موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النَّصُّ الإنْجِيلي (يوحنا 10: 27-30)
27 إِنَّ خِرافي تُصْغي إلى صَوتي وأَنا أَعرِفُها وهي تَتبَعُني 28 وأَنا أَهَبُ لَها الحَياةَ الأَبديَّة فلا تَهلِكُ أَبداً ولا يَختَطِفُها أَحَدٌ مِن يَدي. 29 إِنَّ أَبي الَّذي وَهَبَها لي أَعظمُ مِن كُلِّ مَوجود. ما مِن أَحَدٍ يستطيعُ أَن يَختَطِفَ مِن يَدِ الآبِ شَيئاً. 30 أَنا والآبُ واحِد)).
المقدِّمَة
يَصِفُ إنجيلُ يوحنّا (يوحنّا 10: 27–30) عَمَلَ الرّاعي الصّالِح، لِلتَّعبيرِ عَنْ دَوْرِ يَسوعَ المَسيح، الّذي يَفْتَحُ نافِذَةً على العَلاقَةِ والمَعْرِفَةِ والثِّقَةِ المُتبادَلَةِ بَيْنَ الرّاعي وَخِرافِهِ المُؤْمِنينَ مِن ناحِيَةٍ، وَعَلى المَعْرِفَةِ المُتبادَلَةِ بَيْنَ الآبِ وَالابْنِ مِن ناحِيَةٍ أُخْرى، وذلكَ لِدَعْوَةِ المُؤْمِنينَ لِلمُشارَكَةِ في حَياتِهِ.
لذلك تَحْتَفِلُ الكنيسة بِيَوْمِ صَلاةٍ عالَميٍّ مِن أَجْلِ الدَّعَواتِ الكَهَنُوتِيَّةِ وَالرُّهْبَانِيَّةِ، كَما أَوْصانا سَيِّدُنا يَسوعُ المَسيح: "الحَصادُ كَثيرٌ ولكِنَّ العَمَلَةَ قَليلون، فاسأَلوا رَبَّ الحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ عَمَلَةً إِلى حَصادِه" (لوقا 10: 2). إِذْ نَعْرِفُ وَنُدْرِكُ، كَمْ هُوَ ضَروريٌّ وُجودُ الكاهِنِ في العالَمِ اليَوْم. ويُعَلِّقُ البابا القِدّيسُ يُوحنّا بولس الثّاني قائِلًا: "إِنَّ يَوْمَ الصَّلاةِ العالَميِّ لِلدَّعَواتِ، هُوَ مُناسَبَةٌ لِلتَّبشيرِ بِأَنَّ روحَ اللهِ القُدّوس، يَكْتُبُ في قَلْبِ كُلِّ مُعَمَّدٍ، خُطَّةَ مَحبَّةٍ وَنِعْمَةٍ. وَإِنَّ الرّوحَ يُفِيقُ في قَلْبِ كُلِّ مُعَمَّدٍ، رُوحَ اختِيارِ هذِهِ الوَظيفَةِ الخَفِيَّةِ فيهِ". ويُضيفُ البَابا فِرَنسيس في رِسالَتِهِ بِمُناسَبَةِ اليَومِ العالَميِّ التّاسِعِ وَالخَمسينَ لِلصّلاةِ مِن أَجْلِ الدَّعَواتِ (2022): "لِذا جَميعُنا مَدْعوّونَ لِكَيْ نُشارِكَ في رِسالَةِ المَسيح، في جَمْعِ البَشَرِيَّةِ المُشَتَّتَةِ وَمُصالَحَتِها مَعَ الله".
ومِن هُنا تَكْمُنُ أَهَمِّيَّةُ البَحْثِ في وَقائِعِ النَّصِّ الإِنْجيليِّ وَتَطْبيقاتِهِ.
أولا: وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 10: 27-30)
27 إِنَّ خِرافي تُصْغي إلى صَوتي وأَنا أَعرِفُها وهي تَتبَعُني
تُشيرُ عِبارة "خِرافي" (πρόβατα) إِلى "القَطيعِ الصَّغيرِ" (لوقا 12: 32)، أَي شَعبِ المَسيحِ الحَقيقيِّ المُؤمِنِ الّذي سَلَّمَ نَفسَهُ إِليهِ طَوعًا وَاخْتِيارًا. وكانَت قُطعانُ الغَنَمِ عُنصرًا أَساسيًّا في ثَرواتِ مَناطِقِ الرَّعي في فِلسطين؛ فَأَلْبانُها وَلُحومُها تُسْتَخدَمُ طَعامًا، كَما يُستَخدَمُ صوفُها في صِناعَةِ الثِّيابِ وَأَغْطِيَةِ الخِيام، ويُمكنُ الاستفادةُ مِن جُلودِها وَعِظامِها. وَكَانَت الخِرافُ مِن أَهمِّ السِّلَعِ التِّجاريّة، وَمِن أَهمِّ الحَيَواناتِ الّتي تُقَدَّمُ كذَبائِحَ حَسَبَ أَحكامِ الشَّريعَةِ (خُروج 29: 22). وَقَد ذُكِرَتِ الخِرافُ بِمُخْتَلِفِ مُسَمَّياتِها، مِثلَ الكِباشِ وَالحِملانِ وَالغَنَمِ وَالضَّأْنِ، في الكِتابِ المُقدَّس. وَكانتِ الخِرافُ تُجْمَعُ لَيْلًا في حَظائِرَ، قَد تَكونُ كَهْفًا، أَو بُقْعَةً مُسَوَّرَةً بِقِطَعٍ مِن الحِجارَةِ غَيْرِ المُنَظَّمَةِ، أَو بِسُورٍ مِن الأَغصانِ وَالأَشواك. ويُشَبِّهُ الرَّبُّ شَعبَهُ بِأَنَّهُم "غَنَمُ مَرْعاه" (مزمور 79: 13)، وَيُشبَّهُ المُؤْمِنونَ بِالخِرافِ في عَدَمِ الأَذى، وَالوَداعَةِ، من ناحية، وَالطّاعَةِ (أَيِ الانْقِيادِ لِلرّاعي)، وَالضَّعفِ وَالاحْتِياجِ إِلى الرّاعي، وَقَبولِ التَّعليمِ وَالنَّفْعِ لِلآخَرينَ وَالخِدْمَة من ناحية أخرى. أَمَّا عِبارَةُ "تُصْغي إِلى صَوتي"، فَتُشيرُ إِلى إِحدى عَلاماتِ خِرافِ المَسيح، وَهي أَنَّها تَسمَعُ صَوتَهُ كَراعٍ لَها، لِأَنَّها تَعيشُ مَعَه، وَتُميِّزُ صَوتَهُ، وَتُنَفِّذُ إِرادَتَهُ في التَّوبَةِ وَالإِيمانِ وَالبَذلِ وَالتَّبشيرِ وَالشَّهادَةِ. وَالإِصْغاءُ، في تَفسيرِ البابا فِرَنسيس، هو "لِقاؤُنا قَلْبًا وقَالبًا لِقَلْبٍ مَعَ المُعَلِّمِ الإِلَهِيّ، الرّاعي الصّالِح"، وَالإِصْغاءُ المُطيعُ يَقتَضي اتِّباعَ المَسيحِ في المَسْلَكِ وَالمَواقِفِ وَالمُبادَرات. خِرافُ المَسيحِ هُمُ الّذِينَ يَسْمَعونَ صَوتَ المَسيحِ وَيَتَّبِعُونَهُ. وَيُعَلِّقُ العَلاَّمَةُ كيرِلُّس الإِسْكَنْدَرِيّ قائِلًا: “إِنَّ هُناكَ تَناقُضًا بَيْنَ أُولئِكَ الّذِينَ يُصغونَ إِلى صَوتِ الرّاعي الصّالِحِ وَأُولئِكَ الّذِينَ يُغْلِقونَ آذانَهُم عَن دَعْوَتِهِ. فَعَلامَةُ خِرافِ المَسيحِ هِيَ اسْتِعدادُهُم لِلإِصْغاءِ وَالطّاعَة، أَمّا عَلامَةُ الّذِينَ لَيْسوا مِن خاصَّتِهِ فَهِيَ العِصيانُ" (مُقتَطَفٌ مِن التَّعليقِ عَلى إِنْجيلِ يُوحنّا 1: 7). وكَيفَ يُمكِنُنا أَن نَنمو في الإِصْغاءِ إِلى صَوتِ راعينا يَسوعَ المَسيح؟ إِذا طَلَبْنا، سَيَفْتَحُ آذانَنا لِسَماعِهِ، فَيُحادِثُ قُلوبَنا وَعُقولَنا، كَما تَنبَّأ أَشَعيا النَّبيّ: "يُنبِّهُ أُذُني صَباحًا فَصَباحًا لِأَسمَعَ كَتِلميذ، السَّيِّدُ الرَّبُّ فَتَحَ أُذُني، فَلَم أَعْصِ، وَلا رَجَعتُ إِلى الوَراء" (أشعيا 50: 4-5). يَستَخدِمُ يَسوعُ لَفظَ "صَوتي" بِضَميرِ المُتَكَلِّم، وَصَوتُهُ هُوَ السَّبَبُ في "تَبَعِيَّةِ خِرافِهِ". فَالخِرافُ الَّتي تَسمَعُ صَوتَ يَسوعَ، تَتبَعْهُ. أَمَّا عِبارَةُ "أَعرِفُها"، فَتُشيرُ إِلى الاتِّحادِ بِشَعبِهِ، إِذ: "يَدعو خِرافَهُ كُلَّ واحِدٍ مِنْها بِاسْمِه، وَيُخْرِجُها، فَإِذا أَخْرَجَ خِرافَهُ جَميعًا سارَ قُدَّامَها، وَهيَ تَتْبَعُهُ، لأَنَّها تَعرِفُ صَوتَهُ" (يوحنّا 10: 3–4). إِنَّهُ يَعلَمُ حاجاتِها وَتَجارِبَها وَأَحْزانَها وَخَطاياها وَجَوْدَةَ مَقاصِدِها؛ فَتَكْتَشِفُ مَحبَّتَهُ وَتَتْبَعُهُ. إِنَّها مَعرفَةٌ مُتَبادَلَةٌ بَيْنَ يَسوعَ وَخِرافِهِ، وَكَما يَقولُ بولس الرَّسول: "إِنَّ الرَّبَّ يَعرِفُ الَّذِينَ لَه" (2 طيموتاوس 2: 19). وَالمَعرِفَةُ تُؤدِّي إِلى مَحبَّةٍ مُتبادَلَةٍ، تَجِدُ يَنبوعَها في المَحبَّةِ الّتي تَربِطُ الآبَ وَالابْن؛ وَيُعَلِّقُ القِدّيسُ البابا غريغوريوس الكَبير قائِلًا: "أَعرِفُ خِرافي، أَي أُحِبُّها، وَخِرافي تَعرِفُني". وَكَأَنَّهُ يَقولُ بِكُلِّ وُضوح: "مَن يُحِبُّني يَتْبَعُني، لأَنَّ مَن لا يُحِبُّ الحَقيقَةَ لَم يَعرِفْها بَعدُ" (العِظَة 14 حَول الإِنجيل المُقَدَّس). يَعرِفُنا يَسوعُ كَخِرافِهِ، لأَنَّهُ يُحِبُّنا إِلى دَرَجَةِ "التَّضحِيَةِ" بِحَياتِهِ، وَبِالتَّالي "إِعطائِنا" الحَياةَ الأَبَدِيَّةَ. أَمَّا عِبارَةُ "تَتْبَعُني"، فَتُشيرُ إِلى دَعْوَةِ يَسوعَ لِلمُؤْمِنينَ الّتي تُؤَدِّي إِلى أُسلوبِ حَياةٍ جَديد، وَهُوَ اتباعُهُ عَن حُبٍّ وَثِقَةٍ وَخِبرَة لتكون جزءًا من قطيعه. فَعِندَ خُروجِنا مِن مَتاهاتِ الدُّروبِ الخاطِئَة، وَابتِعادِنا عَنِ التَّصَرُّفاتِ الأَنانيَّة، يُمكِنُنا السَّيرُ على دُروبٍ جَديدةٍ: دُروبِ الأُخوَّةِ وَعَطاءِ الذّاتِ، على مِثالِ الرّاعي الصّالِح. وَالرّاعي الصّالِحُ يَقودُ الخِرافَ إِلى المَرعَى، لا تُساقُ سوقًا، بَل يَتَقدَّمُها الرّاعي وَهِيَ تَتْبَعُهُ، كَما يَصِفُهُ يُوحنّا الإِنجيليّ: "فَإِذا أَخْرَجَ خِرافَهُ جَميعًا سارَ قُدَّامَها، وَهيَ تَتْبَعُهُ، لأَنَّها تَعرِفُ صَوتَهُ"(يوحنّا 10: 4). يَسوعُ الرّاعي يَمْشي قُدَّامَ الخِراف، وَهكَذا يَدُلُّها عَلى الطَّريقِ، وَيَقودُها إِلى المَراعِي الخَصِبَة، كَما في المزامير: "في مَراعٍ نَضيرَةٍ يُريحُني، مِياهَ الرّاحَةِ يُورِدُني، وَيُنعِشُ نَفْسي" (مزمور 23: 2). وَالجَديرُ بِالمُلاحَظَةِ أَنَّ الرّاعي في فِلسطين يَسيرُ عادَةً خَلْفَ قَطيعِهِ، وَلكِن في الأَماكنِ الخَطِرَةِ يَتَقَدَّمُهُ كَدَليل. وَهوَ يَدعو كُلَّ خَروفٍ بِاسْمِه، فَهِيَ تَخُصُّ الرّاعي وَتَصْغي لِنِدائِه. فمَن يُصغونَ إِلى صَوتِ الرّاعي يَنالونَ الحَياةَ الأَبَدِيَّة، وَمَن لا يَتجاوَبونَ مَعَهُ، فَهُم لَيْسوا مِن خاصَّتِهِ. بِكَلِمَةٍ مُوجَزَةٍ، يَقومُ مَوقِفُ التَّلاميذِ على أَمرَينِ هُما: الإِصْغاءُ وَالاتِّباع. وَكُلَّما أَصْغَى الإِنسانُ، كُلَّما ازدادَ اتِّباعُهُ لِله. أَمّا مَوقِفُ الرّاعي فيَقومُ على مَعرِفَةِ المُؤْمِنِ وَهِبَتِهِ الحَياةَ الأَبَدِيَّة، إِذ يَأْخُذُ مَكانَ خِرافِهِ وَيَموتُ مِن أَجْلِها، لِتَستَطيعَ أَنْ تَحيا إِلى الأَبَد، إِذ يَتَقَدَّمُها وَهِيَ "تَتْبَعُ الحَمَلَ أَيْنَما ذَهَب" (رؤيا 4: 4). فَالعَلاقَةُ بَيْنَ الرّاعي وَخِرافِهِ هِيَ: المَحبَّةُ، وَالثِّقَةُ، وَالإِتِّباعُ.
28 وأَنا أَهَبُ لَها الحَياةَ الأَبديَّة فلا تَهلِكُ أَبداً ولا يَختَطِفُها أَحَدٌ مِن يَدي
تُشيرُ عبارة "وأَنا أَهَبُ لَها الحَياةَ الأَبديَّة" إِلى العَلاقةِ بين اتِّباعِ يسوعَ والحَياةِ الأَبَدِيَّةِ، كما أَوضَحَ في موضِعٍ آخَر: "أَنا نُورُ العالَم، مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام، بَل يَكونُ لَهُ نورُ الحَياة" (يوحنّا 8: 12). وَلَيْسَ بِإِمكانِ أَحَدٍ غَيرِ المسيحِ أَنْ يَقولَ: "وأَنا أَهَبُ لَها الحَياةَ الأَبديَّة"، وَهذا دَليلٌ على لاهوتِهِ وَنِعمَتِهِ. شَدِّدُ يَسوعُ على الحَياةِ الأَبَدِيَّةِ لِلقَطيعِ، الَّتي يَضمَنُها راعيهُم وَحدَه. وَقَد تَجَسَّدَ هذا الوَعدُ بَعدَ قِيامَتِهِ، إِذ فَتَحَ أَبوابَ الحَياةِ الأَبَدِيَّةِ، وَحَقَّقَ ما أَعلَنَهُ قَبلَ مَوتِهِ وَقِيامَتِهِ. أمَّا عِبارةُ "الحَياةَ الأَبديَّة"، فَتُشيرُ إِلى حَياةِ صَداقةٍ مَعَ الله، تَبدأُ على الأَرضِ وَتَدومُ إِلى الأَبَد. وَتَضمَنُ هِبَةُ الحَياةِ الأَبديَّة المَغفِرَةَ وَالمُصالَحَةَ وَالسَّعادَةَ في الدُّنيا وَالآخِرَةِ مَعَ المَجدِ. يُقَدِّمُ السَّيِّدُ المسيحُ الحَياةَ الأَبديَّة هُنا كَـهِبَةٍ لِمَن يُؤمِنُ بِهِ؛ وَالإيمانُ يَرتَبِطُ بِالحَياةِ الأَبديَّة؛ كَيْف؟ يُوضِّحُ البابا غريغوريوس الكَبير: "يَدخُلُ المُؤمِنُ في بابِ الإِيمانِ (يَسوع)، وَيَخرُجُ مِنَ الإِيمانِ إِلى الرُّؤيَة، وَمِنَ الرُّؤيَةِ إِلى المُشاهَدَة، فَيَجِدُ المَرْعى في الوَليمَةِ الأَبديَّة". أمّا عِبارةُ "فَلا تَهلِكُ أَبَدًا"، فَفي الأَصلِ اليونانيّ: ἀπόλωνται (مَعناها: "يَهلِك" أَو "يُخْرَب")، وَتُشيرُ إِلى المَصيرِ المُرعِبِ لِدَمارٍ أَبَديّ. لَكِنَّ الرّاعي يَدفَعُ عَن نُفوسِ المُؤمِنينَ بِهِ كُلَّ خَطَر، وَلا سِيَّما خَطَرَ المَوتِ الثّاني، أَي الهَلاكِ الأَبدي (رؤيا 2: 11). إِنَّهُ يَصونُهُم مِن الأَخطارِ الدّاخِليَّةِ كَشَهَواتِ الجَسَدِ وَفَسادِ القَلْب، وَمِن الأَخطارِ الخارجيَّةِ، وَهِيَ تَجارِبُ الشَّيطانِ وَالعالَم. وَهكَذا تَعيشُ النُّفوسُ آمِنَةً مُطمَئِنَّةً بِلا فَسادٍ أَو هَلاك. وَهذا ما يُؤَكِّدُهُ بولسُ الرَّسول: "إِنِّي عَلى يَقينٍ مِن أَنَّ ذاكَ الَّذي بَدَأَ فيكم عَمَلًا صالِحًا، سَيَسيرُ في إِتمامِهِ إِلى يَومِ المسيحِ يَسوع" (فيلِبِّي 1: 6). فَالمسيحُ لَن يَترُكَ المُؤمِنينَ بِهِ في حالَةِ وُقوعٍ فِي ظَلالٍ أَو سُقوطٍ فِي هَاوِيَةِ الهَلاك. فَـالخَلاصُ مِنَ الهَلاكِ لا يُقَدَّرُ بِثَمَن. أمَّا عِبارةُ "يَختَطِفُها"، فَتُشيرُ إِلى جَذْبِ شيءٍ وَأَخْذِهِ بِسُرعَةٍ وَاخْتِلاسِهِ. فَـالخاطِفُ هو مَن يَأخُذُ شَيئًا لَيسَ لَهُ قَسْرًا وَبِسُرعَةٍ، بِدافِعٍ مِن الطَّمَعِ وَالجَشَعِ وَالظُّلم، كَما يَفعَلُ الأَسَدُ أَو الذِّئبُ (حِزقيال 22: 25؛ يوحنّا 10: 12). وَتَدُلُّ هُنا عَلى سُلوكٍ عَنيفٍ ضِدَّ الإِنسان، لَيسَ مَن يَقدِرُ أَنْ يَحمينا مِنْهُ سِوى يَدِ اللهِ القَديرَةِ الّتي تَحفَظُنا. الخَطْفُ قَد يَكونُ فِي الخَفاء كَما يَفعَلُ السّارِق، أَو في العَلَن كَما يَفعَلُ اللِّصُّ المُغتَصِب. وَلا خَوفَ عَلى نَفْسِ المُؤمِنِ الّتي هي في يَدِ المسيح، إِذ لا أَحَدَ يَجذِبُ نُفوسَ المُؤمِنينَ إِلى خِدمَةِ الخَطيئَةِ وَتَركِ المسيح؛ لا الإِنسانُ بِفَصاحَتِهِ وَخُبثِهِ وَقُوَّتِهِ، وَلا الشَّيطانُ بِحِيَلِهِ وَأَكاذِيبِهِ. وَيُؤَكِّدُ بولس الرَّسول: "وَإِنَّنا نَعلَمُ أَنَّ جَميعَ الأَشْياءِ تَعمَلُ لِخَيْرِ الّذينَ يُحِبّونَ الله، أُولئِكَ الّذينَ دُعُوا بِسَابِقِ تَدْبيرِهِ" (رومة 8: 28). وَلا يَعني ذلِكَ أَنَّ المُؤمِنَ لا يُجَرَّب، أَو لا يُخطِئ، أَو لا يَسقُط، بَل المَعنى هُوَ أَنَّ الله لَن يَتْرُكَهُ فِي الضَّلال، كَي لا يَسقُطَ فِي هَلاكٍ أَبَدِي. فَـلَيسَ في العالَمِ قُوَّةٌ تُقاوِمُ قُوَّةَ الله وَمَقاصِدَ يسوع الخَيْرِيَّة لِتَلاميذِهِ. أمّا عِبارةُ "ولا يَختَطِفُها أَحَدٌ مِن يَدي"، فَتُشيرُ إِلى تَعبيرٍ آخَر عَن بَذلِ المسيحِ لِذاتِهِ مِن أَجلِنا، أَي إِنَّهُ لَنْ يَسمَحَ لِلشَّرِّ وَالأَلَمِ وَالمَوتِ أَنْ يَمنَعونا مِن أَنْ نَكونَ مَعَ الله، وَبَيْنَ يَدَيْهِ تَعالى، كَي نُحَقِّقَ ذاتَنا وَدَعوتَنا. وَتِلكَ الخِرافُ، يَقولُ عَنها بولسُ الرَّسول: "إِنَّ الرَّبَّ يَعرِفُ الَّذينَ لَه" (2 طيموتاوس 2: 19)، "الّذينَ سَبَقَ أَنْ قَضى لَهُم بِذلِكَ دَعاهم، وَالّذينَ دَعاهُم بَرَّرَهُم، وَالّذينَ بَرَّرَهُم مَجَّدَهُم أَيضًا" (رومة 8: 30). فَـلَيسَ أَحَدٌ مِن هذِهِ الخِرافِ يُمْسِكُ بِها ذِئْبٌ، أَو يَسرِقُها سارِقٌ، أَو يَذبَحُها لِصٌّ. فَـقُوَّةُ الرّاعي الصّالِحِ، الّتي لا تُضاهِيها قُوَّة، قادرَةٌ أَنْ تَحفَظَ الخِرافَ وَتَحميها، كَما يَقولُ صَاحِبُ المزامير: "دَعا بائِسٌ، وَالرَّبُّ سَمِعَه، وَمِن جَميعِ مَضايِقِهِ خَلَّصَه. يُعَسكِرُ مَلاكُ الرَّبِّ حَولَ مُتَّقِيه، وَيُنَجِّيهم" (مزمور 34: 6–7). لِذلِكَ، تَقدِرُ الخِرافُ أَنْ تَثِقَ بِهِ كُلَّ الثِّقَة، وَلا خَوفَ عَلى المُؤمِنينَ مِن أَيِّ قُوَّةٍ أَرضِيَّة. قَطيعُ السَّيِّدِ المسيحِ هُوَ هِبَةٌ يَتَسلَّمُها الِابنُ مِن يَدِ الآبِ، وَيَبقى مَحفوظًا في يَدِ الِابن. يُعلِنُ يسوعُ عَن الأَمانِ الّذي يَتَمَتَّعُ بِهِ المُؤمِن، إِذ هُوَ مَحفوظٌ في يَدِهِ. وَيُعَلِّقُ البابا فِرَنسيس قائِلًا: "حَياتُنا هِيَ بِأَمانٍ تامٍّ بَيْنَ يَدَي يَسوعَ وَالآب". وَلَكِن، رُبَّما يَقولُ قائِلٌ: "أَعلَمُ أَنَّ الشَّيطانَ لا يَستطيعُ أَنْ يَخْطِفَني، وَالإِنسانَ يَعجَزُ عَن ذلِكَ، وَلَكِنَّني أَنا قَد أُهلِكُ نَفسي". أَفَلا يُهلِكُ نَفسَهُ مَن يَفْتَحُ لِلشَّرِّ بَوابَةَ قَلبِه؟ يُحاوِلُ الشَّيطانُ بِطُرُقٍ عَديدَةٍ أَنْ يَنتَزِعَ مِنّا الحَياةَ الأَبديَّةَ وَيُهلِكُنا. وَلَكِنَّ الشِّرّيرَ لَنْ يُفلِحَ أَبَدًا، ما لَم نَفْتَحْ لَهُ أَنْفُسَنا، وَنَتبَع أَفكارَهُ المُغْرِيَةَ وَالمُهْلِكَةَ. إِنَّ حَياتَنا هِيَ بِأَمانٍ تَامٍّ بَيْنَ يَدَي يَسوعَ وَالآب.
29 إِنَّ أَبي الَّذي وَهَبَها لي أَعظمُ مِن كُلِّ مَوجود. ما مِن أَحَدٍ يستطيعُ أَن يَختَطِفَ مِن يَدِ الآبِ شَيئاً
تُشيرُ عبارة "إِنَّ أَبي الَّذي وَهَبَها لي أَعظمُ مِن كُلِّ مَوجود" إِلى الآبِ، الّذي هُوَ المَصدرُ النِّهائيُّ للسُّلطانِ، والّذي عليهِ يُؤَسِّسُ ضَمانةَ وَأمانَ أَبنائِهِ. وَقَد حَدَثَ ذلِكَ قَبلَ تَأسِيسِ العالَمِ، كَما يُوَضِّحُ بولسُ الرَّسولُ: "ذلِكَ بِأَنَّهُ اختارَنا فيهِ قَبلَ إِنشاءِ العالَمِ، لِنَكونَ في نَظَرِهِ قِدِّيسينَ بِلا عَيبٍ في المَحبَّة" (أَفسُس 1: 4). فَهذِهِ النُّفوسُ المُؤمِنةُ انتَقَلَت مِن يَدِ اللهِ الخالِقِ إِلى يَدِ الفادي لِيُخَلِّصَها. وَيَمنَعُ يسوعُ إِمكانَ خَطْفِ النُّفوسِ مِن يَدِهِ، لِكونِهِ هو أيضًا أَعظمَ مِن كُلِّ شيء. أمّا عبارةُ "ما مِن أَحَدٍ يَستطيعُ أَنْ يَختَطِفَ مِن يَدِ الآبِ شيئًا"، فَهِيَ مُقتَبَسَةٌ مِن نُبُوءَةِ أَشَعْيا: "مُنذُ اليَومِ أَنا هو، ولا مُنقِذَ مِن يَدي، أَفعَلُ، وَمَن يَرُدّ؟" (أَشَعْيا 43: 13). وَهِيَ تُشيرُ إِلى الآبِ الكُلِّيِّ القُدْرَةِ، الّذي هُوَ المَسؤولُ الأَخيرُ عَنِ الخِراف، وَهُوَ حَريصٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يَتَقَرَّبُ مِنه. يُلِحُّ يَسوعُ على عَظَمَةِ اللهِ الآب، الَّذي يَضمَنُ حَياةَ الاِبنِ الإلهي، وَحَياتَنا كأَبناءٍ لَه، مِن خِلالِ وَحدَتِهِم الحَقيقيَّة. فَهٰذهِ الوَحدَةُ بَينَ الآبِ وَالاِبنِ تَضمَنُ لَنا، كَخِرافٍ، الاِستِقرارَ وَالأَمان، إِذ لا يَستَطيعُ سارِقٌ أَو أَجيرٌ أَن يَختَطِفَ أَحَدًا مِنَّا، لأَنَّنا مَحفوظونَ في يَدِ الآبِ ذاتِه. لِذٰلِكَ، حينَما سَلَّمَنا الآبُ لِابنِهِ، استَودَعَنا كَإِخوَةٍ لِأَخينا البِكر، الَّذي وَهَبَ حَياتَهُ لِأَجلِنا بِقِيامَتِهِ. ويُعلِّقُ القِدّيسُ أَمبرُوسيوس قائلًا: "الخِرافُ الّتي تَسمَعُ صَوتَ المسيحِ، لَنْ يَقدِرَ أَحدٌ أَنْ يَخطَفَها مِن الآبِ، أَو مِن الِابنِ، أَو مِن الرّوحِ القُدُس". وكانَ يسوعُ أَوَّلَ مَنِ اختَبَرَ هذِهِ العَلاقَةَ مَعَ الآبِ، فَقَد سَلَّمَ حَياتَهُ لَهُ وَأَصغى إِلَيهِ. وَعَليهِ، لا يَجوزُ لِلخِرافِ أَنْ تَخافَ، مَهما كانَتِ الاضطِهاداتُ قاسيَة، فَحَياتُها بِيَدِ الله، وَهِيَ لا تَهلَكُ، بَل تُصبِحُ حَياةً أَبديَّةً. وَبِكَلِمَةٍ أُخرى، دَخَلَ التَّلاميذُ مَعَ المسيحِ فِي اتِّحادٍ وَثِيقٍ، لا تَستَطيعُ أَيَّةُ إِرادَةٍ فِي العالَمِ أَنْ تَفْصِلَهُم عَنه، لأَنَّهُ يُعطيهِم حَياةً أَبديَّةً، فَلَن يَهلِكوا إِلى الأَبَد (يوحنّا 10: 28). أمَّا عبارةُ "يَدِ الآبِ"، فَتُشيرُ إِلى القُوَّةِ؛ فَـقُوَّةُ الآبِ وَالِابنِ واحِدَةٌ. وَيَربِطُ يسوعُ بَيْنَ عَمَلِهِ وَعَمَلِ الآبِ لِيُظْهِرَ الوَحدَةَ بَيْنَهُما. وَيُعَلِّقُ القِدّيسُ يُوحنّا الذَّهَبِيُّ الفَم قائِلًا: "يَدُهُ وَيَدُ أَبيهِ واحِدَةٌ فِي القُدرَةِ، وَهُما مِن جَوهَرٍ واحِدٍ نَفسِهِ". وَفي الواقِعِ، وَرَدَ ذِكرُ كَلِمَةِ "يَد" مَرَّتَيْنِ فِي هَذا النَّصِّ الإِنجيليّ: يَدُ يسوع (يوحنّا 10: 28)، ويَدُ الآب (يوحنّا 10: 29). خِرافُ السَّيِّدِ المسيحِ هِيَ هِبَةٌ يَتَسَلَّمُها الِابنُ مِن يَدِ الآب، وَتَبقَى مَحفوظَةً فِي يَدِ الِابنِ كَما فِي يَدِ الآب، أَي مَحفوظَةً بِالرّوحِ القُدُس، رُوحِ المسيحِ وَرُوحِ الآبِ أَيْضًا. لِلمُؤمِنينَ إِذًا سَنَدان: عَظَمَةُ مَحبَّةِ المسيحِ لَهُم، وَعَظَمَةُ قُوَّةِ الآبِ المُحيطَةِ بِهِم. وَمِن هَذا المُنطَلَقِ، يَحمي يسوعُ بِيَدَيْهِ أَتباعَهُ، وَيَصُونُ الأَمانَةَ، مِن غَيْرِ أَنْ يَخسَرَ ما وَضَعَهُ الآبُ في يَدَيْهِ.
30 أَنا والآبُ واحِد
تُشيرُ عبارة "أَنا والآبُ واحِد"، في الأصل اليوناني: ἐγὼ καὶ ὁ πατὴρ ἕν ἐσμεν (ومعناها الحرفيّ: "أنا والآب نكونُ واحدًا") إِلى مُساواةِ يسوعَ الِابنِ مَعَ الآبِ في اللاهوت، كَما يُؤَكِّدُ القِدّيسُ أوغسطينوس. إِنَّ الآبَ وَالابنَ هُما طَبيعةٌ إِلهيَّةٌ واحِدَة، وَمِن هُنا، فَـعَمَلُ الفِداءِ وَالرِّعايَةِ وَالحِفظِ وَإِعطاءِ الحَياةِ الأَبديَّةِ يَكونُ مُتَكامِلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الآب.
الآبُ يُريد، والابنُ يُنَفِّذ، وَيَأتي بِالْمفْدَينَ بِدَمِهِ إِلى الآب. هُم رَعِيَّةُ الابن، وَالآبُ يَحفَظُهُم. الآبُ يَحفَظ، والمسيحُ يَحفَظ، نَحنُ في يَدِ المسيحِ كَما في يَدِ الآب، وَهذا تَعبيرٌ عَن وَحدةِ القُوَّةِ الإِلهيَّة؛ إِنَّها وَحدةُ حُبٍّ وَعَمَلٍ، كَما هي وَحدةُ جَوهَر. فَيُبيِّنُ يُوحنّا الإِنجيليّ من هُنا وَحدةَ الأُلوهَةِ من ناحِيَة، وَوَحدةَ الجَوهَرِ من ناحِيَةٍ أُخرى. وَأَمّا كَلِمَةُ "واحِد" (ἕν) في اليونانيَّة، فَـهِيَ صيغة للمُفرَد الحياديّ (ولَيس للمُذكّر)، وَتُشيرُ إِلى: طَبيعةٍ واحِدَة، وَجَوهَرٍ واحِد، حَيثُ لا يُوجَدُ انفِصالٌ لا في السُّلطانِ وَلا في الطَّبيعَة.
وَلِذلِكَ، فَـالابنُ لَيْسَ إِلَهًا آخَرَ. كَما قال: "جَميعُ ما هو لِلآبِ، فَهُوَ لي" (يوحنّا 16: 15)، ثُمَّ أَضاف: "أَنَّ الآبَ فيَّ، وَأَنِّي في الآب" (يوحنّا 14: 10). وَيُعَلِّقُ القِدّيسُ أَمبرُوسيوس قائِلًا: "إِنَّها وَحدةُ حُبٍّ وَعَمَلٍ، وَلهذا فَهِيَ وَحدةٌ فَريدَةٌ، لا يُمكِنُ لِخَليقَةٍ أَنْ تَبلُغَها، وإِنَّما هيَ المَثَلُ الأَعلى لِلوَحدةِ الّتي يَشتَهيها مَن يَلتَصِقُ بِالله وَيَتَّحِدُ مَعَه". وَوَحدةُ الآبِ وَالابنِ لا تَمنَعُ مِن التَّمييزِ بَيْنَهُما فِي الأُقنوميَّةِ وَالوَظيفَة: الآبُ هو الآب، ولا يَكونُ ابْنًا. والابنُ هو الابن، ولا يَكونُ آبًا.
لكِنَّ الطَّبيعَةَ واحِدَةٌ، لأَنَّ المولودَ شَبيهٌ لِوالِدِهِ، إِذ هُو صُورَتُه، وَ"كُلُّ ما هو لِلآبِ، فَهُوَ لِلابنِ" (يوحنّا 16: 16). كَلاهُما واحِدٌ فِي الذَّات، واحِدٌ فِي خُصوصِيَّةِ الطَّبيعَةِ وَفِي وَحدةِ الأُلوهَة. فَإِن تَساوي الأَعمالِ يَدُلُّ عَلى سُلطانٍ غَيرِ مُخْتَلِف، وَيُوحِي هَذا القَولُ بِوَحدةٍ مِن المَحبَّةِ المُتَبادَلةِ، النّاتِجَةِ عَنِ الاتِّحادِ الّذي يَجمَعُ الآبَ وَالابن، كَما أَعلَنَ يسوعُ في صَلاتِهِ الكَهنوتِيَّة: "لِيَكونوا واحِدًا كَما نَحنُ واحِد" (يوحنّا 17: 11، 22). وَلأَنَّ يَسوعَ يُشارِكُ الآبَ فِي قُدْرَتِهِ بِلَا حُدود (يوحنّا 5: 17-19)، يُمكنُه أَنْ يَحمِي خاصَّتَهُ حِمايَةً تَامَّة.
وَهذِهِ العِبارَةُ: "أَنا والآبُ واحِد" تَـدْحَضُ مَذهَبَ سَبليوس، وَمَذهَبَ أَريوس:
١. سبليوس (Sabelius) من القرنِ الثّالِثِ، قائلًا إنَّ الثَّالوثَ لَيسَ ثَلاثَةَ أُقنومٍ، بَل ثَلاثَةَ تَجلِّياتٍ لإلهٍ واحِدٍ مُنفَرِدِ الأُقنوم. فَـالآب = الخالِق، الابن = الفادي، الرّوح القُدُس = المُعزِّي. لَيسَت أَسماءَ أُقنومٍ بل مَظاهِر.
٢. أَريوس، القائل إِنَّ المسيحَ أَدْنَى مِن الآب، وَأَنَّه مَخلوق، لَيسَ أَزَلِيًّا.
وَيَعتَبِرُ القِدّيسُ أوغسطينوس أَنَّ: الفِعلَ اليونانيَّ: ἐσμεν ("نَكون")، يَدْحَضُ مَذهبَ سَبليوس.
اللّفظَةَ "ἕν" (واحِد، صيغَة جامِدة غير عاقلة)، تُفنِّد مَذهبَ أَريوس الّذي يَرفُض وَحدةَ الطَّبيعَةِ الإِلهيَّة.
وأمَّا اليَهود، فقد فَسَّروا هذِهِ الكَلِماتِ "أنا والآبُ واحِد" على أَنَّها ادِّعاءٌ لِلسُّلطانِ المُطلَق، فَأَرادوا أَنْ يَرجِموهُ (يوحنّا 10: 31) كَمُجَدِّفٍ بِدونِ أَيِّ مُحاكَمَة. ولَم يَستَطِعِ اليَهودُ أَنْ يُنْكِروا أَعمالَهُ، لَكِنَّهُم لَم يَحتَمِلوا كَلِماتِهِ، وَحَسِبوهُ قَد تَجاسَرَ وَساوى نَفْسَهُ بِالله، كَما جاءَ في تَصريحِهِم له: "لا نَرجُمُكَ لِلعَمَلِ الحَسَن، بَل لِلتَّجْديف، لأَنَّكَ، وأَنتَ إنْسان، تَجعَلُ نَفْسَكَ الله" (يوحنّا 10: 33). ولَكنَّ القِدّيسَ يوحنّا الإِنجيليّ يُؤَكِّدُ أَنَّ ذَبيحَةَ المسيحِ هِيَ مَوضوعُ مَحبَّةِ الآبِ لنا، وَأَنَّها ثَمَرَةُ المَحبَّةِ المُتَبادَلَةِ بَيْنَ الآبِ وَالابن. فَـالمَحبَّةُ الإِلهيَّةُ هِيَ سِمَةُ الثّالوثِ القُدّوس، وَلَيسَت خاصَّةً بِأُقنومٍ دُونَ آخَر. يُمكنُنا أَحيانًا أَنْ نَقول: "نَحنُ في اللهِ وَاللهُ فينا"، لأَنَّ اللهَ يَحتَوينا، وَنَحنُ صِرنا هَيكَلًا لله. لَكِن، هَل يُمكِنُنا أَنْ نَقول: "نَحنُ وَالآبُ واحِد"؟ كَلّا، إِنَّها امتيازُ الرّبِّ الَّذي يُساوي الآبَ. وَتَأتِي هذِهِ الآيَةُ كَـجَوابٍ عَلى سُؤالِ اليَهود: "حَتَّامَ تُدخِلُ الحَيرَةَ في نُفوسِنا؟ إِن كُنتَ المسيح، فَقُلهُ لَنا صَراحَةً" (يوحنّا 10: 24).
ثانِيًا: تَطْبيقاتُ النَّصِّ الإِنْجيليّ
اِنطِلاقًا مِن هذِهِ المُلاحَظاتِ الوَجيزَةِ حَوْلَ وِقائِعِ النَّصِّ الإِنجيليّ (يوحنّا 10: 27–30)، يُمكِنُ الاِستِنتاجُ أَنَّهُ يَتَمحوَرُ حَوْلَ خِطابِ سَيِّدِنا يَسوعَ المسيحِ كَراعٍ صالِحٍ، في عِيدِ تَجديدِ الهَيكلِ. وَقَد عَبَّرَ هذا الخِطابُ عَنِ العَلاقَةِ وَالمَعرِفَةِ وَالثِّقَةِ المُتبادَلَةِ بَيْنَ الرّاعي وَخِرافِهِ. وَمِن هُنا، نَبحَثُ في نُقطَتَيْنِ: مكانِ الخِطابِ وَمُناسَبَتِهِ، وموضوعِ الخِطابِ.
1) مكان الخطاب ومُناسَبَتُه
في فصلِ الشِّتاءِ، كان يسوعُ يَتمشّى في هيكلِ أُورَشَليم، تَحتَ رِواقِ سُلَيمان، وذلك في عيدِ تَجديدِ الهَيكل (يوحنّا 10: 22-23). هذا الهَيكَلُ الَّذي بَناهُ سُلَيْمانُ الـمَلِكُ إِكرامًا لِحِفظِ كَلِماتِ الرَّبِّ العَشر، وتَعبيرًا عَنِ الحُضورِ الإلهي في وَسَطِ الشَّعبِ مِن خِلالِ كَلِماتِهِ (راجِع: 1 ملوك 6: 1).
كانَ اليَهودُ في أواخِرِ كانونَ الأَوَّل يُحيونَ ذِكرى إِعادةِ بِنَاءِ الهَيكلِ وَتَدشينِهِ الجَديد، الّذي جاءَ عَلى أَثَرِ انتِصارِ يَهوذا المَكّابي على أنطيوخُس أَبيفانوس الرّابع، مَلِكِ الدَّولَةِ السِّلوقيَّة، سَنة 167 ق.م. (راجع 1 مكابيين 4: 36-59). فَقَد دَنَّسَ هذا المَلكُ الهَيكل، إِذ أَلزَمَ اليَهودَ بالعبادَةِ الوَثَنِيَّة، وَمَنَعَهُم مِن تَطْبيقِ الشَّريعَةِ اليَهوديَّة، كَـخِتانِ الأَطفال، وَحِفظِ السَّبت.
يُسمّى هذا العيد أيضًا "عيدَ تَجديدِ الهَيكل" أو "حانوكا" (חֲנֻכָּה)، وَمعناه "تَدشين". ويُشيرُ هذا الاسمُ إلى تَدشينِ الهَيكلِ مِن جَديد بَعدَ تَرميمِهِ عَلى يَدِ الحَشمونيّين، إِثرَ نَجاحِ ثَورَتِهِم ضِدَّ السِّلوقيّين (راجع 1 مكابيين 4: 51–57). وَقَد وَرَدَ هذا العيدُ أيضًا في كتاب "تاريخِ اليَهود" لِلمُؤَرِّخِ اليَهوديّ الرُّوماني يوسيفوس فلافيوس (الفصل 12). ولا يُحتفَلُ بهذا العيدِ في أُورَشَليمَ فَقط كَـعيدِ الفِصْحِ (פסח)، وَعِيدِ المِظالّ (סֻכּוֹת)، وَعِيدِ الأَسَابِيع (שָׁבוּעוֹת)، بَل يُحتفَلُ بِهِ أَيْضًا في كُلِّ مَكان. ويُعرَفُ هذا العيدُ أيضًا بِـ"عيدِ الأَنوار" (חג האורים)، لِكَثرَةِ استِعمالِ الإِنارَةِ فيه.
يَستَمِرُّ هذا العيدُ ثَمانِيَةَ أَيّام، وتُوقَدُ في مَساءِ كُلِّ يَومٍ شَمعَةٌ في شَمعدانٍ خُصِّصَ لِهذا الغَرَض. يُضيءُ المُؤمِنونَ شَمعَةً واحِدَةً في اليومِ الأَوّل، ثُمَّ شَمعَةً ثانيَةً في مساءِ اليومِ الثّاني، وهَكذا حتّى تَكتَمِلَ إِضاءَةُ الشُّموعِ الثَّمانِيَة. ويُضيفُ التَّلمودُ شَرحًا لِعَدَدِ أَيّامِ العيد، قائِلًا إِنَّها تُشيرُ إلى مُعجِزَةٍ حدثَت لِلحَشمونيّين عِندَ تَدشينِ الهَيكل، فَـلَم يَبقَ فِيهِ ما يَكفي مِن الزَّيتِ الطّاهِرِ لِإِيقادِ الشَّمعدانِ المُقدَّس. وَبِرَغمِ ذلِك، فَإِنَّه أَنارَ الهَيكلَ ثَمانِيَةَ أَيّام بِالكَميَّةِ القَليلَةِ المُتَبَقِّيَةِ، حتّى تمَّ تَحضيرُ الزَّيتِ الجَديد.
فيما كانَ اليَهودُ يَحتَفِلونَ بِعيدِ تَقديسِ الهَيكلِ وَتَكريسِهِ (يوحنّا 10: 22)، أَعلَنَ يَسوعُ المسيح لَهُم أَنَّهُ هُوَ الّذي كَرَّسَهُ الآبُ وَأَرسَلَهُ إِلى العالَم، كَـراعٍ صالِح، جَاءَ إِلى بَيتِهِ وَبَيتِ أَبيه، أَي الهَيكل، لِيَخدِمَ كُلَّ نَفْسٍ تَطلُبُهُ وَيَفتَديها بِـحَياتِهِ.
2) مَوضُوع الخطَاب
أمّا خطابُ يسوعَ، فيتناولُ مَلامِحَ الرّاعي الصّالِح، مُبيِّنًا العَلاقةَ، وَالمَعرِفَةَ، وَالثِّقَةَ المُتَبادَلَة بين الرّاعي وَخِرافِهِ المُؤمِنين.
أ) الرّاعي وَخِرافِه
العَلاقةُ بينَ الرّاعي وَخِرافِهِ مألوفَةٌ فِي الشَّرقِ القَديم، إِذ إِنَّها تَرقى إِلى عَهدِ البَداوَةِ عِندَ الشَّعبِ العِبرانيّ (التَّكوين 13: 2–5). كانَ الرّاعي يَذهَبُ إِلى الحَظيرَةِ في الصّباح، وَيَدعو خِرافَهُ الّتي تَعرِفُ صَوتَهُ وَتَتبَعُهُ. أَمّا الصَّوتُ الغَريبُ، فلا تَعرِفُهُ (يوحنّا 10: 2–5). يَقودُها إِلى المَرعَى، وَيَقضي مَعَها النَّهارَ كُلَّهُ، وَفِي بَعضِ الأَحيانِ اللّيلَ أَيضًا (التَّكوين 31: 4)، وَيَحرُسُها مِنَ الوُحوشِ وَاللُّصوص (1 صموئيل 17: 34). وَيَردُّ الضّالَّ (لوقا 15: 4). يَعنِي خَاصَّةً بِالصِّغارِ وَالضُّعفاء، فَـيُقَوِّي الضَّعيفَة، وَيَداوي المَريضَة، وَيَجبُر المَكسورَة، وَيَردُّ الشّارِدَة، وَيَبحَثُ عنِ الضّالَّة (حِزقيال 34: 4).
يَقَظَةِ الرّاعي: فلسطينُ أَرضُ تِلالٍ وَمَناطِقَ وَعِرَة، تَنتَشِرُ فِيها الوُحوشُ، لِذلِكَ تَحتَاجُ إِلى يَقَظَةِ الرّاعي نهارًا وليلًا، وَنوباتِ الحِراسَةِ لا تَنقَطِع، كَما يُؤَكِّد الإِنجيل: "رُعاةٌ يَبيتونَ في البَرِّيَّة، يَتناوَبونَ السَّهَرَ في اللَّيلِ على رَعِيَّتِهم" (لوقا 2: 8). ولأنَّ الماءَ قَليلٌ في فِلسطين، كانَ الرُّعاةُ يَأخُذونَ خِرافَهُم لِلماءِ، وَيَضعُونَ حَجَرًا في طَريقِ المياهِ الجَارِيَةِ لِيُهدِّئوا سُرعَتَها، فَتَشرَبَ الخِرافُ، وَتُسَمّى هذِهِ المِيَاه: "مِياهَ الرّاحَة" (مزمور 23: 2).
أدوات الرَّاعي: العَصا وَالعُكّاز:
العَصا: لَراعي عَصا طَويلَة لِقيادَةِ الغَنَمِ وَجَمعِها وَالدِّفاعِ عَنهُم وَتَأديبِ العُصاةِ (مزمور 23: 4). وتُستَخدَمُ لِطَردِ الوُحوش أيضًا
العُكّاز: عَصا طَويلَة مَثنيَّة في نِهايَتِها، يُستَخدَمُ لِرَدِّ الخَروفِ الضّال، وَيَمرِّر الرّاعي خِرافَهُ مِن تَحتِها لإحْصَائها مَساءً. وَإِن ضَلَّ خَروفٌ، يَذهَبُ وَرَاءَهُ وَيَرُدُّهُ (متى 18: 12–14).
صُورة الرّاعي: في العَهدِ القَديم، كانت وظيفَةُ الرّاعي من أَرقى الوَظائِف، فَـمِنها اختارَ اللهُ الملوكَ وَالكَهنَة وَأَشهرَ الأَنبياءِ. وَلِذلِكَ تَستَعمِلُ الكَنيسَةُ هذِهِ الصُّورَةَ لأَسقُفِها وَكَهَنَتِها، لأَنَّهُم رُعاةٌ لِلرَّعِيَّة. في الواقع، تُعتَبر صُورَةُ الرّاعي مِن أَغنَى تَعبيراتِ العَهدِ بَيْنَ اللهِ وَشَعبِهِ: "الرَّبُّ راعِيَّ، فلا يُعوِزُني شَيء" (مزمور 23: 1)،
"فَإِنَّهُ هُوَ إِلهُنا، وَنَحنُ شَعبُ مَرْعاه، وَغَنَمُ يَدِهِ" (مزمور 95: 7). يَدعونا صاحِبُ المزاميرِ إلى التَّعَرُّفِ على حَقيقةِ الرَّبِّ إلهِنا كراعٍ لَنا.فَـاللهُ هُوَ راعِي إِسرائيل، وَهذا المِثَالُ الأَعلى تَحقّقَ فِي المسيح، الّذي نَسَبَ إِلى نَفسِهِ صُورَةَ الرّاعي (يوحنّا 10: 1–18)، الّذي يَبحَثُ عنِ الخَروفِ الضّال (متى 18: 12)، وَيَتَفَقَّدُ شَعبَه لأَنَّهُم "كغَنَمٍ لا راعِيَ لَها" (متى 9: 36).
إِنَّ استِعارَةَ "الرّاعي" تُعبِّرُ عن ناحِيَتَينِ من السُّلطة: قائِدٌ ورَفيقٌ. فَهُوَ يُقودُ (إرميا 23: 3)، يَجمَعُ (ميخا 4: 6)، يُعيدُ إلى المَرعى (إرميا 50: 19)، يَحفَظ (إرميا 31: 10). هو رَجُلٌ قَوِيّ، وَيَحمِلُ بِرِقَّة، وَيَعرف وَجوهَ خِرافِهِ (أمثال 27: 23)، وَيَتكَيَّفُ مَعَ حالِها (تكوين 33: 13–14)، وَيَحمِلُها عَلَى ذِراعَيه (أشعيا 40: 11).
وَصَفَ اللهُ عَلاقَةَ العَهدِ مَعَ شَعبِهِ بِصُورَةِ الرّاعي (مزمور 80: 1؛ 100: 3)، وَدَعا داودَ، الّذي رَعى قَطيعَ أَبيه، لِيَكون الملكَ المَمسوحَ وَالراعِيَ لِشَعبِهِ (حزقيال 37: 24). وأَطلَقَ يَسوعُ، المَسيحُ المَمسوحُ وَالمَلكُ مِن نَسلِ داود، عَلَى نَفْسِهِ لَقبَ الرّاعي الصّالِح (يوحنّا 10: 29). وكَلِمَةُ "صالِح" فِي أَصلِها اليونانيّ καλός تَعني: جَميل، طَيّب، صالِح، مَحبوب. فَهُوَ يُحِبُّ خِرافَهُ بِحُبٍّ شَديد، وَيَبذُل نَفسَهُ عَنهُم، وَهُم يَعرِفونَهُ وَيُحِبّونَهُ. فَـ"الرّاعي الصّالِحُ يَبذُلُ نَفسَهُ في سَبيلِ الخِراف" (يوحنّا 10: 12). يَبذُلُ نَفسَهُ حَتّى المَوت، لِيَحيا تَلاميذُهُ (يوحنّا 11: 50–52).
البُعدٌ اللاهوتِيّ لصُورة الرَّاعي: عبارَة "أَنا هُوَ الرّاعي" لَها بُعدٌ لاهوتِيّ، لا تَفسيرِيّ فَقط، فَهِيَ تَرتَبِطُ بِعِبارَة "أَنا هُوَ" (خروج 3: 14)، الّتي اسْتَخدمَها اللهُ فِي العَهدِ القَديم لِيَكشِفَ نَفسَهُ لِلشَّعبِ. فَالمسيحُ يَلتَزِمُ تِجاهَ خِرافِهِ، وَتِجاهَ الآبِ الّذي عَهِدَ إِلَيهِ بِهِم (يوحنّا 10: 29). يَسوعُ يَجمَعُ حَولَهُ "القَطيعَ الصَّغير" (لوقا 12: 32)، وَالنِّعاجَ المُشتَّتَة مِن حَظيرَةِ إِسرائيل وَالأُمَم (يوحنّا 10: 16)، فَيُصبِحُ القَطيعُ واحِدًا، مُتَّحِدًا، مَحفوظًا بِمَحبَّةِ الآبِ وَمَحفوظًا لِلحَياةِ الأَبديَّة (يوحنّا 10: 27–30). وأَخيرًا، يَسوعُ هُوَ الرّاعيُ المُثالي، لأَنَّهُ يَبذُلُ نَفسَهُ عَنِ الخِراف (يوحنّا 10: 15، 17–18)، وَيُخرِجُها إِلى "مَرعًى صالِحٍ" (يوحنّا 10: 11). الرّاعي صارَ حَمَلًا، وَسَمَحَ بِأَنْ يُصبِحَ ذَبيحَةً، لِيَحمِلَ خَطيئَةَ العالَمِ وَيَرفَعَها. وَهكَذا مَنَحَنا الحَياة. يَسوعُ هُوَ "الرّاعي الواحِد" (حزقيال 34: 23)، فَهو المُخلِّص، السَّيِّد، المُعطِي، كَما صَرَّح: "أَنا أَتيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنّاسِ وَتَفيضَ فيهِم" (يوحنّا 10: 10). وَبِكَلمَةٍ أُخرى، إِنَّ صُورَةَ الرّاعي تُشِيرُ إِلى عَلاقَةٍ وَثيقَة، يُريدُ يَسوعُ أَنْ يُقيمَها مَعَ كُلِّ واحِدٍ مِنَّا.إِذًا، فَـسُلطَتُهُ مُؤَسَّسَةٌ على البَذلِ وَالمَحبَّةِ وَالحَياة. وَفِي إِنجيلِ يوحنّا، الحَياةُ هِيَ مُختَصَرُ كُلِّ الخَيْرات. وَلِكَي يُوفِّرَ هذِهِ الخَيْرات، لا يَتَردَّدُ في التَّضحيَةِ بِحَياتِهِ.
وَبِصُورَةٍ خِتامِيَّة، إِنَّ المسيحَ هُوَ: الرّاعي، القُدوَة، المُخلِّص، المُعَلِّم، والصَّديق، والذّبيح، وَهُوَ المَسؤولُ الَّذي لا يَخونُ عَهْدَه. الرّعايةُ على خُطَى الرّاعي الصّالِح هِيَ مَسؤُولِيَّةٌ مُشتَرَكَة يَحمِلُها كُلُّ واحِدٍ حَسَبَ مَهمّتِهِ وَدَورِهِ. كَما قِيلَ: "كُلُّكُم راعٍ وَكُلُّكُم مَسؤولٌ عَن رَعِيَّتِهِ...". فَالرّاعِي يُحِبّ، يُضحِّي، يُعطي، وَلَو بِحَياتِهِ، عَلى مِثالِ الرّاعي الصّالِح يَسوعَ المسيح.
ب) العلاقة بين الراعي وخراف
1) المَعرِفَة
المَعرِفَةُ في مَفهومِ الكتابِ المُقَدَّسِ تُفيدُ عَلاقَةً وُجوديَّةً فِي اختِبارِ الحَياةِ أَكثَرَ مِن أَن تَكونَ في إِطارٍ عِلميٍّ نَظَرِيّ؛ وَبِهَذا المَعنى نَعرِفُ الأَلَمَ (أشعيا 53: 3)، والخَطيئَةَ (حِكمَة 3: 13)، والحَربَ (قُضاة 3: 1)، والسَّلامَ (أشعيا 59: 8)، والخَيرَ وَالشَّرَّ (التَّكوين 2: 9).
وَأمّا مَعرِفَةُ شَخصٍ ما فَتَعني الدُّخولَ فِي عَلاقاتٍ شَخصيّةٍ مَعه، تُؤَدّي إِلى التَّضامُنِ وَالأُلفَة. فَـالمَعرِفَةُ تَعني الحُضورَ الحَميمَ بَيْنَ شَخصَين (كَالزَّواج)، وَكَذلِكَ تَعني الاستِقبالَ وَالثِّقَةَ المُتَبادَلَينِ، وَالتَّشارُكَ فِي القَلبِ وَالأَفكارِ.
المَسيحُ لا يَتَردَّدُ فِي مَعرِفَتِهِ لِخِرافِهِ: بقوله: "وأَنا أَعرِفُها، وَهي تَتبَعُني (يوحنّا 10: 27). فَهُوَ يَعرِفُ خاصَّتَهُ، يَتَطَلَّعُ إِليهم بِعَيني الحُبِّ وَالاهتِمامِ الرَّعَوِيّ، يَعرِفُهُم، وَيَبذُلُ نَفسَهُ عَنهُم بِكُلِّ سُرور، كَما يَقولُ يُوحنّا الإِنجيليّ: "أَحَبَّنا قَبلَ أَن نُحِبَّه" (1 يوحنّا 4: 19)، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ بولسُ الرَّسول: "أمّا الآن، وَقَد عَرَفتُمُ الله، بَل عَرَفَكُمُ الله" (غَلاطِيَّة 4: 9). يُشبِّهُ المَسيحُ مَعرِفَتَهُ لِخِرافِهِ بِـمَعرِفَتِهِ لِأَبيه: "أَعرِفُ خِرافي، وَخِرافي تَعرِفُني، كَما أَنَّ أَبي يَعرِفُني، وَأَنا أَعرِفُ أَبي" (يوحنّا 10: 15). فَهذِهِ المَعرِفَةُ أَو الاتِّحادُ تَعني حُضورَ الواحِدِ فِي الآخَرِ، حُضورًا رُوحيًّا:"أَنَّ الآبَ فيَّ، وَأَنِّي في الآب" (يوحنّا 10: 38).
يُقَدِّمُ لنا إِنجيلُ يُوحنّا المَعرِفَةَ الفَريدَةَ المُتَبادَلَةَ بَينَ الآبِ وَالابن، كَعَلامَةٍ عَلى: وَحدةِ الفِكر، وَوَحدةِ الإِرادَة، وَوَحدةِ العَمَل، مَعَ وَحدةِ الجَوهَرِ الإِلهيّ، كَمِثالٍ لِلمَعرِفَةِ بَينَهُ وَبَينَنا كَخاصَّتِهِ، الّتي تَجِدُ أَبَدِيَّتَها فِي قَبولِ مَشيئَتِهِ، وَقُوَّتِهِ، وَالعَملِ مَعَهُ وَفِيه.
يُحدِّدُ يُوحنّا الإِنجيليّ مَراحِلَ هذِهِ المَعرِفَة: عَلَى التَّلاميذِ أَن يَدعوا الآب، لِيُعَلِّمَهُم وَيَجذِبَهُم نَحوَ يَسوع (يوحنّا 6: 44–45). فَيَسوعُ يَعرِفُهُم، وَهُم يَعرِفونَه (يوحنّا 10: 14). وَيَسوعُ يَقودُهُم نَحوَ الآب (يوحنّا 14: 6). لَكِن كُلَّ ما يَقولُهُ يَسوعُ وَيَفعَلُهُ يَبقَى لُغزًا (يوحنّا 16: 25)، حتّى يرتَفِعَ عَلَى عُودِ الصَّليب (يوحنّا 8: 28). وَهُوَ وَحدَهُ مَن يَنالُ لِلتَّلاميذِ هِبَةَ الرّوحِ القُدُس (يوحنّا 7: 39). وَهذا الرّوحُ يَكشِفُ لَهُم كُلَّ ما تَرمِي إِلَيهِ كَلِماتُ يَسوع وَأَعمالُهُ (يوحنّا 14: 26)، وَيَقودُهُم إِلى مَعرِفَةِ الحَقِّ كُلِّه (يوحنّا 16: 13). يَعرِفُ التَّلاميذُ يَسوعَ عَلى هذا النَّحو، وَبِـيَسوعَ يَعرِفونَ الآب (يوحنّا 14: 7، 20). وَلِذلِكَ، تَقومُ عَلاقَةٌ جَديدَةٌ مَعَ الله: "إِنَّ ابنَ اللهِ أَتى، وَأَنَّهُ أَعطانا بَصيرَةً لِنَعرِفَ بِها الحَقّ. نَحنُ فِي الحَقِّ" (1 يوحنّا 5: 20).
الحَياةُ الأَبديَّةُ هي فِي جوهرِها مَعرِفَةٌ، كما قال يسوع: "الحَياةُ الأَبديَّةُ هي أَن يَعرِفوكَ أَنتَ الإِلهَ الحَقَّ وَحدَكَ، وَيَعرِفوا الّذي أَرسَلتَهُ، يَسوعَ المسيح" (يوحنّا 17: 3). وَهي مَعرِفَةٌ مُباشِرَة، "فلَيسَ بِكُم حاجَةٌ إِلى مَن يُعَلِّمُكُم" (1 يوحنّا 2: 27). وَهذِهِ المَعرِفَةُ تَتَضَمَّن قُدرَةً على التَّمييز (1 يوحنّا 2: 3–5). إِذًا، مَعرِفَةُ اللهِ هذِهِ، بِكُلِّ مَعناها العَميقِ، تَستَحقُّ أَنْ تُسمّى "المُشارَكَة": "ذاكَ الَّذي رَأَيناهُ وَسَمِعناه، نُبَشِّرُكم بِهِ أَنتُم أَيضًا، لِتَكونَ لَكُم أَيضًا مُشارَكَةٌ مَعَنا. وَمُشارَكَتُنا هِيَ مُشارَكَةٌ لِلآبِ وَلابنِهِ يَسوعَ المسيح" (1 يوحنّا 1: 3). فَـهِيَ مُشارَكَةٌ فِي نَفسِ الحَياةِ الواحِدَة (يوحنّا 14: 19–20)، وَوَحدةٌ كامِلَةٌ فِي حَقيقَةِ المَحبَّة (يوحنّا 17: 26). وهُنا نَتساءَل: هَل هُناك مَعرِفَةٌ مُتَبادَلَةٌ بَينَ الرّاعي وَالرَّعِيَّة؟ هَل هُناك تَفاهُمٌ؟ هَل تُوجَدُ لُغَةٌ مُشتَرَكَة؟ أَم أَنَّ "الرّاعيَ فِي وادٍ، وَالرَّعِيَّةَ فِي وادٍ"؟
2) الثِّقَة
بِناءً على المَعرِفَةِ المُتَبادَلَة بَينَ الرّاعي وَخِرافِهِ، يَنتُجُ رِباطٌ وَثيقٌ بَينَهُم، كَما يُؤَكِّدُ يَسوع: "أَنا الرَّاعيُ الصَّالِحُ، أَعرِفُ خِرافي، وَخِرافي تَعرِفُني" (يوحنّا 10: 15). وَالمَعرِفَةُ هُنا تَعني الثِّقَةَ وَالشُّعورَ بِالاِرتِباطِ المُتَبادَلِ فِي الرِّضى وَالمَحبَّة. يُقيمُ يَسوعُ على هذِهِ المَعرِفَةِ المُتَبادَلَة بَينَ الرّاعي وَالخِرافِ (يوحنّا 10: 3–4) حَياةً جَديدةً، مَبنيَّةً عَلى المحبَّةِ المُتَبادَلَة، الّتي تُوحِّدُ بَينَ الآبِ وَالابن، كَما أَعلَنَ يَسوع: "إِنَّكم في ذلِكَ اليَومِ تَعرِفونَ أَنِّي في أَبي، وَأَنَّكم فِيَّ، وَأَنِّي فِيكُم" (يوحنّا 14: 20).
كَشَفَ الرّاعي الصَّالِحُ عن قُوَّتِهِ في حِمايَةِ الخِرافِ وَالحِفاظِ عَلَيها بِقَولِهِ: "لا يَختَطِفُها أَحَدٌ مِن يَدي" (يوحنّا 10: 28). لِذَلِكَ، تَقدِرُ الخِرافُ أَن تَتَّكِلَ عَلَيهِ كُلَّ الثِّقَة، فَلا خَوفَ عَلَى المُؤمِنينَ مِن أَيَّةِ قُوَّةٍ أَرضِيَّة. وَيَعِدُ الرَّبُّ الأَتقياءَ: "مِنَ الظُّلْمِ وَالعُنفِ يَفتَدي نُفوسَهُم، وَدَمُهُم في عَينَيهِ ثَمينٌ" (مزمور 72: 14). وَلِذَلِكَ يَقولُ الرَّاعِي الصَّالِح:"إِنَّ خِرافي تُصْغي إِلى صَوتي، وَأَنا أَعرِفُها، وَهي تَتبَعُني" (يوحنّا 10: 27). فَهِيَ تَخصُّ الرَّاعي، وَتَسمَعُ نِداءَه، وَبِذَلِكَ تَنالُ الحَياةَ الأَبديَّة كَما وَعَدَهُم يَسوع: "وأَنا أَهَبُ لَها الحَياةَ الأَبديَّة، فلا تَهلِكُ أَبَدًا، وَلا يَختَطِفُها أَحَدٌ مِن يَدي" (يوحنّا 10: 28).
قَطيعُ السَّيِّدِ المَسيحِ هُوَ هِبَةٌ تَسلَّمَها الاِبنُ مِن يَدِ الآب، وَيَبقَى مَحفوظًا في يَدِ الاِبن. وَيُؤَكِّدُ الرَّاعي الصَّالِحُ ضَمانَ المُؤمِنينَ ضَمانًا أَبَدِيًّا: "أنا أَهَبُ لَها الحَياةَ الأَبديَّة، فلا تَهلِكُ أَبَدًا، وَلا يَختَطِفُها أَحَدٌ مِن يَدي.
إِنَّ أَبي الَّذي وَهَبَها لي، أَعظَمُ مِن كُلِّ مَوجود. ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَختَطِفَ مِن يَدِ الآبِ شَيئًا. "أَنا وَالآبُ واحِد" (يوحنّا 10: 27–30).
3) الإِصغاء
فِي عالَمٍ يَضِجُّ بِالضَّجيجِ وَالتَّشْويشِ، تُصْبِحُ نِعْمَةُ الإِصْغاءِ مِن أَنْدَرِ الفَضائِلِ، لَكِنَّها فِي نَظَرِ اللهِ مِفْتاحُ الطَّرِيقِ إِلَيْهِ. فَالإِصْغاءُ لَيْسَ مَجَرَّدَ سَماعٍ، بَل هُوَ اِنْفِتاحُ القَلْبِ عَلى صَوْتِ الرَّبِّ، وَاسْتِعْدادُ النَّفْسِ لِقَبولِ مَشِيئَتِهِ وَالعَمَلِ بِها.
"كُلَّما أَصغى الإِنسانُ، كُلَّما ازدادَ اتِّباعُهُ لِلهِ"، لِأَنَّ مَن يُصْغي يَتَعَرَّفْ، وَمَن يَتَعَرَّفْ يُحِبَّ، وَمَن يُحِبَّ يَتْبَعْ. هَكَذا كانَتْ حَياةُ القِدِّيسِينَ، وَهَكَذا كانَ تَلاميذُ يَسوعَ: بُسَطاءَ فِي القَلْبِ، يَقِظِينَ فِي الرُّوحِ، مُنْصِتِينَ لِلكَلِمَةِ الَّتِي تُحْيِي. فَكَما يَقولُ الكِتابُ: "تَكَلَّمْ يا رَبُّ، فَعَبْدُكَ سامِعٌ" (1 صموئيل 3: 9)، هَكَذا يَنْبَغِي لِكُلِّ واحِدٍ مِنَّا أَنْ يَعيشَ حالَةَ الإِصْغاءِ الدّائِمِ، لِأَنَّ اللهَ لا يَكُفُّ عَنْ مُخاطَبَةِ القُلُوبِ الصّادِقَةِ.
يُقَدِّمُ السَّيِّدُ المَسيحُ عَلاماتٍ مُميَّزَةً لِخِرافِهِ، فَهِيَ تَسمَعُ صَوتَهُ كَراعٍ لَها، وَتَعرِفُ صَوتَ حُبِّهِ وَاهتِمامِهِ، وَتَتبَعُهُ:
"إِنَّ خِرافي تُصْغي إلى صَوتي، وأَنا أَعرِفُها، وَهيَ تَتبَعُني" (يوحنّا 10: 27). وَالصَّوتُ الَّذي تَسمَعُهُ هُوَ قَولُهُ: "تَعالَوا إِليَّ جَميعًا" (متى 11: 28)، "توبوا" (مرقس 1: 15)، "فآمِنوا بي" (يوحنّا 14: 1)، "تَكونونَ لي شُهودًا" (أعمال 1: 8)، "فاذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم" (متى 28: 19).
خِرافُهُ تُطِيعُهُ، وَتُؤمِنُ (يوحنّا 3: 21–36)، وَتَتَلَمَذُ لِلرّاعي الصَّالِح (يوحنّا 6: 45)، وَتُرافِقُهُ وَتَصحَبُهُ حَيثُما سارَ (رؤيا 7: 17)، وَتَسيرُ فِي نُورِهِ وَعَلى خُطاهُ (يوحنّا 8: 12). لِأَنَّ صَوتَهُ لا يُخدَعُ بِهِ، وَكَلِمَتَهُ هِيَ كَلِمَةُ الاِبنِ الّذي جَعَلَ الآبُ كُلَّ شَيءٍ في يَدِهِ (يوحنّا 10: 29). وَتَتَأهَّلُ أَن تَكونَ مَوضِعَ مَعرِفَتِهِ، كَما يَقولُ الرَّسُول: "إِنَّ الرَّبَّ يَعرِفُ الَّذينَ لَه" (2 طيموتاوس 2: 19). ما مِن أَحَدٍ يُمكِنُهُ أَن يَقولَ إِنَّهُ يَتبَعُ يَسوع، إِن لَم يَكُن يُصغي إلى صَوتِهِ. وَهذَا "الإِصغاءُ" لَيسَ أَمرًا سَطحِيًّا، بَل يُلزِمُ الإنسانَ، إِلى دَرَجَةٍ يُوَلِّدُ مِنهُ اتِّباعًا سَخيًّا، يُعبِّرُ عَنهُ بِالكَلِماتِ: "وَهيَ تَتبَعُني" (يوحنّا 10: 27). وَالإِصغاءُ لا يَعتمِدُ عَلى الأُذُنَين، بَل إِصغاءُ القَلب! كُلَّما أَصغى الإِنسانُ، كُلَّما ازدادَ اتِّباعُهُ لِلهِ." لا يَكونُ النّاسُ لِلمَسيحِ خِرافًا، إِلّا بِمِقدارِ ما يُصغونَ إِلَيه، وَيُؤمِنونَ بِهِ راعيًا، وَيَتَّبِعونهُ، وَيَتَمَتَّعونَ مَعَهُ بِحَياتِهِ، وَهُوَ يَهَبُهُمُ الحَياةَ الأَبديَّة. وَالخراف َ تَميِّزُ صَوتَهُ مِن بَينِ الأَصواتِ كُلِّها:
صَوتُ الرّاعي، مِن صَوتِ السّارِقِ الّذي يُريدُ الضَّرَرَ وَالذَّبْحَ وَالإِهلَاك: "السّارِقُ لا يَأتي إِلّا لِيَسرِقَ وَيَذبَحَ وَيُهلِكَ" (يوحنّا 10: 10)، الّذي تَنبَّأَ عَنهُ إِرميا النَّبيّ: "وَيلٌ لِلرُّعاةِ الَّذينَ يُبيدونَ وَيُشَتِّتونَ غَنَمَ رَعِيَّتي، يَقولُ الرَّبّ" (إِرميا 23: 1).
مِن صَوتِ الغَريبِ الّذي لا يُهِمُّهُ أَمرُ الخِراف، وَتَعرِفُ القَطيعُ صاحِبَهُ، فَيَلتَصِقُ بِهِ، أَمّا صَوتُ الغُرَباءِ فَيَهرُبُ القَطيعُ مِنهُم، كَما قِيلَ: "عَرَفَ الثّورُ مالِكَه" (أشعيا 1: 3).
مِن صَوتِ الأَجيرِ الّذي يَشتَغِلُ لِأَجلِ أُجرَةٍ، وَيُوازِي بَينَ اهتِمامِهِ بِالخِرافِ وَالأُجرَةِ، فَيُفَضِّلُ مَنفَعَتَهُ عَلى خِدمَتِهِ وَمَحبَّتِهِ لِرَعِيَّتِهِ (يوحنّا 10: 12). فَهُوَ يَأخُذُ أُجرَةً، وَيَطلُبُ دَومًا مَا هُوَ لِسَلامِهِ، غَيرَ مُبالٍ بِالخِراف، وَلَيسَ مُستَعِدًّا أَن يَموتَ مِن أَجلِها. وَلَو ظَهَرَ خَطرٌ مُفاجِئٌ كَظهورِ ذِئب، يَهرُبُ لِيَنجُو بِنَفسِهِ. وَالأَجيرُ يَرعَى نَفسَهُ لا الغَنَمَ، كَما جَاءَ في تَنبُّؤاتِ حِزقيال (حِزقيال 34: 4).
يَصِفُ بولُس الرَّسولُ الأَجيرَ أَنَّهُ: "يَطلُبُ ما هو لِنَفسِهِ، لا ما هو ليسوعَ المسيح" (فيلِبّي 2: 21). أمّا الرّاعي الصَّالِح، فَيَعمَلُ مَجّانًا، كَما أَمَرَ الرَّبُّ: "خَذتُم مَجَّانًا، فَمَجَّانًا أَعطوا "(متى 10: 8)، وَيَطلُبُ ما هُوَ لِلخِراف، لا لِنَفسِهِ، كَما جَاءَ في تَعليمِ بولس: "لا يَسْعَيَنَّ أَحَدٌ إِلى مَنفَعَتِهِ، بَل إِلى مَنفَعَةِ غَيرِهِ" (1 قورنتس 10: 24). وَيُضَحِّي بِنَفسِهِ لِإِنقاذِ خِرافِهِ، لِأَنَّهُم خاصَّتُهُ. إِنَّهُ يَجعَلُ نَفسَهُ مِنهُم، وَكُلُّ ما يُصيبُهُم يُصيبُهُ، وَيَظهَرُ الفارِقُ وَاضِحًا بَينَ الرّاعي المُهتَمِّ وَالأُجَراء؛ أَي بَينَ السَّيِّدِ المَسيحِ الَّذي يَشتاقُ إِلى خَلاصِ البَشَرِيَّة، وَالفَرِّيسِيّينَ الَّذينَ يَهمُّهُم سُلطانُهُم وَكَرَامَتُهُم (راجع يوحنّا 9: 1–4). فَالمَسيحُ قَد تَبَنّانا وَتَضامَنَ مَعَنا إِلى هذِهِ الدَّرَجَة. وَيُعَلِّقُ القِدّيس أُوغسطينوس: "إِن وَجَدنا هذِهِ الشَّخْصِيّاتِ الثَّلاث: الرّاعي، وَالأَجير، وَاللِّص، نَجِد مَن يَليقُ بِنا أَن نُحبَّه، وَمَن يَجِبُ عَلَينا أَن نَحتَمِلَه، وَمَن يَلزَمُنا الحَذَرُ مِنه. فَالرّاعي يُحب، وَالأَجير يُحتَمَل، وَاللِّص يُحذَرُ مِنه".
لا خِلافَ حَولَ يَسوعَ "رَاعي الخِرافِ العَظيم"، وَلَكِن أَحيانًا المُشكِلَةُ في "رُعاةِ" الشَّعب، إِذ يَتَأَرْجَحُ بَعضُنا بَينَ الرّاعي وَالأَجير وَالذِّئب! أَرادَ يَسوعُ أَن يَجعَلَ رُسُلَهُ رُعاةً بَعدَهُ، وَنُوّابًا عَنه، مَعَ مَعرِفَتِهِ لِنَوائِبَ سَتَحصُل، بِسَبَبِ "هَشاشَةِ الطَّبِيعَةِ البَشَرِيَّة". وَيُنهِي يَسوعُ خُطبَتَهُ بِإِظهارِ وَلائِهِ لِلآب، المَصدرِ الأَوَّلِ لِعَمَلِ الخَلاص: "وَهذَا الأَمرُ تَلَقَّيتُهُ مِن أَبي" (يوحنّا 10: 19). وَخِلاصَةُ القَول: فَإِنَّ مَجدَ يَسوعَ الرّاعي الصّالِح، يَقومُ بِإِظهارِ الآبِ لِلنّاس، وَبِواسِطَتِهِ يَبرُزُ حُبُّ الآبِ لِلبَشَر. فَلْنَطْلُبْ اليَوْمَ مِنَ الرَّبِّ قَلْبًا مُصْغِيًا، وَأُذُنًا تُـمَيِّزُ هَمَساتِ رُوحِهِ القُدُّوسِ، وَإِرادَةً تَسيرُ بِثَباتٍ فِي دَرْبِ اتِّباعِهِ، مَهْما كانَتِ الصُّعُوباتُ. يا رَبَّ، هَبْ لَنا نِعْمَةَ الإِصْغاءِ لَكَ فِي كُلِّ حِينٍ، فَنَزْدادَ حُبًّا لَكَ، وَاتِّباعًا لِابْنِكَ الحَبِيبِ، يَسوعَ المَسِيحِ. آمين.
الخِلاصة
يُقَدِّمُ لنا إنجيلُ اليومِ (يوحنّا 10: 27–30) بَعضَ العِباراتِ الَّتي تَلَفَّظَ بِها يَسوعُ خِلالَ عيدِ تَكريسِ الهَيكلِ في أُورَشليم، والَّذي كان يُحتَفَلُ بِه في نِهايَةِ كَانونِ الأَوَّل. وَيُقَدِّمُ يَسوعُ ذاتَهُ كَراعٍ صالِح، وَيَقول: "إِنَّ خِرافي تُصغي إلى صَوتي، وأَنا أَعرِفُها، وَهي تَتبَعُني، وَأَنا أَهَبُ لَها الحَياةَ الأَبديَّة، فَلا تَهلِكُ أَبدًا، وَلا يَختَطِفُها أَحَدٌ مِن يَدي" (الآيتان 27–28).
أشارَ يَسوعُ إلى وَجهِ الشَّبَهِ بَينَ أتباعِهِ المُؤمِنينَ وَالخِراف، وَهِي: عَدمُ الأَذى، الوَداعة، الضَّعف، الاِحتِياجُ إلى راعٍ، التَّعرُّضُ للضَّلال، العَجزُ عن الرُّجوعِ وَمُقاوَمَةِ الأَعداءِ، النَّفع، الطَّاعَة، وَقُبولُ التَّعليم.
وأمّا سَبَبُ تَشبيهِ يَسوعَ أتباعَهُ بالخِراف، فَهُو: مَحبَّتُهُ لَهُم، وَأَنَّهُم عَطيَّةُ الآبِ لَه، وَأَنَّهُ فَداهُم وَاشتَراهُم بِدَمِهِ، وَأَنَّهُ اختارَهُم وَدَعاهم، وَأَنَّهُ يَرعاهُم وَيَحمِيهِم، وَيَعتَني بِكُلِّ حاجاتِهِم، وَأَخيرًا، أَنَّهُم سَلَّموا أَنفُسَهُم إِلَيهِ طَوعًا وَاختِيارًا.
وَتَتَضَمَّنُ مَعرِفَةُ يَسوعَ خِرافَهُ: تَقَبُّلَهُم، وَمَحبَّتَهُ لَهُم، وَفَرحَهُ بِهِم، وَإِدراكَهُ لِرَغبتِهِم فِي رِضاهُ وَطاعَتِهِ، وَمَعرِفَتَهُ لِحاجاتِهِم وَتَجارِبِهِم وَأَحزانِهِم وَخَطاياهم وَمَقاصِدِهِم. وَيَعتَرِفُ بِهِم قُدّامَ الآبِ السَّماوي. وَالَّذينَ يَعرِفُهُمُ المَسيح، لا يَعرِفُهُم العالَم (1 يوحنّا 3: 1)، بَل يَحتَقِرُهُم وَيَضطَهِدُهُم: "إِذا اضطَهَدوني، فَسَيَضطَهِدونَكم" (يوحنّا 15: 20).
وَيَتَكلَّمُ الإِنجيلُ عَن صِفاتِ الخِراف: كَمَا يَتَّبِعُ الخِرافُ راعِيَها، كَذلِكَ يَتَّبِعُ المُؤمِنونَ المَسيح: مُعَلِّمًا لَهُم، يُطِيعونَهُ، يَتَّكِلونَ عَلَيهِ، يَسيرونَ فِي إِثرِهِ، يَجِدونَ فِيهِ قُوتًا لِنُفوسِهِم، وَيَتَّبِعونهُ لِلْعَمَلِ فِي كَرْمِ الرَّبّ، وَيَتَّخِذونهُ مُخَلِّصًا وَقائِدًا مِن الظُّلْمَةِ إِلى النُّور، وَمِنَ الخَطِيئَةِ إِلى القُداسَة، وَمِنَ الأَرضِ إِلى السَّماء.
يُساعِدُنا النَّصُّ الإِنجيلِيُّ لِفَهْمِ أَنَّه ما مِن أَحَدٍ يُمكِنُهُ أَن يَقولَ إِنَّهُ يَتبَعُ يَسوع، إِن لَم يُصغِ إِلى صَوتِهِ، وَيُقيمَ عِلاقَةً حَمِيمَةً مَعَه. فَيَسوعُ يَتَكَلَّمُ إِلَينا، وَيَعرِفُنا، وَيَعرِفُ أَمانِينا وَرَجاءَنا، وَأَيضًا فَشَلَنا وَخَيبَةَ أَمَلِنا. وَيَعتَني بِكُلِّ واحِدٍ مِنّا، وَيَبحَثُ عَن كُلِّ واحِدٍ مِنّا، وَيُحِبُّ كُلَّ واحِدٍ مِنّا عَلى ما هُوَ عَلَيهِ، بِحَسَناتِهِ وَعُيوبِهِ. وَيَحرُسُنا، وَيَقودُنا بِمَحبَّةٍ، لِعُبورِ الدُّروبِ الصَّعبَةِ وَالخَطِرَةِ في مَسيرَةِ حَياتِنا، وَيَهبُنا أَخِيرًا الحَياةَ الأَبديَّة. وَيُعَلِّقُ القِدّيس يوحنّا الذَّهَبِيّ الفَم بِقَولِهِ:"عِندَما يُحْضِرُنا إِلى الآبِ يَدعو نَفسَهُ (بابًا)، وَعِندَما يَرعانا يَدعو نَفسَهُ (راعِيًا). فَلِكَي لا تَظُنُّوا أَنَّ عَمَلَهُ الوَحيدَ أَن يُحضِرَنا إِلى الآب، لِذلِكَ دَعا نَفسَهُ راعيًا". وَالكنيسةُ في العالَمِ أَشبَهُ بِمَرعًى، حَيثُ تَضُمُّ فِي داخِلِها: الخِرافَ المُشتَّتَةَ في العالَم (راجع يوحنّا 11: 52)، لِيَتَّحِدوا مَعَهُ كَقطيعٍ مُقَدَّسٍ، يَرعاهُ الرّاعِيُ القُدّوسُ بِمَحبَّتِهِ وَإِرشادِهِ وَقِيادَتِهِ.
دُعاء
وَضَعتَ يا رَبُّ حَياتَكَ مِن أَجلِ خِرافِكَ (يوحنّا 15: 13).
أَنتَ في داخِلِنا، وأَمّا نَحنُ، فَنَحنُ في خارِجِ أَنفُسِنا.
أَنتَ مَعَنا، ونَحنُ لَسنا مَعَ ذَواتِنا.
أَنتَ رَجاؤُنا، يا أَيُّها الحُبُّ الَّذي يَشتَعِلُ دومًا وَلا يَنطَفِئ.
فَسَيِّجنا يا راعينا الصالِح بِمَحبَّتِكَ،
وَقُدنا إلى مَراعِي نِعمتِكَ،
وَافتح آذانَ قلوبِنا لِنَسمَعَ صوتَكَ ونَتبَعَكَ.
لا تَسمَح لأحدٍ أَن يَختَطِفَنا مِن يَدِكَ،
وَلا تَدَعنا نَضلُّ في ظُلمَةِ أنانِيَّتِنا.
نَسألك، يا مَن وَهَبتَنا الحَياةَ الأَبديَّة، أَن تُثَبِّتنا فِيكَ،
ونَبقَى إلى الأبدِ في يَدِكَ وَيَدِ الآبِ،
لِتَكونَ أَنتَ كُلَّ شَيءٍ فينا. آمين.
قِصَّةُ الرَّاعِي الصَّالِح
بَينَما كانَ أَحدُ الرِّجالِ يَتَنزَّهُ على سَفحِ جَبَل، سَمِعَ أَنغامًا عَذبة، فَسارَ نَحوَ مَصدرِ هذِهِ الأَنغام. رَأى راعيًا جالسًا في ظِلِّ شَجَرةٍ كَبيرة، يُعزِفُ على النّاي، وَالأَغنامُ حَولَهُ تَلتَهِمُ العُشبَ الأَخضَرَ بِهُدوء. فَحَيَّا الرَّجُلُ الرّاعي، وَسَأَلَهُ عَن حالِ القَطيع، فَبَدَأَ الرّاعي يُحَدِّثُ زائِرَهُ عَنِ الخِرافِ وَخِصالِ كُلِّ واحِدٍ مِنها. تَعَجَّبَ الرَّجُلُ مِن كَلامِهِ، وَلم يُصَدِّق أَنَّ الرّاعي يَعرِفُ خِرافَهُ، وَأَنَّ خِرافَهُ تَعرِفُهُ، وَأَنَّهُ يَدعو كُلَّ واحِدٍ مِنها بِاسمِه.
نَهَضَ الرّاعي مِن مَكانِهِ، وَنادى اسمًا، فَأَتاهُ خَروفٌ، وَبَقِيَ بَاقي القَطيعِ في مَكانِهِ. ثُمَّ نادى اسمًا ثانيًا، فَأَتاهُ خَروفٌ آخَر، وَبَقِيَ القَطيعُ في مَكانِهِ. ثُمَّ نادى اسمًا ثالِثًا، وَرابِعًا، حَتّى حَضَرَتِ الخِرافُ إِلَيهِ واحِدَةً واحِدَة، فَدُهِشَ الرَّجُلُ مِمّا رَأى.
وَسَأَلَ الرَّاعي: كَيفَ تُميِّزُ الخِرافَ وَهيَ مُتَشابِهَة؟ فَابتَسَمَ الرّاعي، وَقال: "هَذا أَمرٌ في غايَةِ السُّهولَة؛ فَفي هَذا الخَروفِ قِطعَةُ صوفٍ مَقطوعَة، وَفي ذلِكَ نُقطَةٌ سوداء، وَفي هذِهِ النَّعجَةِ جُرح، وَتِلكَ مَقطوعَةُ الأُذُن...".
فَسَأَلَهُ الرَّجُل: أَلَيسَ في القَطيعِ خَروفٌ كامِلٌ؟ فَابتَسَمَ الرّاعي، وَقال: "إِنَّ الخِرافَ الكامِلَةَ لا تَحتاجُ إِلَيَّ..." أَعطى الرّاعي لِكُلِّ خَروفٍ ذي عاهَةٍ اسمًا، وَأَحبَّهُ دونَ أَن يُجَرِّحَ مَشاعِرَه. أَمّا نَحن، فَكَم مِن مَرَّةٍ نادَينا شَخصًا ذَا عاهَةٍ بِعاهَتِهِ، وَجَرَحنا مَشاعِرَه؟ إِمّا بِإِعطائِهِ لَقَبًا، أَو حَتّى بِطَريقَةِ نَظرَتِنا إِلَيه؟
ما أَجمَلَ هذا الرّاعي، الَّذي لا يَبحثُ عن الكمالِ في خِرافِهِ، بَل عن الحُبِّ الَّذي يَربِطُهُ بِهِم، وَعنِ الثِّقَةِ الَّتي تُوحِّدُهُ مَعَهم. إنَّه صُورَةُ المَسيح، الرّاعيِ الصّالِح، الَّذي لا يُحِبُّنا لِأنَّنا كامِلون، بَل يُحِبُّنا وَيَقرُبُ مِنّا لأنَّنا مَجروحون وَمُحتَاجون وَمُشتَّتون. يَعرِفُنا بِاسمِنا، يَراهُ النّاسُ عاهَةً، وَيَراهُ هُوَ جُرحَ الحُبِّ فِي أعماقِنا. هَل نَعرِفُ أَنَّنا نَحتَجُ إِلى راعٍ؟ هَل نَسمَحُ لِلمَسيحِ أَن يَمسَحَ جِراحَنا، وَيَنظُرَ إِلَينا بِعَينِ الحَنان؟ هَل نَثِقُ أَنَّهُ لا يَنسى أَحدًا مِن خِرافِهِ، وَلَن يَدَعَ أَحدًا يَضيعُ مِن يَده؟ يا ربّ، اجعلنا خِرافًا في قَطيعِكَ، نَعرِفُ صوتَكَ وَنَتبعُكَ... آمين.