موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١١ أغسطس / آب ٢٠٢٣

مِنَ الْمَوتِ الأبَديّ، نَجِّنَا يَا رب

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
فَطُوبَى لِلمُؤمِنِ الّذي عَرفَ أَنْ يَتَمسَّكَ بالْمَسيحِ، وينجوَ بالْمَسيح، حَتّى يَبلُغَ الحياةَ ظَافِرًا حَيًّا بالْمَسيح.

فَطُوبَى لِلمُؤمِنِ الّذي عَرفَ أَنْ يَتَمسَّكَ بالْمَسيحِ، وينجوَ بالْمَسيح، حَتّى يَبلُغَ الحياةَ ظَافِرًا حَيًّا بالْمَسيح.

 

عظة الأحد التّاسِع عَشر من زمن السّنة-أ

 

حالَةُ بطرسَ في إنجيلِ هَذَا الأحد، جَمَعَتْ بَينَ مُتَناقِضَينِ اِثْنَين، لا يَفصِلُ بَينَهُما سِوَى لَحَظات! حالَةٌ جَمَعَتْ بَينَ الإيمانِ وَبَينَ الشَّك. بَينَ الثِّقَةِ وَبينَ انْعِدامِهَا. بَينَ الإقدَامِ وَبَينَ الخَوف! فَمِنْ نَاحِيَة، نَرَى بُطرسَ يخاطِبُ الْمَسيحَ وَاثِقًا: ﴿يَا رَب، إنْ كُنتَ إيّاه، فَمُرني أنْ آتيَ إليكَ عَلى الْمَاء﴾ (متّى 28:14)، مِمّا يَدُلُّ عَلَى إيمانِ بُطرسَ بِقُدرَةِ الْمَسيحِ عَلَى صُنعِ ذلِك، وَهوَ مَا حَصَل. وَمِنْ نَاحيةٍ أُخرَى، نَرَاهُ قَدْ خَافَ وَفَقَدَ ثِقَتَهُ لِشِدَّةِ الرّيح، فَأَخَذَ يَغرَق. فَمَا لَبِثَ أَنْ استَنجَدَ بالْمَسيحِ صَارِخًا صَرخَةَ الّذي تَقَطَّعَتْ بِهِ السُّبُل: ﴿يَا رَبُّ، نَجِّني!﴾ (راجِع متّى 29:14-30)، في حَرَكَةٍ تُعَبِّرُ عَنْ نَهضَةِ الإيمانِ في أَعمَاقِهِ مِنْ جَديد!

 

أَيُّهَا الأحِبَّة، كَمْ مِنَ الْمَرَّاتِ نَختَبرُ مَا اختَبرَ بُطرسَ مِنْ تَنَاقُض؟! بَينَ حَالاتٍ نُعرِبُ فيهَا عَنْ إيمانِنَا الثَّابتِ وثِقتِنَا الْمُطلَقَة بالْمَسيحِ الرَّب، وَبَينَ حَالاتٍ أُخرَى مُغايِرَةٍ تَمامًا، نُعَبِّرُ فِيهَا عَنْ شَكٍّ وَخَوف، وَبينَ حَالاتٍ يَنْتَفِضُ فيها الإيمانُ فينَا مِنْ جَديد، بَعدَ أَنْ أَوشَكْنَا عَلَى الغَرَقِ والهَلاك؟!

 

غَالِبيّتُنَا مُتَأَرْجِحون حَسبَ رِياحِ الْمَواقِف: بَينَ لحظاتِ القُوَّةِ وَبينَ لَحظَاتِ الضُّعف، بَينَ الْمَشي بِثِقَةٍ فَوقَ الصِّعَابِ وَبَينَ الغَرقِ فيهَا. أحْيَانًا نَجِدُ الإيمانَ يَتَفَجَّرُ فينَا سَيلًا غَامِرًا، وَأحْيانًا أُخرَى نَكونُ بِلا إيمان كَمَجرَىً جَفَّ مَسيلُهُ! الْمَواقِفُ الّتي تُصيبُنَا، والأحدَاثُ الّتي نمُرُّ بِها، تُؤثِّرُ فينَا، وَتَجاوبُنا مَعهَا يختلِفُ مِنْ شَخصٍ لِآخر. فَالبَعضُ أَمَامَ ظَرفٍ قَاسٍ وَحَدَثٍ أَليم، قَدْ يَنْكَسِرُ ويَنهَارُ انهيارًا مُدَوِّيًا. وَالبَعضُ الآخر تُقَوِّيهِ الضَّرَبَات، فَيَزدَادُ مِنْعَةً وَثِقةً باللهِ الْمُنَجِّي. البَعضُ أَمامَ عَواصِفِ الحياةِ يَغرَقُ كَمَا غَرِقَ بُطرس، والبَعضُ الآخر، وَإنْ أَخَذَ يَغرَق، إلّا أنَّهُ يُطلِقُ صَرخَةَ استِغاثةٍ بالْمسيحِ كبُطرس، مُتَمَسِّكًا بِيَدِهِ النَّاشِلَةِ مِنْ دَوَّامَةِ الضِّيقَات، فَيَنجو كَمَا نَجَا بُطرس.

 

فَكُلٌّ مِنَّا كَبُطرس: إمَّا في خَوفِهِ وَشَكِّه، وَإمَّا في قُوَّتِهِ وَثِقتِه. فَكَمْ هُوَ مُهِمٌّ أَلّا تُقنِعَ نَفسَكَ بأَنَّكَ قَويُّ الإيمان، وَأَنتَ فَوقَ ظَهرِ السَّفينة، في مَأمِنٍ مِنَ البَحرِ وَأَمْوَاجِه. فَجَوهرُ الإيمانِ يُمتَحَنُ يَومَ تَموجُ الصُّعوبات وَتَتَلاطَمُك الضِّيقَات. هُنا تظهَرُ حَقيقةُ الإيمانِ وَصَلابَتُهُ. فالإنسَانُ الّذي يَحيا في رَخَاءٍ صِحيٍّ وَنَفسيٍّ وَعَائليٍّ وَمَاليٍّ وَاجتِماعي، لَيسَ كالّذي يحيا وَسطَ كَومَةٍ مِنَ الضِّيقَاتِ الخانِقَة. فَالْمُعافَى الصَّحيح، لَيسَ كالْمَريضِ السَّقيم، وَالّذي يَنَامُ مُتْخَمًا مُمتِلئَ البَطن، لَيسَ كَمَنْ يَنامُ جَائِعًا خَائِرَ القُوى. وَالّذي يَنعَمُ بالتّرفِ والرَّفَاهيّة، لَيسَ كَمَنْ غَلَّتْ الظُّروفُ قَبْضَتَها عَليه. والّذي يَنعمُ بِرَاحَةِ البَال وَبحياةٍ عَائِليّةٍ مُستَقِرَّة، لَيسَ كَالْمُضَّطَرِبِ الذَّائِقِ مَرارةَ العَيشِ وَحَسرَتِه.

 

وَعَليه، لا تَقِسْ إيمانَكَ إلّا وَأَنت في عُرضِ البَحر، يَوم تَهُبُّ عَلَيك رياحُ الشَّدائِد. فَإمَّا أَنْ تَغرَقَ وَتهلِك، وَإمَّا أَنْ تَنْجوَ وَتحيَا. وَمِمّا يَبعَثُ في النَّفسِ عَزاءً، أنَّ فُرصَةَ النَّجَاةِ مُتاحَة، "وَقَشَّةَ الأمَلِ" تَطْفو دَومًا، حَتّى يَتَعَلَّقَ بِهَا كُلُّ غَريقٍ أَوشَكَ أَنْ يَهلِك. فبُطرسُ يا أَحِبَّة، بالرّغمِ مِن ضَعفِهِ الّذي أَصابَه، حَتَّى كَادَ أَنْ يُطيحَ بِه، إلّا أَنَّهُ عَرَفَ أنْ يَتَعَلّقَ، في تِلكَ الَّلحظَةِ الحَرِجَة، بالْمسيحِ "طَوقِ النَّجاة"، فَاستَطَاعَ النَّجاةَ مِنَ الخَطرِ الدّاهِم، الّذي كادَ أَنْ يُجهِزَ عَليه.

 

ونحنُ عَلَى مِثالِ بُطرس، بالرّغمِ مِنْ كَثرَةِ تَجارِبِنَا، وكُلِّ مَا نُبْتَلى بِهِ وَسَطَ بحرِ الحَياة، لَنَا دَومًا فُرصَةٌ لِلنَّجاةِ مِنَ الهَلاك، أَلا وَهي التَّمَسُّكُ بالْمَسيحِ والاعتِصامُ بهِ، والّلجوءُ صارِخينَ إليه، كَمَا فَعلَ بُطرس. فَالْمسيحُ يَبقَى لِلمُؤمنِ الطّوقَ، وَالحَبلَ، وَالْمَرْفَأَ، وَبَرَّ الأمَان.

 

قَدْ نُصابُ بِأمراضٍ وَعِلَلٍ بَعضُها لا شِفاءَ مِنه. قَدْ نُبتَلَى بآلامٍ جِسَام في النَّفسِ والجَسَد، قَدْ نُصابُ بِفقرٍ وحاجَة، قدْ يخطِفُ الْموتُ عَزيزًا لَنا فُراقُهُ يحرِقُ الفؤاد، وغَيرِها مِنَ الضِّيقَات. فَمُخطِئٌ مَن يَظنُّ أنَّ النَّجَاةَ الّتي يَتَمَنَّاهَا، هيَ مُقتَصِرَةٌ فَقَط عَلَى هَذهِ الحياة! فَالنَّجَاةُ الّتي يَطلُبُها الْمُؤمِنُ الحَكيم، هيَ النّجاةُ مِن الهلاكِ والْمَوتِ الأبَديّ، مِنَ القاَعِ الّذي إذا هَبَطَّت إليه، فَلا صُعودَ مِنهُ أَبَدًا!

 

وَلِذلِكَ، تُعَلِّمُنَا الكَنيسَةُ أَنْ نُصَلّي قَائِلين: "مِنَ الْمَوتِ الأبَديّ، نَجِّنَا يَا رب". فَهَذَا هوَ الغَرقُ الّذي يجبُ أنْ يخشَاه كُلُّ مُؤمِنٍ حَكيم. أَمَّا مَنْ اعتقَدَ أَنّهُ مُحَصَّنٌ مِن ضَرباتِ الحياةِ وَضِيقَاتِها، حَتَّى وَإنْ كَانَ مُؤمِنًا، فهوَ وَاهِم. فإيمانُكَ لا يُعْفيكَ مِنْ التّعرُّضِ لِعَواصِفِ الحياة، إنّما يُساعِدُكَ ويُرشِدُكَ لاجْتِيازِهَا وَعُبورِهَا بِسَلام.

 

وَأخيرًا يا أَحِبَّة، كَمَا يَقولُ القِدّيسُ بولس في رسالتِهِ الأولى إلى أهلِ قورنتوس: ﴿اللهُ يُؤتِيكُم مَع التَّجربَةِ وَسيلَةً لِلخُروج﴾ (1قور 13:10). وَمَنْ هوَ مَخرَجُنَا مِنَ التَّجارِبِ ونَجدَتُنا عِندَ الضِّيقَات؟ هوَ الْمسيحُ وَحدُه، مَنفَذُنَا وَنَجاتُنا. هوَ لَيسَ الْمَخرجَ فَقَط، إِنَّمَا هوَ الباب أَيضًا، الّذي مِنْ خِلالِهِ وَبِوَاسِطَتِهِ، بَعدَ الخُروجِ مِنْ هَذهِ الحَيَاة، ندخُلُ الدَّارَ الأبَديَّة.

 

فَطُوبَى لِلمُؤمِنِ الّذي عَرفَ أَنْ يَتَمسَّكَ بالْمَسيحِ، وينجوَ بالْمَسيح، حَتّى يَبلُغَ الحياةَ ظَافِرًا حَيًّا بالْمَسيح.