موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٦ أغسطس / آب ٢٠٢٣

مَنْ أَنَا في قَولِكُم أَنتُم؟

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
﴿مَنْ أَنَا في قَولِكُم أَنتُم؟﴾ (متّى 15:16)

﴿مَنْ أَنَا في قَولِكُم أَنتُم؟﴾ (متّى 15:16)

 

عظة الأحد الحادي والعشرين من زمن السّنة-أ

 

يُبَادِرُ الْمَسيحُ في إنجيلِ هَذَا الأحَد، مُوَجِّهًا السُّؤالَ إلى تَلاميذِه. وَهُوَ سُؤالٌ ذُو شَقّين! الأوَّل: ﴿مَن ابنُ الإنسانِ في قَولِ النّاس؟﴾ (متّى 13:16). والثَّاني وَهوَ الأهَم: ﴿وَمَن أنا في قولِكُم أنتم؟﴾ (متّى 15:16). وَمِنْ خِلالِ الإجابَة، يَظهرُ أنَّ النَّاسَ كَانوا في أَمرِ الْمَسيحِ حَيَارَى، اِخْتَلَفَت آَرَاؤهم. أَمَّا لِبُطرس، هَامَةِ الرُّسل، فَالجوابُ وَاحِدٌ وَواضِح، دُونَ شَكٍّ وَبِلا تَرَدُّد: ﴿أَنتَ الْمسيحُ ابنُ الله الحَيّ﴾ (متى 16:16).

 

فَبُطرسُ الّذي رَأَينَاهُ يَشُكُّ وَيخافُ قَبلَ أَحَدينِ اثْنَين، نَراهُ اليوم يُجيبُ بِكُلِّ ثِقةٍ وإيمان. فَهوَ بالفعلِ مِثَالٌ حَيٌّ وَواقِعيٌّ لِلمُؤمنِ الحيِّ في إيمانِه. فَكَمَا أَنَّ الإنْسَانَ الحَيّ، يختَبِرُ الْمَرضَ كَمَا يختَبِرُ الصِّحَة، فَكَذلِكَ الْمُؤمِن، كَبُطرس، يختَبِرُ لَحظَاتِ الضُّعفِ والتّردُّد، مِثلَمَا يختَبِرُ لحظَاتِ القُوَّةِ وَالثَّبَات.

 

وَهَذَا مَا يَجعَلُني أَربطُ هَذَهِ الشَّخصيّةَ الفَريدَة، بآيةِ بولسَ الرّسول في رِسَالتهِ الثّانيةِ إلى أَهلِ قُورنتوس، حَيثُ قَال: ﴿حَسبُكَ نِعمَتي، فَإنَّ القُدرَةَ تَبلُغَ الكَمالَ في الضُّعف﴾ (2قور 9:12). فَقُدرَةُ اللهِ وَحِكمَتُهُ، تَجَلَّت في بُطرس، بالرَّغمِ مِنْ ضُعفِهِ وتهّورِهِ بَعضَ الأحيان. وَهَذَا مَا يُفسِّرُ جَوابَ السَّيدِ لَه: ﴿طُوبَى لَكَ يا سمعانَ بن يونا، فَليسَ الّلحمُ والدَّمُ كَشفَا لَكَ هَذا، بَل أبي الّذي في السّموات﴾ (متّى 17:16). فاللهُ يا أَحِبَّة قَادِرٌ عَلَى إظهارِ مَجدِهِ فِينَا وَنَعمتِهِ مِنْ خِلالِنا، بالرّغمِ مِنْ حَالاتِ ضُعفِنَا وكَثرَةِ سَقَطَاتِنا. لِأنّهُ إِلهُ الفُرَصِ الْمَفتُوحَة، الّذي لا يَملُّ مِنَّا وَلا يَرذُلُنَا، بالرّغمِ مِنْ كَثرَةِ مَعَاصينَا وَقِلّةِ أَمَانَتِنَا، بَلْ يَنتَظِرُ كُلَّ مَرَّةٍ عَودَتَنَا مِنْ جَديد، وَتَوبَتَنا إليه، وَنهوضَنَا لإكمَالِ الْمَسيرَةِ بإيمانٍ بَنَويٍّ وَثَبَاتٍ أَكيد.

 

وَهَذا مَا يُفسِّرُ أَيضًا عَظَمَةَ الرِّسَالةِ الّتي أَوكَلَها الْمَسيحُ لَهُ الْمَجدُ لِبطرسَ الرّسول، في رِئاسَةِ الكَنيسةِ وَقِيَادَتِها، قَائِلًا لَهُ: ﴿أنتَ صَخرٌ وَعَلَى الصَّخرِ هَذَا سَأبني كَنيسَتي، فَلَنْ يَقوَى عَلَيها سُلطانُ الْمَوت﴾ (متّى 18:16). وَوَرَدَ أَيضًا في إنجيلِ القِدّيسِ لُوقا، قَولُ الْمَسيحِ لِبُطرس، بالرّغمِ مِنْ عِلمِ الْمَسيحِ السَّابِقِ بإنكارِه لَه: ﴿وَأنتَ ثَبِّت إخوَتَكَ مَتَى رَجِعتَ﴾ (لوقا 32:22).

 

فَالْمسيحُ رَأسُ الكَنيسة، الّذي بالرّغمِ مِنْ عِلمِهِ بِضُعفِ بُطرس، وَبهروبِ الرُّسلِ في بُستَانِ الزَّيتون، إلّا أنَّهُ قَدْ أوكَلَ مَهمَّةَ رِعايةِ كَنيسَتِه الْمُجَاهِدَةِ عَلَى الأرض، إلى أُناسٍ مُتَسربِلينَ بالضُّعف، لا إلى مَلائكَةٍ أَو رِئاسَاتٍ رُوحيَّة. هَؤلاءِ البَشر، تَكفيهم نِعمَةُ الله، الّذي مِن خِلالهم، يَقودُ الكَنيسةَ الْمُسَافِرَة ويُرشِدُهَا.

 

هَؤلاء البَشَر، الّذينَ أَنعمَ اللهُ عَليهم بِنعمَةِ الكَهنوتِ الخِدَمَيّ، قَدْ يخافونَ وَيَضْطَرِبون، تَمامًا كَمَا حَصلَ مَع بُطرس. قَدْ يُصابونَ بالفتورِ وضُعفِ الهمَّة. قَدْ لا يكونونَ عَلَى الْمُستَوَى الْمَطلوبِ مِنَ الأمَانةِ الرَّعَويّة، وَحِفظِ وَديعةِ الإيمانِ، وَسَلامَةِ التَّعليم. وقَدْ لا يُعطونَ الْمَثَلَ الصّالحَ دَومًا... فالزَّلَلُ أَمرٌ وَارِد!

 

ولِذلكَ، عَلَى أَبناءِ الكَنيسَةِ أَنْ يَرْأَفوا بِرُعَاتِهم وَخُدَّامِهم! فَبَدَلًا مِن جَلدِهِم وَرَميِهم بِسِهَامِ الْنَّمَائِمِ والاسْتِغَابَةِ والانتِقَاد، عَلَى الْمُؤمنينَ الأحِبَّاء وَاجِبُ الصَّلاةِ لأجلِ رُعَاةِ نُفُوسِهم، طَالِبينَ مِنَ اللهِ أن يَهَبَهُم نِعمةَ الثَّبَاتِ وَالاستِقَامَة، حتّى يَظَلُّوا عَمَلةً صَالِحينَ أُمَنَاء، عَلَى حَسبِ قَلبِ الْمَسيح، رَاعي الرُّعَاةِ الأعظَم.

 

وَإذا كَانَ كَثيرٌ مِن الآباءِ والأمَّهَاتِ يجِدونَ صُعوبَةً، والبَعضُ يَفشَلونَ في تَربيةِ وَتَنْشِئَةِ وَضَبطِ وَلَدينِ أو ثَلاثة أَو أَربَعة، فَكَيفَ لَنَا أَنْ نَقسوَ عَلَى رَاعٍ عِندَهُ مِئَةُ أو أَلفُ عَائِلَة؟! فَلُطفًا، أَظهِرُوا شَيئًا مِنَ الرَّحمةِ في حُكْمِكُم عَلَى الرُّعَاةِ، حتّى وإنْ زَلّوا، وارفَعوهُم في صَلاتِكم، لا عَلَى الألْسنَةِ الحَادّةِ الْمَمضِيَّة!

 

وَأخيرًا، نَعودُ إلى السّؤالِ الأهم: ﴿وَمَن أنا في قولِكُم أنتم؟﴾. مَنْ هوَ الْمسيحُ بالنّسبةِ لَك؟ ومَاذا يَعني لَكَ الْمسيح؟ عَلَى هَذَا السُّؤال سَنَجِدُ كَثيرًا مِن الإجاباتِ "الإنْشَائيّة" الجَميلَة، ذاتِ العِبَاراتِ الْمُنَمَّقَة. سَنَجِدُ إِجَاباتٍ مُنَوَّعَة، تختلِفُ باختلافِ الأشخَاص، وَباختلافِ حَاجَاتِهم وظُروفِهم. وَلكنَّ الأهمَّ في نَظَري لَيسَ الإجابَةَ النَّظريّة، فَهَذَا كُلُّهُ عَرَفنَاهُ مِنْ خِلالِ الكِتَابِ الْمُقدّسِ وَتَعليمِ الكَنيسة.

 

الْمُهمُّ يَا صَديقي، هوَ كَيفِ تَحيا الإجابة، وَكيفَ تَعيشُ الإيمان. فَشَتَّانَ بَينَ القَولِ وَبَينَ الفِعل، بَينَ القَاعِدَةِ وَبَينَ التَّنفيذ! وَيَبقَى لَنَا مِثالُ الشَّابِ الغَنيّ (راجع متّى 16:19-22)، أَكبرَ مِثالٍ عَلَى الّذي يَعلَمُ وَيَعرِفُ كَثيرًا، وَلَكنَّهُ يحيَا وَيَعمَلُ قَليلًا، وَقَدْ لا يَعمَلُ أَبدًا. فَمَا الفَائِدةُ حَينَها؟ إذْ: ﴿لَيسَ مَنْ يَقولُ لي: "يا رب يا رب"، يَدْخُلْ مَلكوتَ السَّمَوات، بَل مَنْ يَعمَل بمشيئةِ أَبي الّذي في السَّمَوات﴾ (متّى 21:7)