل لا يأتي بنفسه، بل يحمل حضور الرّبّ؛ ليس لديه خبر خاص به، بل يحمل الإنجيل فقط. هنا يمكننا أن نرى بوضوح أن الإرسال ليس "بديلاً" عن البقاء مع يسوع. فيسوع هو قلب الرسالة الّتي يحملها الـمُرسل فهو حاضر في رسالة تلاميذه.

 

4. تحضيرات الرسالة (مر 6: 8- 9)

 

الجانب الثاني هو الوسائل أو المعدات الّتي يتوجب تجهيزنا كتلاميذ لتهيئتنا ببدء الرسالة. قد يتضح إنّه أمر متناقض لم يخبرنا يسوع بما يجب علينا تحضيره، بل بما لا يجب علينا تحضيره. تكمن مهمتنا، كمرسلين ليسوع في التخليّ عن كلّ ما هو آمن فهو يقول لنا اليّوم: «أَوصاهُم أَلاَّ يَأخُذُوا لِلطَّريقِ شَيئاً سِوى عَصا: لا خُبزاً ولا مِزوَداً ولا نَقداً مِن نُحاسٍ في زُنَّارِهم، بل: لِيَشُدُّوا النِّعالَ على أَقْدامِهم، "ولا تَلبَسوا قميصَين"» (مر 7: 8- 9). نحن كتلاميذ مرسلين مدعوين للترحال حاملين فقط عصا في الطريق. والسبب هو بالأراضي الشرقيّة هناك الكثير من الحيّات والتعابيّن بضرب العصا على الأرض أثناء السيّر يجعل سيُخ أكثر سلاسة بلا أمراض وفي حالة تنقل مستمر. نحن كتلاميذ ليسوع مدعوين للتنقل كمعلّمنا. بلا أي شيء يؤمن حياتنا فنحن مدعوين لحياة الفقر الإنجيليّة سواء مكرسين أم متزوجين بدون لا شيء فيصير يسوع كلّ شئ لنا. حقًا على مثاله بحسب قوله: «إِنَّ لِلثَّعالِبِ، أَوجِرة، ولِطُيورِ السَّماءِ أَوكاراً، وأَمَّا ابنُ الإِنسان فَلَيسَ لَه ما يَضَعُ علَيهِ رَأسَه» (مت 8: 20). ذات الأسلوب الّذي إتبعه يسوع يتوجب علينا كتلاميذ أنّ نتبعه عندما نذهب للرسالة. حتّى في هذا الجانب، من الواضح إنّه لا يوجد تناقض بين البقاء مع يسوع والذهاب إلى الرسالة. على أرض الرسالة، يمدعويّن كتلاميذ أنّ نستمر في أنّ يكون أسلوب يسوع هو أسلوبنا، مدعوين أنّ نصير مظهرًا مُعاشًا يعلن مجانية الإنجيل من خلال سلوكنا. علنيا بالإنتباه لعدم التعارض مع الرسالة الّتي نحملها بالوسائل الّتي نستخدمها اليّوم.

 

5. إلى أين أنا مُرسل؟ (مر 6: 12- 13)

 

«فمَضَوا يَدْعونَ النَّاسَ إِلى التَّوبَة، وطرَدوا كَثيراً مِنَ الشَّياطين، ومَسَحوا بِالزَّيْتِ كَثيراً مِنَ المَرْضى فَشَفَوْهم» (مر 6: 12- 13). ليس هناك بلد أو مكان مُحدد بل إينما وجدوا يحملون الرسالة بباطنهم ويعيشوا بخارجهم بحسب ما أعلنه لهم يسوع. هكذا نحن اليّوم، لسنا مدعوين للسفر إلى أفريقيا أو إلى ... بل مدعوين بقبول إرسالنا من قِبل يسوع حيث نعيش الآن. مع الأشخاص الّذي نحيا معهم تحت السقف الواحد، ومَن نتواصل معهم بشكل يومي؛ في العمل، في الشارع، ... تسير وأنت تحمل يسوع بباطنك أينما ذهبت يرافقك هو بذاته متى قبلت أن تكون مرسلاً له. أخيرًا، ما هو جوهر رسالة التلاميذ؟ لاشيء سوى إعلان مسيرة التوبة، وطردّ الشّياطين، وشفاء المرضى. هذه هي نفس أعمال يسوع، إذ قال مرقس قبلاً في حديثه عن خدمة يسوع: «وسارَ في الجَليلِ كُلِّه، يُبَشِّرُ في مَجامِعِهم ويَطرُدُ الشَّياطين» (مر 1: 39).

 

الخلّاصة

 

توقفنا في قرائتنا، بهذا المقال على نصييّن يشيرا لرسالة الـمُرسلين من قِبل الله. ففي العهد الأوّل قرأنا إعتراف عاموس العلنيّ (7: 12- 15) بأنّه مُرسل من الرّبّ. أمّا بالعهد الثاني قرأنا كلمات يسوع بحسب مرقس (6: 7- 13)  حيث أرسل التلاميذ لكي لا يفعلوا شيئًا سوى مواصلة رسالة يسوع، بكلماتهم وأعمالهم فصاروا إمتداد لرسالة يسوع في العالم. حتّى في هذا الجانب الأخير نفهم أنّ الرسالة هي أيضًا شكل من أشكال البقاء معه. إنّ حياتنا اليّوم كتلاميذ تصبح شركة مع رسالة يسوع في كلماته وأعماله. فنحن مدعوين لنحمل بعض من سِمات رسالة تلاميذ يسوع، وبالتالي نُجسد سِمات الكنيسة الّتي هي نحن. فالـمُرسل الحقيقي لا يحمل شيء سوى الضروري وهو الملكوت الّذي بداخله. المرسل يترك حيًا في الإقتداء بالرّبّ. سواء عاموس أم التلاميذ كيسوع، إنطلقوا طاعة لصوت الرّبّ وحبًا فيه. ونحن أيضًا سنكون تلاميذ حقيقيين للرّبّ، حينما نتفهم أنّ حضورنا اليّوم في العالم، يحوي حضوره إذّ إستمعنا إلى كلماته وتعلمنا قراءة رسالتنا، إيّنما نحيا الآن، على ضوء بقائنا مع الرّبّ على مثال عاموس والتلاميذ. دُمتم مُرسلين حقيقيين.