موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١٨ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٤

"أتقبل البوصلة الإلهيّة؟" بين كاتبّي سفر الحكمة والإنجيل الثاني

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (حك 2: 12- 20؛ مر 9: 30- 37)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (حك 2: 12- 20؛ مر 9: 30- 37)

 

الأحد الخامس والعشرون بالزمن العادي (ب)

 

 

مُقدّمة

 

كما تعودنا في هذه المسيرة الكتابيّة فيما بين العهديّن أنّ نقرأ نصين من كِلا العهدين بهدف التحاور مع واقعنا وإلى أي مدى يمكننا أنّ نسمخ لحياتنا بالتحرر مما يعوقها. فاليّوم في مقالنا هذا، سنناقش قضية الخوف، باحثين عن بوصلة إلهيّة تحررنا منه في الطّريق الّذي نسلكه. فهل تسألنا قبلاً عن ما هو مصدر مخاوفنا الكثيرة الّتي تسكن قلوبنا؟ نجد الإجابة الأوّلى، على هذا التساؤل، من خلال كلمات الحكيم بسفر الحكمة (2: 12- 20) والّذي يشير علينا بالإنتباه إلى خفقان القلوب الّتي ربما تشعر بالبوصلة الإلهيّة ولا تهتم وسنتعرف على أسباب ذلك. هناك الإجابة الثانية سنجدها على لسان يسوع بحسب إنجيل مرقس (9: 30- 37) حيث يضع بين أيدينا بوصلة إستخدمها في طّريق حياته الأرضية وبتواضع يسلّمها اليّوم ليّ ولك. ففي الطّريق الّذي سار ويسير فيه يسوع بجوارنا، تظهر كلّ هشاشتنا البشريّة والمخاوف التي تسكن قلوبنا كتلاميذ ننتميّ له. تسود هذه المخاوف لأننا لا نفهم الطّريق الّذي يسلكه إلهنا وتمتلأ قلوبنا بالخوف. إلّا أنّه بقبولنا هذه البوصلة الإلهيّة سنستطيع، من خلالها، التّعرف على الطّريق الّذي يجعونا الرّبّ لنسلكه وعلى أنفسنا أيضًا. في الواقع، نحن عندما نحاول إتباع طّريق الإنجيل نكتشف ضعفنا ومخاوفنا؟ ولكن من أين تأتي هذه المخاوف؟ ما هي البوصلة الإلهيّة الّتي يسلمها إلهنا إياها لنسير في الطّريق الّتي يرشدنا إليها دون أن ننحرف عنها؟

 

 

1. ابن لله على الأرض (حك 2: 12- 20)

 

نجد بالفعل الإجابة الأوّلى، على التساؤل الّذي طرحناه بالـمُقدّمة، في قراءتنا لنص سفر الحكمة (2: 12- 20). حيث يخبرنا الحكيم، كاتب سفر الحكمة، عن هؤلاء الرجال، الأشرار، الّذين يحاولون نصب الفخاخ للأبرار، ويبدون رجالًا أقوياء وواثقين بأنفسهم، لكنهم في الواقع ممتلئين بالخوف والهشاشة حيث يقول الحكيم: «إِنَّنا وُلدْنا اتَفاقَا وسنَكونُ مِن بَعد ُكأنّنا لم نَكُنْ قَط لأَنَّ النَّسمَةَ في مَناخيرنا دُخان والنُّطقَ شَرارَةٌ مِن خَفَقانِ قُلوبِنا. [...] فلننظُرْ هل [البار] أَقوالُه صادِقة ولنختَبِرْ كيفَ تَكونُ عاقبَتُه. فإِن كانَ البار اْبنَ اللهِ فهو يَنصُرُه وُينقِذُه مِن أَيدي مُقاوِميه. فلنمتَحِنْه بالشَّتْمِ والتَّعْذيب لِكَي نَعرِفَ حِلمَه ونَختَبِرَ صَبرَه. ولنحكُمْ علَيه بِمِيتَةِ عار فإنَّه سيُفتَقَدُ بِحَسَبِ أَقْواله» (حك 2: 17- 20). أي إنسان يفكر بطريقة عنيفة وغير أمينة لا يكون أبدًا إنسانًا قويًا، بل فقط إنسانًا مملوءً بالخوف. إنّه الإنسان الخائف مِن أنّ يُؤخذ منه شيء من مساحات قوته الصغيرة؛ الخوف مِن أنّ يأخذ منه إنسانًا آخراً مساحته ويطغيّ عليه. ولهذا السبب، لا يمكن أنّ يتعرض الإنسان "ابن الله" الّذي يتميز بالعدل، إلّا للإضطهاد، لأنّ فكره وسلوكه يُشككا بشكلّ جذريّ في طريقة تفكير الأشرار في عالمه الّذي يسوده الظلم والظلم فقط. وهنا يصير المعيار الأوّل الّذي يحدد إتجاه البوصلة الإلهيّة هي البنوة للرّبّ الإله والتمسك بالسّير في طّريق العدل وعدم التخليّ عن مبادئ العدل في العالم البشري.

 

 

2. إعلان يسوع الثاني (مر 9: 30- 32)

 

 بناء على كلمات الحكيم الّتي تدعونا للتمسّك برّوح البنوة لله ونحن نحيا الحياة الأرضيّة. نستمر في البحث عن إجابة أخرى حيث ترشدنا البوصلة الإلهيّة من خلال تعلّيم يسوع الإبن الإلهيّ بالطبيعة إلى إتجاه آخر. في نص مرقس بالعهد الثاني نقرأ إعلان يسوع العلنيّ لسرّ آلامه وموته وقيامته للمرة الثانيّة، فقد تعمقنا في إعلانه الأوّل بالمقال السابق (مر 8: 27- 35)، وسنقرأ لاحقًا الإعلان الثالث والأخير بحسب مرقس 10: 32- 34. وهنا يأتي صدى كلمات يسوع القائل بشكل مباشر: «إِنَّ ابنَ الإِنسانِ سيُسلَمُ إِلى أَيدي النَّاس، فيَقتُلونَه وبَعدَ قَتْلِه بِثَلاثَةِ أَيَّامٍ يَقوم» (مر 9: 30). وأمام هذا الإعلان المقصور فقط على التلاميذ دون الجمع، يلحّ مرقس في سرده مشيراً إلى أنّ التلاميذ: «لَم يَفهَموا هذا الكلام، وخافوا أَن يَسألوه» (مر 9: 32). يتضح أنّ خوف التلاميذ، مثلنا، هو العائق الحقيقي للدخول في المخطط الإلهي. بينما يكشف يسوع عن رسالته الخلّاصيّة. هذا النوع من الخوف يسود على باطننا كتلاميذ للمعلم اليّوم ويمنعنا من فِهم سرّ يسوع المسيّانيّ. ويمكننا أن نتسأل كتلاميذ اليّوم، ما هو الخوف الّذي يمنعنا من أنّ نسأل يسوع عما لا نفهمه؟ وما سبب خوفنا من المغامرة بالدخول في السرّ الإلهي؟ مدعويّن لنكتشف عن وجه الخوف السائد على باطننا أمام الرّبّ الّذي يكشف عن سرّه الإلهي علانيّة.

 

 

3. فقدان إتجاهات البوصلة الإلهيّة (مر 9: 33- 34)

 

في تعلّيم يسوع بحسب مرقس، يأتي المعلّم بكشف إتجاهات جديدة، مشيراً للبوصلة الإلهيّة، ليزيل كلّ أنواع الخوف، والتّي تجعلنا نفقد إتجاهات البوصلة الإلهيّة، كتلاميذ، حتّى الّتي لم نجرؤ بعد بإعلانها. من خلال تساؤل يسوع: «فيمَ كُنتُم تَتَجادَلونَ في الطَّريق؟ فظَلُّوا [التلاميذ] صامِتين، لأَنَّهم كانوا في الطَّريقِ يَتَجادَلونَ فيمَن هُو الأَكبَر» (مر 9: 33- 34). بينما التلاميذ على الطّريق وبرفقة المعلّم، نجدهم مثلنا فاقدين إتجاهات البوصلة الّإلهيّة وهذ يتضح في جدالهم العقيم وأيضًا الصمت الّذي يمنعهم من إعلان مخاوفهم. إنّ خوف التلاميذ ليس بعيدًا عن أنواع مخاوفنا وعن خوف الأشرار بحسب نص سفر الحكمة كما ذكرنا بأعلاه. التلاميذ خائفيّن لأنّ أسئلتهم تختلف عن أسئلة الإنسان البار، يسوع، الّذي يتبعونه. وفي الطريق يخجلون من الكشف عن عدم فهمهم وعن حقيقة تساؤلهم "من هو الأكبر بينهم؟". حقًا تختلف كلماتهم جذريًا، ككلماتنا، عن كلمات السيّد الرّبّ. بينما هو يتحدث عن تسلّيم حياته؛ نتحدث نحن عن عظمتن ومكانتنا فوق الآخرين. في الواقع إنّ مصدر الخوف يكمّن في هذه الأسئلة، في هذه اللغة المختلفة تمامًا عن التعلّيم الّذي يستخدمه يسوع، والّذي غالبًا ما نكتشفه على شفاهنا، لكن علينا أنّ نجد إجابة عن التساؤل: ما هو الحل لخوفنا؟

 

 

4. أتقبل البوصلة الإلهيّة؟ (مر 9: 35- 37)

 

يبدأ يسوع من جديد، بتدريب وتعلّيم تلاميذه بالرغم من إقترابه لإتمام سرّه الخلّاصيّ. وها هو يأخذ الكلمة التعلّيميّة ويتحدث ليساعدنا مع تلاميذه على مواجهة هذا الخوف وإيجاد حلّ لما يعوقنا من جدال وصمت عقيم، بشكل خاص عن معيار لّاهوتي بحسب مرقس، بحواره عن الرّوح الأصغريّة قائلاً: «مَن أَرادَ أَن يَكونَ أَوَّلَ القَوم، فَلْيَكُنْ آخِرَهم جَميعاً وخادِمَهُم» (مر 9: 35). تحرر إرادتنا هي الحل، إذ، أنا أو أنت، أردنا شيئًا ما، نسعى بارادتنا الحرة لإتمامه لأننا مقتنعين به. وها هو يسوع يُسلّمنا البوصلة من خلال إرادتنا وقبولنا الحر في أنّ نترك ذواتنا لتقودنا البوصلة الإلهيّة المتمثلة في أفعاله وكلماته.

 

من جديد، بينما يسير يسوع على الطّريق، في إتجاه أورشليم لتسلّيم ذاته قابلاً بوصلة الله الآب، بشكل عمليّ يعلّم بالحياة: «أَخَذَ بِيَدِ طِفْلٍ فأَقامَه بَينَهم وضَمَّه إِلى صَدرِه وقالَ لَهم: "مَن قَبِلَ واحِداً مِن أَمْثالِ هؤُلاءِ الأَطْفالِ إِكراماً لِاسمِي فقَد قَبِلَني أَنا ومَن قَبِلَني فلم يَقبَلْني أَنا، بلِ الَّذي أَرسَلَني"» (مر 9: 36- 37). لقد أظهر لنا يسوع من خلال لفتته الحانيّة بأن الحلّ للخوف يكّمن في فعل وهو معانقة طفل. الطفل هو الضعيف والهشّ والّذي لا يمكننا أنّ نحصل على أي شيء منه لصغره. فهو الّذي يحتاج لنا، فمن خلال قبولنا الطفل، الصغير، الّذي يُمثل الضعفاء والمهمشين بيننا والّذين لا يمكنهم أنّ يردوا بشيء في مقابل إحتضاننا لهم. يمكننا التغلّب على مخاوفنا من خلال تنسيق أسئلتنا وكلماتنا مع يسوع الّذي يُسلمنا بوصلته الإلهيّة. يحترم يسوع إرادتنا دون إجبارنا على قبول البوصلة الإلهيّة الّتي رافقته في رسالته الخلّاصيّة. مدعوين اليّوم، أن نطلب برّوح أصغريّة أنّ نتحرر من رّوح الخوف ونقبل بإرادتنا البوصلة الّتي يضعها الرّبّ بين أيدينا. ليكن طّريقنا هو ذاته طّريق المعلّم حيث نتبعه، خطوة بخطوة، سائرين خلفه في طريقه، واضعين مخاوفنا وأسئلتنا وكلماتنا أمامه. كلمات يسوع هي الّتي تفتح لنا طريق نحو التحرر من الخوف وتدعونا لإتباع إتجاهات البوصلة الإلهيّة.

 

 

الخلّاصة

 

ناقشنا في مقالنا هذا، بناء على ضوء البوصلة الإلهيّة التوصّل إلى بعض الإجابات الّتي تُحررنا من مخاوفنا البشريّة. قد أتت لنجدتنا كلمات كاتب سفر الحكمة (حك 2: 12- 20) حيث توصلنا للإجابة الأوّلى من خلال كلماته الّتي كشفت عن رّوح الخوف الّتي يبثها الشّرير وهو ما يمنع تقبلنا لتبعيّة إتجاهات البوصلة الإلهيّة. ثمّ تعرفنا على إتجاه البوصلة الثاني من خلال تعليّم وأفعال يسوع بالنص المرقسيّ (9: 30- 37)، والّذي ألحّ علينا كتلاميذه المعاصرين اليّوم بالتخلي عن رّوح الجدال العقيّم والصمت السلبي وطرح مخاوفنا أمامه. هذا بالإضافة إلى التحليّ بالرّوح الأصغريّة وقبول المهمشين خاصة المرفوضين. من خلال الوحي الإلهي بهذين النصيّن، مدعوين اليّوم لتقّبل البوصلة الإلهيّة فتصير نور في إختياراتنا وتحررنا من عائق الخوف ورّوح التسلط الشّريرة. دُمتم في تبعيّة للرّبّ من خلال بوصلته الإلهيّة الّتي يسلّمها ليّ ولك اليّوم.