موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد السابع والعشرون بالزمن العادي (ب)
مُقدّمة
لماذا النصوص الكتابيّة تُلهمنا بقضيّة مُلحة في يّومنا هذا ومضمونه الطلاق؟ هل الطلاق هو منذ البدء بحسب المخطط الإلهي وهي إرادته؟ يأتي نص سفر التكوين (2: 18-24) بالعهد الأوّل، بمعاونتنا لتفّهم منطق الإله لخلقه الرجل والمرأة موضحًا هدف الإساسيّ. مما يجعلنا نتعمق في فهم مخططه منذ البدء من خلقه أوّل زوجين. ثم يأتي صوت يسوع، بالعهد الثاني بحسب مرقس (10: 2-16)، كمُفسر ومترجم لعمل الله في أصالته وليس بحسب ما نفهمه أو نترجمه نحن بحسب إحتياجاتنا. هل كتاب، مِن قِبل موسى بالقدم، ينتمي لمخطط الرّبّ؟ هذا هو الجديد الّذي تضيفه سلسلة مقالاتنا الكتابيّة أنّ نعود لجذور النصوص المقدسة لنُحيّ إيماننا بما هو يجعلنا نفهم إرادة الرّبّ في ذاتها وبحسب تفسير يسوع الابن الإلهي.
1. الحياة هي دعوة (تك 2: 18-24)
منذ الخلق، أنعم الرّبّ علينا بحبّ مجاني من خلال بثّ رّوحه ونفسّه في الإنسان فقط. مدعوين من خلال حياتنا أنّ نختبر عمق العلاقة بالله ليس كإله بل كخالق قبل كلّ شيئ. هناك لقاء أوّل ساعد الإنسان على أنّ يكون متحرراً وله من القدرة على أنّ يُحِبّ ويُحَب. الدعوة الأوّلى والأصيلة لكلاً منا هي الإتحاد بين رجل وإمرأة أي سرّ الزواج. فقد جاءت أنواع الحياة التعبديّة والنسكيّة والرهبانيّة في فترة لاحقة. تنبع الدعوة إلى الحياة من خلال الحوار بين كل قلب مؤمن وبين الله الّذي يرغب في أنّ ينحني علينا بكشف مخططه حتى يبني معنا هويتنا وهدف وجودنا.
يفتتح كاتب سفر التكوين هذا النص بمبادرة الرّب بقوله: «لا يَجبُ أَن يَكونَ الإِنسانُ وَحدَه، فلأَصنَعَنَّ له عَونًا يُناسِبُه» (تك 2: 18). أي إنّه كإله خالق سرّ بوحدة الإنسان الأوّل وهو الرجل بدون إمرأة. وهنا يأتي القرار الإلهي بوضع حدّ لهذه الوحدة إذ لا يصل لتحقيق هدفه وهو سعادة الإنسان وشعوره بحب الله له. وهنا يبادر الخالق بإكتمال عمله لصالخ الإنسان الأوّل من خلال خلق العون الّذي يتناسب معه والسبب هو أنّ: «الإِنسانُ فلَم يَجِدْ لِنَفسِه عَونا يُناسِبُه. فأَوقَعَ الرَّبُّ الإِلهُ سُباتًا عَميقًا على الإِنسانِ فنام. فأَخَذَ إِحْدى أَضْلاعِه وسَدَّ مَكانَها بلَحْم. وبَنى الرَّبُّ الإِلهُ الضِّلْعَ الَّتي أًخَذَها مِنَ الإِنسانِ اِمرَأَةً، فأتى بِها الإِنسان. فقالَ الإِنسان: “هذهِ المَرّأةَ هي عَظْمٌ مِن عِظامي ولَحْمٌ مِن لَحْمي. هذه تُسَمَّى اَمرَأَةً لأَنَّها مِنِ إمرِئٍ أُخِذَت» (تك 2: 20- 23).
هذا هو المخطط الأساسي للرّبّ أنّ يجد الرجل في إمرأته العون والسند، وتجد المرأة في رجلها الحمايّة والإحتواء. إذن سواء مباردة الرّب بخلق المرأة لتشارك الحياة مع الرجل ويحيوا بملء دعوتهم لمشاركة الله في نعمة الخلق من خلال الخصوبة والإثمار بنعمة إنجاب أبناء كثمرة عمل الله في الزوجين. يؤكد هذا النص الكتابي، أنّ الطلاق لم يكن له أساس من قِبل الرّب. ولكن سنكتشف أصله مع يسوع الّذي يكشف في إجابته على مُحاوريه كيف تناسينا المخطط الإلهي وساد المخطط البشري.
2. يسوع الـمُفسر (مر 10: 2-4)
يكشف لنا يسوع بحسب كلمات مار مرقس (10: 2–16) حقيقة رفض الإنسان لمخطط الله الأصلي. يسوع هو سيد التفسير ليس للنصوص المقدسة بل لهدف الله الآب الجوهري. إنّ هذا المقطع من الإنجيل، يكشف لنا فيها يسوع عن نفسه كمفسر موثوق للكتب المقدسة، وكمفسر قادر على معرفة كلمة الله لأنه يبحث عن قلب الله، كما قال غريغوريوس الكبير، تفاسيره هي ثمينة ولها شكل خاص. ونحن، تلاميذ يسوع، نتبعه اليّوم في إدراك طريقته التفسيريّة الّتي تجب أنّ تكون طريقتنا حينما نعرف قلب الله وندخل نحن في مخططه وليس هو الّذي يتوجب عليه كإله بالدخول في مخططنا البشري.
بينما يعلّم يسوع في بلاد اليهوديّة، وبحضور رعض من تلاميذه، إذ: «دَنا بَعضُ الفِرِّيسيِّينَ وسأَلوه لِيُحرِجوه هَل يحِلُّ لِلزَّوجِ أن يُطَلِّقَ امَرأَتَه» (مر 10: 2). هذا الفخ المهيأ ليسوع، من قبل الفريسيّين، بطلب إجابة عن موضوع الزواج والطلاق بحسب الشريعة. وهنا أودّ فقط على توضيح التناقض بين إعطاء الحلّ للإنسان الأوّل أنّ يطلّق مَن قال عنها إمرأته أي تنتمي له فقط وليس لغيره. وكعادته يسوع يجيب على السؤال بسؤال كمعلّمين الشريعة: «بِماذا أَوصاكم مُوسى؟» (مر 10: 3). وهنا يجيب الفريسيّين، كمعلمين يحفظون ولا يفهمون ما يحفظوه ويكرروه على مسامع تلاميذهم قائلين: «إِنَّ مُوسى رَخَّصَ أَن يُكتَبَ لَها كِتابُ طَلاقٍ وتُسَرَّح» (مر 10: 4). حقيقة لجوء الفريسيّين ليسوع ليس لإظهار علّمهم بل لتوضيح جهلهم.
يأتي ردّ يسوع على تفسيره لنص سفر التثنيّة 24 وكشف معايير تفسيرية، عندما نتحدث عن تفسير الكتب المقدسة، فالقاعدة التفسيريّة الأوّلى ليسوع هي وجوب قراءتها وتفسيرها بمساعدة الرّوح نفسه الّذي كُتبت به. يستخدم محاورو يسوع كلمة الله ليختبروه. حتّى في جنة عدّن، تستخدم الحية كلمة الله لتجربة الإنسان، وللتلميح إلى الشك في الله نفسه (راج تك 3: 1). يلمح المجرب إلى الشك في أن كلمة الله ليست لخير الرجل والمرأة، لحياتهما، بل لإدانتهما، لإبقائهما في حالة حياة متدنية. يرفض يسوع قراءة الكتب المقدسة بهذه الطريقة. بل يقرأها إنطلاقًا من محبة الله للبشريّة، ومن الرّوح نفسه الّذي ألّهمه، وليس إنطلاقًا من الشك في إرادة الله للحياة، ويصبح يسوع معلمًا في تفسير الكتب المقدسة لأنّه يعود إلى البدء، أي إلى حلم الله الأصلي (راج تك 2: 24)، الذي يعرف كيف يدعم السرّ ويصونه ويدعه يتنفس. لا يسمح لنفسه أنّ ينخدع بالشك في الله، بل يوسع نظره إلى حلم الله.
3. الطلاق: قساوة الإنسان (مر 10: 5-9)
كما رأينا مخطط الله الخالق منذ البدء بحسب سفر التكوين يأتي يسوع مُفسر الآب، ليزيل سوء الفهم والجهل بين ما تكشفه الشريعة حقًا قائلاً: «مِن أَجْلِ قَساوَةِ قُلوبِكم كَتَبَ لَكُم هذهِ الوَصِيَّة. فمُنذُ بَدْءِ الخَليقَة جعَلَهما اللهُ ذَكَراً وأُنْثى. ولِذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباهُ وأُمَّه ويَلزَمُ امرأَتَه. ويَصيرُ الاثنانِ جسَداً واحداً. فلا يكونانِ اثنَيْنِ بَعدَ ذلك، بل جسَدٌ واحِد. فما جَمَعَه الله فَلا يُفَرِّقَنَّه الإِنسان» (مر 10: 5- 9). يعود يسوع لفعل الخلق الإلهي، إذ يؤكد على إتحاد الرجل بإمرأته بشكل لا يتم تفرقته أي يستمر ويدوم. إلّا أنّ تأكيد يسوع على ما ذكره موسى، بناء على رغبة البشر وهم بين إسرائيل (راج تث 24؛ )، قبلاً ما هو إلّا كشف عن قساوة القلب البشري الّذي لا يريد قبول المخطط الإلهي كما هو بل يرغب في هقبول الله لمخططه. وحينما يقول يسوع أنّ الإثنين يصيرا جسداً واحداً أي لا يمكن تفرقة الجسد الواحد أبداً. يعلن يسوع صراحة الرفض لفعل الطلاق ورفض إنفصال مَن إتحدا ببعضهما.
4. لا للطلاق (مر 10: 10 - 16)
في مرحلة تانيّة يؤكد مرقس بتأكيد يسوع على رفضه للطلاق والّذي لا ينتمي للمخطط الإلهي ليس للفريسيّين بل في لقاء خاص بتلاميذه الّذين حضروا الحوار السابق بين يسوع والفريسيّين إذ يجيب على أسئلة تلاميذه قائلاً: «مَن طَلَّقَ امرَأَتَه وتَزَوَّجَ غَيرَها فقَد زَنى علَيها. وإِنْ طَلَّقَتِ المَرأَةُ زَوجَها وتَزَوَّجَت غَيرَهُ فقَد زَنَت» (مر 10: 11- 12). يعلن يسوع صراحة علاقة الطلاق بالزنى، إذ الطلاق يُمهد الطّريق للزنى وهو اللأمانة من قبل أي طرف سواء الرجل أم المرأة. المعيار التفسيري الثاني ليسوع يتمثل في إهتمامه بمحتوى ووحدة كلّ الكتاب المقدس، لذلك نجد في قراءته المصاحبة بتفسيره كميثاق تحالف وليس كمجموعة من القواعد. بخلاف نظرة محاوريه كقضية أو مشكلة، كما لو كانت الكتب المقدسة عبارة عن مجموعة من المعايير أو إجابات لأسئلة ذات طبيعة أخلاقية. أما يسوع، من ناحية أخرى، فيستمد معنى النص الكتابي من خلال العودة لفهم حقيقي لما قبل قبلاً مما يجعله يتردد صداه في وحدة الكتاب المقدس. يشير يسوع إلى تشبيه الإيمان، الذي بالنسبة له علاقة بإله العهد والرحمة والحياة. يفسر يسوع الكتاب المقدس إنطلاقًا من الإيمان الحيّ لشعبه ومن الإيمان الّذي تُعبر عنه الكتب المقدسة في وحدتها. هكذا فإنّ يسوع هو سيد التفسير فهو لا يسمح باستخدام كلمة الله كأداة للتجربة، وإستغلالها لدعم مطالبنا وخلافاتنا، ولكنه يسمح لتوسع الأفاق للمبدأ الإلهي وأنّ تتألق فيها. اليّوم، يصبح يسوع مرة أخرى معلّمنا حتّى نقبلها دائمًا ككلمة موجهة إلينا من الله الّذي يحب الحياة.
الخلّاصة
بناء على نص سفر العهد الأوّل، بسفر التكوين (2: 18- 24) الّذي يؤكد أن الطلاق لم يكن منذ البدء ولا يمكننا كمؤمنين أنّ نفسر هدف الله من جمع الرجل بالمرأة، بتفسيرات لم يهدف الله الخلاق إليها بتاتًا. على ضوء هذا الأصل الإلهي قرأنا تفسير يسوع برفضه النهائي وكشفه القساوة البشريّة ويأتي رده ختامًا على حواره مع الفريسيّين ثم مع التلاميذ بــمعانقة الأطفال: «وضَمَّهم إِلى صدرِه ووَضَعَ يَديهِ علَيهِم فبارَكَهم» (مر 10: 16). وما هم الأطفال إلّا ثمرة سرّ الزواج الّذي يقبل الدخول في مخطط الله وإتمامه بالكامل بالرغم من التحديات لكل زوجين. فالأطفال هم النعمة الّتي يبارك بها الله الزوجين المشاركين معه في سرّ حبه ومستمرين ورافضين للطلاق الّذي ما هو إلّا ثمرة قساوة قلب الإنسان ورفض المخطط الإلهي. دُمتم في قبول للسرّ حبّ الله بقبول الإتحاد بين الرجل والمرأة وبرفض الطلاق نهائيًا.