موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٠ فبراير / شباط ٢٠٢١

مَن لم يكن عَليكم كانَ مَعكم

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الأب فارس سرياني، راعي كنيسة "سيدة الوردية" في الكرك - الأردن

الأب فارس سرياني، راعي كنيسة "سيدة الوردية" في الكرك - الأردن

 

على مَدارِ أسبوعين اثنين، ونحن نقرأ في كلّ أحد، سلسِلة معجزات شفاء وإبراءٍ من عِللٍ وأمراضٍ كثيرة، فالجموعُ كانت تأتي إلى يسوع، وتحتشِد على بابِه، تسأله الرّحمةَ، مِمّا هي فيه من عناء وشَقاء. فمسلسلُ الألمِ الجسدي والنّفسي، ذو فصولٍ لا مُتناهية وأجزاء مُترامية مُتَشَعِّبَة، في حياتِنا الإنسانيّة.

 

وفي هذا الأحد معجزةُ شفاء جديدة. ولكن، نجدُ فيها أمرًا مميّزًا للغاية، لم نجِده في حوادثِ الشّفاء الماضية. فإذا ما أمعنّا النّظرَ جيّدًا في نصّ هذا الأحدِ، نجد أنّ يسوع للمرّة الأولى، يَهبُ المريضَ شِفائين اثنين وليسَ شفاءً واحدًا! فَقد شفاهُ من عِلّة الجسد إذ كانَ مُقعدًا، وشفاهُ من علّة الرّوح إذ كانَ خاطِئً.

 

هذا المقعَد لَم يقل للمسيح ولم يَبُحَ له بأيّ شيءٍ عن خطيئتِه، ولكنّ المسيحَ شعرَ بتوبتِه، وَبِذلِك منحه الحلَّ من رباطِ خطاياه: "غُفِرَت لكَ خطاياك". اِستطاعَ المسيح أن يلتقِطَ ببراعة فَريدة، إشاراتِ التّوبة الحقَّة ودلالاتِ النّدامة الصّادقة، النّابعة من هذا المقعد. كيف لا، وهو "فاحِص القلوبِ وممتحِنُ الكُلى" (إرميا 10:17)، وعارفٌ بالإنسان ما أظهرَ وما أضمر! وتمامًا كما يقول المثل الدّارج: الكتاب واضح من عنوانه! فلا حاجة لأن تقرأَ ما فيه. استطاعَ المسيح أن يدرِك، أن سقمَ المقعد الأكبر، يَكمُنُ في روحِه وليسَ في جسده. لِذلِك نراه قد بدأَ بشفائِهِ من عاهةِ الخطيئة، قبل أن يشفيه من إعاقة الجسد. فالإعاقةُ الجسدية لا تَعني عاهةً أو تشويهًا في الرّوح والباطِن، ولكنّ عاهة الرّوح والباطِن، أشدُّ من سَقم الجسد وأمراضِه. صاحب المزامير يصرخُ قائِلًا: "أنا قلتُ: يا ربِّ اِرحَمني، إشفِ نَفسي، فإنّي إليكَ خَطِئتُ" (مزمور 5:40)

 

هذا الإنسان تجاوَز كلّ العراقيل النّاجِمة عن وضعِه الصّحي، كمقعد لا يستطيع الحِراك. وتخطّى أيضًا كلّ الحواجز والعُصي، الّتي حاولَ الآخرون أن يضعوها لَه أمامَه وفي عَجلتِه. تجاوزَ أولًا وضعه الجسدي، الّذي لم يكن يتيح له أن يذهب بِقدميه إلى يسوع، فاستعان بأربعة أصدقاء حملوه، وذهبوا به إلى يسوع لكي يمنَحه الشّفاء. وهكذا تخطّى أوّل عرقَلة. ثمّ اصطدم بعرقلة أُخرى، إذ لم يَستَطع الوصول إلى يسوع لكثرةِ الزّحام. فهذا عائِقٌ وضعه الأخرون أمامَه، ولو بشكل غير مقصود، ولكنّه يظلّ عائِقًا. ومع ذلِك وبمعاونة أصدقائِه الأربعة، استطاعَ أن يتجاوزَ هذا السّاتر البشري الضّخم، عندما نقبَ أصدقاؤه السّقف، ودَلّوه أمام يسوع مباشرة. وهكذا تخطّى ثاني عَرقلة، واستطاع بعد ذلك أن يحوزَ على جائزة الشّفاء، بالرّغم من كلّ تلكَ العوائِق، الّتي قد تبدو مستحيلة لشخص آخر غيره.

 

وِمن هنا أُريد أن أتطرّق لأمرٍ هام، بَدا جليًّا واضِحًا في حادثة اليوم، ألا وهو دورُ الجماعة. فَلِلجماعةِ دَورين اثنين: دور إيجابي مؤثّر وفعّال، يظهر في الأصدقاء الأربعة، الّذين دونَهم ودون مساهمتهم، لَما استطاعَ صَديقُنا المقعد أن ينالَ الشّفاء. وفي المقابل أيضًا لها دور سَلبي مُعطّلٌ ومُعيق، يظهرُ في الجمعِ المزدحمِ أمام الباب، والّذي كان يشكّل حائط صدٍّ منيع، يمنع وصول صديقِنَا إلى المسيح.

 

في كلِّ جماعة كَنسيّة وغير كنسيّة، هناك عناصرٌ فعّالة ومؤثّرة، تَبثّ طاقةً إيجابيّة وتبعثُ حيويّة، وتنهضُ بالجماعة كلّها. وأيضًا مع كلّ أسف، هناك عناصر مُعَطِّلة مُحجِمَة، تبثُّ طاقةً سلبية وتبعثُ رسائِلَ مسمومة، وتُصدر ذبذباتٍ من التّثبيط وموجاتٍ من التّهبيط، ولا همّ لها سوى النّيل من عزيمة الجماعة، مُعيقةً عجلة التّطور والنّماء. في كلّ جماعة تجد من يَعمل مع الجماعة ولأجلِ الجماعة والمكان أيضًا، وكذلِكَ تجد من يعمل على الجماعة وضدّ الجماعة، فَمن لَم يكُن مَعكم، كانَ عَليكم (لوقا 50:9).

 

هذهِ الجماعة الصّغيرة المؤلّفة من أربعةِ أشخاص، بدورِها الإيجابي وبفضلِ إيمانِها الكبير الّذي كانت تتحلّى به، اِستطاعَت أن تُوصِلَ المقعد إلى حيثُ نبع الخلاص ومصدر الشّفاء. أمّا الجماعة الكبيرة المزدحِمة فَلعِبت على النّقيض من ذلك، دورًا معطّلًا وحاولَت أن تكونَ عنصرًا يُفشِلُ مسيرةَ الإيمان. فَالعبرة يا أحبّة ليست في الكثرة والكمّية، إنّما في الجودة والنّوعيّة. فالمسيح اقتحمَ العالم باثني عشر من الرّسل وجماعة صغيرة من التّلاميذ والاتباع.

 

هذه الجماعة الصّغيرة عَمِلت في نظام وانضباط، فَقد كانوا أربعة، وكلّ واحدٍ منهم كان يحمل فراش المقعد من زاويته، ويقوم بالمهمّة الّتي عُهِدَ بها إليه. وبالتّالي أنُجزت المهمة بنجاح، وتحقّق الهدف المنشود. وهنا عبرةٌ أخرى، فأحيانًا يكفي أن تجِدَ اثنين أو ثلاثة أو حتّى أربعة، يعملون معكَ في نظام وهدوء وانضباط، لأجل الخيرِ والصّالحِ العام للمكان وأهلِه، خير من جماعة مزدحِمة مضطرِبة في فوضى واختِلال. فكثرة الأصوات أحيانًا مضيعة للوقت وهدرٌ للجهود وإسراف في الطّاقات.

 

هؤلاء الرّجال الأربعة، كانوا رجالًا لا أشباه رجال، أصحاب موقف بطولي ودور فعّال، إذ كَشَّفوا عن سواعِدهم، وحملوا بأيديهم المقعد وفراشه، ووضعوه أمام المسيح، رغمًا عن أنوفِ الجميع، وأكمل الرّب بدورِه العملَ المتبقّي. فالمسيح عمل معهم وأكملَ ما بدوؤه. هذا الأمر ينطبِق أيضًا على واقِعنا الرّعوي في كنائِسِنا. أحيانًا تجد مَن يُلقي على الكاهن حملًا كبيرًا ثقيلًا فوق طاقتِه، لا يستطيع النّهوض به وحدَه، معتقدين أن الكاهن شبه إله، وباقي الأيادي تبقى مسترخية والعيون ترقب من بعيد. وأحيانًا قد لا تجد من كثيرين سوى الكلام الفارغ والانتقاد الجارح والتّنظير من بعيد، أما ساعة الفعل والعمل، فَتَندرُ الشّهامة والنّخوة، وتصبحُ مواقف المروءة عملة نادرة.

 

بالمختصر المفيد، الجماعة في الرّعية هي يدٌ مرفوعة مشاركة ممدودة، أمّا الأيادي المسترخية المغلولة المقبوضة، فحتّى الكلام لا يجوز لها. فَمن أرادَ الانتقادَ والتّنظير، فَعلى الأقل ليُقدّم أوّلًا كأسَ ماءٍ بارد لهؤلاء الصّغار، ويجوز كوب شاي ساخن في ظلّ الأجواء الباردة، وليعمل أوّلًا بيديه، حتّى يُصبح صاحب حقّ، يجوز له حينئذٍ أن يعمل بلسانِه.

 

أخيرًا يا أحبّة، هذهِ الجماعة الصّغيرة ساهمت في تقريب هذا العاجز، وضَمِنَت وصوله الأكيد إلى المسيح. أمّا الجماعة المزدحِمة الكبيرة، فساهمت، دون أن تَدري، في إبعاد العاجز عن المسيح، بل وفي تعزيز أسباب عجزِه، ولو إلى حين. فالجماعة، بممارستِها التّقويّة، قد تكون سببًا يقود الآخرين إلى الاقترابِ من الله، وتعزيزِ الإيمان به. وأيضًا، قد تكون الجماعة، بممارستِها المختلّة المشكّكة، سببًا يقود البعض إلى الابتعاد عن الله، أو خلخلةِ الإيمان به، حدًّا قد يصل الجحود والنّكران.