موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٠ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٤

"الكنز الحقيقي" بين كاتبّي سفر الحكمة والإنجيل الثاني

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
الأحد الثامن والعشرون بالزمن العادي (ب)

الأحد الثامن والعشرون بالزمن العادي (ب)

 

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (حك 7: 7-11؛ مر 10: 17-30)

 

مُقدّمة

 

الصوت الإلهي يتحاور مع حياتنا من خلال نصيّ فيما بين العهدين، سنقترب تدريجيًا بمقالنا اليّوم، لنتعرف على قوة الكلمة الإلهيّة الحيّة من خلال سفر الحكمة (7: 7-11) بالعهد الأوّل. والّتي تحمل لنا رسالة خاصة وهي القدرة على طلب الحكمة الّتي ستصير كنز الكنوز كاشفًا عن سرّ الصداقة بالله من خلالها. بالتوازي مع هذا النص سنستمر في قرأتنا لنص جديد بحسب مرقس الإنجيلي (10: 17-30)، والّذي سيفاجئنا بتساؤل التلاميذ ليسوع قائلين "مَن يستطيع أن يخلص؟". والّذي يمكن أنّ يكون تساؤلنا نحن اليّوم المؤمنين بالرّبّ.  إلّا أنّ التلاميذ تناسوا ولم يعرفوا قيمة الكنز الحقيقي الّذي ينظر لهم بحب ويحاورهم كاشفًا عن الكنز الإلهي الّذي يحمله إليهم.

 

 

1. فرادة الحكمة (حك 7: 7-11)

 

أساس الصلاة هي الصلة الّتي توجد بين المؤمن الّذي يحافظ على موعده الثابت مع الرّبّ. في صلاة سليمان الحكيم بحسب نصنا هذا، نجد الكاتب يحمل طلب معين في صلاته للرّبّ، وبشكل خاص. تحتوي صلاتنا سواء الشكر أو طلب الغفران أم طلب نعمة ما على حميميّة العلاقة بين الإنسان والرّبّ إلهه. يكشف لنا الكاتب في صلاته موضوع إتخاذ مسافة من الكنوز الماديّة فهو لا يطلبها. بل تأتي كلمات الحكيم بنص سفر الحكمة (7: 7 – 11) مؤكدة طلبة روحيّة وهي طلب الحكمة، فهي تفوق كلّ الإمتلاكات والثروات الماديّة حيث يعلن بقوله: «لِذلِكَ صَلَّيتُ فأوتيت الفِطنَة ودَعَوتُ فأَتاني روح الحِكمَة ففَضَّلتُها على الصَوالِجَةِ والعُروش وعَدَدتُ الغِنى كَلا شَيءٍ بِالقِياسِ بها» (حك 7: 7- 8). تحتوى صلاة الطلب للحكيم، على التركيز لطلب شيء واحد لا غير من الرّبّ، وهي نعمة الحكمة. وبإستمرارنا في قراءة النص نكتشف إنّه يطلبها بل لا تقارن باللأليء الثمينة موضحًا: «لم أعادِلْ بها الحَجَرَ الًذي لا يُقَدَّر لأَنَّ كُل الذهَبِ بِإِزائِها قليلٌ مِنَ الرَّمْل والفِضَّةَ عنِدَها تحسَبُ طينًا. وأَحبَبْتها فوق العافِيةِ والجَمال وآثرتْ أن أتَّخِذَها قبل النور لأَن رَونَقَها لا يَقِر لَه قَرار. فأَتَتني معَها جَميعُ الخَيرات وعن يَدَيها غِنىً لا يُحْصى [...] لأَنَّها بِإِمرَةِ الحِكمة ولم أكُن عالِماً بِأنَّها أُمّ لَها جَميعًا [...] فإنَّها كَنز لِلنَّاسِ لا يَنفَد واَلَّذينَ اْقتَنَوه كَسِبوا صداقَةَ الله وقَد اًوصَته بِهم المَواهِبُ الصَّادِرَةُ عنِ التَّأديب» (حك 7: 9- 14). تشير الصفات الّتي يستخدمها الكاتب على أنّ نعمة الحكمة الروحيّة فريدة من نوعها بل لا مثيل لها لأنها تُقرب المؤمن من الله وتؤهله لصداقة عميقة به. يدفعنا هذا النص لفهم أعمق لإتجاه تفسير ليسوع بحسب النص المرقسي (مر 10: 17- 30). بل يمكننا القول أنّ هناك موضوعًا أكثر مركزية في النص الإنجيليّ كما رأينا بنص الحكمة، والّذي تعتمد عليه أيضًا العلاقة مع الكنز الماديّ ويكمن في التساؤل مَن يمكن أنّ يخلص؟

 

 

2. الفرشاة المرقسيّة (مر 10: 17-30)

 

يسوع، والرجل الغني، والتلاميذ؛ هم الثلاث شخصيات اللواتي يتميزن بثلاث حالات ذهنية مختلفة. لقد رسم مرقس الإنجيلي بضربات فرشاة ماهرة ملامح بشرية الحب، والحزن، والدهشة. يحتوي أيًضا مركز النص المرقسي الشهير على تساؤل من قِبل التلاميذ وهو تساؤل قاطع: «مَن يَقدِرُ أَن يَخلُص؟» (مر 10: 26). بشكل بسيط أنّ هذا المرقسىّ يضع بين يديّه على الكنز الحقيقي، هذا هو المفتاح الحقيقي للإنجيل، وهو أيضًا سؤال يؤثر على حياة كلّاً منا. بالطبع، ربما لا نفكر بإلحاح كبير في موضوع الخلاص الأبدي، الّذي قد نكافح من أجل فهمه والّذي نخطأ حينما نفكر بأنّه ينتمي إلى لغة بعيدة عن عصرنا. ومع ذلك، فإننا جميعًا نسأل أنفسنا سؤالًا عن خلاص حياتنا، وربما يمكننا صياغته بكلمات مختلفة مثل: مَن يستطيع أنّ ينقذ حياته؟ مَن يستطيع أنّ يفهم ذلك؟ مَن يستطيع أنّ يجعلها أكثر إنسانيّة حقًا؟ مَن يستطيع أنّ يشعر بالرضا؟ الشخصيات الّتي في المقطع المرقسيّ تعطينا إجابات مختلفة على هذه الأسئلة.

 

2.1. الشخصية الأوّلى (مر 10: 17)

 

يسرد علينا الإنجيلي، في إفتتاحيّة النص، باقتراب شخص ما نحو يسوع وهو بمثابة الشخصية الأوّلى، السائر في طريقه نحو أورشليم: «بَينَما [يسوع] خارِجٌ إِلى الطَّريق، أَسرَعَ إِليه رَجُلٌ فجَثا له وسأَلَه: "أَيُّها المُعَلِّمُ الصَّالح، ماذا أَعمَلُ لأَرِثَ الحَياةَ الأَبَدِيَّة؟"» (مر 10: 17). هذا الرجل، بحسب مرقس، ليس لديه إسم، إنه مجرد إنسان، مثل الكثيرين، ربما يكون إنسان ذو إيمان جيد. سؤاله يكشف حقيقة علاقته بالله: "ماذا أفعل؟". ندرك من خلال سؤاله أنّه خلاص حياته يعتمد على فعل يتوجب أنّ يقوم به! سيعلن له يسوع إنّه يفتقد شيئًا واحدًا فقط، ولكن ما يفتقده ليس شيئًا يضيفه إلى الأشياء الأخرى الّتي يفعلها بالفعل بشكل جيد والّتي يمتلكها بالفعل، بل إنّه يفتقد ما يمكن أنّ يضفي نكهة ومذاق حقيقي على الأقوال الّتي تكشف إنه يحفظ بالفعل بأمانة بحسب الشريعة. ولهذا فإن الحالة الذهنية الّتي تغلف فكره هي الحزن. فهو حتى الآن لمّ يعرف كيف ينفتح ليتعرف على الشيء الّذي يفتقده والّذي يعطي معنى لكل ما لديه، أو بالأحرى يجعله يسترده مئة ضعف. فهو يحتاج إلى علاقة جديدة تعطي معنى لكينونته ولحاله ولما يملكه.

 

2.2. شخصية المعلّم (مر 10: 18-24)

 

الشخصية الثانية بحسب سرد مرقس هي شخصيّة يسوع، الرجل السائر نحو الهدف، الّذي يسير بجرأة نحو طّريق لاهوتيّ أكثر منه جغرافيّ. نعم توجه يسوع الصارم في طّريقه نحو أورشليم يكشف حقيقة علاقته بالله الآب. حيث تتسم هذه العلاقة بين الآب والابن بالحبّ حتّى النهاية، كعلاقة حبّ مستمرة ولم تتوقف حتّى يقدم فيها حياته بارادته. من خلال قوله التالي الّذي هو بمثابة صرخة: «يا بَنِيَّ، ما أَعسَرَ دُخولَ مَلَكوتِ الله!» (مر 10: 24). يكشف يسوع بقوله هذا أنّ الإنجيل الإلهي يعلن عن إمكانية جديدة للعلاقة مع الله كأبناء وليس كعبيد بالتواصل مع الله الآب. واقع هذه الكلمات هي الحبّ الّذي يسبق أي طلب. حتّى قبل أنّ يطلب التخلي والإتّباع، نظر يسوع بحبّ إلى الرجل الذي سأله عن كيفية نواله الخلاص. قبل أي التزام، قبل أي عمل صالح وديني، هناك حبّ تسبقنا دائمًا ولا تطلب إلا القبول. بدون هذه النظرة الـمُحبة، سيكون كلّ طلب غير مُستدام، وكلّ خطوة على هذا الطريق ستفوق قدرتنا.

 

2.3. شخصية التلاميذ (مر 10: 25- 30)

 

يسير التلاميذ في طّريق يسوع ويتبعونه منذ وقت ليس بقصير، لكنهم خائفون ولا يفهمون طّريق المعلّم السائرين معه. إنّهم ليسوا أغنياء ماديًا ولكن لديهم ثروة أخرى يكافحون لئلا يتخلوا عنها. سؤالهم لا يختلف كثيرًا عن سؤال الشخصية الأوّلى: «فَمَن يَقدِرُ أَن يَخلُص؟» (مر 10: 26). فكر التلاميذ كفكر الرجل، الّذي على الطّريق، هم أيضًا لديهم طقوس يتباهون بها، وإستحقاقات يطالبون بها. ففي نهاية المطاف، لقد تبعوا يسوع، وتركوا كلّ شيء، فهل هو كنزهم الّذي لأجله تركوا كلّ ما هو ثمين؟ ربما ما زالوا، مثلنا، يفتقدون شيئًا واحدًا فقط. ليس شيئًا واحدًا من بين أشياء أخرى، ليس عليهم أن يفعلوا أي شيء أكثر مما يفعلونه بالفعل. إنهم يفتقرون إلى معرفة كيفيّة مواجهة نظرة الحبّ الّتي تسبقهم دائمًا. حالتهم الذهنية هي الإندهاش أمام كلمات المعلم بل وربما أكثر أمام الإيماءات وطريقة مواجهة مصيره من المعاناة والموت. سيكون عليهم أنّ يصلوا إلى أورشليم ويروا على الصّليب الحبّ العظيم الّذي يعطي ويسبق دائمًا. ثمّ تأتي نظرة وكلمة يسوع إليهم لتنقذهم: «فحَدَّقَ إِلَيهِم يسوعُ وقال: "هذا شَيءٌ يُعجِزُ النَّاسَ وَلا يُعجِزُ الله، فإِنَّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قَدير"» (مر 10: 27). هذا الحدث يدعونا للتوقف أمام المعلم للتعرف على كنزنا الحقيقي الّذي يكمن في العلاقة به، حينها ستكون نعمة الحكمة الرفيق الّذي يكشف لنا كنزنا الحقيقي الكامن في الحضور الحيّ للرّبّ بحياتنا.

 

 

 

الخلّاصة

 

تلمسنا كتلاميذ معاصريّن من الشخصيات الكتابيّة بكلا العهديّن، ونحن  كشخصية أخيرة وهي أنا وأنت كقراء مؤمنين لكلمة الرّبّ اليّوم. نعم، نحن، بأسئلتنا وحالتنا الذهنيّة، نجد أنفسنا أحيانًا كالحكيم (حك 7: 7-11) الّذي يطلب نعمة الحكمة، فتصير كنزه الحقيقي الّذي يكفيه. وها نحن مدعوين لطلب نعمة الحكمة لنسير على ذات الطّريق لنصل للصداقة مع الرّبّ. وأحيانًا أخرى نجد ذاواتنا كالتلاميذ الّذين يسيرون خلف يسوع (مر 10: 17-30)، ونشعر بافتقادنا لشيئًا واحدًا فقط الّا وهو السماح لأنفسنا بأنّ نكون محبوبينهذا هو فعل الفقر المدقع والتعري أمام الله. حينما نسمح لنظرة الله الـمُحبةُ أنُ تستقبلنا مدركين أن ّكلّ شيء مستطاع عند الله! نعم، حينما نلتقي بالكلمة الإلهيّة الّتي هي مصدر الحكمة وخاصة في كلمات الرّبّ الّذي لازال يرغب في صداقتنا وينعم علنيا بحكمته الّتي تجسّدت في نظرة الحب وكلمة يسوع الّلاتيّن كشف عن الكنز الحقيقي وهو يسوع ذاته كنزنا الحقيقي. لعل اللقاء بيسوع يصير لنا بمثابة الكنز الّذي يجب علينا كمؤمنين أنّ نبحث عنه لننال الحياة الأبديّة بفضل نعمته وتبعينتا الفقيرة. في الواقع كل شيء عريان أمام الله: ما من مال يمكنه شراء الخلاص، بل فقط قوة الكلمة. إن هذا العريّ لكل شيء أمام الله هو النسبية الحقيقية للغنى البشري في البحث عن السعادة وملء الحياةدُمتم في الإلحاح لطلب الحكمة وأيضًا في اللقاء بيسوع كنزنا الحقيقي الّذي لا يعادله أى ثروات بشريّة.