موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٦ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٣

مَغْفِرَة الله ومَغْفِرَة الإنسَان؟

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد الرَّابع والعِشْرون من السَّنة: مَغْفِرَة الله ومَغْفِرَة الإنسَان؟ (متى 18: 21-35)

الأحد الرَّابع والعِشْرون من السَّنة: مَغْفِرَة الله ومَغْفِرَة الإنسَان؟ (متى 18: 21-35)

 

النص الإنجيلي (متى 18: 21-35)

 

21 فدَنا بُطرُس وقالَ له: ((يا ربّ، كم مَرَّةً يَخْطَأُ إِلَيَّ أَخي وَأَغفِرَ لَه؟ أَسَبعَ مَرَّات؟)) 22 فقالَ له يسوع:( (لا أَقولُ لكَ: سَبعَ مرَّات، بل سَبعينَ مَرَّةً سَبعَ مَرَّات)).  23 لِذلكَ مَثَلُ مَلكوتِ السَّمَواتِ كَمَثلِ مَلِكٍ أَرادَ أَن يُحاسِبَ خَدَمَه.  فَلَمَّا شَرَعَ في مُحاسَبتِهم أُتِيَ بِواحِدٍ مِنهُم علَيه عَشَرةُ آلافِ وَزْنَة. 25 ولَم يَكُن عندَه ما يُؤَدِّي بِه دَينَه، فَأَمَرَ مَولاهُ أَن يُباعَ هو وامرأَتُه وأَولادهُ وجَميعُ ما يَملِك لِيُؤَدَّى دَينُه. 26 فَجَثا لَه الخادِمُ ساجِداً وقال: ((أَمهِلْني أُؤَدِّ لَكَ كُلَّ شَيء)). 27 فأَشفَقَ مَولى ذلكَ الخادِم وأَطلقَه وأَعفاهُ مِنَ الدَّيْن. 28 ولَمَّا خرَجَ ذلكَ الخادِمُ لَقِيَ خادِماً مِن أَصحابِه مَدِيناً له بِمِائةِ دِينار. فأَخَذَ بِعُنُقِه يَخنُقُه وهو يقولُ له: ((أَدِّ ما علَيكَ)). 29 فجَثا صاحِبُه يَتَوسَّلُ إِلَيه فيَقول: ((أَمهِلْني أُؤَدِّهِ لكَ)). 30 فلَم يَرضَ، بل ذهَبَ بِه وأَلقاه في السِّجْن إلى أَن يُؤَدِّيَ دَيْنَه. 31 وشَهِدَ أَصحابُه ما جرى فاغتَمُّوا كثيراً، فمَضَوا وأَخبَروا مَولاهم بِكُلِّ ما جَرى. 32 فدَعاهُ مولاهُ وقالَ له: ((أَيُّها الخادِمُ الشِّرِّير، ذاكَ الدَّيْن كُلُّه أَعفَيتُك مِنه، لأَنَّكَ سأَلتَني. 33 أَفما كانَ يجِبُ عليكَ أَنتَ أَيضاً أَن تَرحَمَ صاحِبَكَ كما رحِمتُكَ أَنا؟)) 34 وغَضِبَ مَولاهُ فدَفعَه إلى الجَلاَّدين، حتَّى يُؤَدِّيَ لَه كُلَّ دَيْنِه. 35 فَهَكذا يَفعلُ بِكم أَبي السَّماويّ، إِن لم يَغفِرْ كُلُّ واحِدٍ مِنكم لأَخيهِ مِن صَميمِ قَلبِه.

 

مقدمة

 

يُسلط نص إنجيل متَّى الضوء على موضوع الغُفْران الذي يختتم يسوع به كلامه عن الحياة في الجَمَاعة والعلاقات التي يجب أن تسود بين أعضائها (متى 18: 21-35). وينفرد متى بهذا النص بين الأناجيل حيث يوصي يسوع تلاميذه أن يتقبَّلوا بعضُهم بعضًا ويغفروا بعضُهم لبعضٍ، على مِثال الآب السَّماوي الذي يتقبّلهم رغم من ضعفهم وخيانتهم ويغفر لهم. أراد يسوع أن يذكِّر بُطرُس والرُّسل بالغُفْران الذي نالوه، وبالمتطلبات الأخوية التي نتجت عن هذا الغُفْران. يربط هذا النص ربطًا وثيقًا بين مغفرة الله لنا، ومغفرتنا لإخوتنا؛ ومن المُحزن أن نرى أن خبرة المَغْفِرَة في ثقافتنا المعاصرة التي تقاذفها أمواج العُنْف والانتقام صارت نادرة. فما هو موقفنا نحو أخينا المُخطئ إلينا، وكم مرّة نغفر له لكي نأتي به إلى المُصالحة، ومساعدة بعضهم بعضًا للانتصار على الخطيئة والانقسام والشَّر؟ ولماذا علينا كمؤمنين أنّ نغفر؟ ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.

 

 

 أولا: وقائع النص الإنجيلي (متى 18: 21-35)

 

21 فدَنا بُطرُس وقالَ له: ((يا ربّ، كم مَرَّةً يَخْطَأُ إِلَيَّ أَخي وَأَغفِرَ لَه؟ أَسَبعَ مَرَّات؟))

 

تشير عبارة " بُطرُس " اسم عبري פֶּטְרוֹס معناه ((صخرة أو حجر)) وكان هذا الرَّسول يُسمَّى أولاً سمعان واسم أبيه يونا (متى 16: 17) واسم أخيه اندراوس، واسم مدينته بيت صيدا. فلما تبع يسوع سُمِّي ((كيفا)) وهي كلمة آرامية معناها صَخْرة، يقابلها في العربية صَفا، أي صَخْرة، وقد سّماه المسيح بهذا الاسم. والصَّخْرة باليونانية Πέτρος, ومنها بُطرُس (يوحنا  1: 42) وكانت مهنة بُطرُس صيد السَّمك (متى 16: 18) التي كان بواسطتها يحصل على ما يكفي لإعالة عائلته المقيمة في كفرْناحوم (متى 8: 14). بطرس هو أول أتباع يسوع الّذي أُوكل إليه أيضًا مُهِمّة تَقْوية الإيمان عند إخوته: ثبِّت إيمان إخوتِك (لوقا 22: 32). أمَّا عبارة فتشير إلى تساؤل بطرس عن عدد المرات التي يلزم الأنسان فيه أن يغفر. أمَّا عبارة "أَغفِرَ" في الأصل اليوناني ἀφήσω فتشير إلى العفو من الدُّيون حيث أنَّ تسديد الدَّيْن في لغة العَالَم والكِتاب المُقدس هو واجب قانوني وتجاري بين البشر، وكان هذا الالتزام ذا شان عظيمٌ جداً في العَالَم القديم، حيث انه يتعرّض لفقدان الحرِّية في حالة عدم سَداده (متى 18: 23-35). واستعمل اليهود هذه العبارة زمن المسيح لوصف موقف الإنسان من الله، وهو مَدين له تعالى، وعاجز عن الوفاء في سَدادِ هذا الدَّيْن، إذ تدل هذه الاستعارة على كوْن الإنسان خاطئ بطبيعته البشريَّة. فالغُفْران هو النعمة بكل معنى الكلمة، بما إنَّنا عاجزون عن تكفير خطايانا.  لقد ورد فعل غفر ثلاث مرات في هذا النص (متى 18: 21، 32، 35) مما يدلُّ على أننا أمام وصية ثابتة، لا تقبل التَّفسير، ولا التردُّد. وأراد يسوع أن يذكِّر بُطرُس والرُّسل بالغُفْران الذي نالوه، وبالمتطلبات الأخوية التي نتجت عن هذا الغُفْران. إنه يربط ربطًا وثيقًا بين واجباتنا نحو الله وواجباتنا نحو إخوتنا، وَفقا للعهد الوارد في الكتاب المقدس (يشوع بن سيراخ 28: 1-5). كثيرًا ما أعلن الكتاب المقدس أنَّ الله يمنحنا غُفْرانه إنْ غَفرْنَا لإخوتنا " فإِن تَغفِروا لِلنَّاسِ زلاتِهِم يَغْفِرْ لكُم أَبوكُمُ السَّماوِيّ "(متى 6: 14). هذا الغُفْران الأخوي لا يكتسب الغُفْران لنا ولا يستحقه، بل يشهد لصدق طلبنا في الصَّلاة الرَّبّية " فَقَد أَعْفَينا نَحْنُ أَيْضاً مَن لنا عَلَيه" (متى 6: 12)، وهذا ما يدلُّ عليه استعمال الصِّيغة في الماضي (أَعْفَينا). أمَّا عبارة " َأخي " فتشير أولاً إلى أخي المؤمن وتمتد إلى كل أخٍ لك في الإنسانية بغض النظر عن الاختلاف في اللغة أو اللون أو الجنس أو المعتقد أو الدَّيْن أو العِرق أو أي اختلافٍ آخر. أمَّا عبارة " أَسَبعَ مَرَّات؟ " فتشير إلى استفسار بُطرُس لدى المسيح عن حدود الغفران، وهو يظنُّ انه بهذا العدد الكبير بلغ قِمَّة الغُفْران، لانَّ رقم سبعة عند اليهود هو عدد الكمال، والكُثرة والوفرة، ولانَّ الرَّبّانيين يُعلمون النَّاس يجب على الشخص أن يكون رحيمًا بأخيه ويغفر له حتى يرحمه الله، شريطة أن يكون هذا الغُفْران لثلاث مرات فقط بعد أن يصلح الأخ الخاطئ أخطاءه ويعتذر لمن أخطأ في حقه، وذلك بناء على ما جاء في تلمود اليهود استنادا على نبوءة عاموس (عاموس 1: 3، 2: 6). وزاد بُطرُس على ذلك أربع مرات فظن انه اظهر بذلك زيادة الحلم والصبر والأناة.  بُطرُس يريد ربط المَغْفِرَة بعدد حسابي، إذ للصَبْر حدود. ويُعلق رئيس الأساقفة بييرباتيستا بيتسابالا قائلا: "يُعبّر سؤال بُطرُس، في حدِّ ذاته، عن أسلوب تفكير لا يليق بأبناء المَلكوت: فالرجل الّذي لم يعرفْ محبَّة الرَّبّ غير المشروطة بعد، لا زال يسأل نفسه "كم مرة وكم يجب عليه أن يغفر"(عظة الأحد 31/9/2020).

 

22 فقالَ له يسوع: ((لا أَقولُ لكَ: سَبعَ مرَّات، بل سَبعينَ مَرَّةً سَبعَ مَرَّات.

 

تشير عبارة " سَبعينَ مَرَّةً سَبعَ مَرَّات "، (أو "سبعا وسبعين سبع مرّات" في قراء ةٍ أخرى،) إلى عدد غير مُقيَّد، إلى عددٍ رمزي. يجيب يسوع حول الحاجة إلى غفران غير محدود، بناءً على اختبار غفران الله.  ويعلق القدّيس البابا يوحنّا بولس الثاني: " يشير يسوع بذلك إلى ما يجب أن يجد في نفسه من القوَّة على المَغْفِرَة لكل النَّاس وفي كلِّ وقت" (الرّسالة العامّة: الغنيُّ بالمراحم (Dives in Misericordia)، العدد 14).  والمراد من كل ذلك أنَّه يجب على الإنسان أن يُغفر للمُخطئ كلَّما سأل المَغْفِرَة، لانَّ الله " يُكثِرُ العَفْوَ " (أشعيا 55: 7).  ولأنَّنا ننال الرَّحْمَة من الله من غير حساب يجب علينا أن نرحم النَّاس كذلك. إنَّ الرقم الكامل غير محدود، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم": لا يقدّم (السَّيِد) هنا عددًا معينًا (70×7=490) بل ما هو غير محدود ودائم إلى الأبد. فلا يُحدّد رقمًا للمَغْفِرَة، إنّما يطلب أن تكون المَغْفِرَة دائمًة وأبديّة ". حدود الغُفْران هو الغُفْران بدون حدود، وذلك مقارنة مع السبع المرات التي حدَّدها بُطرُس للمَغْفِرَة (متى 18: 21).  وحيث لا حدود للغُفْران، نحن نغفر كما الله يغفر، مهما كان تصرّف الأخ شريطة أن يتوب كل مرَّة، كما أكّد ذلك لوقا الإنجيلي " وإِذا خَطِئَ إِلَيكَ سَبعَ مَرَّاتٍ في اليَوم، ورجَعَ إِلَيكَ سَبعَ مَرَّاتٍ فقال: أَنا تائِب، فَاغفِرْ له" (لوقا 17: 4). ويُعلق القديس ايرونيموس على التساؤل التالي: "إن طلب أخي بشفتيَّه لا بقلبه فماذا أفعل؟ فقال: "إن أخطأ سبعين مرّة سبع مرّات يوميًا وسألك الًّصَّفْح فاغفر له، ولا تقل إنه لا يطلب الًّصَّفْح من أعماق قلبه بل يكذب. أترك الدَّيْنونة لله".  غُفْران السَّيِد المسيح لا تقيِّده الإساءات والأرقام، لانَّ غُفْرانه مستمر إلى ما لا نهاية. فغُفْران المسيح لا يعرف الحِساب. انه يعفو يوميًا عنا، ولا يعجز عن غُفْران أشنع الخطايا، مهما كان اسمها أو عددها. في حين كانت قاعدة الانتقام تصعيدًا للعُنف في العهد القديم " إِنَّ الله ينتَقَمُ لِقايِنَ سَبعَةَ أَضْعاف وأَمَّا للامَكَ فسَبْعَةً وسَبْعين (التكوين 4: 24)، عندما يتفاقم الشَّر، يتدرَّج تدرجًا هندسيًا، لانَّ العُنْف يولّد العُنْف. وعلى النقيض من ذلك، يطلب الله منَّا هنا أن نغفر سبعين مرة سبع مرات. حيث نجد العُنْف متزايدًا لدى الإنسان، في حين أنَّ المَغْفِرَة متزايدة لدى الله وَفقًا لقول بولس الرَّسول " لا تَدَعِ الشَّرَّ يَغلِبُكَ، بلِ اغلِبِ الشَّرَّ بِالخير" (رومة 12: 21). قد يعلّق البعض منا قائلاً إنّ يسوع يُبالغ، وقد يقول بعضُنا الآخر إنّ يسوع يطلب المستحيل، لأنّه يعلن أنّ علينا أن نغفر دائمًا للآخرين مهما حدث منهم، ومهما وقعوا في الخطأ. في الواقع، فإن الرَّبّ الذي أعطى هذه الوصيّة يعمل أعظم منها بكثير نحونا ويُطالبنا أن يجد صورته ومثله فينا! وفي الواقع إن يسوع يجيب على سؤال بُطرُس مُتحدّثا عن حب ِّالآب ومِقدار غُفْرانه في مَثَلُ مَلكوت السَّمَواتِ، "كَمَثلِ مَلِكٍ أَرادَ أَن يُحاسِبَ خَدَمَه".  ما الذي يُزعجنا أو يُخيفنا في وصيّة المَغْفِرَة؟

 

23 ((لِذلكَ مَثَلُ مَلكوتِ السَّمَواتِ كَمَثلِ مَلِكٍ أَرادَ أَن يُحاسِبَ خَدَمَه.

 

تشير عبارة "لِذلكَ" في الأصل اليوناني Διὰ τοῦτο (معناها لهذا) إلى الكلمة التي بدأ الرَّبّ بها مَثَلُ مَلكوتِ السَّمَواتِ تربطه بكلامه السابق عن الغُفْران (متى 18: 15-22)؛ أمَّا عبارة "مَثَلُ مَلكوتِ السَّمَواتِ كَمَثلِ مَلِكٍ" فتشير إلى مَثَلٍ ضربه يسوع معلمًا تلاميذه شريعة المَلكوت الجَديدة في شأن الغُفْران للمُذنبين إلينا كجواب لسؤالبطرس. إنَّ الله يعامل كنيسته على الأرض، كما يعامل الملك رعيته، ويُعلق العلاَّمة أوريجانوس: " ابن الله، عندما صار في شكل جسد الخطيئة، مُتّحدًا بالنَّاسوت صار إنسانًا ملكًا ". وتبين من ذلك أنَّنا عاجزون عن إيفاء ما علينا من الدَّيْن لله ولكنه تعالى أعدَّ لنا الفِداء باستحقاق المسيح وموته لإنقاذنا من ذاك الدَّيْن العظيم.  أمَّا عبارة "يُحاسِبَ" فلا تشير إلى حساب يوم الدَّيْنونة، بل إلى تعامل الله معنا الآن ونحن في الجَسد، فمن يغفر لأخيه هنا يغفر له المسيح يوم الدَّيْنونة، ومن يغلق قلبه عن أخيه الآن، يغلق المسيح قلبه تجاهه في الآخرة. فلننتهز الفرصة هنا ونغفر للآخرين فيغفر لنا السَّيِد خطايانا. أمَّا عبارة " خَدَمَ " في الأصل اليوناني δούλων فلا تشير في الكتاب المقدس إلى العبيد الذين هم في الرٌق والعبودية، بل كثيرًا ما تدل على هؤلاء المُرتبطين بسيدهم، ويمكن أن يكونوا شخصيات كبيرة من وزراء ورجاله الأقربون وغيرهم (1صموئيل 8: 14).

 

24 فَلَمَّا شَرَعَ في مُحاسَبتِهم أُتِيَ بِواحِدٍ مِنهُم علَيه عَشَرةُ آلافِ وَزْنَة.

 

تشير عبارة "وَزْنَة" إلى قيمة 25 كيلو من الذهب. أمَّا عبارة " عَشَرةُ آلافِ وَزْنَة" فتشير إلى ضخامة الدَّيْن إذ أن الهيكل استخدم فيه 3000 وزنة ذهب، و7000 وزنة فضة (1 أخبار 4:29-7). فقيمة عَشَرةُ آلافِ وَزْنَة هي 250000 كيلو من الذهب وهو مبلغ باهظ يساوي آلاف الألوف من الليرات الذهبية، ما لا يقل عن مليونين من الجنيهات. وهذا المبلغ كبير لا يمكن يخيّله، لكن ضخامة الدَّيْن متعمَّدة في المثل إذ بها يُشار إلى أنَّ الإنسان عاجزٌ عن إيفاء دّيْنه للرَّبّ. فعشرة آلاف وزنة تدل على كل الخطايا التي اُرتكبت في حق النَّامُوس، إذ أنَّ رقم 10 يُشير إلى الوصايا العشرة، ومن أخطأ في وصيّة يكسر النَّامُوس كله، وأمَّا رقم 1000 فيُشير للأبديّة، فإن رقم 10.000 يعني أن الإنسان مَدين بكسر وصايا الله بدِيْن لا يقدر أن يَفيه في حياته على الأرض. وهذا يعني أنَّ الخَادِم هو في وضع لا يستطيع أن يدفع ما عليه مهما فعل، فلا مخرج منه إلاّ رحمة سَيّده.  فإذا كان أُعفي من الدَّيْن، فلأن سيّده تَحنَّن عليه (متى 18: 26)، وهذا هو وضع الإنسان أمام الله. فحين كان النَّاس خطأة أرسل الله ابنه كفارة عنهم، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول " أَمَّا اللهُ فقَد دَلَّ على مَحبتِّهِ لَنا بِأَنَّ المسيحَ قد ماتَ مِن أَجْلِنا إِذ كُنَّا خاطِئين" (رومة 5: 8 – 9). في هذا المثل يظهر الملك رمزًا للديّان الذي يقف أمامه الإنسان مَدينًا بعشرة آلاف وزنة، بينما يُعلن الإنسان عجزه التام عن الإيفاء بالدَّيْن.

 

25 ولَم يَكُن عندَه ما يُؤَدِّي بِه دَينَه، فَأَمَرَ مَولاهُ أَن يُباعَ هو وامرأَتُه وأَولادهُ وجَميعُ ما يَملِك لِيُؤَدَّى دَينُه.

 

تشير عبارة "ما يُؤَدِّي بِه دَينَه" في الأصل اليوناني ἀποδοῦναι (معناها يُوفي الدَّيْن) إلى بيع الخَادِم وعائلته الذي لا يكفي لسِداد الدَّيْن الضَّخم. أمَّا عبارة " يُباعَ " فتشير إلى امر جائز في الشريعة اليهودية "وإِذا أفتَقَرَ أَخوكَ مَعَكَ فباعَكَ نَفسَه، فلا تَسْتَخْدِمْه خِدمَةَ العَبيد" (الأحبار 25: 49)، وهذه العادة كانت منتشرة في العَالَم القديم "إِذا آشتَرَيتَ عَبداً عِبرانِيّاً، فلْيَخدِمْ سِتَّ سِنين، وفي السَّابِعَةِ يَنصَرِفُ حُرّاً مَجَّاناً"(خروج 21: 2)، وذلك حسب الشَّريعة "إِذا أفتَقَرَ أَخوكَ مَعَكَ فباعَكَ نَفسَه، فلا تَسْتَخْدِمْه خِدمَةَ العَبيد، بل كأَجيرٍ وضَيفٍ يَكونُ معكَ. إلى سَنةِ اليوبيل يَخدُمُ عِندَكَ" (الأحبار 39:25-40). وهذ العادة أجازتها الشريعة الرومانية.  أمَّا عبارة "لِيُؤَدَّى دَينُه" فتشير إلى إيفاء قسمٍ من الدَّيْن بقدر ثمن البيع. فالكلام بهذه المبالغ الطائلة هو فقط لكي يُرينا عظمة الدَّيْن ويُبرهن لنا بانَّنا لن نستطيع وفاءه وحدنا مهما عملنا، كما ورد في المزامير "لا يَفتَدي أَخٌ أَخاه ولا يُعطي اللّهَ فِداهفِديةُ نُفوسِهم باهِظة وهي لِلأبدِ ناقِصَة" (مزمور 49: 8-9).

 

26 فَجَثا لَه الخادِمُ ساجِداً وقال: ((أَمهِلْني أُؤَدِّ لَكَ كُلَّ شَيء)).

 

تشير عبارة " فَجَثا لَه الخادِمُ ساجِداً " إلى علامة الوقار اللائق بالمَلك والتضرُّع الشَّديد له. أمَّا عبارة " أَمهِلْني أُؤَدِّ لَكَ كُلَّ شَيء " فتشير إلى طلبِ الخَادِم إعطاءه مُهلة أو فترة من الزمن لإدائِهِ، وهو يظن أنه قادرٌ أن يفي، ولم يُعلّم أنه عاجز كل العَجز في تحقيق هذا الأمر مهما طال الزمن.  

 

27 فأَشفَقَ مَولى ذلكَ الخادِم وأَطلقَه وأَعفاهُ مِنَ الدَّيْن.

 

تشير عبارة "أَشفَقَ مَولى ذلكَ الخَادِم " إلى موقف المَلك الذي عفا عن خادمه بعد أن تحرّكت أحشاؤه، وتنازل عن كل الدَّيْن على الفور؛ وهو موقف الله من النَّاس المُتمثل بحبِّه وشفقته ورحمته وغُفْرانه التي هي من دون قياس. أمَّا عبارة " أَعفاهُ مِنَ الدَّيْن " فتشير إلى إعطاء المَلك لخَادمه المَديون أكثر ممّا يسأل، فإنه لم يسأله سوى مُهلة فترك له ما لديه، وعفا عنه الدَّيْن، وأطلقه حُرًا هو زوجته وأولاده. قيمة البيع لا تكفي لسد الدَّيْن، إذ أنَّ قيمة العَبْد لا تتجاوز ألف دِينار، ولكنها تؤدي بالعَبْد إلى فقدان كرامته وزوجته وأولاده. هذا يشير إلى الرَّبّ يتجاوز الذي برحمته ومحبته أخطاء البشر وهفواتهم. على الإنسان دَيْن كبير نحو الله، ولا يمكنه الوفاء، لانَّ ثمن خلاصنا هو حياة يسوع المسيح. وغاية الإنجيل المناداة بهذه الرَّحْمَة، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "ما أَشْقاني مِن إِنسان! فَمن يُنقِذُني مِن هَذا الجَسَدِ الَّذي مَصيرُه المَوت؟ (رومة 7: 24) وقيل أيضا " إِذا قُلْنا: ((إِنَّنا بِلا خطيئة)) ضَلَّلْنا أَنفُسَنا ولَم يَكُنِ الحقُّ فينا. وإِذا اعتَرَفْنا بِخَطايانا فإِنَّه أَمينٌ بارّ يَغفِرُ لَنا خَطايانا وُيطَهِّرُنا مِن كُلِّ إِثْم" (1 يوحنا 1: 8-9). كُلما كانت الهبة التي أُعْطيت لنا أعظم، كُلما زادت المَحَبَّة التي يجب أن نحتفظ بها لمن أعطانا إيَّاها.

 

28 ولَمَّا خرَجَ ذلكَ الخادِمُ لَقِيَ خادِماً مِن أَصحابِه مَدِيناً له بِمِائةِ دِينار. فأَخَذَ بِعُنُقِه يَخنُقُه وهو يقولُ له: ((أَدِّ ما علَيكَ)).

 

تشير عبارة "مِائةِ دِينار" إلى الدَّيْنار الروماني. والدَّيْنار يُعادل قيمة أجر يومي لعامل زراعي في زمن المسيح كما هو واضح في َمَثلِ العملة وأجرتهم " رَبِّ بَيتٍ خَرَجَ عِندَ الفَجرِ لِيَستأجِرَ عَمَلةً لِكَرمِه. فاتَّفقَ معَ العَمَلةِ على دِينار في اليَوم وأَرسَلهم إلى كَرْمِه" (متى 20 :1-2).  وهو مبلغ زهيد تجاه دينه لسيده الذي يبلغ "عَشَرةُ آلافِ وَزْنَة" (متى 18: 24). ويُعلق القديس أوغسطينوس:" رقم 100 تُشير إلى الجَمَاعة في هذا العَالَم". فإن لم نتنازل مهما ارتكب الإخوة في حقّنا، لن ننعم بالتنازل عن الدَّيْن الذي علينا لدى الله" وهنا قال الرَّبّ " وإِن لَم تَغفِروا لِلنَّاس لا يَغْفِرْ لكُم أَبوكُم زلاَّتِكُم" (متى 6: 15). والمقصود من كل ذلك، أنَّه بما أن الله يغفر لنا كل تلك الآثام العظيمة يجب علينا أن نغفر لإخوتنا الإساءة الزهيدة بالنسبة إليها.  أمَّا عبارة " أَخَذَ بِعُنُقِه يَخنُقُه " فتشير مفاجئة غريبة في تصرف الخادم الذي حالما عفا عنه سيُّده، وجد نفسه غير قادر على أن يعفو عن أخيه، فمنعه من الهرب وعالمه بلا رحمة، وكاد يقتل صاحبه من اجل كميَّة صغيرة من المال أقل من ديْنه.  لم يُقال إنَّ ذلك الدَّيْن لم يكن حقًا، إنما ظهر من المثل انه أخطأ في طلب من مُدينه بقساوة كهذه بعدما نال عظيم الرَّحْمَة من المَلك. الخَادِم لم يتعلم أسلوب سيِّده في التعامل، ولم يسمح لمشاعر الامتنان أن تغيِّره وتسمو به، بل ظلَّ أسيراً لأنانية والعجرفة. هذا الخَادِم بقسوته وظلمه هو صورة للإنسان الذي لا يغفر لأخيه الإنسان. إننا نتصرّف أحيانًا على غرار هذا الخادم الذي لم يكن قادرًا على مشاركة الآخرين الهبة التي حصل عليها مجانيًا.

 

29 فجَثا صاحِبُه يَتَوسَّلُ إِلَيه فيَقول: ((أَمهِلْني أُؤَدِّهِ لكَ)). 

 

تشير عبارة "جَثا صاحِبُه يَتَوسَّلُ إِلَيه فيَقول: ((أَمهِلْني أُؤَدِّهِ لكَ" إلى تصرف صاحب الخَادِم تمامًا، كما تصرف الخَادِم في موقف مماثل أمام الملك.  وقد وردت عبارات الاسترحام نفسها حرفيًا "فَجَثا لَه الخادِمُ ساجِدًا وقال: ((أَمهِلْني أُؤَدِّ لَكَ كُلَّ شَيء" (متى 18: 26). وهذه كلمات الاسترحام كانت يجب أن تذكِّره بشدَّته وضيقه وبالرَّحْمَة التي نالها، إلاَّ أنَّ الخَادِم لم يشارك زميله عِظم هبة المَغْفِرَة التي حصل عليها من سيِّده.  يعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم " إنّ الرّب يسوع المسيح يطلب منّا أمرين: أن ندين خطيئتنا وأن نغفر للآخرين خطاياهم، وأن نعمل الأمر الأوّل من أجل الأمر الثاني الذي يصبح أسهل بهذه الحال، لأنّه عندما نفكّر في خطايانا، سوف نكون أقل قسوة تجاه إخوتنا الذين يشاركوننا شقاء الخطيئة عينه "(عظات حول إنجيل القدّيس متّى، 61).

 

30 فلَم يَرضَ، بل ذهَبَ بِه وأَلقاه في السِّجْن إلى أَن يُؤَدِّيَ دَيْنَه.

 

تشير عبارة "أَلقاه في السِّجْن" إلى عادة كانت مُنتشرة في العَالَم القديم، مضمونها أن يُقبض على المَدين الذي عجز عن سَداد السِّجْن الدَّيْن وإلقائه في السِّجْن وكان ينتظر من المَدين، وهو في السِّجْن، أن يبيع ممتلكاته أو أن يدفع عنه أقرباؤه الدَّيْن، وإلاَّ سيبقى قابعًا في السِّجْن طيلة حياته.  ورفض الخَادِم الدائن أن يعفو عن أخيه، فضاع كل منطق عند هذا الرَّجل. هذه الفقرة من المَثل تعكس تصرُّف البشر بعضهم تِجاه بعض.  من اُعفي بعشرة آلاف وزنة من الدَّيْن لم يُرد أن يتمهل على مديون له بمئة دِينار، ومن نال الرَّحْمَة من سيِّده أبى أن يُنيل مثلها أخاه العَبْد. ومن سأل المُهلة، ونال الإعفاء المُطلق رفض أن يتمهل على صاحبة؛ لم يذكر المراحم الذي نالها من سيِّده ولم يشفق على زميله، فالقاه في السِّجْن. لنتأمّل في المَثل كيف أنّ الذي لم يُدرك أنّه هو أيضًا مغفورٌ له يقع في الشبكة التي نصبها لأخيه.  ويُعلق إسحَق النِّجمة الراهب السِستِرسيانيّ: "من كان عدائيًّا تِجاه أخيه الّذي يعاني من صعوبات ما فإنّه يُخضع نفسه جليًّا لشريعة الشَّيطان وينفّذها" (العظة 31). وهكذا عندما تتصرف كالقاضي وتحكم على أخيك بدلاً من أن تغفر له، فأنت تدعو بذلك إلى حكم الله على حياتك وعلى خطاياك! يعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم "الغفران المطلوب منّا ليس غفرانًا كلاميًّا إنّما غفرانًا حقيقيًّا من أعماق قلبنا لكيلا يتحوّل نحو صدرنا الرّمح الذي يخيّل لنا إنّنا نوجّهه إلى الآخرين. أيُّ شرّ يمكن لعدوك أن يفعله لك مقارنة مع ما تفعله أنت لنفسك بسبب خشونتك؟"(عظات حول إنجيل القدّيس متّى، 61)

 

31 وشَهِدَ أَصحابُه ما جرى فاغتَمُّوا كثيراً، فمَضَوا وأَخبَروا مَولاهم بِكُلِّ ما جَرى.

 

تشير عبارة "شَهِدَ أَصحابُه ما جرى فاغتَمُّوا كثيراً" إلى صوت الجَمَاعة الذي يصرخ من الداخل بالحزن الشَّديد، ويسمع الله تنهّدات البَشريّة الخَفيَّة من أجل قسوة النَّاس على إخوتهم وعدم صفحهم لهم، فيُكال لهم بالكيل الذي يكيلون به لإخوتهم. ويُعلق البابا فرنسيس بقوله "عندما نكون مدينين لآخرين نتوقّع منهم الرَّحْمَة، لكن عندما يكون هناك أحد مدينٌ لنا نطلب العدالة! أمَّا عبارة "فاغتَمُّوا كثيراً" فتشير إلى الحُزن، والحُزن أجدر بهم من الغضب الذي هو أولى بالمَلك، لأنَّه هو الحاكم الدَّيان. وهذا يُذكرنا في حزن البابا فرنسيس الشديد بسبب تحويل كاتدرائية آيا صوفيا إسطنبول إلى مسجد حيث قال: "أفكاري تتَّجه إلى إسطنبول، أفكّر بآيا صوفيا. إنَّني حزينٌ جدًا" (12/7/2020).

 

32 فدَعاهُ مولاهُ وقالَ له: ((أَيُّها الخادِمُ الشِّرِّير، ذاكَ الدَّيْن كُلُّه أَعفَيتُك مِنه، لأَنَّكَ سأَلتَني.

 

تشير عبارة "أَيُّها الخادِمُ الشِّرِّير" إلى رداءة صفات العَبْد القاسي الذي كفر عمدًا بضميره وأَظهر رغبته في التَّدمير لقساوته الخاليةٍ من الرَّحْمَة والشَّفقة تِجاه صاحبه المديون له؛ لم يدعُ الملك العَبْد شريرًا، لأنَّه أقام دعوى كاذبة على أخيه، بل لأنَّه طلب حقَّه بعنف وقسوة في حين نال شفقة أعظم.  فمن كان مثل هذه العَبْد في القَساوة لا يمكن أن يكون مسيحيًا بالحق، ومولودًا من الرُّوح القدس. أمَّا عبارة " ذاكَ الدَّيْن كُلُّه " فتشير إلى بيان لعظمته وضخامته، أمَّا عبارة "أَعفَيتُك مِنه" فتشير إلى الطلب الخامس من الصَّلاة الرَّبّية " وأَعْفِنا ἄφες ممَّا علَينا فَقَد أَعْفَينا نَحْنُ أَيْضاً مَن لنا عَلَيه" (متى 6: 12). والعَفُو هو إسقاط العقوبة دون إسقاط الذَّنْب. أمَّا عبارة "لأَنَّكَ سأَلتَني" فتشير إلى طلبك مني بحزن وانكسار فتأثرت وشفقت عليك. كل ما طلبه هو مهلة. لكن الله يعطينا دومًا أكثر مما نطلب ومما نرجوه. كما كان الحال مع مَثل الابن الضَّال الذي تمنَّى أن يأكل بعض الخبز ويكون في مَصاف الأُجراء، ولكن أباه عامله كالابن المُدلل فذبح له العِجل المُسمَّن (لوقا 15: 11-32).

 

 33 أَفما كانَ يجِبُ عليكَ أَنتَ أَيضاً أَن تَرحَمَ صاحِبَكَ كما رحِمتُكَ أَنا؟))

 

تشير عبارة "تَرحَمَ صاحِبَكَ كما رحِمتُكَ أَنا؟ إلى الخَادِم الذي لم يعرف أن يرحم مستبعدًا نفسه عن النَّعمة التي أُعْطيت له حيت أغلق قلبه عن زميله وفقد غُفْران سيده يُعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم: " إنّ الرَّبّ يسوع المسيح يطلبُ مِنّا أمرين: إدانة خطايانا ومَغْفِرَة خطايا الآخرين، كما يطلب القيام بالأمر الأوّل بسبب الأمر الثاني، الذي سيكون حينئذٍ أكثر سهولة، لأنّ مَن يفكّر في خطاياه سيكون أقلّ قساوة تِجاه رفيقه في البُؤس" (إنجيل القديس متّى، العظة 61). لم يشعر الخَادِم الأوَّل بأن الدَّيْن الذي له على زميله إنَّما هو جزءٌ من الدَّيْن الهائل الذي تمَّ إعفاؤه منه سيّده. وفي هذا الصدد كتب يعقوب الرَّسول " لأَنَّ الدَّيْنونَةَ لا رَحمَةَ فيها لِمَن لم يَرحَم" (يعقوب 2، 13). ومن يُخطئ إلى أخيه يُخطئ إلى المسيح، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "وإِذا خَطِئتُم هكذا إلى إِخوَتِكُم وجَرَحتُم ضَمائِرَهُمُ الضَّعيفة، فإلى المسيحِ قد خَطِئتُم"(1قورنتس 8 :12).  لقد فقد الخَادِم الشرير الهبة التي حصل عليها، لأنه أغلق نفسه على زميله في الوقت الذي كان هو مدعوٌ إلى أن يغفر القليل بمقارنة مع الكثير ما غُفر له.  فعفوه المَحدود يكمن في "العدالة الإنسانية"، مقارنة مع رحمة الله غير المحدودة التي نالها. فقد وضع حدود للمَغْفِرَة في حين أنَّ الله لم يضع حدودًا لها. وبيَّن لنا المسيح أنَّ العَبْد القاسي كان يجب عليه أن يشفق عليه مقابل معاملته العَبْد رفيقه، وانَّه يجب على من رُحم أن يرحم. كذلك يجب أن نتخذ لُطْفِ الله ِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ مثالاً لنا في معاملتنا لغيرنا فنغفر للمُذْنبين بحقِّنا كما غفر الله لنا.  وفي هذا الصدد يقول الحكيم يشوع بن سيراخ "إِغْفِرْ لِقَريبِكَ ظُلْمَه فإِذا تَضَرَّعتَ تُمْحى خَطاياكَ" (28: 2). يعلق القدّيس سيزير الآرليّ "امنحوا رحمة الأرض وستنالون رحمة السماوات "(العظة رقم 25). تشكل المحبّة الرحيمة رسالة الإنجيل.

 

34 وغَضِبَ مَولاهُ فدَفعَه إلى الجَلاَّدين، حتَّى يُؤَدِّيَ لَه كُلَّ دَيْنِه.

 

تشير عبارة "غَضِبَ مَولاهُ" إلى حنق وسخط السَّيِد عن مديون له الذي كان دائنًا ومطالبا دينه من مديونٍ آخر، ثم صار ديانًا له.  أمَّا عبارة "فدَفعَه إلى الجَلاَّدين" إلى تسليمه إلى السِّجن المُؤبَّد مع مُقاساة الآلام، ليس بسبب قساوة قلب سيِّده، بل بسبب قَساوة قلبه هو، لأنَّه شريرٌ، وهذا شرٌّ من بيعه الذي هُدد به أولاً (متى 18: 25). والمُراد هنا في المَثل توبيخ الضَّمير للمُذنب القاسي واحتقار الأتقياء إيَّاه وغضب الله عليه والعِقَاب بعد الموت. وفي هذا الصَّدد يقول القديس يعقوب الرَّسول: " أَنَّ الدَّيْنونَةَ لا رَحمَةَ فيها لِمَن لم يَرحَم" (يعقوب 2: 13).  أمَّا عبارة "حتَّى يُؤَدِّيَ لَه كُلَّ دَيْنِه" فتشير إلى عِقَاب أبدي، لأنَّه "لَم يَكُن عندَه ما يُؤَدِّي بِه دَينَه" (متى 18: 25). لا نجاة للخاطئ إلى الأبد، لانَّ الذين خابوا من رحمة المسيح في الحياة على الأرض يخيبون منها إلى الأبد.  فقد الخادم الهبة المجانية التي حصل عليها، لأنَّه منع نفسه من العيش بحسب منطقها، لآنَّنا مدعوُّون أن نغفر للآخرين، لان مغفرتنا لا تُعدّ شيئا بالمقارنة مع الرحمة الإلهية التي منحت لنا بموت ابنه يوع على الصَّليب من أجلنا.

 

35 فَهَكذا يَفعلُ بِكم أَبي السَّماويّ، إِن لم يَغفِرْ كُلُّ واحِدٍ مِنكم لأَخيهِ مِن صَميمِ قَلبِه)).

 

تشير عبارة "فَهَكذا" إلى عِبرة المَثل الذي ورد أعلاه.  أمَّا عبارة "يَفعلُ بِكم أَبي السَّماويّ" فيُعلق عليها القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: " بقولّه "أبي" ولم يَقل "أباكم" بل "أبي"، إذ لا يليق أن يدعى الله أبًا لإنسان شرّير هكذا وحقود". وفي هذا الصدد يقول الحكيم يشوع بن سيراخ "مَنِ اْنتَقَمَ يُدرِكُه الاْنتِقامُ مِن لَدُنِ الرَّبّ الَّذي يُحْصي خَطاياه" (يشوع 28: 1)؛ أمَّا عبارة "إِن لم يَغفِرْ ἀφῆτε فتشير إلى قول الحكيم يشوع بن سيراخ "أَيَحقِدُ إِنسانٌ على إِنْسان ثُمَّ يَلتَمِسُ مِنَ الرَّبّ الشِّفاء أَم لا يَرحَمُ إِنْسانًا مِثلَه ثُمَّ يَطلُبُ غُفْران خَطاياه؟  إِن أَمسَك الحِقْدَ وهو بَشَر فمَن يُكَفِّرُ خَطاياه؟  (يشوع بن سيراخ 28: 3-5). ويّذكرنا يسوع بالصَّلاة الرَّبّية حيث أنَّ المطلوب أن يغفر كُلَّ واحِدٍ مِنكم لأَخيهِ، كما يغفر الله لنا:" وأَعْفِنا ἄφες مِمَّا علَينا فَقَد أَعْفَينا نَحْنُ أَيْضاً مَن لنا عَلَيه" (متى 6: 12) ولكنَّ الله هو الذي يُبادر ويغفر ويعفو، فلا يبقى لنا إلاَّ أن نتشبّه به كالأبناء الأحباء، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول " لْيَصفَحْ بَعضُكم عن بَعضٍ كما صَفَحَ الله عنكم في المسيح" (أفسس 4: 32). أمَّا عبارة "يَغفِرْ كُلُّ واحِدٍ مِنكم لأَخيهِ مِن صَميمِ قَلبِه" فتشير إلى الشَّرط الوحيد الذي يجعل الآب يغفر لنا، كما جاء في تعليم المسيح " وإِن لَم تَغفِروا لِلنَّاس لا يَغْفِرْ لكُم أَبوكُم زلاَّتِكُم" (متى 6: 15). المَغْفِرَة بحد ذاتها لا تكفي إن لم تصدر من القَلْب، حيث أنَّها لا تكون بالفم فقط، بل من القَلْب أي من قلب تُطهَّر وتُجدَّد. ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم " المَغْفِرَة المطلوبة ليست من الفم فقط، إنّما من "صميم القَلْب"، كي لا نديرَ باتّجاهنا الرُّمح الذي نعتقدُ أنّنا نطعنُ الآخرين بواسطته" (إنجيل القديس متّى، العظة 61). هكذا جعل المسيح غُفْران الله عن خطايانا مرهونًا بغُفْراننا عن خطايا الآخرين. فان حبسنا غُفْراننا عن الآخرين بحجة أنهم لا يستأهلون، المسيح يحبس عنا غُفْرانه. فلا نستطيع أن نطلب من الله غُفْران خطايانا ونحن لا نغفر للآخرين، كما نقول في صلاة الرَّبّية " وأَعْفِنا مِمَّا علَينا فَقَد أَعْفَينا نَحْنُ أَيْضاً مَن لنا عَلَيه" (متى 6: 12). فالمَغْفِرَة هي إحدى العلامات للإيمان الحقيقي، أنَّ مبدأ الغُفْران غير قابل للفصل عن التَّبرير بالإيمان " فإِن تَغفِروا لِلنَّاسِ زلاتِهِم يَغْفِرْ لكُم أَبوكُمُ السَّماوِيّ وإِن لَم تَغفِروا لِلنَّاس لا يَغْفِرْ لكُم أَبوكُم زلاَّتِكُم " (متى 6: 14-15). أن قبول نعمة الله المَجَّانية (الغُفْران) يتضمن الإدراك أنَّ المسيح احتمل آلام عِقَاب الخطيئة على الصَّليب. وهذا يعني انه ينبغي أن نُظهر الًّصَّفْح بسخاء للجميع. نحن نعفو عن الذين أساءوا إلينا عندما نعي أنَّ الله سبق وعفا عنَّا. وعندما لا نغفر للآخرين نخالف وصيَّة المسيح التي أساسها المَحَبَّة. من يغفر لأخيه يغفر له الله. إن المَغْفِرَة الإلهية تفترض أولا المَغْفِرَة بين البشر أنفسهم.  ويعلق البابا فرنسيس بقوله " كما يغفر الله لنا هكذا علينا نحن أيضًا أن نغفر لمن يُسيء إلينا. تحديدًا، كما في الصَّلاة الرَّبّية التي علّمنا إيَّاها يسوع: "وأَعفِنا مِمَّا علَينا فَقَد أَعفَينا نَحنُ أَيضاً مَن لنا عَلَيه" (متى 6، 12). ديوننا هي خطايانا أمام الله والذين يدينون لنا هم أولئك الأشخاص الذين ينبغي علينا أن نغفر لهم. أمَّا عبارة " كُلُّ واحِدٍ مِنكم لأَخيهِ " فتشير إلى اقتصار الغُفْران على الإخْوة المؤمنين، ولكن في الواقع يجب علينا أن نغفر لكل النَّاس زلاتهم إذا سألونا المَغْفِرَة. أما عبارة " مِن صَميمِ قَلبِه" فتشير إلى صفح صادر من القَلْب وليس مجرد من الشفتين، لان الله يغفر الإثم ولا يذكر الخطيئة، كما جاء في نبوءة: "يقولُ الرَّبّ لن أَذكُرَ خَطيئَتَهم مِن بَعدُ" (ارميا 31: 34). الله لا يضع حدودًا للمغفرة، لكن الإنسان يميل أن يضع حدودا أمام مغفرة أخيه الإنسان. لذلك لا يغفر الآب السَّماوي لأي شخص لا يغفر لأخيه.  فالمغفرة التي نحصل عليها من الله قادرة أن تغيير مصيرنا إن عرفنا أن نغفر بدورنا لأخينا.

 

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 18: 21-35)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (متى 18: 21-35)، نستنتج انه يتمحور حول الغُفْران وصعوبته وكيف الوصول إليه

 

1) مفهــوم المَغْفِرَة ومشتقاته 

 

استخدم الكتاب المقدس في العهد القديم لفظة (סָלַחְ  ) (أحبار 34: 9) للدلالة  على الغُفْران أو المَغْفِرَة والًّصَّفْح وما يتبعها من المُشتقَّات، مثل ينبذ الخطيئة أو الإساءة وراء ظهره  كما جاء في سفر أشعيا : " نَبَذتَ הִשְׁלַכְתָּ جَميعَ خَطايايَ وَراءَ ظَهرِكَ "( أشعيا 38 : 17)  أو يطرحها וְתַשְׁלִיךְ في أعماق البحر، كما ورد في سفر ميخا "سيَعودُ فيَرأَفُ بِنا وَيدوسُ آثامَنا وتَطرَحُ في أَعْمَاقِ البَحرِ جَمِيعَ خَطاياهم" ( ميخا 7: 19) ، ويرفعها  (נשא) "كما ورد في سفر الخروج "والآنَ إِن غَفَرتَ אִם־תִּשָּׂא خَطيئَتَه" (خروج 32 / 32 ) ، ويكفر (כפָּר ) عنها ويُزيلها  كما ورد في سفر أشعيا "فأُزيلَ إِثمُكَ وكُفِّرَت תְּכֻפָּר  خَطيئَتُكَ" ( أشعيا 6: 7).

 

 في العهد الجديد، نجدُ الألفاظ اليونانية مثل (ἀφίημι) يغفر، (متى 18: 21)، الغُفْران أو المَغْفِرَة: إنه إسقاط العقوبة والمؤاخذة عن الذَّنْب، ولكنَّه يتوجَّب الثَّواب للمغفور له، وثوابه بأن يُستر أو يخفى ذنبه. أصل الغُفْران هو الإخفاء والسِّتر، وهناك فعل (αἴρω)، وهذا الفعل يعني الرفع، إمَّا " حمل، أخذ على عاتقه"، وأمَّا ذهب به، رفع وأزال " وهذا المعنى الأخير يستعملهُ يوحنا الإنجيلي عادة كما شهد يوحنا المعمدان ليسوع بقوله "هُوَذا حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ αἴρων خَطيئَةَ العَالَم" (يوحنا 1: 29).

 

 هناك تعبيرٌ آخر للغُفْران وهو (ἀπολύω) بمعنى العفو أو الحلّ من القيود، كما جاء في قول يسوع "أُعْفُوا ἀπολύετε يُعْفَ عَنكم" (لوقا 6: 37). العَفُو هو إسقاط العقوبة دون إسقاط الذَّنْب. فمن عفا عن أحد فقد امتنع عن العقوبة مهما كانت إلاَّ أن المؤاخذة عن الذَّنْب لا تسقط. أصل العَفو هو المَسح والذهاب بسبب القِدَم، فسُميّ كذلك، لأنَّ العقوبة تُمسح عن المُذنب. كما يقول المثل عفا عليه الدهر. وهناك فعل (χαρίζομαι) سامح، (أفسس 4: 32)، والمُسَامَحَة هي إسقاط المؤاخذة واللوم بغض النظر عن إسقاط العقوبة عن المُذنب، فالمسامح يترك المؤاخذة واللَّوم ويتصرف كأنَّ شيئا لم يكن، لكنَّ المُذنب قد يكون قد حصل على ما يستحقه من عِقَاب. أصل المسامحة هو السَّماح، أي الجود، فالمُسَامِح قد جادَ على المُذْنب بأن ترك المؤاخذة. وهناك أيضًا عبارة ἵλεως  εἰμί أي أكون صفوحًا ( قولسي 8: 12)، فالًّصَّفْح هو التجاوز عن المُذنب تمامًا بترك مؤاخذته وعِقَابه. أصل الًّصَّفْح هو إبداء صفحة جميلة من الوجه، ومنه قلب الًّصَّفْحة أيضا. فالًّصَّفْح أعلى من العفو والمسامحة.

 

تدل كثرة هذه المعاني الاشتقاقية على عُمق وشدَّة وغِنى هذا الفعل، فالغُفْران إذن يُفيدُ الًّصَّفْح عن الإساءة، مهما كان نوعها ومضمونها وأصلها وأثرها، كما يشير أيضًا إلى التَّخلي عن الماضي وترك الحقد والتكفير والنسيان والشفاء، وقد يكون الله هو الغَافر، كما جاء في تشفُّع موسى النبي "اغفِرْ إِثْمَ هذا الشَّعبِ بِحَسَبِ عَظيمِ رَحمَتِكَ" (العدد 14: 19)، أو الإنسان لأخيه الإنسان" كَذا تَقولونَ لِيُوسف: أَرْجو أن تَغفِرَ שָׂא لإِخَوتِكَ ذَنبَهم وخَطيئَتَهم" (تكوين50: 17)، خروج 10: 17)، أو أن يغفر الإنسان لنفسه.

 

نستنتج مما سبق أنَّ العفو هو إسقاط عقوبة دون إسقاط الذَّنْب. المؤاخذة عن الذَّنْب لا تسقط؛ كعفو الرئيس عن المُجرمين في يوم العيد. هذا يعنى أن العقوبة المفروضة عليهم قد أسقطت إلاَّ أن المؤاخذة بالذَّنْب لم تسقط حيث لا يزال يُكتب في هويته أنّه من أصحاب السوابق، ولا يزال يعامل على هذا الأساس. أمَّا المسامحة فهو إسقاط الذَّنْب وتكون العقوبة قد تمّت، فالمُسَامِح قد جادَ على المذنب بأن تركه المؤاخذة أو العتاب.  مثال مسامحة الأب ابنه على القيادة بتهور. هذا يعني أن الأب لن يعود يذكر الأمر ولن يلومه على ما فعل، إلا إن ذلك لا يعنى أن الأب لم يعاقب ابنه على الفعل. وأمّا الًّصَّفْح فهو إسقاط العقوبة والذَّنْب وبداية صفحة جديدة. فالًّصَّفْح أعلى من العفو والمسامحة. أمَّا الغُفْران فهو إسقاط العقوبة والذَّنْب وقَلبَ سيِّئات الخاطئ إلى حَسنات.

 

2) مَغْفِرَة الله

 

إن مَغْفِرَة الله للإنسان تختلفُ عن مَغْفِرَة الإنسان لأخيهِ الإنسان، لانَّ مصدر كل غُفْران هو الله؛ من الجدير بالإشارة هنا إلى التَّمييز بين الغُفْران والًّصَّفْح، حيث أنَّ الًّصَّفْح بشري، والغُفْران إلهي. إنَّ الله وحدهُ هو القادر أن يغفر الخطايا، والواقع أنه عندما يغفر لي إنسان بسبب خطأ صدر مني، فهو يتوقف عن لومي على الخطأ ومعاتبتي واعتباري إنسانًا شريرًا، ويقدر أن يغضّ النظر عما صدر مني، ويحاول نسيان الماضي ويوجِّه أنظاره إلى المستقبل، ولكنه لا يقدر أن يعمل أكثر من ذلك، لا يقدر أن يُغيِّرني ويغيِّر قلبي، ولا يقدر أن يعطيني الحرِّية لكيلا أقع في الخطأ مرة ثانية، الله وحده القادر على ذلك، وهذا ما يعمله في مَغْفِرَة خطاياي.

 

مَغْفِرَة الله للإنسان فعَّالة لدرجة أنَّ الله لم يعدْ ينظرُ بعد إلى الخطيئة، كما وردَ في أشعيا: " لَو كانَت خَطاياكم كالقِرمِزِ تَبيَضُّ كالثلج ولو كانَت حَمْراءَ كالأُرجُوان تَصيرُ كالصُّوف" (أشعيا 1: 18)  وكما جاء أيضا في تعليم صاحب الرِّسالة إلى العبرانيين " لَن أَذكُرَ خَطاياهم وآثامَهم " (عبرانيين10: 17) ، والواقع أنَّ الكتب المقدسة تقدمُ لنا الإنسانَ الخاطئ  كشخص مدينٍ يعفيه الله من دَيْنهِ بالًّصَّفْح عنه، إلا أن الًّصَّفْح ليس إعفاء من الدَّيْن فحسب، بل هو تحريرٌ من سُلطةِ الخطيئة، وإعادة الإنسان إلى الاتحاد مع الله بواسطة ذبيحة المسيح " ذاكَ الَّذي لم يَعرِفِ الخَطيئَة جَعَله اللهُ خَطيئَةً مِن أَجْلِنا كَيما نَصيرَ فيه بِرَّ الله"( 2 قورنتس 5: 21) ، وهكذا يُصبحُ الإنسان " في المسيح " خاطئًا قد نالَ رحمة الله " فَلَيس بَعدَ الآنَ مِن حُكْمٍ على الَّذينَ هُم في يسوعَ المسيح " ( رومة 8: 1) فهم " خَلْقٌ جَديد. (2 قورنتس 5: 17). وحاول شكسبير أن يميّز بين غُفْران الله وغُفْران الإنسان بقوله إن الله ينسى عندما يغفر" God forgets أمَّا الإنسان يغفر ولا ينسى " Man forgives".

 

3)  شُروط المَغْفِرَة

 

يُعلمنا القديس يوحنا الرَّسول في رسالته الأولى أن الشَّرط الأول المطلوب كي يحصل الإنسان على مَغْفِرَة خطاياه هو الاعتراف بذنوبهِ وحالتهِ الخاطئة: " إِذا اعتَرَفْنا بِخَطايانا فإِنَّه أَمينٌ بارّ يَغفِرُ لَنا خَطايانا وُيطَهِّرُنا مِن كُلِّ إِثْم" (1يوحنا 1: 9)، ولم يتردَّد صاحب المزامير أن يُعربَ عن هذه الحقيقة بصورةٍ صادقةٍ حاسمةٍ بقولهِ "إرحَمْني يا أَللهُ بِحَسَبِ رَحمَتِكَ فإِنِّي عالِمٌ بِمَعاصِيَّ وخَطيئَتي أَمامي في كُلِّ حين" (مزمور 50: 3، 5). فلا تتغلّب خطيئة الإنسان، التي تستحِق العِقَاب على رحمةِ الله، بل يُرَحَم من جديد (هوشع 2: 23). فرحمة الله تشفق على البائِس وتَغفِر للخاطئ: "أَفَلا أُشفِقُ أًنا على نينَوى المَدينةِ العَظيمةِ الَّتي فيها أَكثَرُ مِنِ اثنتي عَشرَةَ رِبْوةً مِن أُناسٍ لا يَعرِفونَ يَمينَهم من شِمالِهم، ما عدا بَهائِمَ كَثيرة؟" (يونان 4: 11). الرَّحْمَة تغفر، وفي غُفْرانها تخلّق واقعًا جديد ًا يسمح للإنسان أن يُولَد من جديد.

 

إنَّ الشَّرط الثاني المطلوب كي يحصل الإنسان على مَغْفِرَة خطاياه هو أن يصفح عن أخيه المُذنب له. وهذه هي النقطة الّتي أبرزها السَّيِد المسيح، في مَثَلُ مَلِكٍ أَرادَ أَن يُحاسِبَ خَدَمَه، هي أنّه مهما كانت إساءات النَّاس إلينا، فهي ليست شيئاً بالمقارنة إلى خطايانا نحو الرَّبّ. "أَفما كانَ يجِبُ عليكَ أَنتَ أَيضًا أَن تَرحَمَ صاحِبَكَ كما رحِمتُكَ أَنا؟" (متى 18: 33).  وقد قدّم يسوع الله مثلاً أعلى للرَّحمة والغُفْران " كونوا رُحَماءَ كما أَنَّ أَباكُم رَحيم"(لوقا 6: 36)، حتى إذا غفرْنا لبعضهم البعض" نصير بني أَبينا الَّذي في السَّمَوات، لأَنَّه يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار"(متى 5:45). ولكن عندما نحجم المَغْفِرَة للآخرين بعد أن نلنا المَغْفِرَة، فهذا يُبيّن أنّنا لا نفهم ولا نُقدّر رحمة الرَّبّ نحونا.

 

4) مَغْفِرَة الإنسان لأخيه الإنسان

 

إذا غفر الله للإنسان، فليس بوسع الإنسان إلا أن يغفر لأخيهِ الإنسان " فإِن تَغفِروا لِلنَّاسِ زلاتِهِم يَغْفِرْ لكُم أَبوكُمُ السَّماوِيّ وإِن لَم تَغفِروا لِلنَّاس لا يَغْفِرْ لكُم أَبوكُم زلاَّتِكُم" (متى 6: 14-15)، والواقع انه منذُ العهد القديم لم تقتصر الشريعة فقط على وضع حدٍ للانتقام بسنّة الثأر، العَيْن بالعَيْن والسن بالسن (خروج 21: 23-25) التي نجدها أيضًا مدوَّنة في شريعةِ حمورابي وفي الشرائع الأشورية، ولكنها تَنهى عن بغض الآخر لأخيه، كما أن تُحرّمُ الانتقام والحِقد على القريب. إن الله منعَ الإنسان من أن يسعى وراء انتقام شخصي، فقال له: "لي الانتقام" (تثنية الاشتراع 32: 35)، "لا تَنْتَقِمْ ولا تَحقِدْ على أَبْناءِ شَعبِكَ، وأَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ: أَنا الرَّبّ" (أحبار 18:19).

 

الغفران أيضًا يعتمد على فعل "أُذكر"! ومن هنا يشير إلينا يشوع بن سيراخ الحكيم يجب تذكر الفساد والموت من أجل الحفاظ على رّوح الغفران فيقول: "أذكُرِ العاقِبَةَ وكفَّ عنِ العَداوة واْذكُرِ الفَسادَ والمَوتَ واْثبُتْ على الوَصايااذكُرِ الوَصايا ولا تَحْقِدْ على القَريب واْذكُرْ عَهْدَ العَلِيِّ وأَغْضِ عنِ الإِهانَة" (يشوع بن سيراخ 28: 6-7). نحتاج كمؤمنين أنّ نتذكر ما لمّ يحدث بعد، وهو الموت. أيّ إننا غير باقيين للأبد لذا فمن الضروري أنّ نتذكر ما نحن مدعويّن إليه في نهاية الحياة الأرضية. يجب علينا أيضًا أنّ نتذكر الفساد والموت للحفاظ على "المغفرة" متذكرين عهدنا وعلاقتنا مع الله الّذي أعطى بمجانيّة وبحب الوصايا والعهد. الغفران للقريب يرتبط بغفران الرّبّ لنا لذلك يوصي الحكيم يشوع بن سيراخ "إِغْفِرْ لِقَريبِكَ ظُلْمَه فإِذا تَضَرَّعتَ تُمْحى خَطاياكَ" (يشوع بن سيراخ 28: 2). الغفران ليس واجب أخلاقي فحسب، إنما نعمة لكي يغفر لك الله ماضيك، وتعيش في مستقبل سعيد في آخرتك.

 

ومن جُملةِ الأمثلة البارزة التي يقدمها الكتاب المُقدس على صفح الإنسان عن أخيه الإنسان هو صفحُ عيسو عن أخيه يعقوب (تكوين 33)، وصفح يوسف عن إخـوته الذين باعـوه إلى مصر كما أَوصى أبوه يعقوب قَبلَ مَوتِه قائلاً: "أَرْجو أن تَغفِرَ שָׂא لإِخَوتِكَ ذَنبَهم وخَطيئَتَهم، فقَد فَعَلوا بِكَ سوءًا والآن أَسأَلُكَ أَن تصفَحَ שָׂא عن ذَنْبِ عَبيدِ الهِ أَبيك "(تكـوين50: 17).

 

في العهد الجـديد، نداءٌ مُلح ٌعن الًّصَّفْح الأخوي: "وإِذا خَطِئَ إِلَيكَ سَبعَ مَرَّاتٍ في اليَوم، ورجَعَ إِلَيكَ سَبعَ مَرَّاتٍ فقال: أَنا تائِب، فَاغفِرْ" (لوقا 17: 4)، " لا تُقاوِموا الشِّرِّير، بَل مَن لَطَمَكَ على خَدِّكَ الأَيْمَن فاعرِضْ لهُ الآخَر" (متى 5: 39)، ولا يُقصد هنا عدم مُقاومة الشَّر عامة، الفعل المستعمل يعني المقاومة بمعنى " الرَّد على" ومقابلة الضربة بالضربة إمَّا فورًا وشخصيًا، وإمَّا بهجومٍ معاكس في المحكمــة (رومة 12: 19-21)، وإذا نادى المسيح بعدم مقاومة الشَّر عن طريق العُنْف والضرر والانتقام للنفس، فهذا لا يعني الاستسلام أو اللامبالاة تِجاه الشَّر، بل لا بُدَّ من المقاومة النفسية والأدبية، كما عمل يسوع عندما لطمهُ واحدٌ من الحرس "أَجابَه يسوع: "إِن كُنتُ أَسَأْتُ في الكَلام، فبَيِّنِ الإِساءَة. وإِن كُنتُ أَحسَنتُ في الكَلام، فلِماذا تَضرِبُني؟" (يوحنا 18: 23)، وإفساح المجال لعمل الله، كما أوضحُ ذلك بولس الرَّسول " قالَ الرَّبّ: لِيَ الاِنتِقامُ وأَنا الَّذي يُجازي " (رومة 12: 19)، وطلبَ يسوع من تلاميذهِ أن لا يغفروا سبع مرات بل سبعين مرة سبع مرات، وهذا يعني إلى ما لا نهاية (متى 18: 21)، بل هناك تهديدٌ إلى من لا يغفر لأخيه من صميم قلبه (متى 18: 35)، وعلق غاندي على أهمية الًّصَّفْح قائلاً: " إن عشنا حسب نوعية عدالة " العَيْن بالعَيْن" فسوف يُصبحُ العَالَم كله عمياناً بسبب الظُلم الذي يوقعه الإنسان بأخيهِ الإنسان".

 

ليس الغُفْران محاولة لنسيان إساءة الغير، فالنسيان هو نتيجة الغُفْران، وليس تطبيق العدل على الشخص الذي أساء، بل هو تطبيق العدل على نفسك، ويُعلق البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني " إن الوصيَّة السّمحاء بالمَغْفِرَة لا تقضي على مستلزمات العدالة الحق؛ ذلك أن العدالة في مفهومها الصحيح، تشكّل غاية المَغْفِرَة. وما من موضع في الإنجيل يُقال فيه أن المَغْفِرَة – الّتي تنبع من الرَّحْمَة – تعني التّغاضي عن الشَّر. لأن التكفير عن الشَّر والشكوك والتعويض عن الإساءة والإهانة شرط للغُفْران"(الرّسالة العامّة: الغنيُّ بالمراحم (Dives in Misericordia)، العدد 14).

 

الغُفْران ليس تبسيطاً للأمور، لأن الغضب ما زال كامنًا يتَّقد ويشتعل، ولا يعني ذلك التَّغاضي عن الخطأ، والنَّظر في الاتِّجاه الآخر، كما أنه ليس ضعفًا، كما قال برناردشو "إن الغُفْران للمُسيء هو حيلةُ العاجز الذي لا يستطيعُ أن يردَّ الإسَاءة بالإسَاءة ".  فالتعامل مع الإسَاءة يتطلب شجاعة وصلابة، إذ أنَّ من يُسامحُ ويعفو هو الأقوى والأكرم، كما قال قيس بن عاصم: " لا يظهرُ العفو إلا مع الاقتدار"، فالغُفْران ليس ضربًا من ضروبِ الدبلوماسية، أو ومضةٍ عابرةٍ من ادِّعاء التَّقوى، بل هو من الحب الذي يشفي الدَّاء ويُزيل ألألم عندما يَخذلنا النَّاس، أنه الحبُّ الذي يُذكِّرنا بأننا ضحيةٌ لذَنْبٍ اقترف في حقنا.  تحدثُ مُعجزةُ الغُفْران عندما نختار أن نستمر قُدمًا في الحياة، لأننا نرفض أن تغذينا مشاعر الكراهية والانتقام، ولأننا نختار الحبَّ والقبول للمُذنب من أجل التَّصالح والاتفاق.

 

أراد السَّيِد المسيح أن يدخل بتلاميذه إلى حياة الغُفْران للآخرين، بعيدًا عن روح الانتقام والكراهيّة التي تحجبنا عن مَلكوت السماوات. ويُعلّق القديس يوحنا الذهبي الفم على ذلك بقوله: "عندما تُفكِّر في الانتقام، انظر أنك تنتقم من نفسك لا من الآخرين، إذ تربط خطاياك لا خطايا أخيك. أي شيء أكثر خطورة من أن تكون منتقمًا، إن كان هذا ينزع عنك عطيّة الله العُظمى؟"  يقدّم لنا الذي يُخطئ إلينا ويظلمنا، فرصة لغسل خطايانا كما يُضيف القديس يوحنا الذهبي الفم: "إننا نعاقب أنفسنا بكراهيّتنا للآخرين، كما نستفيد بحبّنا لهم".

 

خير مثال عل المَغْفِرَة للآخر هو في مثل البابا القديس يوحنا بولس الثاني، حينما نوى مواجهة محمد علي اقجا التركي الذي حاول اغتياله في الثَّالث عشر من أيار 1981. فقد أعلن البابا بعد خمسة أيام من رميه بالرّصاص، عن صَفْحِه الكامل لذلك الشَّخص، وبعد أن استرجع قواه قام البابا نفسه بزيارة السِّجْن الذي كان مقيمًا فيه قاتله الإرهابي في روما، وقابله وجهًا لوجه وأعرب له عن صفْحه الكامل لعمله التّاريخي المُشين وغفر له ليس "إلى سَبْعِ مَرَّات، بَلْ إلى سَبْعِيْنَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّات". 

 

نستنتج مما سبق أنَّ الغُفْران يكمن بالرغم من شعور المُساء إليِّه نحو المُسيء لكنه يسلك معه كأنَّه لم يسئ إليه.  ويجب على المُسيء أن يسال المَغْفِرَة كما طلب المسيح "وإِذا خَطِئَ إِلَيكَ سَبعَ مَرَّاتٍ في اليَوم، ورجَعَ إِلَيكَ سَبعَ مَرَّاتٍ فقال: أَنا تائِب، فَاغفِرْ له" (لوقا 17: 4) وحينئذ يُجيب على المُساء إليه بالمَغْفِرَة، ولكن إذا لم يطلب الغُفْران لا يجوز للمُساء إليه أن يحقد عليه أو يقصد الانتقام منه بل يجب أن يشفق عليه ويسعى في خيره، كما علَّمنا يسوع في مثل السامري الرحيم (لوقا 10: 30—37). الغُفْران بحد ذاته هو التَّحررٌ من الماضي، إنه يصنعُ بداية جديدة، حيث أنك تجدُ نفسك تمد يدك مُصافحًا المُسيء إليك قائلاً: " لن اسمحَ لما فعلت أن يقف عثرة في الطريق، أو أن يفرق بيننا، لن أقيِّد نفسي بسلاسل الماضي، بل سأتحرَّر منها، حيث أن رباط الحُبّ أقوى مَّما حدث"، فالغُفْران أمرٌ جميلٌ ولكنه ليس سهل المنال، حيث ينبغي على المرء أن يتجاوز عقباتٍ كثيرةٍ قبل أن يستطيع أن يغفر ويصفح.

 

5) كيف الوصول إلى المَغْفِرَة الغير؟        

 

هدف كلام يسوع في الغُفْران هو مساعدة النَّاس على جعل الغُفْران مسؤوليّتهم الخاصة، أي مسألةً يتعيّن عليهم تعلّمها، وإيجاد الطُّرق المُناسبة للغُفْران والمبادئ والمَعايير في الغُفْران. فليست العبرة في جسامة الخطأ، بل في الصُّعوبة التي يعُانيها الإنسان في سبيل الًّصَّفْح عن خطأ خصمه. فإنَّ طبيعَتنا مفطورة على حُبِّ الذات والرَّغبة في الانتقام. كتب المؤلف " جويس هاجيت " عن المَغْفِرَة: " عليَّ دائماً أن أغفر لشخص ما عندما أريدُ أنا ذلك، وأكتشفُ أن الغُفْران في المرتبة الأولى، لا يمت بأي صلة إلى المشاعر، بل له علاقة وثيقة بالإرادة، فالًّصَّفْح هو قرار العقل في التَّخلّص من الغضب والكراهية والاستياء، ويأتي دور المشاعر فيما بعد، عندما أشعر بفرصة الغُفْران، أمَّا في بداية الأمر، فإن  المشاعر كلها تكون مُتأججةٌ كالنيران"، وهنا يلمح الكاتب إلى طريقين للغُفْران وهما طريق العقل وطريق القَلْب، إلا أنه لا بُدَّ من إضافة طريق أخرى هي الرُّوح، وعليه فالغُفْران يتطلبُ طريقًا ثلاثيًا.

 

ا) طريق العقل: "مرحلة المعانـاة"

 

تتَّخذ طريق العقل في الغُفْران عندما تفصلُ العقل عن الفاعل للنظر إلى مُهاجمك بأسلوبٍ جديدٍ، كمريضٍ أو مُحتاجٍ، أي أن يتحول المُسيء في تفكيرك إلى إنسانٍ يُعاني ويحتاج إلى معونتك ومحبتك، وهذا ما يدعوه الكاتب لويس سميدس "مرحلة المعانـاة".

إن فصل الفعل عن الفاعل يتطلبُ منك تفهّم الفاعل: لا تقل إن هذا الشخص لا يستحق أن أفهمهُ، فقبل أن تدينهُ حاول أن تفهمه، حيث لا بدَّ من سببٍ وراء كل تَصرّف، قد يكون بحاجةٍ إلى شفقتك، لا إلى نقمتك، وتقولُ الحكمةُ القديمة "تعرف كل شيء ثم تغفر". لذا حاول أن تكون مُتفهمًا، فهذا ما يُقدرهُ الآخرون فيك، وليسَ التفهم قبولاً مشروطًا، ولكنه تقبل وقبول في أي ظرف، وفي أي موقف.  

ثم حاول أن تفهم الفعل، أي أن تقوم بفصل الحقائق الماضية، كالوعود والعلاقات لتأخذ وضعها كأفعالٍ ماضيةٍ أو كتاريخ؛ وبعبارة أخرى دعْ الماضي يمضي، حيث أنه لا يُمكن إعادة كتابة الًّصَّفْحة التي طواها الماضي، لكن يمكن استعادة شريط ذكرياته، فتكسر قوة الماضي، وبعدها تستطيع أن تبدأ كتابة فصل جديد، حيث أن معرفة الحق جيدة، ولكن العفو أفضل، وجاء في حكايات العرب أن " وقعت دماءٌ بين حيين من قُريش، فأقبلَ أبو سفيان فما بقي أحد واضعًا رأسه إلا رفعه فقال: " يا معشر قريش: هل لكم في الحق أو ما هو أفضل من الحق" ؟ قالوا: "وهل شيءٌ أفضل من الحق؟ وقال: " نعم، العفوَّ"، فبادر القوم فاصطلحوا ".

 

ب) طريق القَلْب: "مرحلة التغلب على المشاعر"

 

طريق القَلْب في الغُفْران له اتجاهان: اتجاه داخلي وخارجي. يكمن الاتجاه الداخلي في مواجهتك لكراهيتك، وعدم محاولتك إخفاء مشاعرك حتى عن نفسك، كي لا تحتدم تحت السطح وتلوث كل علاقتك، وحاول أن تتخلص من كل استجابة انفعالية لتلك الحقائق الماضية، حيث أن الغضب والإحباط والكراهية تؤدِّي إلى ظلام العقل، وهي استجابات ٌ سلبيةٌ يُمكننا وضعها تحت سيطرتنا، قال بعض الحُكماء: " ينبغي أن تستنبط لزلةِ أخيك سبعين عُذراً، فإن لم يقبله قلبك فقل لقلبك: " ما أقساكَ، يتعذرُ إليه أخوك سبعين عذرًا ولا تقبل عُذرهُ فأنت المَلوم، لا هو ". وهذا ما فعله يسوع وهو على الصليب، فبالرغم من آلامه المرّة وعذاباته الّتي كادت أن تفقده القدرة على الصَّلاة لنفسه، استطاع بقوّة محبّته أن ينسى ذاته، ويغفر للمسيئين إليه مصليًا "يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لِأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون" (لوقا 23: 34). الغُفْران هو ليس علامة ضعف أمام العدو، وإنّما هي علامة المسيح، الّذي يُظهِر ما في قلبه من حبٍ ورحمةٍ.

أمَّا الاتجاه الخارجي فيكمن في تقديرك للآخرين، قبل أن ترفض أن تُسامح الإنسان قف وتأمل: إن رفْضَ المَغْفِرَة هو تقليلٌ من إنسانيتك ورسالتك كإنسان في هذه الدنيا، ونحنُ نؤذي أنفسنا حينما نرفضُ أن نغفر لغيرنا، يعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم " إن تركتَ النقمة والغضب يسيطران عليك، ستشعر بالإهانة لا بسبب الأذى الذي ألحقَه بكَ، بل من الحِقد الذي تملّكَكَ" (إنجيل القديس متّى، العظة 61). وفي هذا الصدد قال أحد الأطباء: " إنَّ النَّاس يُصابونَ بالقرحةِ ليس مما يأكلون بل مما يأكلهم"، وهي شبيه بالحكمة العربيّة القائلة "كالنّار تأكل بعضها، إن لم تجد ما تأكله". ويعلق البابا فرنسيس بقوله" هناك العديد من الأشخاص الذين يعيشون منغلقين في الاستياء ويُغذُّون الحقد، لأنّهم غير قادرين على المَغْفِرَة، فيُدمرون حياتهم وحياة الآخرين بدلاً من أن يجدوا فرح السلام".  وأضاف أيضا في يوبيل الرَّحْمَة: "المَغْفِرَة هي الأداة التي وُضعت بين يدينا الضعيفتين لنبلغ إلى سكينة القَلْب".

 

ج) طريق الرُّوح: "مرحلة إجراء جراحة روحية"

 

طريق الرُّوحَّ هو الاتجاه الثَّالث لطريق الغُفْران، ويقول السَّيِد المسيح " الرُّوح مُندَفع وأَمَّا الجَسدُ فضَعيف" (متى 26: 41). لذلك يجب أن نفهم التَّعارض بين " الرُّوح والجسد"، لا بمعنى التَّعارض بين الإنسان في طبيعته البشرية وروح الله، كما وردَ في رسائل بولس ( رومة 1:3، 9) ، ولا بالمعنى اليوناني أي أن الإنسان منقسمٌ إلى جزئيين، جزء صالح وجزء شرير، إنَّما بالمفهوم الشرقي،  وهو  أن الله  قد جعل في الإنسان روحًا موجَّهة إلى الخير، لكن الإنسان هو، في الوقت نفسه، كله " جسد" ، لأنه خاضعٌ لسلطان الخطيئة ويتعرضُ لقوتين تتنازعان في داخله، كما اختبره بولس الرَّسول " لأَنَّ الخَيرَ الَّذي أُريدُه لا أَفعَلُه، والشَّرَّ الَّذي لا أُريدُه إِيَّاه أَفعَل"(رومة 7: 19). وفي هذا المعنى جاء تعليم المجمع الفاتيكاني الثاني" في قلب الإنسان تتصارع عناصر متعددة، فمن جهة يختبرُ كخليقةٍ أنَّه محدود جداً وأنه خاطئ وضعيف ويتمم غالباً ما لا يريد، وما يريد لا يتمِّمه، ومن جهةٍ أخرى يشعرُ أن رغباتهِ لا حدَّ لها وهو مدعو إلى حياةٍ ساميةٍ (دستور راعوي في الكنيسة في عالم اليوم، رقم 10).

 إذا كنت لا تستطيع أن تغفر للآخرين وتتحملَ إساءتهم بسبب سلطان الخطيئة فيك، تكون بحاجة إلى قوة             تساعدك، وهذه القوة لا يمنحها إلاّ الله، والواقع أن القدرة على الغُفْران لا تدخل في ملكات النفس الطبيعية، الأمر الذي يُشعرُ المرء أنه بحاجة لقوةٍ من السَّماء حتى يقهر في داخلهِ روح النقمةِ والانتقام ويمتلئ بروح النِّعمة والغُفْران، حيث أن الله وحده القادر أن يغفر للمُخطئ إليه، لأن طبيعة الله تكمن في الحبِّ والرَّحْمَة والغُفْران، كما ورد في نص الوصايا العشر " وأَصنَعُ رَحمَةً إلى أُلوفٍ مِن مُحِّبيَّ وحافِظي وَصاياي"  (خروج 20: 5)  وقيل أيضًا  " إِلهٌ غَفورٌ حَنونٌ رَحيم طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الرَّحْمَة" (نحميا 9: 17)،؛ أمَّا طبيعتنا فهي الغضب والانتقام،  كما وصف موسى شعبه  " شَعبٌ قاسي الرِّقاب" (خروج 34: 9). لذلك الله وحدهُ هو الذي يمنحنا القوة حتى نغفر، وننسى الإساءة أيضًا، وهذه المرحلة يُسميها الكاتب لويس سميدس مرحلة " إجراء جراحة روحية" في الذَّاكرة.

 

يمكنك بالصَّلاة أن تجد نعمة لكي تسامح كل فردٍ يُعكرُ صفو حياتك على نحو لا يُطاق. فاذهب أولاً إلى الله أبوك، واعترف له بضعفك الشَّخصي، وبمقدار المَرارة التي سبَّبتها إساءة أخيك لك. واطلب معونته للتعامل مع الأمر بطريقة صحيحة، واثقًا في كلام الله "الرُّوحَ أَيضاً يَأتي لِنَجدَةِ ضُعْفِنا "(رومة 8: 26). واسترجع في ذهنك وقلبك: عظمة غُفْران الله لك، وما صنعه من أجلك على الصليب ليهبك غُفْرانا كاملاً غير مشروط، وكيف يتعامل معك الآن حتى عندما تخطئ وترجع نادمًا على ما صدر منك. واجعل هذا أساسًا لتعاملك مع أخيك المُخطئ إليك كما جاء في توصية بولس الرَّسول:"اِحتَمِلوا بَعضُكم بَعضًا، واصفَحوا بَعضُكم عن بَعضٍ إِذا كانَت لأَحَدٍ شَكْوى مِنَ الآخَر. فكما صَفَحَ عَنكُمُ الرَّبّ، اِصفَحوا أَنتُم أَيضًا" (قولسي 3: 13).

 

كان معلمو اليهود يعلِّمون تلاميذهم أن يغفروا لمن يسيئون إليهم ثلاث مرات، وإذا أراد بُطرُس أن يبدي كرمه، سأل يسوع عما إذا كانت سبع مرات بكافية. لكن الرَّبّ يسوع أجابه: بل سبعين سبع مرات: وهذا معناه ألاَّ تحاول إحصاء مرات غُفْراننا لاحد، بل يجب علينا أن نغفر على الدوام لكل من يأتي تائبًا حقيقة، مهما تعدَّدت مرات طلبه للمَغْفِرَة. ويطلب إلينا يسوع أن نستمر في الًّصَّفْح، إلى ابعد الحدود، رغم عناد خصمنا وتماديه في غيّه.

 

نستنتج مما سبق أن واجبنا أن نضع حدًا لكل عداوة وكراهية وقساوة قلب، ولكل حقد وضغينة.  أنّ المَغْفِرَة لمن أساء إليّنا تُحرّرنا من ثقل الإساءة التي أصابتنا منه. ولا تعرف المَغْفِرَة اليأس، لأنها تتميّز بانَّها دون حدود، كما قال يسوع لبُطرُس "لا أَقولُ لكَ: سَبعَ مرَّات، بل سَبعينَ مَرَّةً سَبعَ مَرَّات عليك أن تغفر لأخيك" (متى 18/21-22)، كما تتميز بالمبادرة الطيبة نحو الخصم كما يأمر الرَّبّ: "سارعْ إلى إِرضاءِ خَصمِكَ ما دُمْتَ معَه في الطَّريق"(متى 5: 25). إنّ المَغْفِرَة للآخرين هي ركن أساسي في علاقتنا مع الرَّبّ، وهي عتبة الصَّلاة وأساس فحواها. هكذا يقول الرَّبّ يسوع "إِذا قُمتُم لِلصَّلاة، وكانَ لكم شَيءٌ على أَحَدٍ فاغفِروا لَه، لِكَي يَغِفرَ لَكم أَيضاً أَبوكُمُ الَّذي في السَّمواتِ زَلاَّتِكم " (مرقس11: 25). وهذا ما نردِّده دائمًا في الصَّلاة الرَّبّيّة إذ نقول "واغفر لنا خطايانا كما نحن نغفر لمن أخطأ إلينا". لو لم يكن الإنسان قادرًا على الغُفْران، لما طلب منا يسوع أن نصلي صلاة الرَّبّية وان نقتدي به في كلِّ شيء حتى في الغُفْران.

 

أخيرًا وليس أخرًا علّنا نصغي إلى دعوة البابا فرنسيس: إنّ الرَّبّ لا يتعب أبدًا من الغُفْران: نحن من نتعب من أن نسأله الغُفْران. وهو يدعونا أن نغفر "سبعين مرّة سبع مرّات" (متى 18: 22)، ولكن "كم يبدو لنا صعبًا أن نغفر أحيانًا! ومع ذلك، فالمَغْفِرَة هي الأداة التي وضُعت بين يدينا الضعيفتين لنبلغ إلى راحة القَلْب. إن التَّخلي عن الحقد والغضب والعُنْف والانتقام هي الشُّروط الضرورية لنعيش سعداء". وقد أشار غبطة البطريرك ميشيل صباح إلى أهمية المَغْفِرَة في كتابه الأخير "خواطر يومية من القدس: "كم نحن، خاصة العائلات المسيحيَّة، نحتاج إلى المَغْفِرَة، كم نحن بحاجة لأن يسامح أحدنا الآخر، وعلاوة على أهميَّة فعل المَغْفِرَة للآخر، فان للمَغْفِرَة مردودًا إيجابيًا ذاتي على منفذ المَغْفِرَة، فيقول غبطته في ذلك "المَغْفِرَة هي تنقية للنفس، وراحة لها، وقوة الطمأنينة والصَّفاء في النفس". المَغْفِرَة هي قوة تُقيمنا إلى حياة جديدة وتبعث الشَّجاعة اللازمة للتطلُّع نحو المستقبل برجاء.

 

 

الخلاصة

 

سبق السَّيِد المسيح وقال للمُخطئ لا تقدم قربانك على المذبح قبل أن تصالح مع أخيك (متّى 23:5-24). أما في إنجيل اليوم فالكلام موجّه لمن لحقه الأذى بان يغفر لمن أساء إليه، وبتصرفه هذا يربح نفسًا للمسيح، وهو في هذا يتمثل بالمسيح، فنحن أخطأنا إليه لكنَّه جاء وتجسَّد ليُصالحنا. قدَّم لنا يسوع مثل الخَادِم القليل الشَّفقة مُبينِّا لنا الفرق كبير من الله الذي يغفر لنا ونحن عندما نغفر لمن أساء إلينا.

 

إنّها قصّة ملك امتلأ قلبه شفقةً على أحد خدّامه المدين له بعشرة آلاف درهم من الفضّة، وبدلاً من أن يُباع الخَادِم وزوجته وأولاده وجميع ما يملك حتّى يوفي دينه، أشفق عليه حين توسَّل إليه الخَادِم أن يمهله، بل أكثر من ذلك أطلقه حرًّا وأعفاه من دينه. كان الفقر والموت هما مصير الخَادِم، ولكنّ سيّده أعاده إلى الحياة ومنحه الحريّة والكرامة.

 

التفاوت الكبير بين الدَّيْن الأول الذي بلغ مقداره 10 ملايين دِينار، والدَّيْن الثاني ومقدراه 100 دِينار لشاسع جداً، فدَيْن هذا الخَادِم قليل جدًا إذا ما قيس بالدَّيْن الذي أعفاه منه سيده.  فمغزى المثل هو الفرق العظيم بين غُفْران الله للإنسان على كثرة خطاياه وقساوة الإنسان على أخيه على صغر حجم الإساء.

 

يدعونا يسوع أن نغفر لمن أساء إلينا بمحبّة فاعلة، لا تدين الآخرين، بل تعذرهم، بمحبّة تنسى الإهانات، وبمحبّة شاملة، لا تستثني أيّ إنسان، لا الغريب ولا سيّئ الأخلاق، وبمحبّة متجرّدة، وبمحبّة صادرة عن محبّة الرَّبّ ذاتها، لسان حالها "من أجل محبّتك، أنا أحبّ أيضًا كلّ من أخطأ إليّ".  دعونا نطلب اليوم نعمة عيش وصيّة الإنجيليّة المُتمثلة في غُفْران الأخوي بشجاعة ومسئوليّة، فالله يغفر خطايانا العظيمة. وإذا فهمنا كم يُحبّنا الله ويغفر لنا دون حساب ولا ملل ولا كلل، صرنا إخوة بعضنا لبعض، والدَّليل على ذلك أن يغفر بعضنا لبعض من صميم القَلْب، لا سبع مرّات بل سبعين مرّة سبع مرّات. وفي هذا الصدد يقول القدّيس بولس: "أُناشِدُكم إِذًا، أَنا السَّجينَ في الرَّبّ، أَن تَسيروا سيرةً تَليقُ بِالدَّعوَةِ الَّتي دُعيتُم إِلَيها... مُحتَمِلينَ بَعضُكُم بَعضًا في المَحبَّة" (أفسس 4: 2). ويعلق الطوباويّ شارل دو فوكو "المحبّة تجاه القريب هي العلاج الأمثل للتَّجارب: بها ننتقل من مجرّد الدِّفاع عن النفس إلى الهجوم المعاكس" (رسالة بتاريخ 15/7/1916).

 

 إذا ما أخطأ أحد بحقنا، هل نسامحه؟ هل نعذره ونغفر له خطأه؟ ليسأل كل منا نفسه هذه الأسئلة بصدق واستقامة، وعندها يعرف مصدر الشُّرور. وهناك من يعزُّ عليه أن يسامح صديقه أو أخاه، ويرى في ذلك تنازلاً وهدراً لكرامته الشَّخصية، ليعلم أن المسامحة تتطلب تضحية وتعاليًا وسموًا ليس بمقدور أي شخص أن يقوم بها دون نعمة الله.  ما أسهل الاستغفار علينا وأعسر المَغْفِرَة! باستخدام العقل والقَلْب وخاصة الرُّوح والصَّلاة تصبح المَغْفِرَة ممكنة، كما ورد في الكتاب "أَمَّا النَّاس فهذا شَيءٌ يُعجِزُهم، وأَمَّا اللهُ فإِنَّه على كُلِّ شيءٍ قَدير" (متى 19: 26).

 

 

دعاء

 

أيها ألاب السَّماوي، يا من تُشرق على الجميع بضياء وجهك وحُبِّك، نشكرك لأنَّك أحببتنا وغفرت لنا زلاتِنا وخطايانا؛ فامنحنا روحك القدُّوس لكي نصلي بكلمات يسوع "اغفر لنا خطايانا كما نحن نغفر لمن أخطئ إلينا" (لوقا 11:4)، فنغفر للمسيئين إلينا حتى يفهموا معنى غُفْرانك ومعنى الحياة الجديدة منك وفيك، فنكون أداةً لسلامك، فنضع الحُبَّ حيث البغض، المَغْفِرَةَ حيث الإساءة، الإيمانَ حيث الشَّكّ، والرَّجاءَ حيث اليأس، والنُّورَ حيث الظلمة، والفرحَ حيث الكآبة، "ْفيَسُدْ قُلوبَنا سَلامُ المسيح، ذاكَ السَّلامُ الَّذي إِلَيه دُعينا لِنَصير جَسَدًا واحِدًا (قولسي 3: 15). آمين.

 

 

 

قصة: رفض العفو

قتل شاب أمريكي صاحبه فأدين بالإعدام.

في أحد الأيام، دخل السِّجْن رجل، فصاح به السجين "أخرج من هنا، لا أريد أن أراك ولا أسمعك".

قال الزائر "أيها الشاب، اصغ لي، أريد أن أقدّم لك خبرًا سارًّا ". لكن السجين هدّده. بعد دقائق دخل الحارس وأخبر السجين أن الزائر الذي طرده هو حاكم المقاطعة بنفسه وقد أتى ليسلّمه رسالة عفو.

"كيف!"، صاح السَّجين بمرارة، وقال "أسرع أحضر لي ورقة لأكتب للحاكم".

كتب السّجين اعتذارًا مترجّيًا من الحاكم أن يعود ومعه الرِّسالة. وعندما استلم الحاكم الرسالة ألقاها جانبًا بعد أن كتب عليها: "هذا لا يعنيني". مات السَّجين وهو يقول: "أموت بسبب رفضي العفو الذي قُدّم لي"!