موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
عظة عيد انتقال السيدة العذراء إلى السماء
إنَّ أَوَّلَ مَا يَتَبَادَرُ إلى أَذْهَانِنَا عِندَمَا نَسمَعُ كَلِمَةَ "انْتِقَال"، هوَ الحرَكَةُ مِنْ مَوضِعٍ لِآخَر. وَالانْتِقالُ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الحَيَاة، فَالنّاسُ كَانوا وَلا يَزالونَ يَنْتَقِلونَ مَكانيًّا، بَحثًا عَنْ أَسبَابِ حَياةٍ أَفضَل. والانْتِقالُ لا يَقتَصِرُ فَقَطْ عَلَى الحَركَةِ الْمَكَانِيَّة، بَلْ هُنَاكَ انتِقَالٌ عَلَى الْمُستَوَى النَّفسيّ أَيضًا! كالانتِقالِ مِنْ حَالَةِ الفَرحِ إلى حَالَةِ الكَآبَة، أَو مِنْ حَالَةِ انْبِسَاطِ النَّفسِ إلى حَالَةِ انْقِبَاضِهَا، حَسبَ الظُّروفِ وَالأحدَاث. وَأَيضًا هُنَاكَ الانتِقَالُ عَلَى الْمُستَوَى الرُّوحِيّ، كَالانتِقالِ مِن حالَةِ النِّعمَةِ والفَضيلَة إلى حالَةِ الخَطيئةِ والرّذيلَة. وَهُنَاكَ الانتِقالُ الأخير سَاعَةَ الرُّقَاد، مِنَ الفَنَاءِ إلى البَقَاء ومِنَ الزَّوَالِ إلى الخُلود!
وَعيدُ انتِقالِ السَّيدَةِ العَذرَاء، بالنّفسِ والجَسَدِ إلى السَّمَاء، مَا هوَ إلّا تَذكيرٌ وَتَأكيدٌ عَلَى هَذهِ الحَقيقَةِ الإيمانيِّة، والّتي نُعْلِنُها عَقيدَةً في قَانونِ الإيمانِ قَائِلين: "وَنَتَرجَّى قِيَامَةَ الْمَوتَى، والحياةَ في الدَّهرِ الآتي. آمين". فَمَريمُ العَذراء، أُمُّ الكَنيسة، بانْتِقالِها الْمَجيدِ إلى السَّمَاء، قَدْ نَالَتْ مَا نَرجو كُلُّنا نحنُ، أَعضَاءَ الكَنيسة، أَنْ نَنَالَهُ بَعدَ انْقِضاءِ غُربَتِنا الأرضِيّة. وهيَ بذلِكَ قَدْ حَظِيَتْ بِوَعدِ يَسوعَ، الحَقِّ الصّادِق: ﴿في بَيتِ أَبي مَنازِلُ كَثيرة... وَإِذا ذَهَبتُ وأَعدَدتُ لَكُم مُقَامًا، أَرْجِعُ فَآخُذُكم إِلَيَّ، لِتَكونوا أَنتُم أَيضًا حَيثُ أَنا أَكون﴾ (يوحنّا 2:14-3). فَمريمُ أُمُّنا هيَ الآن تكون، حيثُ نحنُ نُؤمِنُ وَنَرجو يومًا أَنْ نَكون.
وَلِكَي نَفوزَ بِهذهِ الكَينونَةِ الأبَدِيَّة، لا يَكفي فَقَط أنْ نُؤمِنَ وَنرْجو، بَلْ لا بُدَّ لَنَا أَيضًا مِنَ العَمَلِ في سَبيلِ الحُصولِ عَلَيها، لِيَتِمَّ قَولُ الرّب: ﴿لَيسَ مَنْ يَقولُ لي ((يا ربّ، يا ربّ))، يَدخُلُ مَلكوتَ السَّمَوات، بَلْ مَنْ يَعمَلُ بِمَشيئَةِ أَبي الَّذي في السَّمَوات﴾ (متّى 21:7)، وقالَ أيضًا: ﴿مَلَكوتُ اللهِ يُؤخَذُ بالجِهاد، والْمُجَاهِدونَ يَختَطِفونَه﴾ (متّى 12:11). وَمريمُ العَذراء كَانَتْ خَيرَ مَنْ جَاهَدَ الجِهادَ الحَسَن، وعَمِلَ بِمشيئةِ الله، حِينَ هَتَفَتْ فَقَالَت: ﴿أَنَا أَمَةُ الرّب، فَلْيَكُنْ لي بِحَسَبِ قَولِكَ﴾ (لوقا 38:1).
نَسمَعُ الرَّبَّ في إنجيلِ القدّيسِ يُوحنَّا يَقول: ﴿مَنْ سَمِعَ كَلامي، وآَمَنَ بَمَن أَرسَلَني، فَلَهُ الحياةُ الأبديَّة، ولا يَمثُلُ لَدَى القَضَاء، بَلْ انتَقَلَ مِن الْموتِ إلى الحيَاة﴾ (يو 24:5). وَمريمُ العَذراء الْمُتَواضِعَةُ الثَّمينَةُ كَالَماءِ والهَواء، عِندَ لحظَةِ البِشَارَة، سَمِعَتْ وَآَمَنَتْ بِمَا بَلَغَها عَلَى لِسانِ الْمَلاك. وَأَضْحَتْ حياتُها سَماعًا وإيمانًا، بِما يَصدُرُ عَن ابْنِهَا الْمَسيحِ مِنْ أَقوالٍ وَأفعَال، فَاسْتَحَقَّتْ هَذهِ الخاتِمةَ الْمُمَيّزةَ بإنْعامٍ إلهيٍّ فَريد. فَسَمَاعُ مَريم قَادَها إلى طاعَةِ الإيمان، وَطاعَةُ الإيمانِ أَوصَلَتْ مَريمَ إلى الْمَجدِ الأبديّ!
مُشْكِلَتُنَا كَمسيحيّين، أَنَّنَا نَسمَعُ كَثيرًا وَنَعمَلُ أَقَل، لأنَّ الكَلِمَةَ لا تَجِدُ مَنْفَذًا إلى قُلوبِ كَثيرين، بَل تَبْقَى عَلَى السَّطحِ، لِتَخنُقَهَا وتحرقَهَا كَثرَةُ الاهتماماتِ الدُّنْيَويّةِ البَاطِلَة، وَالبَحثُ عَنِ الأمجادِ الأرضيّةِ الزّائِلَة. مُشْكِلَتُنا كَمَسيحيّين، أَنّنا نَسمَعُ كَثيرًا، وَلَكنَّ كَثيرينَ هُمْ قُساةُ قُلوبٍ، مُتَكبِّرونَ صَلِفونَ طَبيعَةً وَطِبَاعًا، والْمُتَكبّرُ لا يَسمَع لأنَّهُ مُكتَفي مِن ذَاتهِ الفَارِغَة، وَمُمتَلِئٌ مِنْ نَرجِسيتِهِ الجَوفَاء، وَهوَ وهيَ كالجِدارِ الخَرَسَانيِّ الأصَم، ترتَطِمُ بهِ الكَلِمَةُ ثُمَّ تَعودُ لِترتدَّ بَعيدًا.
فَمَنْ أَرَادَ أنْ يَسمعَ كَلمَةَ الله ويعمَلَ بِهَا، عَليهِ كَمَريم، أَنْ يَتَحَلّى أَوّلًا ودائِمًا بالتّواضُعِ وَالبَساطَةِ. أَمَّا الْمُتَكبِّرُ فَاللهُ يَتَقَيَّأُهُ! وَكَمَا قَالَ أَحَدُ القِدّيسين في رُؤياه: "رَأيتُ كَثيرًا مِن الفَضَائلِ في جَهَنَّم إلّا التَّواضُع، وَرَأيتُ كَثيرًا مِنَ الرَّذائِل في السَّمَاءِ إلّا التَّكبُّر".
وَأخيرًا، يَقولُ القدّيسُ يُوحنَّا في رسالتِهِ الأولَى: ﴿نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا انتَقلنَا مِن الْموتِ إلى الحَياة، لأنَّنا نُحِبُّ إخوَتَنا. مَنْ لا يُحب بقِيَ رَهنَ الْموت﴾ (1يو 14:3). وإنجيلُ عِيدِ الانتِقال مُفْعَمٌ بالْمَحَبَّة! مَريمُ العَذراء الّتي تَهرَعُ مُسرِعَةً لِخدمَةِ قَريبَتِها أَليصَابَات، مُنْتَقِلةً مِن النّاصرةِ شَمالًا إلى مَدينةٍ في يهوذا جَنوبًا، بِدافِعٍ مِنَ الْمَحبّةِ الّتي كَانَت تَفيضُ بِهَا.
الْمَحَبَّةُ يا أَحِبَّة هيَ جِسرُ عُبورٌ وَبوّابَةُ انتِقال، منَ الْمَوتِ إلى الحياة، كَمَا يَقولُ يوحنّا الرَّسول. الْمَحبَّةُ الّتي تخدُم وَتُعاوِن، الْمَحبَّةُ الّتي تُعطي وَتَبذُل، الْمَحبَّةُ الّتي تَغفِرْ وتُسامِح، الْمَحبَّةُ الّتي تَتَوَاضَعُ ولا تَتَكبَّر، الْمحبَّةُ الّتي تُشارِكُ ولا تَحتَكِر، الْمَحبَّةُ التي تَتَوَارَى ولا تَظهَر، الْمَحبَّةُ الّتي تحتَمِلُ وَتَصبِر، الْمحبَّةُ الّتي تُضَحّي دونَ مُقابِل، تَخدُم دونَ مَصلَحة شَخصيّة، تُعطي دونَ مَنفَعَة ذَاتيّة، هَذهِ هيَ الْمَحبّةُ الّتي عَاشتهَا مريمُ عَلَى الأرض، قَبلَ انْتقالِها الْمَجيدِ إلى السَّمَاء. هذهِ هيَ الْمحبَّةُ الّتي غَرَفتهَا مريمُ مِن قلبِ اللهِ الْمَحبَّة الْمُطلَقَة، فَأوصَلَتها إلى السّماء.
مِنْ قَلبِ اللهِ الّذي: ﴿أَحَبَّ العالَم، حَتَّى إنَّهُ جادَ بابنِهِ الوَحيد، لِكَي لا يهلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤمِن بِهِ، بَل تكونَ لَهُ الحياةُ الأبَديَّة﴾ (يوحنّا 16:3). فلا انْتقالٌ ولا حياةٌ أَبَديّة، إلّا لِلذي عَرَفَ أَنْ يَعيشَ الْمَحبَّة حُبًّا بالله وَمِن الله، كَمَا أَحَبَّتْ مَريم.