موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٧ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٤

"المركز الشرفيّ" بين كاتبّي نبؤة اشعيا والإنجيل الثاني

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (اش 53: 10- 11؛ مر 10: 35- 45)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (اش 53: 10- 11؛ مر 10: 35- 45)

 

الأحد التاسع والعشرون بالزمن العادي (ب)

 

مُقدّمة

 

قد نفكر بمنطقنا البشري باحثين عن إجابة للتساؤل أين مكاني ومركزي و... إلخ؟ كثيراً ما نبحث بجديّة عن مركز وقيمة ومكان شرفيّ سواء بالعمل أو على مستوى العلاقات. كثيراً ما ننجح وأوقات أخرى نفشل. أما على المستوى الكتابي نجد كِلّا إجابة واحدة من النصيّن بالعهدين. حيث تأتي كلمات القليلة النبي اشعيا (53: 10- 11) لنجدتنا مُشددة على أفعال عبدُ الرّبّ الّذي يحقق حلم الله قائلاً دعوته متخليًا عن المنطق البشريّ! أما بالنسبة للعهد الجديد بحسب مرقس الإنجيلي (35:10-45)، حيث بعد إعلان يسوع الثالث عن سرّ الآمه (راج مر 32:10-34)، نجد طلب إبني زبدي يعبر عن منطق التلاميذ، حيث يعانقون بقوة منطق العالم باحثيّن عن مكان شرفي ومركزي، ويطلبون من يسوع تنفيذ طلبهم ليصلوا إلى هدفهم.  الخوف من المستقبل المجهول قد يخيفنا ويربكنا بطريقة ما، ولكن لدينا حنين عميق له، تقريبًا كما لو كان شيئًا مخفيًا في داخلنا ينتظر أنّ يتحرر، فهو بمثابة وطننا البعيد عنا والّذي نتمنى العودة إليه. تكون لهم مراكز شرفيّة في مجده. ثمّ يأتي تعليم يسوع اللّاحق عن التبعيّة وعن معنى إختلاف الإيمان المسيحي عن قبول الإيمان بالأديان الأخرى. يدعونا مقالنا اليّوم للتمييز بين منطق العالم ومنطق الله في أثناء بحثنا عن أماكننا بالعالم وبالملكوت.

 

 

1. رضى الله (اش 53: 10-11)

 

قراءتنا الأوّلى والمأخوذة من نبؤة اشعيا حيث تُخبرنا عن شخصية غامضة، كثيراً ما تحدثنا عنها في سلسلة مقالاتنا فيما بين العهدين. هذه الشخصيّة مجهولة الإسم وقد أُعطي لها إسم "عبدُ الرّبّ". لقد حاول الكثيرون التعّرف عليه، ولكن هناك دائمًا شيء يفلت من تخميناتنا اللّاهوتيّة ومُعتقداتنا الإيمانيّة فنحن من جديد أمام شخصية عبدُ الرّبّ. يعيش هذا العبدُ حياته الـمليئة بالتحديّات القويّة ومع ذلك يحققّ النجاح بطرق قد نعتبرها، بحسب منطقنا البشريّ، نوع من الهزيمة. أهم ما يميز مسيرة حياة وطّريق عبدُ الرّبّ، هو الرضى الإلهيّ، فهو يعيش بحسب مشيئة الله. ووعيّه بأنّ ليس الله هو الّذي يجعله يتألم؛ لكن الطّريق الّذي يختاره لذاته يرضي الله عنه لأنّه يتوافق مع خطته. سيكون لدى الرّبّ الإله حياة طويلة لهذا العبد ونسل ليس من خلال المعايير الّتي إعتدنا عليها، ولكن من خلال إرادته الّتي تقبل تضحية ذاته إذ يقدم حياته حتّى الموت لخلاص كثيرين. لذا يعلن النبي اشعيا في هذا النشيد الرابع من خلال قوله: «الرَّبُّ رَضِيَ أَن يَسحَقَ ذاك الَّذي أَمرَضَه فإِذا قَرَّبَت نَفسُه ذَبيحَةَ إِثمٍ يَرى ذُرِّيًّةً وتَطولُ أَيَّامُه ورِضى الرَّبِّ يَنجَحُ عن يَدِهبِسَبَبِ عَناءَ نَفْسِه يَرى النُّور ويَشبَعُ عِلمِه يُبَرِّرُ عَبْديَ البارُّ الكَثيرين وهو يَحتَمِلُ آثامَهم» (اش 53: 10- 11). عبدُ الله لم يختار لذاته المكان الشرفي بل على العكس أختار ما يرضي الرّبّ لأجل أن يصير بآلامه وسيلة لفداء آخرين. بالإضافة إلى إنّه سعى أن يُتمم مخطط الآب حتى وإنّ لم ينال الإكرام والمجد بل الإهانة والألم. هذا الإختيار الحرّ للألم من قِبله يؤكد سبب الرضى الإلهي الّذي لن ينتهي بهذا المقطع، بل سيؤكده يسوع لاحقًا في كلماته بحسب مرقس (10: 35- 45).

 

 

2. فقدان أم خلاص النفس؟ (مر 10: 35- 45)

 

تُذكرنا كلمات يسوع، بحسب لوقا، والّتي تتوازي مع كلمات مرقس بنص اليّوم بتواضع عبدُ الله الحرّ والتطوعي. تحمل الألفاظ الـمتناقضة فقدان الحياة البشريّة وخلاصها إشارة لتحرير الإرادة البشريّة كاشفًا يسوع بقوله: «مَن أَرادَ أَن يَحفَظَ حيَاتَه يَفقِدُها، ومَن فقدَ حيَاتَه يُخَلِّصُها» (لو 17: 33). كما رأينا في النص النبويّ لاشعيا، حيث ينقذ عبدُ الله حياته من خلال فقدانها بأرادته من خلال تقديمها لرضى الرّبّ حيث يخلص كثيرين. بهذا الفقدان لن يرى النور هذا العبد ولكن من خلال المرور بالآلام القويّة. إنّ عبد الرّبّ لا يختار في حياته لأجل ذاته فقط، أو لكي يخلص نفسه، بل طواعيّة يقدمها بحسب دعوة الرّبّ له لأجل حياة الآخرين. إنّ هبة حياته ستجلب الخلاص للكثيرين، وبهذا لن يفقدها بل يجدها. بالرغم من أنّ لم يُحتمل النظر إلى  خادم الرّبّ لأنه يوقظ فينا الحنين إلى منطق الحياة الّذي زرعه الله في قلوبنا والّذي نجاهد حقًا لإتمامه. على ضوء إختيار عبد ُالرّبّ الحرّ الّذي جسّد الرضى الإلهي بحسب قراتنا لمقطع اشعيا (53: 10 – 11). حيث يُشدد يسوع على ذات المنطق في حواره مع تلاميذه ليتوافق مع المنطق الإلهيّ.

 

 

3. طلب التلاميذ الأخرق (مرقس 10: 35-40)

 

نفس منطق الحياة، غير المعروف لأعيننا، يظهر بوضوح في حوار دار بين يسوع وبعض من تلاميذه بحسب إنجيل مرقس (10: 35-45). حيث نسمع لصوتي الأخوين يعقوب ويوحنا، وهما يمثلان كلّاً واحد منا، حيث يتقدمون بتقديم طلب ليسوع نَصِفّهُ بالطلب الأخرق قائلين: «اِمنَحْنا أَن يَجلِسَ أَحَدُنا عن يَمينِك، والآخَرُ عَن شِمالِكَ في مَجدِكَ» (مر 10: 37). والسبب هو إنّهم أيضًا يحملون في قلوبهم الحنين إلى حياة مختلفة، ولهذا السبب يتبعون يسوع، لكنهم لا يعرفون كيف يحررون أنفسهم من رؤية تلك الحياة المنغمسين فيها. إنّهم يودّون أنّ يجلسوا واحدًا عن يمين يسوع والآخر عن يسّاره في ملكوته. فيجيبهم يسوع بأنّ المركز الشرفي، أي مكان الكرامة الساميّ: «الجُلوسُ عن يَميني أَو شِمالي، فلَيسَ لي أَن أَمنَحَه، وإِنَّما هُوَ لِلَّذينَ أُعِدَّ لهم» (مر 10: 40). إنّ هذين المكانين محجوزان وسيشغلها لاحقًا مجرميّن سيصلبا مع يسوع، الّذي إختار في حياته التضامن مع الخطأة، مصلوبًا بين مجرمين، حيث نجد واحد عن يمينه والآخر عن يساره (راج مر 15: 27).

 

تتضح شخصية الإنجيلي مرقس الساخر في وصفه لهذا الطلب الأخرق من قِبل التلاميذ، الّذي يخفي العديد من مطالبنا وأسئلتنا وصلواتنا وأساليب حياتنا. أليس مِن حقّنا كتلاميذ أنّ نبحث عن أماكن شرفيّة ومراكز مرمُوقة، بقدر أنّ ننال نفس معمودية المعلّم ونستعد للشُرب من ذات الكأس: «إِن الكأَسَ الَّتي أَشرَبُها سَوفَ تَشرَبانِها، والمَعمودِيَّةَ الَّتي أَقبَلُها سَوفَ تَقبَلانِها» (مر 10: 39). التلميذ الحقيقي مدعو ليكون له من القوة أنّ يعبر بآلامه حتى تكون حياته نعمة حتّى النهاية. الأمر متروك لك كتلميذ أنّ تبني منطق حياتك الخاص على مثال المعلم الّذي لا يتماثل فقط في الخدمة، بل وفي بذل ذاته من أجل الآخرين: «مَن أَرادَ أَن يَكونَ كَبيراً فيكم، فَلْيَكُنْ لَكُم خادِمًاومَن أَرادَ أَن يكونَ الأَوَّلَ فيكم، فَلْيَكُنْ لأَجمَعِكم عَبْداً. لأَنَّ ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس» (مر 10: 43- 45). الإستمرار في البحث عن مكان شرفي بالعالم وفقدان مكان بالملكوت. إذن التحرر بل التخليّ بترك منطق العالم الّذي يشدد في السعيّ عن للمركز الموموق والشرفي سيصير وسيلة للتلميذ ليصبح كمعلّمه.

 

 

الخلّاصة

 

تناولنا في موضوع مقالنا اليّوم "المركز الشرفيّ" بين شخصيّات بشريّة كتلاميذ يسوع وعبد الله بحسب اشعيا (53: 10- 11) حيث أوُقظ فينا الحنيّن إلى ذلك الحبّ الّذي لا تراه أعيُننا ولكنها نبعت من قلب بشريّ قابلاّ للدعوة الإلهيّة لذا يرضي الرّبّ عنه. أما بالنسبة لشخصية التلاميذ والّتي كُشفت لنا من خلال حوار يسوع مع تلاميذه (مر 10: 35- 45) حيث شددّ يسوع على توافق رأيه مع حلم الله في حياتنا كنساء ورجال مؤمنين اليّوم. الطلّب الأخرق الّذي طلّبه التلاميذ يحمل كلمات غير مريحة، وهي الجلوس في أماكن شرفيّة عن يميّن ويسّار المعلّم بالملكوت، بالنسبة للحلم الإلهي. لكن إذا أصغينا بعمق إلى قلوبنا، يمكننا أنّ نكتشف أنّ في داخلنا بالفعل الرغبة في منطق الحياة وهو الّذي يقترحه علينا يسوع اليّوم أن نصير خدامًا ومكاننا هو آخر الجميع. حقًا لا يوجد طّريق آخر لحياة تُعاش في ملء الإنجيل وفرحه سوى ما عاشه وأعلنه يسوع. ها هو المنطق الإلهي بمجده وعظمته يحمل لنا دعوة للثقة الـمُرتكزة على إدراك تضامن يسوع معنا. وحتى لو كان الطّريق الّذي يدعونا إلى إتباعه قد يبدو لنا متعبًا ويستحيل علينا السّير فيها، إلّا إننا نثق بأنّ إلهنا يرافقنا ويعرف أنّ يعيش معنا الأوقات الّتي يستحيل علينا. فهو قد قد جُربّ في كلّ شيء مثلنا، بإستثناء الخطيئة كما نعلم. بالنهايّة القرار بالبحث وبالتمسك بالمركز الشرفيّ أو التخليّ عنه هو بحسب إرادتنا، لنا حريّة الإختيار دون إجبار! دُمنا في تمييّز لنختار ما يتناسب مع الإرادة والحلم الإلهييّن.