موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٩ أغسطس / آب ٢٠٢٣

نَحنُ بَنو الآبِ الرَّحيم وَكُلُّنَا إخوَة

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
نَحنُ بَنو الآبِ الرَّحيم وَكُلُّنَا إخوَة

نَحنُ بَنو الآبِ الرَّحيم وَكُلُّنَا إخوَة

 

عظة الأحد العشرين من زمن السّنة-أ

 

أَيُّها الإخوةُ والأخواتُ الأحِبَّاء في الْمَسيحِ يَسوع. عَلَى مَدَى أَحَدَينِ اثْنَين نَسمَعُ صَرَخَاتِ استِغَاثَة! فَفي إنجيلِ الأحدِ الْمَاضي، سَمِعنا بطرسَ يَسْتَنجِدُ بالْمسيحِ حِينَ أَخَذَ يَغرَق، قَائِلًا: ﴿يَا رَبُّ، نَجِّني﴾ (متّى 30:14). وَفي إنجيلِ هَذَا الأحدِ، نَسمعُ الْمَرأَةَ الكَنْعَانيَّة، تَسْتَنجِدُ فَتَقول: ﴿أَغِثني، يا ربُّ﴾ (متّى 25:15). فَبَينَ بُطرسَ اليَهوديّ، وَبَينَ الْمَرأةِ الكَنعَانيَّةِ غَيرِ اليَهوديَّة، يَتَحَقَّقُ خَلاصُ الْمَسيح، مُلَبِّيًا نِدَاءَ الاستِغاثَة، وَمَانِحًا النَّجَاةَ وَالافتِدَاء. فَخَلاصُهُ خَلاصٌ شموليٌّ لِجميعِ النَّاسِ دُونَ اسْتِثنَاءٍ وَبِلا تَمييز، إذْ لا خَلاصَ لأحَدٍ تحتَ السَّمَاء، إلّا بالْمَسيحِ وَحدَهُ لا أَحَدَ سِوَاه (راجع أعمال 12:4).

 

وَلِلوهلَةِ الأولَى، نَشعُرُ بأنَّ الْمَسيحَ قَدْ حَقَّرَ هَذهِ الْمَرأَة، بِقَولِهِ لها: ﴿لا يَحسُنُ أنْ يُلْقَى خُبزُ البَنين، فَيُلْقَى إلى صِغارِ الكِلاب﴾ (متّى 26:15). فَلَو أَنَّ الْمَسيحَ قَدْ قَصَدَ إهَانَتَهَا، لَمَا حَقَّقَ لَها مُرَادَهَا، وَلَصَرفَهَا خَائِبَةً ذَليلَة. وَلَكنَّ الرَّبّ، بِمَوقِفِهِ هَذَا أَرادَ أَمْرَينِ اثْنَين: الأوَّل، أَرَادَ اختِبارَ إيمانِ الْمَرأَة، وَقَدْ اجتَازَت الاختبَارَ بِنَجَاح. فَغبَّطها السَّيدُ قَائِلًا: ﴿مَا أَعظمَ إيمانَكِ أَيّتُها الْمَرأَة، فَلْيَكُنْ لَكِ مَا تُريدين﴾ (متّى 28:15). وَأَرادَ ثَانِيًا تَغييرَ النَظّرَةِ اليَهوديّةِ السَّائِدَةِ نَحوَ الأُمَم. إذْ كانوا يَنْظُرونَ إلى غيرِهِم نَظرَةَ ازدِرَاء، وَأنَّهم غير أَهلٍ لأنْ يَنْعَموا بالخلاص! أَمَّا الْمَسيح، فَقَدْ أَكَّدَ بُمعجزةِ اليوم، أَنَّهُ مَسيحُ الكُل، وَرَاعٍ للجَميع، وَخَلاصَهُ شَامِلٌ دونَ أيِّ شكل مِن أَشكالِ الفِئويّةِ والتَّفرِقَةِ البَغيضَة.

 

وَهَذَا مَا عَادَ لِيُؤكِّدَهُ بولسُ الرّسول، لَمَّا قَالَ في رِسَالتِهِ إلى أهلِ أَفَسُس: ﴿فَقَدْ جَعَلَ مِنَ الجَمَاعتَينِ جَماعَةً وَاحِدَة، وَهَدَمَ في جَسَدِهِ الحَاجِزَ الَّذي يَفصِلُ بَينَهما، أَيِ العَداوة﴾ (أفسس 14:2).

 

الْمَسيحُ في إنجيلِ اليَوم، إنَّمَا يُحارِبُ "الْمَنطِقْ الإقْصَائيّ الاحتِكَاريّ" عِندَ بَني قَومِه، فَهوَ لَمْ يأتِ لِبنَاءِ أَسْوَارٍ بَلْ لِمَدِّ جُسور. وَهوَ الْمَنطِقُ الّذي مَع كُلِّ أَسَف، لا يَزالُ مُتَوَارَثًا عِنَدَ البَعض، دَاخل الكَنيسَةِ وَمُؤَسَّساتِهَا. هَذَا النَّوعُ مِنَ الأنَانِيَّةِ الْمُفرِطَةِ والإيثار، وَحُبِّ التَّمَلُّكِ وَشَهوَةِ الاحتِكَار، هُوَ قَوَّةٌ هَدَّامَة تُفَسَّخُ الجَمَاعَة، وَتَزرعُ العَدَاوَة، وَتَبني الحَواجِز، وَتُقسِّمُ الْمَؤمنين إلى فِئَات. وَهوَ مَخالَفَةٌ جَسيمَةٌ لِمنطِقِ الْمَسيح.

 

وَمِنْ هُنَا وَجَبَ عَلَى الرُّعَاةِ، كُلٌّ في مَوقِعِ رِعَايتِه، أنْ يَكونوا يَقِظينَ مُتَنَبِّهين، لِئَلّا يَسمَحوا لهذهِ الرُّوحِ الفَاسِدَة بالتَّغلغُلِ وَالتَّسَرُّب، لا أنْ يَكونوا مُعَاوِنينَ في انْتِشَارِهَا، مِن خلالِ الْمَحَابَاةِ والتَّمييزِ بينَ الرَّعيّة. فَالكَنيسةُ بَيتُ الكُلّ، وَلَيسَت حِكرًا لا لِأفرادٍ وَلا لِعَائلاتٍ ولا لِعَشَائِر.

 

أَمْرٌ آَخَر لا بُدَّ مِن الإشارةِ إليه، أنَّ بُطرسَ عِندَمَا أَخَذَ يَغرَق، صَرخَ بِلِسَانِهِ طالِبًا النَّجدَة. أَمَّا هَذهِ الْمَرأَة فَقَدْ أَتَتْ تَستَغيثُ بِلسَانِ ابْنَتِها! وَهذَا يَدلُّ عَلَى أنَّ لِلجَمَاعةِ دَورًا هَامًّا في خَلاصِ بَعضِهَا، مِنْ خلالِ الإصلاحِ والإرشَاد، وَالْمَساعَدَةِ والإسنَاد. وفي الْمُقَابِل، قَد تَلعبُ الجَمَاعَةُ دَورًا سَلبيًّا، عِندَمَا يَسعَى البَعضُ، بِدافِعٍ مِنْ كِبريائِهم وَغاياتِهم الخَاصَّة، لِتَحطيمِ غَيرِهم، أَو تهميشِهم وَنَبذِهم. فَالجَمَاعَةُ قَدْ تَنشِلُ وَقَدْ تُهلِك.

 

وَللأسف، عَناصِرُ الإقْصَاءِ والازدِراء، مَوجودةٌ في كُلِّ جَماعَة. هَذهِ العَناصِرُ الضَّارَة، الّتي تَخَالُهَا قَمحًا، وَمَا هِيَ إلّا زُؤانٌ مُضِر. وَمِنْ هُنَا أَيضًا وَجَبَ عَلَى الرُّعَاةِ، أنْ يُبَيِّنوا لِكُلٍّ دَورَهُ، وأنْ يَضَعوا لِكُلٍّ حَدَّهُ، لِكَيلا يَتَغَوَّلَ أَحَدٌ عَلَى حِسابِ غَيرِه!

 

أَخيرًا، تَصِفُ الْمَرأَةُ حالَةَ ابْنَتِهَا قَائِلَةً: ﴿إنَّ ابْنَتي يَتَخَبَّطُهَا الشَّيطانُ تَخَبُّطًا شَديدًا﴾ (متّى 22:15). وَبَطرسُ عِندما رَأَى شِدّةَ الرَّيحِ الّتي كَانَتْ تَخبُطُهُ، أَخَذَ يَغرَق (متّى 30:14). وَمِنْ هَذَا الخَطَرِ وَمِنْ ذَاك، أَنجَدَهُما الْمَسيحُ وَخَلَّصَهُمَا. لِكُلٍّ مِنَّا يَا أَحبَّة واقِعٌ يَتَخبَّطُهُ، وَظُرُوفٌ تَتَلاعَبُ بِه، وهمومٌ تُغرِقُهُ، وهواجِسٌ تُقَيّدُهُ.

 

لِكُلٍّ مِنَّا شُرورٌ تُكَبِّلُهُ! كِبرياءٌ وَأَنَانيّةٌ وَعِبَادَةٌ لِلْمَال، حَسَدٌ وَحِقدٌ وَضَغينَةٌ، نِفَاقٌ وَغشٌّ وَكَذِب، سُكْرٌ وَفَسادٌ أَخلاقيّ، عُبوديّةٌ للشَّهَواتِ الحِسيّةِ وَالْمَلَذَّاتِ الغَرائِزيّة... وَفي الوَقتِ الَّذي الْتَجَأَت فيهِ هَذهِ الْمَرأَةُ الكَنعَانيَّةُ الوَثَنيَّةُ إلى الْمَسيح، لا إلى السَّحَرةِ وَالعَرَّافين الوَثَن، سَمَحَ بَعضُ الْمُعَمَّدين، مِنْ "خِرافِ الكَنيسَةِ الضَّالَة"، لِلشَّيطانِ أنْ يَستَحوِذَ عَليهم، بِممَارَسَتِهم لِلشَّعوَذةِ بِأَشْكَالِها، مُلْتَجِئين لِتلكَ الْمُمَارَسَاتِ الشَّيطَانيَّة، مِنْ ذَهَابٍ لِلعَرَّافين وَقَارئي الفنجان وكَاتِبي التَّعويذاتِ والحِجِب... في فِعلِ كُفرٍ مُبَاشرٍ باللهِ وبالإنجيلِ وَبِقُوَّةِ الصَّلاة!

 

لِذَلِك، نحنُ كُلُّنَا بِأَمَسِّ الحَاجَةِ للسُّجودِ كَمَا سَجَدَت الكَنعانيّة، سُجودِ النَّادِمِ وَالتّائِب. سُجودِ الْمُستَغفِرِ طَلبًا لِرَحمةِ الله. سُجودِ الضّعيفِ والْمُنْكَسِر طَلبًا لِلعَونِ والإغاثَةِ الإلهيّة. سُجودِ العَشّارِ الْمُتَواضِع لا انْتِصابِ الفِريسيِّ الْمُستَكبِر، طَالِبينَ الرّحمَة، طَالِبينَ النَّجدةَ والنَّجَاة، طالِبينَ الإغاثَةَ والخَلاص، مِنَ اللهِ أَبينَا القَادِرِ عَلى كُلِّ شَيء!