موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٦ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٤

"تَّمَلُّكُ الرّبّ!" بين كاتبّي سفر العدد والإنجيل الثاني

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (عد 11: 25- 29؛ مر 9: 38-48)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (عد 11: 25- 29؛ مر 9: 38-48)

 

الأحد السادس والعشرون بالزمن العادي (ب)

 

مُقدّمة

 

مع الوحيّ الإلهي الّذي يُذكرنا بأهميّة كلمة الله الّتي يتواصل بنا، من خلال العهديّن، في زمننا الحالي وعلينا أنّ نهتم إذّ الرّبّ لازال يرغب في الحوار معنا وإستمرارية عهده الإلهي. يمكننا أنّ نتذكر أوّل مقال كتبناه بموقع أبونا أعطيناه عنوان "الغيّرة الـمُدمرة" والّذي أشرنا فيه إلى التناقض بين رغبة الرّبّ بكلاً من العهديّن، ورغبة تابعيه المتمثليّن في يشوع تلميذ موسى، وفي الأخويّن إبني زبدي، تلميذيّ يسوع، يعقوب ويوحنّا. مما يؤكد مرور ثلاث سنوات على مسيرتنا الكتابية فيما بين العهدين.

 

اليّوم، من جديد تضع الليتورجيّة نصيّن آخرين ليُناقشا ردود فعل ذات الشخصيات الكتابيّة البشرية الّتي نوهنا عنهم. ولكن إخترنا أنّ لا نتحدث، بمقالنا هذا، عن الغيرة البشريّة بقدر ما نتحدث عن الصّلاح الإلهي ومقارنته بما يحمله قلب الإنسان. تكمن رغبة يشوع بالعهد الأوّل والتلّميذين بالعهد الثاني في تملّك الرّبّ ومخططاته. إذ أنّ كلّ ما هو خيّر وصالح ينتمي، في وجهة نظرهم، يستحق فقط لـمَن يعرف الرّبّ ويؤمن به ويتبعه. في المرحلة الأوّلى يعرض كاتب سفر العدد رغبة الرّبّ الّذي يرسل رّوحه على بعض من شيوخ بني إسرائيل ليعاونوا موسى في رسالته (عد 11: 25- 29). مما يدعونا الكاتب للتركيز على الإرادة الإلهيّة وليست البشريّة. وعلى ضوء هذا الهدف نصغي لإجابة يسوع، كمرحلة ثانية، بحسب البشارة المرقسيّة (9: 38 -48)، والّذي سيكشف لنا مجال جديد من خلال الحوار لنتعرف كيف نسمح لذاواتنا وللآخرين أيضًا أنّ يكون لكلّاً منا مكانه. نهدف في هذا المقال، من بذل المجهود لنتعلم كيف يمكننا الدخول في وجهة نظر الله ورغبته الّتي تفوق رغباتنا وتحملّ الخير والصلاح وهذا ما يُفاجأنا كتابعيّ الرّبّ والـمُنتميّن له بأننا مدعوييّن للتخليّ عن ما يمنعنا من الدخول في هذا المخطط. هذا المقال سيفتح أمامنا العديد من الأفق للتعرف على رغبات الرّبّ لنا ككنيسة وليس ليّ فقط.

 

 

1. موعد مع الرّبّ (عد 11: 24- 29)

 

يعرض علينا كاتب سفر العدد، بناء على ما رواه بالنص السابق للنص محلّ النقاش، إذ بعد أنّ طلب الرّبّ من مُوسى (عد 11: 16- 23)، بجمع سبعين من شيوخ إسرائيل ليحاورهم بالخيمة حتى يوليهم بمسئوليات ليساعدا موسى في توجيه بني إسرائيل حتى يتوقف الشعب عن تمرده ضد الرّبّ وضد موسى. نجد أنّ تشديد كاتب سفر العدد (11: 24- 29) على أمانة موسى في توصيل رسالة الرّبّ لشيوخ الشعب مؤكداً حلّول رّوح الرّبّ بالخيمة بحسب سرد الكاتب قائلاً: «فنَزَلَ الرَّب في الغَمام وخاطَبَ موسى، وأَخَذَ مِنَ الرّوحِ الَّذي علَيه وأَحَلَّى على الرًجالِ السَّبعين، أَيِ الشُّيوخ. فَلمَّا استَقَرَّ الرُّوحُ علَيهم، تَنبَأُوا، إِلاَّ إِنَّهم لم يَستَمِروا. وبَقيَ رَجُلانِ في الـمُخيَم، اِسمُ أَحَدِهما أَلْداد وإسمُ الثَّاني مَيداد. فاستَقرَ الرُّوحُ علَيهما لأَنَّهما كانا مِنَ الـمُسَجَّلينَ في اللاَّئِحَة، ولكِنَّهما لم يَخرُجا إِلى الخَيمة، فتنبأَ في الـمُخيَم. فأَسرَعَ فتًى وأَخبَرَ موسى وقال: "إِنَّ أَلْدادَ ومَيدادَ يَتنبآنِ في الـمُخيَم". فأَجابَ يَشوعُ بنُ نون، وهو مُساعِدُ موسى مُنذُ حَداثَتِه، وقال: "يا سَيِّدي، يا موسى، اِمْنَعْهما". فقالَ لَه موسى: "أَلعَلَّكَ تَغارُ أَنتَ ليّ؟ لَيتَ كُلَّ شَعبِ الرَّبِّ أَنبِياءُ بِإِحْلالِ الرَّبِّ روحَه علَيهم"» (عد 11: 24- 29). بالرغم مِن أنّ موسى هو الرجل الأوّل المدعو مباشرة ليحمل رسالة الرّبّ إلّا أنّ المتحدث بالنص هو يشوع تلميذه. وتأتي رحابة صدر موسى ورغبته ليعلمنا أنّ الكلّ بل جميعنا مدعويّن لنصير أنبياء للرّبّ أي أصواته الحيّة. تدعونا كلمات موسى لإدراك أنّ الإنسان لمّ ولنّ يتمكن مِن أنّ يتملك الرّبّ. بل على العكس هو الرّبّ ومدعوين أنّ نقبل موعدنا المحدد معه بالإضافة إلى ترك مساحة لآخرين من حولنا ليقبلوا أيضًا موعدهم مع الرّبّ مثلنا. علينا ألّا ننسى أو نتناسى بأننا مخلوقين من ذات المصدر الإلهيّ. إذن هذا الموعد الإلهي مدعويّن إليه جميعنا في هذا الإسبوع للقاء الرّبّ.

 

 

2. نظرة التميّز للذات (مر 9: 38- 48)

 

بناء على رحابة صدر موسى ورغبته في أنّ يقبل كلّ الشيوخ هذا الموعد مع الرّبّ. يستمر يسوع، بحسب البشارة المرقسيّة، ونحن معه على الطّريق نحو أورشليم، أي بالقرب من إتمام سرّه الفصحي من آلام وموت وقيامة بتسلّيم ذاته لأيديّ الناس. وهذا يؤكد أنّ مدة إنتهاء فترة تدريب التلاميذ على يّد المعلّم تقترب من الإنتهاء! والتلاميذ لا يعلمون هذا، إذّ بدون فهم لسرّ المسيح الّذي يستمر في إعلانه بآلامه وموته وقيامته، مهتمين فقط بأنّ الرّبّ هو معلّمهم ورّبّهم فقط. يركز مرقس على موقف التلاميذ الحادّ بشريًّا في وضعهم حدود بينهم وبين مَن لا يتبع يسوع معهم، فهم فقط الـمُختارين من يسوع، والآخرين ليسوا مثلهم! هكذا إعتقدوا أنّ نظرة الرّبّ لهم مختلفة، وبدأوا ينظرون لذاواتهم بنظرة تختلف بل تتميّز عن الآخرين، فأقاموا حدوداً بينهم وبين مَن لا يتبع يسوع معلمهم فقط. أخطأ التلاميذ في إعتقادهم إنهم سيتملكون من الرّبّ ولم يدركوا أنّ هناك حدود لا يمكنهم التّعرف عليها تمامًا في السرّ الإلهي. ونحن كالتلاميذ، عادة ما نميل دائمًا إلى إقامة حدود، لتحديد مَن هم في الداخل ومَن هم في الخارج، ومَن نعتبره هو مِن جماعتنا ومَن لا ينتمي لنا. كثيرًا ما نخلط بين أتباع يسوع وأتباعنا. التلاميذ يتحدثون مع يسوع: «يا مُعَلِّم، رَأَينا رجُلاً يَطرُدُ الشَّياطينَ بِاسمِكَ، فأَرَدْنا أَن نَمنَعَه لأَنَّه لا يَتبَعُنا» (مر 9: 38)، الحوار يدور حول رؤية التلاميذ الشخصيّة وتنوه عن "رجلاً لم يتبعنا نحن". تأتي نظرة يسوع التأكيديّة بالنفي قائلاً: «لا تَمنَعوه، فما مِن أَحدٍ يُجْرِي مُعْجِزَةً بِاسْمي يَستَطيعُ بَعدَها أَن يُسيءَ القَوْلَ فيَّ. ومَن لم يَكُنْ علَينا كانَ مَعَنا» (مر 9: 39- 40). تكشف كلمات يسوع هذه التناقض لفكر التلاميذ، مؤكداً بأنّه ليس فقط أولئك الّذين "يتبعونه" هم تلاميذه. فيبدو أنّ يسوع ينكر هذه المعايير السطحيّة الّتي تضع حدود وتمييز، ويشير بأن الّذي يطرد الشياطين لهو إنسان واثق تمامًا بما لديه، لدرجة إنّه لا يخشى أنّ يسلبه أحد منه هذه النعمة. إذا فكرنا في واقعنا اليّوم كمؤمنين، فإنّ إنشاءنا لحدود ورفع جدار للدفاع مع آخرين، لا يعني على الإطلاق بأنّ إيماننا أقوى، بل هو إعلان صريح عن شكوكنا ومخاوفنا وفقداننا الأمان.

 

 

3. يقيّن يسوع (9: 41- 43)

 

يكشف لنا مرقس عن  صفة يسوع الإنسان. فهو من الناحية البشريّة هادئ جدًا في علاقته مع الآب لدرجة إنّه يعرف على وجه اليقين إنّه الابن ولا أحد يستطيع أبدًا مهاجمة ملكوته أو تملكّه كشخص. يظهر يسوع لتلاميذه ولنا اليّوم، في ذاته، الطّريق إلى الآب ويدعونا إلى اليقظة والثقة بالإيمان بأنّنا لسنا الوحيديّن الّذين نعرف حدود الملكوت، بل أنّ نكون مستعدين للإندهاش بالمفاجأت غير المتوقعة مِن قِبل الرّبّ، والإنبهار بأعمال الله الّتي تشملنا جميعًا. مدعوين أنّ نتعلّم من خلال يقيّن يسوع أنّ نُوسع دائرة علاقتتنا بالآب من أجل أنّ يشملنا فيها بأنّ نُوُسِع نحن أيضًا مساحة ومجال للآخرين لنكون قادرين على قبول الّذين ظنوا إنهم بعيدون وإكتشفنا إنّهم قريبين حيث نستجيب لنداء الرّبّ بحسب قوله في نبؤة اشعيا القائل: «وَسِّعي مَوضِعَ خَيمَتِكِ ولْيَبسُطوا جُلودَ مَساكِنِكِ، ولا تَمْنَعيهم» (أش 54: 2).

 

حتى نصل كتلاميذ ليسوع، إلى مَلَكَة الهدوء واليقين، لابد من إجتيازنا الموت الّذي يؤدي إلى الحياة. ندرك أنّ في مسيرة وجودنا البشري كمؤمنين، حقيقة الموت حاضرة دائمًا. ومن المفارقات أنّ الموت هو ما يسمح لنا بالنمو نحو الأبديّة. إذا نظرنا إلى حياتنا لابد أنّ نلاحظ أنّ هناك بعض أنواع الموت صغيرة اليوميّة والّتي تجعلنا نحيا وننمو بناء على كلمة الله. حتّى العالم إتسّم بقبوله قدرة كلمة الله ليتمّ خلقه. بكلمة الله، إنفصل النّور عن الظلمة، والنهار عن الليل، ... وهكذا.

 

 

4. الجروح الّتي تسمح بالحياة (مر 9: 44- 48)

 

كما أنّ الحياة تأتي بالإنفصال عن الأمّ هكذا سرّ الموت الجسديّ، كذلك يحدث أيضًا في تبعيتنا ليسوع! حتّى في تجربتنا الإيمانيّة، في الواقع، يجب إزالة العثرة، أي العائق الموجود في طريق تبعيّتنا وإيماننا، كلّ إزالة لشيء ما يُسبب جرح، وتمزق، وموت ... هذا هو ما عاشه تلاميذ يسوع في هذا النص الإنجيليّ إذ إختبروا الجروح الّتي تسمح بالحياة.

 

ثمّ يتحدث يسوع في هذا النص الإنجيلي قائلاً: «مَن كانَ حَجَرَ عَثرَةٍ لِهؤلاءِ الصِّغارِ المؤمِنين، فأَولى بِه أَن تُعَلَّقَ الرَّحَى في عُنُقِه ويُلقى في البَحْر [...] وإِذا كانَت عَينُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ فاقلَعْها فَلَأَن تَدخُلَ مَلَكوتَ اللهِ وأَنتَ أَعوَر خَيرٌ لَكَ مَن أَن يكونَ لَكَ عَينانِ وتُلْقى في جَهَنَّم، حَيثُ لا يَموتُ دُودُهم ولا تُطفَأُ النَّار» (مر 9: 42- 48). حيث يعلن يسوع علانيّة أنّ الأيدي والأرجل والعيون إذا صاروا سبب عثرة، يجب أنّ يُقطعوا ويُقتلعوا ويُطرحوا. الأرجل هي الوسيلة الّتي من خلالها نتحرك، عندما تصبح علاقتنا بالوجود عائقًا وتتعثر في الإستمرار، في هذا الوقت نختبر إغراء الوجود المطلق والقدرة المطلقة فمن الضروري أنّ نقطعها بإدراك إنها سبب لعثرتنا، وأنّ نمتلك علاقة أساسها الإنجيل مع العالم. هكذا الأيديّ هي الوسيلة الّتي من خلالها نلمس الأشياء والأشخاص، والّتي من خلالها تصير عثرة حينما نسعى لتملّكهم. عندما تصبح علاقتنا مع التملّك عائقًا ونتعثر في متابعتنا ونختبر إغراء الإستحواذ لكل ما حولنا، نحتاج إلى قطعها لإعادة إكتشاف المنطق الإنجيلي للنعمة. هكذا العيّن هي الوسيلة الّتي يتم من خلالها التعبير عن الرغبة وتغذيتها، وهي العضو الّذي من خلاله نرى العالم من حولنا ونتأمل جماله. لكن عندما تُصبح رغبتنا جشعًا نحتاج إلى قطعها لأنها عثرة، حتى نصل إلى ذات النظرة التأملية لأعمال الله.

 

 

الخلّاصة

 

إنطلقنا بهذا المقال، من خلال توقفنا على نص سفر العدد (11: 25- 29) على التدريب على الإستجابة لإتخاذ موعد مع الرّبّ. من خلال قبول الشيوخ، في زمن موسى، للدخول في خيمة الرّبّ لإصغائهم لرسالته. مما أشار إلى رحابة صدر موسى، دون رغبته في تملك الرّبّ بل أعلن قبوله لتواصل شيوخ بني إسرائيل مع الرّبّ مثله بالرغم من صعوبة تقبلّ هذا الأمر من تلميذه يشوع. بالتوازي مع هذا النص ناقشنا رحابة صدر يسوع الّذي أعلن صراحة في اللّا تملّك له من قِبل تلاميذه بحسب بشارة مرقس (9: 38- 48). مما دعا يسوع تلاميذه إلى إنفتاح القلّب وقبول آخرين للدخول في المخطط الإلهي الّذي لا يقتصر على أشخاص ما بل الجميع مدعو إليه. يدعونا هذا المقال إلى الوعي بأنّ كلّ أنواع الموت والجروحات الّتي نجتازها يوميًا بسبب إزالة عثراتنا يمكن أنّ تقودنا إلى النمو ليس لتمّلُك يسوع بل لتبعيته بحسب مخطط الله الآب. لنقبل الموت اليوميّ حتّى نتمكن نحن أيضًا من أنّ نكون أبناء الله، منزوعين من سلاح التملكّ للرّبّ وللأشخاص وللأشياء، فهذا التملك يُدمر ما خلقنا الله عليه. لنطلب من الرّبّ نعمة التحرر من خطر التمّلك. دُمتم في تبعيّة حقيقيّة للرّبّ دون تملّكه.