موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (يوحنا 20: 19-31)
19 وفي مَساءِ ذلك اليَومِ، يومِ الأحد، كانَ التَّلاميذُ في دارٍ أُغْلِقَتْ أَبوابُها خَوفاً مِنَ اليَهود، فجاءَ يسوعُ ووَقَفَ بَينَهم وقالَ لَهم: ((السَّلامُ علَيكم!)) 20 قالَ ذلك، وأَراهم يَدَيهِ وجَنبَه ففَرِحَ التَّلاميذُ لِمُشاهَدَتِهمِ الرَّبّ. 21 فقالَ لَهم ثانِيَةً: ((السَّلامُ علَيكم! كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضاً)). 22 قالَ هذا ونَفَخَ فيهم وقالَ لَهم: ((خُذوا الرُّوحَ القُدُس. 23 مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم)). 24 على أَنَّ توما أَحَدَ الاثَنْي عَشَر، ويُقالُ له التَّوأَم، لم يَكُنْ مَعَهم حِينَ جاءَ يسوع. 25 فقالَ لَه سائِرُ التَّلاميذ: ((رأَينا الرَّبّ)). فقالَ لَهم: ((إِذا لم أُبصِرْ أَثَرَ المِسمارَينِ في يَدَيهِ، وأَضَعْ إِصبَعي في مَكانِ المِسمارَين، ويدي في جَنْبِه، لن أُومِن)). 26 وبَعدَ ثَمانِيةِ أَيَّامٍ كانَ التَّلاميذُ في البَيتِ مَرَّةً أُخْرى، وكانَ توما معَهم. فجاءَ يسوعُ والأبوابُ مُغلَقَة، فوَقَفَ بَينَهم وقال: ((السَّلامُ علَيكم))! 27 ثُمَّ قالَ لِتوما: ((هَاتِ إِصبَعَكَ إِلى هُنا فَانظُرْ يَدَيَّ، وهاتِ يَدَكَ فضَعْها في جَنْبي، ولا تكُنْ غَيرَ مُؤمِنٍ بل كُنْ مُؤمِناً)). 28 أَجابَه توما:( (رَبِّي وإِلهي!)) 29 فقالَ له يسوع: ((أَلِأَنَّكَ رَأَيتَني آمَنتَ؟ طوبى لِلَّذينَ يؤمِنونَ ولَم يَرَوا)). 30 وأتى يسوعُ أَمامَ التَّلاميذ بِآياتٍ أُخرى كثيرة لم تُكتَبْ في هذا الكِتاب، 31 وإِنَّما كُتِبَت هذه لِتُؤمِنوا بِأَنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله، ولِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِه.
مُقَدِّمَةٌ
في الأَحَدِ الثَّاني مِن زَمَنِ الفِصْحِ، والذي يُعرَفُ بـ "أَحَدِ الرَّحْمَةِ الإِلهِيَّةِ"، يَصِفُ الإِنْجِيلِيُّ يُوحنّا ظُهورَ يَسوعَ القائمِ مِن بَينِ الأَمواتِ لِتَلاميذِهِ، في علية صهيون، مكان العشاء الأخير، حيثُ وَجَّهَ إِلَيهِم تَحيَّتَهُ القُدُوسِيَّةَ: "السَّلامُ علَيكم"، وأَراهُم "يَدَيهِ وجَنبَه" (يوحنّا 20: 19-31)، لا سيَّما لتوما الرَّسول، كَيْ يُؤَكِّدَ لَهُم حَقيقَةَ قيامَتِهِ.
ويَهدِفُ الإِنْجِيلُ مِن ذِكرِ هذِهِ الظُّهوراتِ إلى حَثِّ القارِئِ على الإِيمانِ بالمَسيحِ القائمِ مِن بَينِ الأَمواتِ، حتّى وإن كانَ مِن أُولئكَ الَّذينَ "لَم يَرَوا"، إِذْ طوَّبَ يَسوعُ: "الَّذِينَ يُؤمِنونَ ولَم يَرَوا".
وَيَدعونا إِنْجِيلُ هذَا اليَومِ إلى التَّعَرُّفِ على القائِمِ مِن بَينِ الأَمواتِ، وَرُؤيتِهِ بِعُيونِ قُلوبِنا، والإِيمانِ بِهِ، وإِعادةِ اكتشافِهِ رَبًّا وَإِلهًا لحَياتِنا ورَحْمَةً للعَالَمِين. وَمِن هُنا تَكمُنُ أَهمِّيَّةُ البَحثِ في وَقائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ وَتَطبيقاتِهِ الحَيَاتِيَّةِ والرُّوحيَّةِ.
أولا: وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 20: 19-31)
19 وفي مَساءِ ذلك اليَومِ، يومِ الأحد، كانَ التَّلاميذُ في دارٍ أُغْلِقَتْ أَبوابُها خَوفاً مِنَ اليَهود، فجاءَ يسوعُ ووَقَفَ بَينَهم وقالَ لَهم: السَّلامُ علَيكم!
تَشِيرُ عِبَارَةُ "ذلِكَ اليَومِ" إِلَى يَومِ القِيَامَةِ، يَومِ الحَيَاةِ الجَدِيدَةِ مَعَ يَسُوعَ المَسِيحِ القَائِمِ مِن بَينِ الأَموَاتِ؛ أَمَّا عِبَارَةُ "يَومِ الأَحَدِ" فَفِي الأَصلِ اليُونَانِيِّ: Τῇ δὲ μιᾷ τῶν σαββάτων (وَمَعْنَاهَا: "أَوَّلُ الأُسْبُوعِ") فَتُشِيرُ إِلَى اليَومِ الثَّامِنِ بَعدَ نِهَايَةِ الأُسْبُوعِ السَّابِقِ، أَي أَوَّلِ يَومٍ مِن أَيَّامِ الأُسْبُوعِ، وَهُوَ اليَومُ الأَوَّلُ بَعدَ السَّبْتِ. فَقَد أَخلَى الزَّمَنُ اليَهُودِيُّ المَكَانَ لِلزَّمَنِ المَسِيحِيِّ الَّذِي يَعيشُ فِيهِ يُوحَنَّا الإِنْجِيلِيُّ. وَمُنذُ ذَلِكَ الوَقتِ، اتَّخَذَ المَسِيحِيُّونَ يَومَ الأَحَدِ يَومَ رَاحَةٍ وَتَذْكَارٍ لِقِيَامَةِ الرَّبِّ يَسُوعَ، وَسُمِّيَ: "يَومَ الرَّبِّ" (رُؤيَا 1: 10). إِنَّهُ يَومُ الأَحَدِ، وَهُوَ العَطِيَّةُ الفِصْحِيَّةُ. فَقَد شَعَرَ التَّلامِيذُ المُجتَمِعُونَ أَنَّ يَسُوعَ بَينَهُم، حَيٌّ وَحَاضِرٌ فِيهِ. وَهَكَذَا كَانَ المُؤمِنُونَ يَجتَمِعُونَ فِي يَومِ الأَحَدِ، وَمَا زَالُوا إِلَى اليَومِ. وَيُشَدِّدُ يُوحَنَّا الإِنْجِيلِيُّ عَلَى وَحدةِ الزَّمَنِ، إِذ يَذكُرُ: "وَفِي مَسَاءِ ذَلِكَ اليَومِ، يَومِ الأَحَدِ..." فَكَأَنَّ نَهَارَ ذَلِكَ الفِصْحِ لَم يَكتَمِلْ بَعدُ دُونَ ظُهُورِ يَسُوعَ لِلتَّلامِيذِ مُجتَمِعِينَ. وَقَد أَصبَحَ يَومُ الأَحَدِ فِي المَفَاهِيمِ المَسِيحِيَّةِ: "اليَومَ الَّذِي لا تُنجَزُ فِيهِ أَيَّةُ أَعمَالٍ". وَكَانَ القَيصَرُ قُسْطَنطِين فِي عَامِ 321م أَوَّلَ مَن أَمرَ بِوَقفِ العَمَلِ فِي يَومِ الأَحَدِ، وَاعتَبَرَهُ يَوْمًا رَسْمِيًّا لِلرَّاحَةِ وَالتَّعَبُّدِ. أَمَّا عِبَارَةُ "التَّلامِيذُ"، فَتُشِيرُ إِلَى عَشَرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ مَعَ بَعضِ المُؤمِنِينَ (لوقَا 24: 33). وَ"الدَّارُ" تُفِيدُ مَكَانَ اجْتِمَاعِهِم، وَنَعلَمُ أَنَّهُ كَانَ فِي أُورَشَلِيمَ، وَالأَرجَحُ أَنَّهُ كَانَ فِي العِلِّيَّةِ الَّتِي أَكَلَ فِيهَا الرُّسُلُ الفِصْحَ مَعَ مُعَلِّمِهِم (مَرقُس 14: 13-15). وَعِبَارَةُ "أُغْلِقَتْ أَبوَابُهَا" تُشِيرُ إِلَى العِلِّيَّةَ التي كَانَت كَثِيرَةَ الأَبوَابِ، أَو أَنَّ التَّلامِيذَ أَغْلَقُوا بَابَ البَيتِ الخَارِجِيِّ أَيضًا، عَلَامَةً عَلَى خَوفِهِم. فَدُخُولُ يَسُوعَ وَالأَبوَابُ مُغْلَقَةٌ يُؤَكِّدُ أَنَّ جَسَدَ المَسِيحِ القَائِمِ لَيسَ كَالأَجْسَادِ العَادِيَّةِ، فَقَد دَعَاهُ بُولُسُ الرَّسُول: "جِسْمًا رُوحِيًّا" (1 قورنتس 15: 44). فَهُوَ جَسَدٌ مُمَجَّدٌ، يَخْتَرِقُ الجُدْرَانَ وَالحَوَاجِزَ (يُوحَنَّا 20: 26)، وَغَيرُ خَاضِعٍ لِقَوَاعِدِ الطَّبِيعَةِ كَالجَاذِبِيَّةِ الأَرضِيَّةِ. وَبِكَلِمَةٍ أُخرى يُؤَكِّدُ يَسُوعُ المَسِيحُ حُضُورًا غَيرَ خَاضِعٍ لِقَوَانِينِ المَكَانِ وَالزَّمَانِ؛ وَيَكشِفُ يُوحَنَّا أَنَّ حَقِيقَةَ الِالتِقَاءِ بِيَسُوعَ تُخضِعُ بَعدَ اليَومِ لِسُنَّةٍ أُخرَى غَيرِ سُنَنِ العَالَمِ المَادِّيِّ. وَمِن هُنَا نَفهَمُ أَنَّ جَسَدَ يَسُوعَ المُقَامِ يَختَلِفُ عَن جَسَدِ لَعَازَرَ الَّذِي عَادَ لِيَمُوتَ ثَانِيَةً، أَمَّا يَسُوعُ فَقَامَ لِكَي لا يَمُوتَ بَعدُ. وَهذَا لا يَعني أَنَّ جَسَدَ يَسُوعَ شَبَحٌ أَو خَيَالٌ، بَل كَانَ يُمكِنُ لَمسُهُ وَكَانَ يَأكُلُ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ إيرُونِيمُوس: "ِإن أَنكَرْنَا هُوِيَّةَ جَسَدِهِ لِأَنَّهُ دَخَلَ وَالأَبوَابُ مُغْلَقَةٌ، وَأَنَّ هذَا لَيسَ مِن طَبِيعَةِ الأَجْسَادِ البَشَرِيَّةِ، فَيَلزَمُنَا إِذًا أَن نُنكِرَ أَيضًا أَنَّهُ كَانَ لِبُطرُسَ وَلِلرَّبِّ يَسُوعَ جَسَدَانِ حَقِيقِيَّانِ لأَنَّهُمَا سَارَا عَلَى المِيَاهِ، وَهذَا أَيضًا مُخَالِفٌ لِلطَّبِيعَةِ" (مَتَّى 14: 22-33). أَمَّا عِبَارَةُ "خَوفًا" فَتُشِيرُ إِلَى خَشْيَةِ التَّلامِيذِ أَن يُوجَّهَ إِلَيهِم تُهَمَةُ سَرِقَةِ الجَسَدِ، أَو مَخَافَتِهِم مِنَ المُلاحَقَةِ كَمَا لاحَقُوا يَسُوعَ. وَقَد قَالَ أَحدُ المُفَكِّرِينَ: "إِنَّ الخَوفَ هُوَ الطَّرِيقُ إِلَى الجِهَةِ المُظْلِمَةِ، الخَوفُ يُؤَدِّي إِلَى الغَضَبِ، وَالغَضَبُ يُؤَدِّي إِلَى الكَرَاهِيَةِ، وَالكَرَاهِيَةُ تُؤَدِّي إِلَى المُعَانَاةِ وَالأَلَمِ". وَيُعَلِّقُ فِرَانكْلِن رُوزفِلت: "إِنَّ الشَّيءَ الوَحِيدَ الَّذِي يَجْدُرُ بِنَا الخَوفُ مِنْهُ، هُوَ الخَوفُ نَفْسُهُ". وَيُضِيفُ البَابَا فِرَنسِيس: "إِنَّ التَّلامِيذَ قَد حَبَسُوا أَنفُسَهُم فِي البَيتِ خَوفًا؛ لَكِنَّهُم أَيضًا كَانُوا مُنْغَلِقِينَ عَلَى أَنفُسِهِم، يَسِيطِرُ عَلَيهِم شُعُورُ الفَشَلِ، إِذ تَرَكُوا يَسُوعَ وَحدَهُ فِي أَكثَرِ اللَّحَظَاتِ مَأْسَاوِيَّةٍ" (عِظَةُ الأَحَدِ 24/4/2022). أَمَّا عِبَارَةُ "اليَهُود" فَتُشِيرُ هُنَا إِلَى رُؤَسَاءِ اليَهُودِ، الَّذِينَ كَانُوا يُكِنُّونَ العَدَاوَةَ لِيَسُوعَ (يُوحَنَّا 8: 48)، وَلَم يُرِيدُوا أَن يَفهَمُوهُ، بَل لاحَقُوهُ وَلَاحَقُوا تَلامِيذَهُ. وَقَد وَرَدَت كَلِمَةُ "اليَهُود" 71 مَرَّةً فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا. أَمَّا عِبَارَةُ "جاءَ يَسُوعُ" فَتُشِيرُ إِلَى حُضُورِ المَسِيحِ القَائِمِ مِنَ المَوتِ بَينَ تَلامِيذِهِ فِي العِلِّيَّةِ، حَيثُ كَانُوا مُجتَمِعِينَ عَشِيَّةَ يَومِ الأَحَدِ. كَانَ التَّلامِيذُ يَبحَثُونَ عَن يَسُوعَ، وَلَكِنَّهُم لَم يَجِدُوهُ، لأَنَّ يَسُوعَ هُوَ الَّذِي جَاءَ يَبحَثُ عَنْهُم فِي مَكَانِ تَوَاجُدِهِم، فِي خَوفِهِم وَشُكُوكِهِم وَانغِلاقِهِم عَلَى أَنفُسِهِم. يَظهَرُ يَسُوعُ لَنَا فِي وَسَطِ ضَعفِنَا وَخَطَايَانَا وَفَشَلِنَا، عِندَمَا تَكُونُ كُلُّ أَبوَابِ الحُلُولِ قَد أُغلِقَت، وَلَم يَعُد هُنَاكَ أَيُّ أَمَلٍ بِالخَلاصِ. هَذَا هُوَ ظُهُورُ المَسِيحِ الأَوَّلُ لِكُلِّ التَّلامِيذِ، لَكِنَّهُ الخَامِسُ مِن حَيثُ تَرتِيبِ الظُّهُورَاتِ بَعدَ القِيَامَةِ: لِمَريمَ المَجدَلِيَّةِ (َعمال الرُّسُل 16)، لِرفِيقَتَينِ (مَتَّى 28: 6)، لِبُطرُس (1 قورنتس 15: 5)، لِتِلمِيذَي عِمَّاوس (لُوقَا 24: 12)، وَالخَامِسُ مَا ذُكِرَ هُنَا فِي العِلِّيَّةِ. جَاءَ يَسُوعُ هُوَ نَفسُهُ، الَّذِي مَاتَ مَسمَّرًا وَمَطعُونًا بِحَربَةٍ فِي جَنبِهِ. جَاءَهُم مِن عَالَمٍ آخَر غَيرِ خَاضِعٍ لِقَوَاعِدِ عَالَمِنَا المَادِّيِّ، لِيَقُودَهُم وَيُرَافِقَهُم كَمَا يُرَافِقُ الرَّاعِي خِرَافَهُ (يُوحَنَّا 14: 3-18). جَاءَهُم وَهُوَ غَيرُ مُقَيَّدٍ بِحُدُودِ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ، وَلكِنَّهُ لَيسَ شَبَحًا أَو خَيَالًا، بَل كَانَ لَهُ "جِسْمٌ رُوحِيٌّ" كَمَا وَصَفَهُ بُولُسُ الرَّسُول (1 قورنتس 15: 44). وَهُوَ الَّذِي يُبَادِرُ، فَيَأْتِي أَوَّلًا إِلَيهِم، وَمَجِيئُهُ يَملَأُ القُلُوبَ تَعزِيَةً وَشَجَاعَةً (يُوحَنَّا 14: 3). وَيُكشِفُ يُوحَنَّا الإِنْجِيلِيُّ أَنَّ حَقِيقَةَ الِالتِقَاءِ بِيَسُوعَ بَعدَ قِيَامَتِهِ تُخضَعُ لِـسُنَّةٍ أُخرَى غَيرِ السُّنَنِ العَادِيَّةِ لِهَذَا العَالَمِ. نَسْتَنْتِجُ أَنَّهُ، بَعْدَ الفِصْحِ، لَمْ يَعُدْ بِالإِمْكانِ البَحْثُ عَنِ الرَّبِّ، فَهُوَ الَّذِي يَبْحَثُ عَنْ تَلامِيذِهِ، وَقَدْ صارَ حُضُورُ الرَّبِّ مُمْكِنًا في كُلِّ زَمانٍ وَمَكانٍ، مُتَجاوِزًا كُلَّ العَوائِقِ وَالتَّحَدِّياتِ. وَلَكِنَّهُ لا يَفْرِضُ نَفْسَهُ عَلى حَياتِهم، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهم أَنْ يفْتَحَوا لَهُ أَبْوابَ قُلوبِهم. وَأَمَّا فِعلُ "وَقَفَ" فَيُشِيرُ إِلَى المَعنَى الرَّمزِيِّ لِقِيَامَةِ المَسِيحِ، فَوُقُوفُهُ فِي وَسَطِهِم وَالأَبوَابُ مُغْلَقَةٌ لَم يَكُن عَمَلًا مُعجِزِيًّا، بَل تَجلِّيًا لِطَبِيعَةِ الجِسْمِ القَائِمِ مِن بَينِ الأَموَاتِ. إِنَّهُ الجِسْمُ نَفسُهُ، وَلَكِنَّهُ "لابِسٌ عَدَمَ الفَسَادِ" كَمَا جَاءَ فِي رِسَالَةِ بُولُسَ الرَّسُول: "فلا بُدَّ لِهذَا الكَائِنِ الفَاسِدِ أَن يَلبَسَ مَا لَيسَ بِفَاسِدٍ، وَلِهذَا الكَائِنِ الفَانِي أَن يَلبَسَ الخُلُودَ" (1 قورنتس 15: 53). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أوغُسطِينُوس عَلَى هذِهِ الحَقِيقَةِ بِقَولِهِ: "عَلَى أَيِّ حَال، أَيًّا كَانَت طَبِيعَةُ الجِسْمِ الرُّوحَانِيِّ، وَمَهما كَانَت عَظَمَةُ نِعمَتِهِ، أَخشَى أَن أَتَحَدَّثَ فِي هذَا، لأَنَّنَا لا نَحمِلُ بَعدُ أَيَّةَ خِبرَةٍ بِخُصُوصِ هذِهِ الحَقِيقَةِ". وَأَمَّا عِبَارَةُ "بَينَهُم"، فَفِي الأَصلِ اليُونَانِيِّ μέσος (مَعْنَاهُ: فِي الوَسَطِ)، تُشِيرُ إِلَى قُربِ يَسُوعَ القَائِمِ مِنَ الجَمِيعِ بِدَرَجَةٍ مُتَسَاوِيَةٍ. وَيَشْرَحُ يُوحَنَّا كَيفَ أَدخَلَ يَسُوعُ الاثنَي عَشَر فِي مِلءِ رِسَالَةِ الفِصْحِ. وَأَمَّا عِبَارَةُ "السَّلامُ عَلَيكُم!" فَتُشِيرُ إِلَى السَّلَامِ الَّذِي يَمنَحُهُ يَسُوعُ لِتَلامِيذِهِ كَثَمَرَةٍ لِقِيَامَتِهِ، وَكَتَحقِيقٍ لِوُعُودِهِ فِي خِطَابِهِ الأَخير: "سَلامِي أُعْطِيكُم" (يُوحَنَّا 14: 27). وَهذَا السَّلَامُ يُبَدِّدُ كُلَّ اضطِرَابٍ أَحدَثَهُ رَحِيلُهُ: "السَّلامَ أَستَودِعُكُم، وَسَلامِي أُعْطِيكُم. لا أُعْطِي أَنَا كَمَا يُعْطِي العَالَمُ. فَلا تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُم، وَلا تَفْزَعْ" (يُوحَنَّا 14: 27). فَهُوَ سَلَامُ ابْنِ اللهِ المُنتَصِرِ عَلَى العَالَمِ وَالمَوتِ. وَهذَا السَّلَامُ لَيسَ تَحيَّةً فَقَط، بَل عَطِيَّةٌ إِلَهِيَّةٌ تَطرُدُ الخَوفَ وَتُعِيدُ الأَمَلَ. إِنَّهُ السَّلَامُ الدَّاخِلِيُّ مَعَ اللهِ، وَمَعَ الذَّاتِ، وَمَعَ الإِخوَةِ. وَهُوَ مِلءُ الحَيَاةِ وَالخَلاصِ، وَالهِبَةُ المَسِيحَانِيَّةُ المُثْلَى كَمَا قَالَ بُولُس الرَّسُول: "فَلَمَّا بُرِّرنَا بِالإِيمَانِ حَصَلْنَا عَلَى السَّلَامِ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ المَسِيحِ" (رُومَة 5: 1). "المَسِيحُ هُوَ سَلامُنَا" (أَفَسُس 2: 14). "وَقَد حَقَّقَ السَّلَامَ بِدَمِ صَلِيبِهِ" (كُولُسِّي 1: 20). "سَلَامُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ إِدرَاكٍ، يَحفَظُ قُلُوبَكُم وَأَذهَانَكُم فِي المَسِيحِ يَسُوعَ" (فِيلِبِّي 4: 7). فَالسَّلَامُ هُوَ جَوْهَرُ الحَيَاةِ الرُّوحِيَّةِ. وَالنَّفسُ الَّتِي تَفقِدُ سَلَامَ اللهِ تُصبِحُ فَرِيسَةً لِلقَلَقِ وَالاضطِرَابِ. وَاليَومَ، أَكثَرَ مِن أَيِّ وَقتٍ مَضَى، نَحنُ بِحَاجَةٍ إِلَى يَسُوعَ المَسِيحِ لِيَأتِيَ بَينَنَا وَيَقُولَ لَنَا: "السَّلامُ عَلَيكُم!"فَلنَسمَح لِسَلَامِ المَسِيحِ أَن يَدفَعَ خَوفَنَا، وَيَسكُنَ فِي حَيَاتِنَا، وَبُيُوتِنَا، وَبِلَادِنَا!
20 "قالَ ذلك، وأَراهم يَدَيهِ وجَنبَه ففَرِحَ التَّلاميذُ لِمُشاهَدَتِهمِ الرَّبّ"
تَشِيرُ عِبَارَةُ "أَراهُم" إِلى رُؤيَةٍ أَعمَقَ لِلابنِ يَسُوعَ المُتَجَسِّدِ وَالمُمَجَّدِ. فَقَد أَرَادَ يُوحَنَّا الإِنْجِيلِيُّ أَن يُبَيِّنَ الفَرْقَ بَينَ كَيفِيَّةِ رُؤيَةِ يَسُوعَ فِي المَرحَلَةِ الجَدِيدَةِ الَّتِي سَيَعيشُهَا التَّلامِيذُ، ابتِداءً مِن تَمجِيدِهِ، حَيثُ قَالَ لَهُم قَبلَ مَوتِهِ:
"بَعدَ قَليلٍ لا تَرَونَني، ثُمَّ بَعدَ قَليلٍ تُشَاهِدُونَني" (يُوحَنَّا 16: 16). أَمَّا عِبَارَةُ "يَدَيهِ وَجَنبَه" فَتُشِيرُ إِلَى جَسَدِ المَسِيحِ المَصلُوبِ، الَّذِي هُوَ ذَاتُ جَسَدِ المَسِيحِ القَائِمِ مِن بَينِ الأَموَاتِ؛ فَالمَسِيحُ المَصلُوبُ هُوَ نَفسُهُ مَسِيحُ القِيَامَةِ، هُوَ الآن حَيٌّ وَيَحمِلُ آثَارَ الصَّلبِ. إِنَّهُ يَسُوعُ نَفسُهُ الَّذِي تَأَلَّمَ وَمَاتَ عَلَى الصَّلِيبِ، وَقَامَ بِجَسَدِهِ نَفسِهِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أوغُسطِينُوس: "تَبقَى جِرَاحَاتٌ فِي المَسِيحِ، لا كَنَقَائِصٍ وَعُيُوبٍ فِي الجَسَدِ، بَل كَعَلامَاتٍ ظَاهِرَةٍ تَكشِفُ عَن سِرِّ حُبِّهِ، وَعَلامَةٍ لِلمَجدِ وَالكَرَامَةِ." طُبِعَتْ هٰذِهِ الجِراحاتُ في جَسَدِ يَسوعَ كَعَلاماتٍ خالِدَةٍ لِرَحْمَةِ اللهِ الآب، فَهيَ تَشْهَدُ لِمَحبَّتِهِ الَّتي بَذَلَتْ نَفْسَها حَتّى النِّهايَةِ، وَتَكْشِفُ عَن وَجْهِ الآبِ الرَّحومِ، الَّذي يُريدُ خَلاصَ الإِنسانِ، لا هَلاكَهُ. وَبِهذِهِ التَّفَاصِيلِ يُؤَكِّدُ يَسُوعُ لِتَلامِيذِهِ أَنَّ جَسَدَهُ هُوَ ذَاتُ الجَسَدِ الَّذِي يَحمِلُ جِرَاحَاتِ الصَّلِيبِ، وَلَكِنَّهُ جِسْمٌ مُمَجَّدٌ. فَيَسُوعُ الآن جِسمٌ حَيٌّ مُمَجَّدٌ، وَآثَارُ جِرَاحَاتِهِ شَهَادَةٌ حَيَّةٌ لِقِيَامَتِهِ. وَبِهَذَا يُقَدِّمُ يَسُوعُ عَلامَاتٍ حِسِّيَّةً تُثبِتُ حَقِيقَةَ قِيَامَتِهِ، وَيَتَغَلَّبُ عَلَى قِلَّةِ إِيمَانِ الِاثنَي عَشَر (أَعمال الرُّسُل 1: 3). وَمِن هَذَا المُنطَلَقِ، شَدَّدَ يُوحَنَّا الإِنْجِيلِيُّ عَلَى الوِصَالِ القَائِمِ بَينَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ التَّارِيخِيِّ المُتَأَلِّمِ،"قَدِ ابْتُلِيَ هُوَ نَفسُهُ بِالآلَامِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِغَاثَةِ المُبتَلَيْنَ" (عِبرَانِيِّينَ 2: 18)، وَبَينَ يَسُوعَ القَائِمِ مِن بَينِ الأَموَاتِ، يَسُوعَ الإِيمَانِ، الَّذِي هُوَ مَعَ تَلامِيذِهِ إِلَى الأَبَدِ، كَمَا قَالَ لَهُم قَبلَ صُعُودِهِ:"هَاءَنَذَا مَعَكُم طُوالَ الأَيَّامِ إِلَى نِهَايَةِ العَالَمِ" (مَتَّى 28: 20). وَلَم يَذكُر يُوحَنَّا جِرَاحَ القَدَمَينِ كَمَا فَعَلَ لُوقَا:"أُنظُرُوا إِلَى يَدَيَّ وَقَدَمَيَّ" (لُوقَا 24: 39)، بَل يَنفَرِدُ بِذِكرِ الجَنبِ، لِيُظهِرَ العَلاقَةَ بَينَ حَادِثَةِ الطَّعنِ بِالحَربَةِ وَحَدَثِ العَشَاءِ الأَخِيرِ. وَقَد أَرَادَ يُوحَنَّا أَيضًا أَن يُقِيمَ صِلَةً بَينَ الطَّعنِ بِالحَربَةِ وَالعِلِّيَّةِ، فَهُوَ الحَمَلُ الفِصْحِيُّ الذَّبِيحُ عَلَى الجُلجُثَةِ، العَائِدُ إِلَى ذَوِيهِ حَامِلًا ثِمَارَ ذَبِيحَتِهِ. وَفِي سِفْرِ الرُّؤيَا، يَظهَرُ الحَمَلُ كَأَنَّهُ ذَبِيحٌ:"حَمَلًا قَائِمًا كَأَنَّهُ ذَبِيحٌ" (رُؤيَا 5: 6)، فَيَسُوعُ المُتَأَلِّمُ هُوَ نَفسُهُ يَسُوعُ القَائِمُ وَالحَيُّ. وَبِمَا أَنَّ جِرَاحَاتِ يَسُوعَ بَاقِيَةٌ فِي جَسَدِهِ المُـمَجَّدِ، يُعَلِّقُ اللَّاهُوتِيُّ دِيتْرِيش بُونْهُوفَر (Dietrich Bonhoeffer): "لا يُخَلِّصُنَا اللهُ مِن الأَلَمِ، بَل مِن خِلَالِ الأَلَمِ؛ وَلا يَحمِينَا مِن المَوتِ، بَل بِوَاسِطَةِ المَوتِ؛ وَهُوَ لا يُحَرِّرُنَا مِنَ الصَّلِيبِ، بَل بِالصَّلِيبِ." أَمَّا عِبَارَةُ "فَرِحَ التَّلامِيذُ"، فَتُشِيرُ إِلَى الفَرَحِ النَّاتِجِ عَنِ اخْتِبَارِ وَرُؤيَةِ يَسُوعَ القَائِمِ مِن بَينِ الأَموَاتِ، وَهُوَ إِتمَامٌ لِوَعدِ يَسُوعَ الَّذِي قَطَعَهُ لَهُم: "سَأَعُودُ فَأَرَاكُم، فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُم، وَمَا مِن أَحَدٍ يَسلُبُكُم هذَا الفَرَحَ"(يُوحَنَّا 16: 22). فَلِقَاءُ المَسِيحِ القَائِمِ هُوَ مَصدرُ الفَرَحِ الحَقِيقِيِّ، وَقَد أَكمَلَ فَرَحَهُم فِي القِيَامَةِ: "قُلتُ لَكُم هذِهِ الأَشيَاءَ لِيَكُونَ فِيكُم فَرَحِي، وَيَكُونَ فَرَحُكُم تَامًّا" (يُوحَنَّا 15: 11). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِّ:"مَا قَالَهُ يَسُوعُ قَبلَ الصَّلبِ: 'سَأَعُودُ فَأَرَاكُم...' قَد تَحَقَّقَ الآنَ عَمَلِيًّا. وَهذَا كُلُّهُ دَفَعَهُم إِلَى الإِيمَانِ الصَّادِقِ." وَيَقُولُ البَابَا فِرَنسِيس: "لَمَّا رَأَى التَّلامِيذُ يَسُوعَ فِي مَسَاءِ الفِصْحِ، وَسَمِعُوهُ يَقُولُ لَهُم: 'السَّلَامُ عَلَيكُم'، فَرِحُوا. رَحمَةُ اللهِ تُعطِي الفَرَحَ – فَرَحًا خَاصًّا – فَرَحَ الإِحسَاسِ بِأَنَّهُ قَد غُفِرَ لَهُم مَجَّانًا. هذَا هُوَ فَرَحُ يَسُوعَ الَّذِي شَعَرنَا بِهِ نَحنُ أَيضًا، عِندَمَا اختَبَرنَا مَغفِرَتَهُ." (عِظَةُ البَابَا فِرَنسِيس، 24/4/2022). وَأَمَّا عِبَارَةُ "مُشَاهَدَتِهِمِ الرَّبَّ" فَتُشِيرُ إِلَى مَرحَلَةٍ جَدِيدَةٍ يَعيشُهَا التَّلامِيذُ بَعدَ تَمجِيدِهِ، وَتَمتَازُ بِمَعرِفَةٍ أَعمَقَ لِلابنِ المُتَجَسِّدِ وَالمُمَجَّدِ. فَقَد استَخدَمَ يُوحَنَّا فِعلَينِ مُختَلِفَينِ لِيُظْهِرَ الفَرقَ بَينَ كَيفِيَّةِ رُؤيَةِ يَسُوعَ: θεωρέω (شاهد): أَي المُرَاقَبَةُ كَمُتَفَرِّجٍ ، ὁράω (رأي): أَي نَظَرَ بِتَمَعُّنٍ وَتَجْرِبَةٍ. فَهِيَ رُؤيَةٌ تُحَرِّكُ جَمِيعَ الحَوَاسِّ، وَلَيسَ البَصَرَ فَقط، فَالقَلبُ يَرَى أَيضًا. وَبِقَلبٍ مُؤمِنٍ، هِيَ نَفسُ النَّظرَةِ الَّتِي وَجَّهَهَا يُوحَنَّا نَحوَ القَبرِ الفَارِغِ (يُوحَنَّا 20: 8)، وَكَذَلِكَ قَائِدُ المِئَةِ حِينَ قَالَ: "حَقًّا، هذَا الرَّجُلُ كَانَ بَارًّا!" (لُوقَا 23: 47). وَيُعَلِّقُ البَابَا فِرَنسِيس: "التَّلامِيذُ يَفرَحُونَ... لِمَاذَا؟ لأَنَّ ذَلِكَ الوَجهَ وَتِلكَ التَّحيَّةَ وَتِلكَ الكَلِمَاتِ... جَمِيعَهَا نَقَلَتهُم مِن ذَوَاتِهِم إِلَى يَسُوعَ. فِي الحَقِيقَةِ، 'فَرِحَ التَّلامِيذُ لِمُشَاهَدَتِهِمِ الرَّبَّ". فَإِذَا كَانَت مُشَاهَدَةُ المَسِيحِ عَلَى الأَرضِ عِلَّةَ فَرَحٍ، فَكَمْ يَكُونُ فَرَحُ المُؤمِنِينَ بِشُهُودِهِ فِي السَّمَاءِ!
21 فقالَ لَهم ثانِيَةً: السَّلامُ علَيكم! كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضاً
تَشِيرُ عِبَارَةُ "ثانِيَةً" إِلَى تَأكِيدِ عَطِيَّةِ السَّلَامِ لِتَلامِيذِهِ كَي يَشهَدُوا لِلعَالَمِ بِقِيَامَةِ المَسِيحِ المَجِيدَةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "السَّلامُ عَلَيْكُم"! فَتُشِيرُ إِلَى تَكرَارِ عَطِيَّةِ السَّلَامِ، لِلتَّأكيدِ أَنَّ المَسِيحَ هُوَ وَاهِبُ السَّلَامِ. فَالسَّلَامُ هُنَا لَيسَ لِتَبدِيدِ الخَوفِ فَقَط، بَل لإِعدَادِ التَّلامِيذِ وَتَشجِيعِهِم عَلَى الإِرسَالِيَّةِ لِلتَّبشِيرِ بِالـقِيَامَةِ المُفرِحَةِ، كَسُفَرَاءَ لِلسَّلَامِ الدَّاخِلِيِّ. وَقَد أَوعَزَ إِلَيهِم أَن يَحمِلُوهُ إِلَى العَالَمِ كُلِّهِ، كَيفَمَا اتَّجَهُوا وَحَيثُمَا حَلُّوا: "وأَيَّ بَيتٍ دَخَلتُم، فَقولوا أَوَّلاً: السَّلامُ على هذَا البَيت" (لوقَا 10: 5). إِنَّهُ سَلَامُ ابْنِ اللهِ المُنتَصِرِ عَلَى العَالَمِ وَالمَوتِ، وَهُوَ سَلَامٌ لَا يَستَطِيعُ العَالَمُ أَن يُعطِيهِ، كَمَا قَالَ الرَّبُّ: "سَلَامَ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ إِدرَاكٍ" (فِيلِبِّي 4: 7). فَهَل نَفهَمُ ضَرُورَةَ السَّلَامِ البَاطِنِ؟ وَهَل نَسعَى لِكَي نَضعَهُ وَنَحفَظَهُ فِي نُفُوسِنَا؟ أَمَّا كَلِمَةُ "كَمَا"، فَفِي الأَصلِ اليُونَانِيِّ καθὼς، فَتُشِيرُ إِلَى العَلَاقَةِ الخَاصَّةِ بَينَ الآبِ وَالابنِ مِن نَاحِيَةٍ، وَبَينَ عَلاقَةِ الآبِ بِنَا مِن نَاحِيَةٍ أُخرَى. وَفِي الوَقتِ نَفسِهِ، تَدُلُّ هَذِهِ الكَلِمَةُ عَلَى طَرِيقَةِ إِشرَاكِ الِابْنِ لِلَّذِينَ يُلَازِمُونَهُ فِي الأُلفَةِ الحَمِيمَةِ القَائِمَةِ فِي حَيَاةِ اللهِ. وَهِيَ كَلِمَةٌ أَسَاسِيَّةٌ فِي إِنجِيلِ يُوحَنَّا، إِذ كَرَّرَهَا فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ: "كَمَا أَنَّ الآبَ الحَيَّ أَرسَلَنِي وَأَنِّي أَحْيَا بِالآبِ، فَكَذلِكَ الَّذِي يَأكُلُنِي سَيَحْيَا بِي" (يُوحَنَّا 6: 57)، "أَنا الرَّاعِي الصَّالِحُ. أَعرِفُ خِرَافِي وَخِرَافِي تَعرِفُنِي، كَمَا أَنَّ أَبِي يَعرِفُنِي وَأَنَا أَعرِفُ أَبِي" (يُوحَنَّا 10: 15-16)، "كَمَا أَحَبَّنِي الآبُ، فَكَذلِكَ أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا أَيْضًا" (يُوحَنَّا 15: 9). وَأَمَّا عِبَارَةُ "كَمَا أَرسَلَنِي الآبُ، أُرْسِلُكُم أَنَا أَيْضًا"، فَتُشِيرُ إِلَى إِرسَالِ يَسُوعَ تَلَامِيذَهُ لِـ تَـبشِيرِ العَالَمِ بِبُشرَى القِيَامَةِ َسَلَامِهِ، كَمَا صَرَّحَ لَهُم:"اِذهَبُوا فِي العَالَمِ كُلِّهِ، وَأَعلِنُوا البِشَارَةَ إِلَى الخَلقِ أَجمَعِينَ" (مَرقُس 16: 15). فَـيَسُوعُ هُوَ رَسُولُ اللهِ الوَحِيدُ لِعَمَلِ الفِدَاءِ (عِبرَانِيِّين 3: 1)، وَقَد جَعَلَ تَلامِيذَهُ سُفَرَاءَهُ وَشُرَكَاءَهُ فِي المُنَادَاةِ بِبُشرَى الخَلَاصِ (يُوحَنَّا 18: 37، 2 قورنتس 5: 18). وَيَتَعَيَّنُ عَلَى التَّلامِيذِ إِشْرَاكُ كُلِّ إِنسَانٍ فِي الحَيَاةِ الَّتِي وَجَدُوهَا، لِكَي يَكُونَ الفِصْحُ لِلجَمِيعِ، مِن خِلَالِ مَغفِرَةِ الخَطَايَا. فَـالمَغفِرَةُ هِيَ العَلَامَةُ المُـمَيِّـزَةُ لِانْتِصَارِ الرَّبِّ القَائِمِ عَلَى المَوتِ. وَهَكَذَا، نَشَأَت هَذِهِ الإِرسَالِيَّةُ عَن حَدَثِ الفِصْحِ، وَبِالتَّالِي عَن رِسَالَةِ يَسُوعَ القَائِمِ (مَتَّى 28: 16-20). وَتَقُومُ هَذِهِ البِشَارَةُ عَلَى إِعلَان: "بِاسْمِهِ التَّوبَةُ وَغُفرَانُ الخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ" (لُوقَا 24: 47). فَـيَسُوعُ يُرْسِلُ تَلَامِيذَهُ إِلَى العَالَمِ، وَهِيَ رِسَالَةٌ مُتَأَصِّلَةٌ فِي رِسَالَتِهِ الشَّخْصِيَّةِ، كَمَا يُظهِرُ فِي صَلَاتِهِ الكَهنُوتِيَّةِ: "كَمَا أَرسَلْتَنِي إِلَى العَالَمِ، فَكَذلِكَ أَنَا أَرسَلْتُهُم إِلَى العَالَمِ" (يُوحَنَّا 17: 18). فَيَسُوعُ يُخبِرُ تَلَامِيذَهُ بِأَيِّ سُلطَانٍ قَد أَتَمَّ عَمَلَهُ، وَيُوكِلُ إِلَيهِم نَشْرَ خَبَرِ الخَلَاصِ فِي كُلِّ العَالَمِ. وَقَد حَوَّلَ يَسُوعُ أَتبَاعَهُ مِن "تَلَامِيذَ" (مُتَعَلِّمِينَ) إِلَى "رُسُلٍ" (مُرسَلِينَ وَمُبَشِّرِينَ). وَيُعَلِّقُ أَحَدُ المُفَسِّرِينَ: "اُخرُجُوا مِنِّي خُرُوجَ الشُّعَاعِ مِنَ الشَّمسِ، وَكَخُرُوجِ النَّهرِ مِنَ النَّبعِ. وَكَمَا أَنَّنِي أُذِيعُ اسْمَ الآبِ، كَذلِكَ أَذيعُوا أَنتُمُ اسْمِي." وَفِي الحَقِيقَةِ، التَّكْرِيسُ يُولِي التَّلامِيذَ القُدرَةَ عَلَى القِيَامِ بِالرِّسَالَةِ، لأَنَّهُ يُفرِدُهُم لِحمْلِ الكَلِمَةِ فِي دَاخِلِ العَالَمِ (مَتَّى 28: 19)، دُونَ أَن يَعْزِلَهُم عَنهُ (يُوحَنَّا 17: 17-18). وَيَربِطُ يُوحَنَّا الإِنْجِيلِيُّ رِسَالَةَ التَّلامِيذِ بِمَجمُوعِ رِسَالَةِ يَسُوعَ (يُوحَنَّا 17: 17-19). فَقَد أَوْكَلَ يَسُوعُ العَمَلَ إِلَى تَلَامِيذِهِ لِنَشرِ أَخبَارِ الخَلَاصِ السَّارَّةِ، وَمَغفِرَةِ الخَطَايَا فِي كُلِّ العَالَمِ. وَلَا يُمكِنُ لِلإِنْسَانِ أَن يَنَالَ رِسَالَةَ الغُفرَانِ، إِلَّا إِذَا قَبِلَ مُعطِي الغُفرَانِ، يَسُوعَ المَسِيحَ، عَن طَرِيقِ رُسُلِهِ وَكَهَنَتِهِ. فَـيَسُوعُ اليَومَ يَدعُونَا لِحَملِ بُشرَى سَلَامِهِ، الَّذِي انبَثَقَ مِن القُدْسِ لِيَصِلَ إِلَى كُلِّ بُقْعَةٍ فِي الأَرضِ. تَجمع الآية بَين بُعْدِ العِطيَّة (السلام) وبُعْدِ الرِّساَلة (الإرْسَالية).
22 قالَ هذا ونَفَخَ فيهم وقالَ لَهم: خُذوا الرُّوحَ القُدُس
تَشِيرُ عِبَارَةُ "قالَ هذا" إِلى الانتِقالِ إِلَى عَمَلٍ هَامٍّ كان قَد هَيَّأَ لَهُ يَسُوعُ فِيمَا سَبَقَ مُبَاشَرَةً، كَأنَّهُ يَربِطُ كَلِمَاتِهِ بِفِعلِهِ المُقَدَّسِ الَّذِي سَيَتمُّ فِي اللَّحْظَةِ التَّالِيَةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "نَفَخَ فِيهِم"، فَفِي الأَصلِ اليُونَانِيِّ ἐμφυσάω، وَمَعْنَاهَا نَفَخَ فِي وُجُوهِهِم، تُحِيلُنَا إِلَى فِعلِ "نَفَخَ" (יִּפַּח) فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ، حِينَ نَفَخَ الرَّبُّ نَسَمَةَ الحَيَاةِ فِي الخَلْقِ الأَوَّلِ: "جَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ الإِنسانَ تُرابًا مِنَ الأَرضِ، وَنَفَخَ فِي أَنفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ، فَصَارَ الإِنسانُ نَفْسًا حَيَّةً" (تَكوين 2: 7).فَالفِعلُ "نَفَخَ" يُوحِي بِـ خَلقٍ جَدِيدٍ، فِي مُوَاجَهَةِ قِيَامَةٍ حَقِيقِيَّةٍ، حَسَب مَا قِيلَ: "اللهُ الَّذِي يُحْيِي الأَمْوَاتَ، وَيَدْعُو إِلَى الوُجُودِ غَيرَ المَوْجُودِ" (رُومَة 4: 17). فَكَمَا فِي الخَلْقِ الأَوَّلِ نَفَخَ اللهُ فِي الإِنسَانِ نَسَمَةَ الحَيَاةِ، كذلك فِي الفِصْحِ يَنَالُ الإِنسَانُ مِنَ المَسِيحِ الحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ بِنَفْخَتِهِ المُقَدَّسَةِ. وَقَد تَحقَّقَت نُبُوءَةُ حِزْقِيَال: "دَخَلَ فِيهِم (العِظَامُ) الرُّوحُ، فَعَاشُوا، وَقَامُوا عَلَى أَقْدَامِهِم" (حِزْقِيَال 37: 9). وَكَذَلِكَ نُبُوءَتُه الأُخرى: "أُعْطِيكُم قَلبًا جَدِيدًا، وَأَجعَلُ فِي أَحْشَائِكُم رُوحًا جَدِيدًا، وَأَنزِعُ مِن لَحمِكُم قَلبَ الحَجَر، وَأُعْطِيكُم قَلبًا مِن لَحمٍ" (حِزْقِيَال 36: 26). فَقَد نَفَخَ يَسُوعُ فِي تَلَامِيذِهِ الرُّوحَ الَّذِي يُصْبِحُ مَبْدَأَ الحَيَاةِ لِلخَلقِ الجَدِيدِ. فَبِنَفخَتِهِ، يُدَشِّنُ فِصْحًا جَدِيدًا، وَعَالَمًا جَدِيدًا، بَدْءًا مِنَ التَّلامِيذِ. وَقَد مَنَحَ يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ نَفخَةَ الرُّوحِ القُدُسِ لِيَنَالُوا إِمْكَانِيَّةَ العَمَلِ الرَّسُولِيِّ وَالخِدْمَةِ الكَهَنُوتِيَّةِ، بِمَنْحِهِم سُلطَانَ الحَلِّ وَالرَّبطِ (مَتَّى 16: 19). فَهِيَ نَفخَةٌ تَدشِينِيَّةٌ لِلخَلقِ الجَدِيدِ، تَنتَقِلُ بِفِعلِ وَضعِ اليَدِ (أَعمال الرُّسُل 13: 2-3). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ إِيرِينَاوُس: " كَمَا أَنَّ اللهَ نَفَخَ رُوحَهُ فِي الجَسَدِ الَّذِي كَوَّنَهُ، فَأَعطَى الحَيَاةَ لِكُلِّ أَعضَاءِ الجَسَدِ، هَكَذَا أَعطَى الرُّوحَ لِلكَنِيسَةِ. فَحَيثُ الكَنِيسَةُ، هُنَاكَ أَيضًا رُوحُ اللهِ". أَمَّا الرُّوحُ، فَهُوَ قُوَّةُ الخَلاصِ لِتَتِمِيمِ إِرَادَةِ اللهِ عَلَى الأَرضِ، وَالَّذِي يَحمِلُ مَعَهُ غُفرَانَ الخَطَايَا وَيُعطِي الحَيَاةَ الرُّوحِيَّةَ الأَبَدِيَّةَ، وَذَلِكَ عَبرَ رِسَالَةِ التَّلامِيذِ (يُوحَنَّا 15: 26-27). فَقَد مَنَحَ يَسُوعُ المَسِيحُ مَوهِبَةَ الرُّوحِ القُدُسِ لِمَغفِرَةِ الخَطَايَا، لِتَلَامِيذِهِ، وَلِخَلَفَائِهِم أَي الكَهَنَةِ: "مَن غَفَرتُم لَهُم خَطَايَاهُم تُغفَرُ لَهُم..." (يُوحَنَّا 20: 23). أَمَّا عِبَارَةُ "خُذُوا الرُّوحَ القُدُسَ"، فَتُشِيرُ إِلَى مَنح الرُّوحِ القُدُسِ كـ مَنحٍ لِلحَيَاةِ الجَدِيدَةِ الَّتِي أَتَى بِهَا القَائِمُ مِن بَينِ الأَموَاتِ، فَهِيَ تَتْمِيمٌ لِهِبَةِ المَحَبَّةِ الَّتِي بَذَلَهَا فِي الفِدَاءِ. فَقَد أَعْطَى يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ الرُّوحَ القُدُسَ لِيَجْعَلَهُم وُكَلَاءَ المُصَالَحَةِ: "مَن غَفَرتُم لَهُم خَطَايَاهُم تُغفَرُ لَهُم". وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ قُبْرِيَانُس: "أُعطِيَ سُلطَانُ غُفرَانِ الخَطَايَا لِلرُّسُلِ، وَلِلكنَائِسِ الَّتِي أُرسِلُوا إِلَيهَا، وَلِلأُسَاقِفَةِ الَّذِينَ خَلَفُوهُم بِسِيَامَتِهِم كَهَنَةً". وَمَنْحُ الرُّوحِ القُدُسِ بَعدَ قِيَامَةِ الاِبْنِ الإِلَهِيِّ هُوَ عَلامَةٌ ساطِعَةٌ لِرَحْمَةِ اللهِ الآب، الَّذي لا يَكتَفِي بِالقِيَامَةِ كَانْتِصارٍ عَلَى المَوتِ، بَل يُرِيدُ أَنْ يَسكُنَ فِينَا، وَيُجَدِّدَنا بِالرُّوحِ، وَيَجْعَلَنا خَليقَةً جَدِيدَةً فِي المَسِيحِ. أَمَّا عِبَارَةُ "الرُّوحَ القُدُسَ"، فَتُشِيرُ إِلَى رُوحِ اللهِ، الأُقنُومِ الثَّالِثِ فِي الثَّالُوثِ الأَقدَسِ. فَقَد دُعِيَ "رُوحًا"، لأَنَّهُ مُبدِعُ الحَيَاةِ، وَ"قُدُسًا"، لأَنَّ مِن عَمَلِهِ تَقدِيسُ المُؤمِنِينَ. فَهُوَ يُحْيِي المَائِتِينَ بِالخَطَايَا وَالأَثَامِ، وَيُطَهِّرُهُم، وَيُؤَهِّلُهُم لِتَمجِيدِ اللهِ وَالتمَتُّعِ بِهِ إِلَى الأَبَدِ. وَقَد شَهِدَ لَهُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "شَرِيعَةَ الرُّوحِ الَّذِي يَهَبُ الحَيَاةَ فِي يَسُوعَ المَسِيحِ قَد حَرَّرَتْنِي مِن شَرِيعَةِ الخَطِيئَةِ وَالمَوتِ" (رُومَة 8: 2). الرُّوحُ القُدُسُ هُوَ قُوَّةُ الخَلاصِ لِمَغفِرَةِ الخَطَايَا، وَالَّذِي يُمَكِّنُ التَّلامِيذَ مِن الشَّهَادَةِ لِلمَسِيحِ: "مَتَى جَاءَ المُؤَيِّدُ، الَّذِي أُرْسِلُهُ إِلَيكُم مِن لَدُنِ الآبِ، رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآبِ، فَهُوَ يَشهَدُ لِي. وَأَنتُم أَيضًا تَشهَدُون، لأَنَّكُم مَعِي مُنذُ البَدْءِ" (يُوحَنَّا 15: 26-27). وَكَانَ هذَا العَطَاءُ الخَاصُّ لِلتَّلامِيذِ عَربُونًا لِمَا سَيَختَبِرُهُ المُؤمِنُونَ فِي يَومِ العَنصَرَةِ (أَعمال الرُّسُل 2). وَيُعَلِّقُ البَابَا القِدِّيس يُوحَنَّا بُولُس الثَّانِي فِي رِسَالَتِهِ العَامَّة "الرَّبُّ وَوَاهِبُ الحَيَاةِ: "إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ، الَّذِي فِي أَعمَاقِ اللهِ، هُوَ أُقنُومٌ وَهِبَةٌ، قَد أُعطِيَ لِلتَّلامِيذِ وَلِلكنِيسَةِ بِطَرِيقَةٍ جَدِيدَةٍ، وَمِن خِلَالِهِم لِلبَشَرِيَّةِ وَالعَالَمِ أَجمَع" (رَقْم 23). تمثل هذه الآية ذروة التأمل اللاهوتي في إنجيل يوحنا 20.
23 مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم
تَشِيرُ عِبَارَةُ "مَن غَفَرتُم لَهُم خَطَايَاهُم تُغفَرُ لَهُم" إِلى سُلطَانِ غُفرَانِ الخَطَايَا، الَّذِي هُوَ الدَّلِيلُ المُطْلَقُ عَلَى انتِصَارِ المَسِيحِ عَلَى المَوتِ. فَهَذِهِ الكَلِمَاتُ هِيَ أَصلُ سِرِّ المُصَالَحَةِ فِي الكَنِيسَةِ. فَلَم يَنَلِ التَّلَامِيذُ الرَّحمَةَ وَحَسْب، بَل أَصبَحُوا مُوَزِّعِينَ لِتِلكَ الرَّحمَةِ الَّتِي نَالُوهَا. فَقَد نَالُوا هذِهِ السُّلْطَةَ، وَلَيسَ عَلَى أَسَاسِ استِحقَاقَاتِهِم، بَل كَعَطِيَّةٍ نِعْمَوِيَّةٍ خَالِصَةٍ. وَهذَا السُّلْطَانُ قَد كَانَ مَوضِعَ شَكٍّ وَتَجْدِيفٍ فِي نَظَرِ كتبة اليَهُودِ، كَمَا فِي حِوَارِ يَسُوعَ مَعَ المُقْعَدِ: "قالَ يَسُوعُ لِلمُقعَدِ: ثِقْ يا بُنَيَّ، غُفِرَت لَكَ خَطَايَاكَ. فَقالَ بَعضُ الكَتَبَةِ فِي أَنفُسِهِم: إِنَّ هذَا لَيُجَدِّف" (مَتَّى 9: 2-3). وَسُلطَانُ غُفرَانِ الخَطَايَا هُوَ عَطَاءُ المَسِيحِ القَائِمِ مِن بَينِ الأَموَاتِ لِكَنِيسَتِهِ، أَرسَلَ يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ لِإِشْرَاكِ كُلِّ إِنْسَانٍ فِي الحَيَاةِ الجَدِيدَةِ، مِن خِلَالِ مَغفِرَةِ الخَطَايَا (يُوحَنَّا 20: 23). فَقَد اِقتَنَى يَسُوعُ هذَا السُّلْطَانَ بِدَمِهِ، وَوَهَبَهُ بِرُوحِهِ القُدُوسِ إِلَى كُهَنَتِهِ. وَإِن كُنَّا نَقُولُ إِنَّ "اللهَ وَحدَهُ يَغفِرُ"، فَهُوَ الَّذِي يَغفِرُ فِي الكَاهِنِ، لِأَنَّ الرُّوحَ القُدُسَ السَّاكِنَ فِيهِ هُوَ مَن يُمَارِسُ الغُفرَان. وَيُوَضِّحُ القِدِّيسُ أَنبُرُوزيُوس: "إِنظُرُوا: إِنَّ الخَطَايَا تُغفَرُ بِالرُّوحِ القُدُسِ، وَالبَشَرُ يَستَخدِمُونَ خِدمَتَهُم لِغُفرَانِ الخَطَايَا. فَهُم لَا يَغفِرُونَ بِاسْمِهِم، بَل بِاسْمِ الآبِ وَالابْنِ وَالرُّوحِ القُدُسِ؛ فَـالخِدمَةُ مِن جَانِبِ الإِنْسَان، وَالعَطِيَّةُ مِن سُلطَانِ العَلِيّ". فَالكَاهِنُ يَغفِرُ الخَطِيئَةَ بِالرُّوحِ القُدُسِ، أَو يُمسِكُهَا إِذَا لَم يَكُن هُنَاكَ تَوبَةٌ صَادِقَةٌ. وَيُعَلِّقُ البَابَا فِرَنسِيس: "لَيسَتْ مَغفِرَةُ خَطَايَانَا أَمرًا يُمكِنُنَا أَن نُعطِيَهُ لأَنفُسِنَا. فِي سِرِّ الِاعْتِرَافِ نَطْلُبُ الغُفرَانَ مِن يَسُوعَ، وَهِيَ لَيسَت ثَمَرَةَ جُهُودِنَا، بَل عَطِيَّةٌ مِن الرُّوحِ القُدُسِ، تُفِيضُ مِن قَلبِ المَسِيحِ المَصلُوبِ وَالقَائِمِ." وَيُضِيفُ: "وَذَلِكَ يَفْرِضُ عَلَى الكَاهِنِ أَلَّا يُسِيءَ استِخدَامَ هذَا السُّلْطَانِ، وَأَلَّا يُمَارِسَهُ بِهَوَاه، بَل بِحَسَبِ الرُّوحِ القُدُسِ الَّذِي يَستَمِدُّ مِنهُ السُّلْطَانَ وَيَخْضَعُ لَهُ". أَمَّا عِبَارَةُ "مَن أَمسَكتُم عَلَيهِمِ الغُفرَانَ يُمسَكْ عَلَيهِم"، فَتُشِيرُ إِلَى حَقِيقَةٍ لاهُوتِيَّةٍ مُهِمَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ الغُفرَانَ لَيسَ عَامًّا وَشَامِلًا، بَل يُعطَى لِلتَّائِبِ بِقَلبٍ صَادِق. فَـسِرُّ التَّوبَةِ وَالمُصَالَحَةِ، أَو كَمَا نُسَمِّيهِ "سِرُّ الِاعْتِرَافِ"، يَنبَعُ مُبَاشَرَةً مِن السِّرِّ الفِصْحِيِّ. وَإنَّ الِاختِلَافَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ لَا يَدُورُ حَولَ طَبِيعَةِ السُّلْطَانِ الَّذِي مَنَحَهُ يَسُوعُ لِتَلَامِيذِهِ (مَتَّى 16: 19)، بَل حَولَ تَحدِيدِ الَّذِينَ يُمَارِسُونَ هذَا السُّلْطَانَ. فَالتَّقْلِيدُ الكَاثُولِيكِيُّ يُقِرُّ أَنَّ المَقصُودَ بِهِ الكَهَنَةُ، وَقَد مُنِحُوا السُّلْطَةَ بِفَضلِ شَرِكَتِهِم الوَثِيقَةِ مَعَ المَسِيحِ، فَيَتَصَرَّفُونَ بِاسْمِهِ، كَوُكَلَاءَ فِي غُفرَانِ الخَطَايَا. فَقَد مَنَحَهُم المَسِيحُ القَائِمُ مِن بَينِ الأَموَاتِ السُّلْطَانَ الكَهَنُوتِيَّ لِغُفرَانِ الخَطَايَا. بِكَلِمَةٍ مُوجَزَةٍ: أَعطَى الرَّبُّ مَوهِبَةَ الكَهَنُوتِ لِتَلَامِيذِهِ، بِسُلطَانِ الرُّوحِ القُدُسِ، فِي يَومِ العَنصرَةِ، وَهِيَ مَوهِبَةٌ لِسُلطَانِ الغُفرَانِ. فَـقَامَ الرَّبُّ، وَقِيَامَتُهُ هِيَ حَيَاةٌ وَسَلَامٌ وَغُفرَانٌ لِلجَمِيع. أَمَّا التَّقْلِيدُ البْرُوتِسْتَانْتِي، فَيَرَى أَنَّ المَقصُودَ هُوَ الَّذِي يُصْبِحُ أَدَاةً لِلرُّوحِ القُدُسِ، وَيَستَنِدُونَ إِلَى مَا قَالَهُ بُطرُسُ الرَّسُول: "بِأَنَّ كُلَّ مَن آمَنَ بِهِ يَنَالُ بِاسْمِهِ غُفرَانَ الخَطَايَا" (أَعمال الرُّسُل 10: 43). فَيُعلِنُ الرَّبُّ يَسُوعُ لِلتَّلامِيذِ عَن سُلطَانِهِم لِمَغفِرَةِ خَطَايَا النَّاسِ. وَلَا يُمكِنُ لِلإِنسَانِ أَن يَنَالَ رِسَالَةَ الغُفرَانِ، إِلَّا بِقُبُولِ مُعطِي الغُفرَانِ، أَي يَسُوعَ المَسِيحَ. فَـالكَاهِنُ فِي سِرِّ الِاعْتِرَافِ أَو المُصَالَحَةِ لَا يُمَثِّلُ المَسِيحَ وَحَسْب، بَل يُمَثِّلُ أَيضًا الجَمَاعَةَ الكَنَسِيَّةَ، الَّتِي تَجِدُ نَفسَهَا فِي ضُعفِ كُلِّ فَرْدٍ مِن أَفْرَادِهَا، تَصْغِي إِلَى تَوبَتِهِ، وَتَتَصَالَحُ مَعَهُ، وَتُرَافِقُهُ فِي مَسِيرَةِ التَّوبَةِ وَالنُّضْجِ الإِنسَانِيِّ وَالمَسِيحِيِّ. فِي الِاعْتِرَافِ، يَغمُرُنَا اللهُ بِرَحْمَتِهِ، وَيَفْرَحُ بِعَودَتِنَا، كَمَا فَرِحَ الأَبُ فِي ابْنِهِ الضَّالِّ (لُوقَا 15: 11-32). لِنَسِرْ إِذًا عَلَى هَذَا الدَّرْبِ! تُضيء هذه الآية نورًا على سلطان غفران الخطايا في ضوء قيامة المسيح.
24 على أَنَّ توما أَحَدَ الاثَنْي عَشَر، ويُقالُ له التَّوأَم، لم يَكُنْ مَعَهم حِينَ جاءَ يسوع
تَشِيرُ عِبَارَةُ "تُوما" إِلَى اسْمٍ آرامِيٍّ (תוֹמָא)، وَفِي اليُونَانِيَّةِ Δίδυμος، وَمَعْنَاهُ: "التَّوأَمُ". وَيَظهَرُ أَنَّهُ كَانَ سَوْدَاوِيَّ المِزَاجِ، كَمَا بَدَا فِي عَدَمِ ثِقَتِهِ بِشَهَادَةِ الجَمَاعَةِ الرَّسُولِيَّةِ لِقِيَامَةِ الرَّبِّ (يُوحَنَّا 20: 27). وَهُوَ أَحَدُ الِاثنَي عَشَرَ رَسُولًا (مَتَّى 10: 3)، وَقَد قَامَ تُوما بِدَورٍ عَلَى جَانِبٍ كَبِيرٍ مِنَ الأَهَمِّيَّةِ فِي إِنجِيلِ يُوحَنَّا؛ إِذ ذُكِرَ سَبعَ مَرَّاتٍ فِيهِ. فَتُوما الَّذِي أَمْضَى ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ مَعَ يَسُوعَ كَبَاقِي الرُّسُلِ، كَانَ مُستَعِدًّا أَن يَمْضِيَ مَعَهُ حَتَّى المَوتِ حُبًّا لَهُ، كَمَا قَالَ: "فَلْنَمْضِ نَحنُ أَيضًا لِنَموتَ مَعَه" (يُوحَنَّا 11: 16). وَيُرْجِعُ بَعضُ اللاهُوتِيِّينَ إِلَى هَذِهِ المقَولَةِ فِكرَةَ بُولُسَ الرَّسُولِ: "أَمُوتُ كُلَّ يَوم" (1 قورنتس 15: 31)، أَو مَفْهُوم "المَوت مَعَ المَسِيح". وَكَانَ تُوما يَتَمَتَّعُ بِبَعضِ السُّلْطَةِ وَالمَكَانَةِ بَينَ الرُّسُلِ (يُوحَنَّا 11: 16). وَذَكَرَهُ يُوحَنَّا مِن بَينِ مَن تَرَاءَى لَهُم يَسُوعُ فِي الجَلِيلِ بَعدَ قِيَامَتِهِ (يُوحَنَّا 21: 2)، وَكَذَلِكَ كَانَ مَعَ البَقِيَّةِ فِي العِلِّيَّةِ فِي أُورَشَلِيمَ بَعدَ صُعُودِ يَسُوعَ (أَعمال الرُّسُل 1: 13). وَقِيلَ إِنَّهُ بَشَّرَ فِي بِلادِ مَا بَينَ النَّهرَيْنِ (العِرَاقِ)، وَعَرَّجَ عَلَى بِلادِ العَرَبِ، وَاجْتَازَ إِلَى بِلَادِ الحَبَشَةِ، وَكَرَزَ بِشَكْلٍ خَاصٍّ فِي الهِندِ. وَفِي مَلْبَار (وَهِيَ اليَومَ أَجْزَاءٌ مِن وِلَايَتَي كِرنَاتَكَ وَكِيرَلَا فِي الهِندِ)، هَجَمَ عَلَيهِ بَعضُ كَهَنَةِ الأَوثَانِ، فَسَلَخُوا جِلدَهُ وَهُوَ حَيٌّ، ثُمَّ طَعَنُوهُ بِالرِّمَاحِ حَتَّى المَوتِ. فَمَاتَ شَهِيدًا، وَأَصبَحَ شَفِيعًا لِلهِنُودِ المَسِيحِيِّينَ. وَيُوجَدُ مَكَانٌ قُربَ مَدْرَاس (شِنَّاي) يُسمَّى اليَوم "جَبَلُ القِدِّيسِ تُوما". وَلا يَزَالُ كَثِيرُونَ فِي الشَّرقِ يَدَّعُونَ أَنَّهُم مِن مَسِيحِيِّي الكَنَائِسِ الَّتِي أَسَّسَهَا تُوما الرَّسُول، وَلا سِيَّمَا سُكَّانُ مَلبَار. وَهُم مَسِيحِيُّونَ يَتَّبِعُونَ طَقْسَ الكَنِيسَةِ السُّريَانِيَّةِ. وَيُقالُ إِنَّهُ دُفِنَ فِي الرَّهَا (أِي شِمَالِ بِلادِ مَا بَينَ النَّهرَيْنِ) سَنَةَ 230م، وَبَعدَ سُقُوطِ المَدِينَةِ فِي يَدِ الأَتْرَاكِ، نُقِلَ جُثمانُهُ إِلَى جَزِيرَةِ خِيُوس (فِي اليُونَانِ) سَنَة 1144م، وَمِن ثَمَّ إِلَى أُورتُونَا (Ortona) فِي إِيطَالْيَا سَنَة 1258م مَعَ قَائِدٍ عَسكَرِيٍّ يُدْعَى لِيُونِي. فَـأَصبَحَ المَكَانُ مَرْكَزًا رُوحِيًّا مُهِمًّا لِإِكرَامِهِ. وَقَد اُكتُشِفَ فِي نَجْعِ حَمَّادِي (صَعِيد مِصر) مَخطُوطَاتٌ غُنُوصِيَّة كُتِبَت بِاللُّغَةِ القِبطِيَّة (سَنَة 1945)، وَمِن ضِمنِهَا نُسخَةٌ لِـ "إِنجِيلِ تُوما". وَالـمُعتَقَدُ العَامُّ عِندَ العُلَمَاءِ أَنَّ نِسبَتَهُ لِلرَّسُولِ غَيرُ صَحِيحَةٍ، وَأَنَّهُ مِن كِتَابَاتِ الغُنُوصِيِّينَ، وَتَرجِعُ هَذِهِ المَخطُوطَةُ إِلَى القَرنِ الخَامِسِ المِيلَادِي. أَمَّا عِبَارَةُ "التَّوأَم"، فَتُشِيرُ إِلَى تُوما المذكُورِ فِي لَوَائِحِ الِاثنَي عَشَر رَسُولًا (مَتَّى 10: 3)، وَهُوَ يَؤدِّي دَورًا بَارِزًا فِي إِنجِيلِ يُوحَنَّا (14: 5، 21: 2). وَهُوَ يُمَثِّلُ كُلَّ مَن يَشكُّونَ فِي قِيَامَةِ يَسُوعَ، وَيُرِيدُونَ أَن يَرَوا وَيَلمِسُوا لِيُؤمِنُوا. لَم يَتَوَقَّفْ تُوما عِندَ الشَّكِّ، بَل كَانَ سَبَبًا فِي تَعمِيقِ إِيمَانِهِ مِن خِلَالِ البَحثِ عَنِ الجَوَاب. فَـالشَّكُّ أَدَّى إِلَى سُؤَالٍ، وَالسُّؤَالُ إِلَى الجَوَابِ، وَالجَوَابُ إِلَى الإِيمَانِ. فَـكَشَفَ يَسُوعُ لَهُ أَدِلَّةَ آلامِهِ، وَعِندَئِذٍ أَعلَنَ تُوما إِيمَانَهُ العَظِيمَ. أَمَّا عِبَارَةُ "لَم يَكُن مَعَهُم حِينَ جَاءَ يَسُوعُ"، فَتُشِيرُ إِلَى ضِيَاعِ الفُرصَةِ الأُولَى عَلَى تُوما لِرُؤيَةِ المَسِيحِ القَائِمِ مَعَ جَمَاعَةِ التَّلامِيذِ، وَلِـنَيلِ سَلَامِهِ وَفَرَحِهِ.
25 فقالَ لَه سائِرُ التَّلاميذ: رأَينا الرَّبّ. فقالَ لَهم: إِذا لم أُبصِرْ أَثَرَ المِسمارَينِ في يَدَيهِ، وأَضَعْ إِصبَعي في مَكانِ المِسمارَين، ويدي في جَنْبِه، لن أُومِن
تَشِيرُ عِبَارَةُ "رَأَيْنَا الرَّبَّ"، وَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ Ἑωράκαμεν مِنَ الفِعل ὁράω، (وَمَعْنَاهُ: نَظَرَ بِوَعيٍ وَإِيمَانٍ)، إِلَى أَهَمِّيَّةِ النَّظَرِ المُدْرِكِ لِكَي نُؤْمِنَ. وَهَذَا النَّظَرُ الإِيمَانِيُّ يُذَكِّرُنَا بِـ رِوَايَةِ الحَيَّةِ النُّحَاسِيَّةِ فِي الصَّحرَاءِ (عَدَد 21: 4–9)، حَيْثُ كُلُّ مَن نَظَرَ إِلَيْهَا نَجَا. فَهَل نَعرِفُ كَيفَ نَرفَعُ عُيونَنا لِنَرَى مَحَبَّةَ الآبِ غَيرِ المَحدُودَةِ فِي ابنِ الإِنسَانِ المَصلُوبِ وَالقَائِمِ مِن بَينِ الأَموَاتِ؟أَمَّا عِبَارَةُ: "إِن لَم أُبصِرْ أَثَرَ المِسمَارَيْنِ فِي يَدَيْهِ، وَأَضَعْ إِصبَعِي فِي مَكَانِ المِسمَارَيْنِ، وَيَدِي فِي جَنبِهِ"، فَتُشِيرُ إِلَى طَلَبِ البُرهَانِ مِن تُومَا، الَّذِي وَضَعَ شَرْطَيْنِ لِيُؤْمِنَ: إِن لَم أُبصِرْ، وَأَضَعْ إِصبَعِي وَيَدِي. فَـتُومَا يَطلُبُ بُرهَانًا خَاصًّا بِهِ، حِسِّيًّا، وَمَلْمُوسًا. وَكَانَ مِن طَبْعِ تُومَا أَلَّا يَتْرُكَ تَسَاؤُلًا دَاخِلَهُ بِدُونِ أَن يُعَالِجَهُ، كَمَا ظَهَرَ فِي قَولِهِ لِيَسُوع: "يَا رَبّ، لَا نَعلَمُ إِلَى أَيْنَ تَمْضِي، فَكَيْفَ نَعرِفُ الطَّرِيقَ؟" (يُوحَنَّا 14: 5). تُومَا يُرِيدُ أَن "يُبصِرَ" (ὁράω) أَي أَن يَرَى وَيَختَبِرَ وَيَلمَسَ بِنَفسِهِ، لِكَي يُؤمِنَ. فَهُوَ يَفرِضُ شُرُوطَ إِيمَانِهِ عَلَى المَسِيحِ. إِنَّهُ يَطلُبُ دَلِيلًا صَرِيحًا، وَيَضْرِبُ عُرضَ الحَائِطِ سُمُوَّ حُرِّيَّةِ اللهِ المُطلَقَةِ فِي عَطَائِهِ. وَيُعَلِّقُ الأُسقُف بَاسِيلِيُوس السَّلُوقِيّ: "أَغلَقَ تُومَا أُذُنَيهِ عَنْ سَمَاعِ شَهَادَةِ التَّلامِيذِ، وَأَرَادَ فَتحَ عَينَيهِ... فَأَطلَقَ شَكَّهُ، آمِلًا أَنْ تَتَحَقَّقَ رَغبَتُهُ، وَقَال: لَنْ تَتَبَدَّدَ شُكُوكِي إِلَّا حِينَ أَرَاه". وَلِذَلِكَ، لَم يَتَبَاطَأِ يَسُوعُ فِي إِعْطَائِهِ، وَلِكُلِّ مُتَسَائِلٍ بَاحِثٍ بِصِدْقٍ، البُرهَانَ المَطْلُوبَ: ظُهُورُهُ الشَّخصِيُّ. أَمَّا عِبَارَةُ "جَنْبِهِ"، فَتُشِيرُ إِلَى جَنبِ المَسِيحِ المَطعُونِ بِالحَربَةِ، كَمَا ذُكِرَ فِي إِنجِيلِ يُوحَنَّا: "لَكِنَّ وَاحِدًا مِنَ الجُنُودِ طَعَنَهُ بِحَربَةٍ فِي جَنبِهِ، فَخَرَجَ لِوَقتِهِ دَمٌ وَمَاء" (يُوحَنَّا 19: 34). فَـجِرَاحُ المَسِيحِ، وَخُصُوصًا جَنبُهُ المَفتُوحُ، صَارَت ينَابِيعَ لِلرَّحمةِ وَالحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "لَنْ أُومِنَ"، فَتُشِيرُ إِلَى رَفضِ تُومَا تَصْدِيقَ شَهَادَةِ الجَمَاعَةِ الرَّسُولِيَّةِ. فَهُوَ يَرْفُضُ أَنْ يُصَدِّقَ أَقْوَالَ الغَيْرِ، وَيُرِيدُ بُرهَانًا حِسِّيًّا وَعَمَلِيًّا، وَفِي ذَلِكَ يُمَثِّلُ كُلَّ مَن يَشكُّونَ فِي قِيَامَةِ يَسُوعَ (مَتَّى 28: 17)، وَيَطلُبُونَ أَنْ يَرَوا وَيَلمَسُوا لِيُؤْمِنُوا. تُومَا شَكَّ، وَمَا آمَنَ قَبلَ أَنْ يَرَى.ؤ وَيَقُولُ القِدِّيسُ أُوغُسطِينُوس: "تُومَا شَكَّ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ نَشُكَّ نَحنُ". فَالواقِعُ يُظْهِرُ أَنَّ البَعضَ يَحتاجُونَ إِلَى الشَّكِّ لِيُؤمِنُوا. فَإِذَا أَدَّى الشَّكُّ إِلَى سُؤَالٍ، وَالسُّؤَالُ إِلَى جَوَابٍ، وَكَانَ الجَوَابُ مَقْبُولًا، فَـالشَّكُّ يُعَمِّقُ الإِيمَانَ. فَـشَكُّ تُومَا كَانَ إِيجَابِيًّا، يُرِيدُ بِهِ الحُصُولَ عَلَى رُؤيَةٍ لِلرَّبِّ. أَمَّا إِذَا أَصْبَحَ الشَّكُّ "عِنَادًا"، وَصَارَ العِنَادُ أُسْلُوبَ حَيَاةٍ، فَـإِنَّ الشَّكَّ هُنَا يُضِرُّ بِالإِيمَانِ. وَيُعَلِّقُ البَابَا غِرِيغُورِيُوس الكَبِير: "عَدَمُ إِيمَانِ تُومَا كَانَ أَكْثَرَ نَفْعًا لِإِيمَانِنَا مِن إِيمَانِ التَّلَامِيذِ المُؤْمِنِينَ، لأَنَّهُ إِذْ رَجَعَ إِلَى الإِيمَانِ بِلَمْسِ يَسُوعَ، تَحَرَّرَتْ أَذْهَانُنَا مِنْ كُلِّ شَكٍّ، وَصَارَتْ ثَابِتَةً فِي الإِيمَانِ." تَصف هذه الآية شَخصيَّة توما من ناحية وديناميكية الشَّك والإيمان من ناحية أُخرى.
26 وبَعدَ ثَمانِيةِ أَيَّامٍ كانَ التَّلاميذُ في البَيتِ مَرَّةً أُخْرى، وكانَ توما معَهم. فجاءَ يسوعُ والأبوابُ مُغلَقَة، فوَقَفَ بَينَهم وقال: السَّلامُ علَيكم!
تَشِيرُ عِبَارَةُ "ثَمانِيَةِ أَيَّامٍ" إِلَى الأَحَدِ الأَوَّلِ بَعدَ القِيَامَةِ، أَي يَومِ الأَحَدِ التَّالِي، حَيثُ أَعلَنَ السَّيِّدُ المَسِيحُ نَفسَهُ لِتُومَا، وَذَلِكَ لأَنَّ اليَهُودَ يَحتَسِبُونَ اليَومَ الأَوَّلَ وَالثَّامِنَ، فَيَبدَأ العَدُّ مِن يَومِ الأَحَدِ وَيَنتهِي فِيه. وَيَرمُزُ "اليَومُ الثَّامِنُ" إِلَى الدَّهرِ الآتِي، أَي الأَبَدِيَّةِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَم: "إِن قُلتَ: وَلِمَ لَم يَظهَرِ السَّيِّدُ المَسِيحُ لِتُومَا فِي الحَالِ، بَل بَعدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ؟ أَجَبتُكَ: لِيُعلِنَ لَهُ التَّلَامِيذُ ذَلِكَ فِيمَا بَعد، وَيَسمَعَ مِنهُم هذَا القَولَ بِعَينِهِ، فَيَلتَهِبَ بِشَوقٍ أَكثَر، وَيَصِيرَ فِيمَا بَعدُ أَكثَرَ تَصْدِيقًا". وَيَحمِلُ رَقمُ 8 دَلَالَةَ بَدَايَةٍ جَدِيدَةٍ، وَأُسبُوعٍ جَدِيدٍ، لِذَلِكَ يُشِيرُ إِلَى: الأَبَدِيَّةِ السَّمَاوِيَّاتِ، والحَيَاةِ الرُّوحِيَّةِ، والإِنسَانِ الجَدِيدِ، وَبِشَكْلٍ خَاصٍّ، المَسِيحِ الأَبَدِيِّ وَالسَّمَاوِيِّ، لَيسَ فِي تَجَسُّدِهِ فَحَسْب، بَل فِي مَجْدِ قِيَامَتِهِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ بَاسِيلِيُوس الكَبِير: "نَحنُ نُقِيمُ الصَّلَوَاتِ وَقُوفًا يَومَ الأَحَدِ، أَوَّلِ الأُسبُوعِ، لَيسَ فَقط لأَنَّنَا قَائِمُونَ مَعَ المَسِيحِ، بَل أَيضًا لأَنَّ هذَا اليَومَ، هُوَ بِشَكلٍ مَا، صُورَةُ الدَّهرِ الآتِي، لأَنَّهُ يَقَعُ بَعدَ الزَّمَنِ". وَقَد وَرَدَ فِي العَهدِ الجَدِيدِ 8 مُعجِزَاتِ إِقَامَةٍ مِنَ المَوتِ، أَعلَنَت حَيَاةً جَدِيدَةً: السَّيِّدُ المَسِيحُ أَقَامَ ثَلَاثَةً: اِبنَ أَرمَلَةِ نَائِين (لُوقَا 7: 11-17)، اِبنَةَ يَائِيرُس (مَتَّى 9: 18-26)، لِعَازَر (يُوحَنَّا 11: 1-44). بُطرُسُ الرَّسُولُ أَقَامَ: طَابِيثَة (أَعمال الرُّسُل 9: 36-42). بُولُسُ الرَّسُولُ أَقَامَ: أَفطِيخُس (أَعمال الرُّسُل 20: 7-12). عَاشَ التَّلَامِيذُ القِيَامَةَ أُسبُوعًا كَامِلًا، كَبَدَايَةٍ جَدِيدَةٍ بَعدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ مِن الحِيرَةِ وَالخَوفِ وَالشَّكِّ. وَلِذَلِكَ، فِي أَحَدِ تُومَا، لَم يَبقَ لَدَيهِم أَيُّ مَجَالٍ لِلشَّكِّ. فَهُوَ يَومٌ يَعُودُ فِيهِ المَسِيحُ إِلَى جَمَاعَتِهِ، وَيُعلِنُ ثَبَاتَ الخَلاصِ. وَيُسَمِّيهِ القِدِّيسُ غِرِيغُورِيُوس النَّازِيَانْزِي: "ذِكرَى الخَلاصِ وَتَثبِيتِ الخَلاصِ". أَمَّا عِبارةُ: "وكانَ توما مَعَهم"، فَتُشِيرُ إلى عَودَةِ يَسوعَ لِلتَّرائي بَعدَ ثَمانِيَةِ أَيّامٍ، لِلتَّلاميذِ وتوما، حَيْثُ يُقَدِّمُ لَهُ جَنْبَهُ وَجِراحَهُ لِيَلْمَسَ ويَرى (يوحنا 20: 26–27). في هذا اللقاء الشخصي، يَستَجيبُ الرَّبُّ لِشَكِّ توما، لا لِيُدينَهُ، بَلْ لِيَكشِفَ لَهُ حَقيقَةَ القِيامَةِ ويُدْخِلَهُ في عَلاقةٍ إِيمانِيَّةٍ حيَّةٍ ومُحِبَّة. فالإيمانُ لا يُفرَض، بَل يُقَدَّم بِرَحمةٍ ويُقْبَل بِحُريَّةٍ. يسوعُ لا يَحتَقِرُ شَكَّ توما، بَل يُحوِّلُه إلى اعترافٍ عميقٍ: "رَبِّي وَإِلَهِي" (يو 20: 28)، وهو أَعلى اعترافٍ لاهوتيٍّ في الإِنجيل. بهذا، يُثبِّتُ يسوعُ إيمانَ مَنْ لَمْ يَرَوه: "طُوبى لِلَّذين آمَنوا وَما رَأَوا" (يوحنا 20: 29)، مُعلِنًا بَدءَ زَمَنِ الكَنيسةِ، زَمنِ الإِيمانِ الّذي يَسْتَنِدُ إلى الشَّهادةِ لا الرُّؤيا، وَإِلى الحُضورِ الرُّوحيِّ لا الجَسَديّ.
27 ثُمَّ قالَ لِتوما: هَاتِ إِصبَعَكَ إلى هُنا فَانظُرْ يَدَيَّ، وهاتِ يَدَكَ فضَعْها في جَنْبي، ولا تكُنْ غَيرَ مُؤمِنٍ بل كُنْ مُؤمِناً
تَشِيرُ عِبَارَةُ "هاتِ إِصبَعَكَ إِلى هُنا فَانظُرْ يَدَيَّ، وهاتِ يَدَكَ فَضَعْها في جَنبِي" إِلَى اِستِخدَامِ يَسُوعَ لِنَفْسِ الكَلِمَاتِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا تُومَا شَرْطًا لِإِيمَانِهِ. إِنَّهَا لَيسَت كَلِمَاتِ تَحدٍّ، بَل كَلِمَاتِ رَحمَةٍ. فَقَد كَشَفَ يَسُوعُ لَهُ أَدِلَّةَ آلامِهِ فِي يَدَيهِ وَجَنبِهِ، قَائِلًا لَهُ: "انظُرْ" – وَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ ἴδε (مِنَ الفِعل ὁράω) – وَهُوَ فِعلٌ يَحمِلُ مَعنى التَّجرِبَةِ وَالمُعَايَنَةِ الشَّخصِيَّةِ. لَم يَكُن يَسُوعُ شَبَحًا أَو طَيفًا أَو خَيَالًا، بَل كَانَ جِسمًا مُمكِنًا لَلمَسِ، وَقِيَامَتُهُ قِيَامَةٌ حَقِيقِيَّةٌ وَمَادِّيَّةٌ. فَـيَسُوعُ القَائِمُ لَيسَ رُوحًا غَيرَ مُجَسَّدَةٍ، بَل كَمَا قَالَ القِدِّيسُ بُولُس: "جَسَدِ مَجِيدٍ، بِمَا لَهُ مِن قُدرَةٍ يُخضِعُ بِهَا لِنَفْسِهِ كُلَّ شَيء" (فِيلِبِّي 3: 21)، وَسَمَّاهُ أَيْضًا: "جِسمًا رُوحِيًّا" (1 قورنتس 15: 44). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ إِيرُونِيمُوس: "سَيَكُونُ لَنَا بَعدَ القِيَامَةِ ذَاتُ الجِسمِ وَالدَّمِ وَالعِظَامِ." وَيَنفَرِدُ الإِنجِيلِيُّ يُوحَنَّا بِرِوَايَةِ ظُهُورِ يَسُوعَ لِتُومَا، وَيُشَدِّدُ فِي هَذَا النَّصِّ عَلَى حَقِيقَةِ الظُّهُورِ وَوَاقِعِهِ التَّارِيخِيِّ. فَـيَسُوعُ العَائِدُ هُوَ نَفسُهُ الَّذِي مَاتَ مُسَمَّرًا وَمَطعُونًا بِحَربَةٍ فِي جَنبِهِ. وَيُعَلِّقُ البَابَا القِدِّيس يُوحَنَّا بُولُس الثَّانِي: “عَلَامَاتُ آلامِ يَسُوعَ المُوجِعَةِ مَطبُوعَةٌ فِي جِسْمِهِ بِطَرِيقَةٍ لَا تَمحُوها القِيَامَةُ. فَهذِهِ الجِرَاحَاتُ المُـمَجَّدَةُ الَّتِي دَعَا تُومَا إِلَى لَمسِهَا، تُكشِفُ عَن رَحمَةِ اللهِ، الَّذِي "أَحَبَّ العَالَمَ حَتَّى إِنَّهُ جَادَ بِابنِهِ الوَحِيدِ" (يُوحَنَّا 3: 16)." فَـتُومَا اختَبَرَ حَقِيقَةَ الرَّحمَةِ الإِلَهِيَّةِ، تِلكَ الرَّحمَةِ الَّتِي لَهَا وَجهٌ مَلمُوسٌ، وَجْهُ يَسُوعَ القَائِمِ مِن بَينِ الأَموَاتِ. فَهَل نَفقِدُ الثِّقَةَ فِي الرَّحمَةِ الإِلَهِيَّةِ؟ أَمَّا عِبَارَةُ "انظُرْ يَدَيَّ، وهاتِ يَدَكَ فَضَعْهَا فِي جَنبِي"، فَهِيَ نَفسُ الكَلِمَاتِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا تُومَا فِي حِوَارِهِ مَعَ زُمَلَائِهِ الرُّسُلِ (يُوحَنَّا 20: 25). فَكَأَنَّ الرَّبَّ كَانَ وَاقِفًا يَستَمِعُ إِلَى شُرُوطِ تُومَا، وَفِي ظُهُورِهِ كَشَفَ لَهُ آثَارَ الصَّلبِ، أَدِلَّةَ آلامِهِ (يُوحَنَّا 20: 20). فَلَم تَبقَ جِرَاحَاتُ يَسُوعَ فِي يَدَيهِ وَجَنبِهِ كَعُيُوبٍ فِي الجِسمِ، بَل كَـعَلَامَاتٍ ظَاهِرَةٍ لِلمَجْدِ وَالكَرَامَةِ، وَتَكشِفُ عَن حَقِيقَةِ آلامِهِ وَقِيَامَتِهِ، وَسِرِّ مَحبَّتِهِ وَخَلَاصِهِ. وَمِن هَذِهِ الجِرَاحَاتِ استَخرَجَ تُومَا قُوَّةً لِتَثبِيتِ إِيمَانِهِ، وَمِن خِلَالِ حَاسَّةِ اللَّمسِ، وَصَلَ إِلَى يَقِينِ الإِيمَانِ. لَكِنَّ الإِيمَانَ فِي دَرَجَتِهِ الأَسمَى هُوَ مُعَايَنَةُ الرَّبِّ بِدُونِ الاستِعَانَةِ بِالحَواسِّ، بَل بِتَصْدِيقِ شَهَادَةِ مَن رَأَوهُ قَائِمًا. لِذَلِكَ، يُمكِنُ أَنْ نَعتَبِرَ هذِهِ الآيَةَ تَـوْبِيخًا عَلَى عَدَمِ إِيمَانِ تُومَا وَقَسَاوَةِ قَلبِهِ، لأَنَّهُ لَم يُصَدِّقِ الَّذِينَ شَاهَدُوهُ بَعدَ مَا قَامَ (مَرقُس 16: 14). أَمَّا عِبَارَةُ "ولا تَكُنْ غَيرَ مُؤمِنٍ، بَل كُنْ مُؤمِنًا"، فَتُشِيرُ إِلَى العُبُورِ مِن عَدَمِ الإِيمَانِ إِلَى الإِيمَانِ، بِفَضلِ كَلِمَةِ المَسِيحِ: "كُنْ مُؤمِنًا" – دَعْوَةٌ إِلَى الإِيمَانِ الشَّخْصِيِّ الْمُلْتَزِمِ. فَمَن يَختَبِرُ صَدَاقَةَ يَسُوعَ، لا يُمكِنُهُ إِلَّا أَنْ يَعْبُرَ مِن خِلَالِ جِرَاحَاتِهِ إِلَى الإِيمَانِ. وَلَا يَكفِي أَنْ نَنظُرَ إِلَيهَا مِن الخَارِجِ، بَل عَلَينَا أَنْ نَختَبِرَهَا مِن الدَّاخِلِ، لِنَعرِفَ مَن هُوَ المَسِيحُ المَصلُوبُ وَالقَائِمُ مِن بَينِ الأَموَاتِ. "كُنْ مُؤمِنًا": هِيَ دَعْوَةٌ لِـلثِّقَةِ بِالرَّبِّ، أَكثَر مِن الإِيمَانِ بِالعَقَائِدِ اللاهُوتِيَّةِ. فَـإِن كَانَ اللَّمسُ يَجعلُنَا نَعتَمِدُ عَلَى أَنفُسِنَا، فَـالإِيمَانُ يَجعلُنَا نَخرُجُ مِن ذَوَاتِنَا، لِنَتَّجِهَ نَحوَهُ وَنَحوَ الآخَرِينَ. وَيَسْأَلُنَا البَابَا فِرَنسِيس: "هَلْ لَمَسْنَا فِي الآوِنَةِ الأَخِيرَةِ جِرَاحَ بَعْضِ المُتَألِّمِينَ فِي الجَسَدِ أَوِ الرُّوحِ؟ أَوْ هَلْ حَمَلْنَا السَّلَامَ إِلَى جَسَدٍ جَرِيحٍ أَوْ رُوحٍ مُنْكَسِرَةٍ؟ أَوْ كَرَّسْنَا بَعْضَ الوَقْتِ لِلإِصْغَاءِ إِلَى الآخَرِينَ، وِمُرَافَقَتِهِمْ، وَتَعْزِيَتِهِمْ؟ فَعِنْدَمَا نَفْعَلُ ذَلِكَ، نَحْنُ نَلْتَقِي بِيَسُوع". (عِظَةُ الأَحَدِ 24/4/2022).
28 أَجابَه توما: رَبِّي وإِلهي!
تُشيرُ عِبارةُ "رَبِّي وإِلهي" إلى كَلِماتِ اليَهوديِّ في العَهدِ القَديم: אֲדֹנִי וֵאלֹהָי، وقد وَرَدَت في سِفرِ المَزامير:
"ٱسْتَيْقِظْ وَقُمْ لِحَقِّي، لِقَضِيَّتِي، يَا إِلَهِي وَسَيِّدِي، יְהוָה אֱלֹהָי" (مزمور 35: 23). ويَدُلُّ هذا الهُتافُ على أنّ الإيمانَ هو عَلاقةٌ شَخصيّةٌ خاصّةٌ وعَميقة، ولا يَستطيعُ أحدٌ أن يَقومَ بها عَن غيرِه. ما إنْ رأى توما الرّبَّ أَمامَهُ وسَمِعَ صوتَهُ، حتّى شَعَرَ بعدمِ الحاجةِ لوَضعِ إصبَعِه في مَكانِ المَساميرِ ولَمسِ جِراحاتِ سيِّدِه، فقد كانت كَلِماتُ الرّبِّ كافيةً لِتَغييرِ قلبِه وعَقلِه وكُلِّ كِيانِه. وفي لَحظةٍ، عَبَرَ توما مِن حالَةِ الشَّكِّ إلى اليَقين، وأعلَنَ في الحالِ إيمانَهُ به، صارِخًا: "رَبِّي وإِلهي". يُعَبِّرُ جوابُ توما الرَّسولِ عن سِيادةِ يسوعَ الإلهيَّة، ويُعلِنُ أنَّ يسوعَ القائمَ هو اللهُ ذاتُه، هو الرَّبُّ، وهو الإلهُ المُتجسِّد. ويُمثِّلُ هذا الجوابُ قِمَّةً في إعْلانِ الإيمانِ المسيحيِّ كما جاءَ في تعليمِ بولسَ الرَّسول: "يَشهَدَ كُلُّ لِسانٍ أَنَّ يَسوعَ المَسيحَ هو الرَّبّ، تَمْجيدًا للهِ الآب" (فيلبّي 2: 11). فقدِ انتقَلَ توما من أَقصى الشَّكِّ ("لَنْ أُؤمِنَ") إلى أَقصى الإيمانِ واليقين: "رَبِّي وإِلهي". وقد جَمَعَ توما بينَ لَقَبَي "رَبّ" و"إِله" (يوحنّا 1: 1 و18)، وهي مُطابقةٌ لِشَهادةِ يوحنّا الإنجيليّ: "الكَلِمَةُ هو الله" (يوحنّا 1: 1)، وشهادةِ بولس الرّسول: "المَسيحُ مِن حَيثُ إِنَّهُ بَشَر، وهو فَوقَ كُلِّ شَيءٍ: إِلهٌ مُبارَكٌ إِلى أَبَدِ الدُّهور. آمين" (رومة 9: 5). واعتَرَفَ أَنَّ هذا الرَّبَّ هو رَبُّه، وأَنَّ هذا الإِلهَ هو إِلهُه، ولسانُ حالِه ما قالهُ بولسُ الرّسول: "أَعرِفَهُ، وأَعرِفَ قُوَّةَ قِيامتِه" (فيلبّي 3: 10). فَذاكَ الذي هو رَبُّنا يسوعُ المسيحُ هو أيضًا الله. وكانَ هذا الاعترافُ آخِرَ شَهادةٍ في إِنجيلِ يوحنّا. نَحنُ أَمامَ أَعظمِ اعترافٍ إِيمانيٍّ بِلاهوتِ المسيحِ، الذي يُنشدُ في الليتورجيا: "ذاكَ الذي هو رَبُّنا يسوعُ المسيحُ هو أيضًا الله، سُبحانَهُ تعالى". وهذا الاعترافُ يُشاهِدُ لإِيمانٍ يَسمو على ضَرورَةِ مُشاهَدَةِ أَدِلّةٍ مَلموسةٍ لآلامِ يسوعَ المسيح. رأى توما في يسوعَ آثارَ الصَّلبِ فآمنَ بأُلوهيَّتِه، وكانَ هذا الاعترافُ آخِرَ شَهادةٍ في إِنجيلِ يوحنّا. فالإِيمانُ المسيحيُّ مُرتَكِزٌ على الإِيمانِ بِقِيامَةِ يسوعَ "رَبٌّ وإِلهٌ"، ومِنها يَستمدُّ قُوَّتَهُ في مُواجَهةِ كُلِّ الصِّعاب. في حينِ أَنَّ مُنكِري الثّالوثِ يُشيرونَ إلى أَنَّ صَرخةَ توما هي اعترافُ مُشكِّكٍ كبيرٍ بِلاهوتِ المسيح، يُعلِّقُ القِدِّيس أوغسطينوس قائلاً: "لقد رأى توما الناسوت ولمسه، وأدرك اللاهوت الذي لا يُرى ولا يُمسّ". ومِن هذا المُنطَلَق، الإِيمانُ المسيحيُّ مُرتَكِزٌ على الإِيمانِ بِقِيامَةِ يسوعَ "الرّبُّ والإِله"، الّذي مِنهُ يَستمدُّ قُوَّتَهُ في مُواجَهةِ كُلِّ الصِّعاب، كما اختَبَرَه بولسُ الرّسولُ بِقولِه: "فمَن يَفصِلُنا عن مَحبَّةِ المسيح؟ أَشِدَّةٌ؟ أَم ضِيقٌ؟ أَمِ اضطِهادٌ؟ أَم جوعٌ؟ أَم عُريٌ؟ أَم خَطَرٌ؟ أَم سَيف؟" (رومة 8: 35). ويُوصي البابا فرنسيس أن نُكرِّرَ: "رَبِّي وإِلهي" خلالَ اليوم، لا سيّما عندما نَشعُرُ بالشُّكوكِ والظَّلام، على مِثالِ توما، لأنَّنا في توما نَجِدُ قِصَّةَ كُلِّ مؤمِنٍ (عِظة الأَحد 24/4/2022). إِنَّ قِيامَةَ الرَّبِّ كَفيلةٌ بأَن تُغَيِّرَ لا فِكرَ توما فَحَسْب، بل رُوحَهُ وحياتَه، وتُجَدِّدَ فيهِ رُوحًا مُستَقيمًا بِحَسَبِ عَظيمِ رَحمَةِ اللهِ تعالى كما ترنم صاحب المزامير: "اْحمَدوا الرَّبَّ لأنه صالِح لانَّ للأبد رَحمَتَه" (مزمور 117: 1). هُنا نَلْمَسُ البُعْدَ التَّجْدِيدِيَّ لِلقِيَامَةِ؛ فَهِيَ لَيْسَتْ نِهَايَةَ المَوْتِ فَحَسْب، بَلْ بَدَايَةَ حَيَاةٍ جَدِيدَةٍ. تُجَدِّدُ الرُّوحَ، وَتُقَوِّمُ مَا اعْوَجَّ فِي النَّفْسِ. إِنَّهَا تَعْبِيرٌ مَلْمُوسٌ عَنْ رَحْمَةِ اللهِ، الَّتِي لا تَنْكفِئُ أَمَامَ ضَعْفِ الإِنْسَانِ، بَلْ تَذْهَبُ لِقِيَامِهِ حَيْثُ هُوَ، كَمَا فَعَلَ المَسِيحُ مَعَ تُومَا. فَفِي رَحْمَتِهِ، لا يُدِينُ اللهُ ضَعْفَ الإِيمَانِ، بَلْ يُحَوِّلُهُ إِلَى دَعْوَةٍ أَعْمَقَ لِلشَّهَادَةِ.
29 فقالَ له يسوع: أَلِأَنَّكَ رَأَيتَني آمَنتَ؟ طوبى لِلَّذينَ يؤمِنونَ ولَم يَرَوا
تُشيرُ عِبارةُ "أَلِأَنَّكَ رَأَيتَني آمَنتَ؟"، وكلمة "رَأَيتَني" باليونانيّة ἑώρακά، من الفعل ὁράω، إلى ظنِّ توما أَنَّهُ سيؤمِن إذا رأى أَثَرَ المَساميرِ في يَدَيْ يسوعَ، ورأى جَنبَهُ المَطعون. ويُعلِّق البابا غريغوريوس الكبير: "لم يَقُلِ الرّبُّ لتوما: لأنَّكَ لَمَستَ جِراحاتي آمَنتَ، وإنّما قال: لأنَّكَ رَأَيتَني آمَنتَ، فرُؤيتُهُ لِلسَّيِّدِ المَسيحِ جَذَبَتْهُ للإيمان". وهكذا، قد يَظُنُّ البعضُ أَنَّهُم سيُؤمِنون بيسوعَ إذا رأوا علامةً أو مُعجِزةً مُحدَّدة، كما قالَ يسوعُ لعاملِ المَلِكِ في كَفرناحوم: "إِذا لم تَرَوا الآياتِ والأَعاجيبَ لا تُؤمِنون؟" (يوحنّا 4: 48). في الواقِع، آمَنَ الرُّسُلُ لأنَّهُم رأَوا الماءَ يَتحوَّلُ خَمرًا في قانا الجَليل (يوحنّا 2: 1–12)، وآمَنوا لأنَّهُم رأَوا يسوعَ يُهَدِّئُ العاصِفة (متى 8: 23–27)، ويَشفي المرضى: الأبرَص (متى 8: 1–4)، ابنةِ الكَنعانيّة (متى 15: 21–28)، الأصمِّ (مرقس 7: 31–27)، الأعمى في بيتِ صيدا (مرقس 8: 22–26)، المُقعَدِ عند بَرَكةِ الغَنَم (يوحنّا 5: 1–9)، والمرأةِ المنزوفة (متى 9: 20–22)، وإحياءِ لِعازَرَ مِن الموت (يوحنّا 11: 1–44)، فلهذا آمَنوا. ومِن هذا المُنطَلَق، لا يَكفي الإيمانُ المَبنيُّ على طَلبِ المُعجِزات، بل الإيمانُ غير المُشروطِ بيسوعَ وكلامِه، هو ما يُؤدِّي إلى الحَياة. لأنَّ الإنسانَ قد يرى الآياتِ، ومعَ ذلك لا يُؤمِن، كما حصَلَ مع بَعضِ اليَهود: "أَتى يسوعُ بِجَميعِ هذهِ الآياتِ بِمَرأًى مِنهم، ولَم يُؤمِنوا بِه" (يوحنّا 12: 37). أمّا عبارة "طوبى لِلَّذينَ يُؤمِنونَ ولَم يَرَوا"، فتشيرُ إلى تَطويبِ يسوعَ مَن يُؤمِنُ دون أن يرى. ويؤكّد ذلك قولُ بطرسَ الرَّسولِ للمسيحيّين: "ذاكَ الَّذي لا تَرَونَه وتُحِبُّونَه، وإلى الآنَ لَم تَرَوه وتُؤمِنونَ بِه، فيَهُزُّكُم فَرَحٌ لا يُوصَفُ مِلؤُهُ المَجْد" (1 بطرس 1: 8). فالإِيمانُ هو مَبدأُ تلكَ الرِّسالةِ التي يُريدُنا القائمُ مِن بينِ الأمواتِ أن ننطلِقَ نَحوَها. ومَن يَنتظرُ الرُّؤيةَ واللَّمس، لن يَبدأَ أبدًا. أمّا مَن يُؤمِن، فيَنطلِقُ ليَنقُلَ إلى الآخَرينَ الهِبَةَ المجانيّة والحياةَ ذاتها. "فالإِيمانُ هو بُرهانُ الحَقائِقِ الَّتي لا تُرى" (العِبرانيّين 11: 1). فالأدلّةُ الحسيّةُ ليست كافيةً للإيمان، إذ إنّ الإيمانَ بعد قيامةِ يسوعَ لا يَستندُ إلى العِيانِ والرؤية، بل إلى شهادةِ الذينَ عاينوه. نُؤمِنُ به عن كلامِ تلاميذه، كما صرّح يسوعُ في صلاته لأجلهم: "يُؤمِنونَ بي عن كلامِهم" (يوحنّا 17: 20). فالإِيمانُ لا يَستندُ إلى الرُّؤية، بل إلى شهادةِ مَن رَأى. وهي شهادةُ شُهودِ عِيانٍ للقيامةِ، شهادةُ الكنيسة. ويُمكنُنا أن نُسمِّيَ قولَ يسوعَ هذا لتوما "التطويبةَ التاسعة". فقد كانت الرؤيةُ الجسديّةُ لتوما أساسًا للإيمان، أمّا اليوم فإنّ الإيمانَ هو أساسُ رؤيةِ الربِّ يسوع. فالإيمانُ الحقيقيُّ لا يَنبعُ من النظر، بل من السّمع، كما جاء في تعليمِ بولسَ الرَّسول: "الإِيمانُ مِنَ السَّماع، والسَّماعُ يَكونُ سَماعَ كَلاَمٍ على المسيح" (رومة 10: 17). ولذلك، فإنَّ الإيمانَ يَكمُنُ في الثّقةِ بكلمةِ الآخَر بدلاً من طَلبِ البراهين. إنّه إيمانٌ، كما يقول القِدِّيس بطرس، بهذا المسيح: "ذاكَ الَّذي لا تَرَونَه وتُحِبُّونَه، وإلى الآنَ لَم تَرَوه وتُؤمِنونَ بِه" (1 بطرس 1: 8). لا شكَّ أنّ زمنَ النظرِ قد انتهى، حيث كان يسوعُ يَجولُ فلسطين. فيسوعُ يُطوِّبُ الذينَ يُؤمِنونَ به دون أن يَرَوه قائمًا من الموت، بل يُصَدِّقون شهادةَ الذين رأَوا، وقدِ اختارَهُم هو ليكونوا شهودًا له، كما ورد في عظةِ بطرسَ الرّسول الأولى: "فَيَسوعُ هذا قد أَقامَهُ الله، ونَحنُ بأَجمَعِنا شُهودٌ على ذلك" (أعمال الرُّسل 2: 32). وهنا نجد دعوةً صامِتةً من يوحنّا الإنجيليّ إلى تَصديقِ شهادتِه هو، لأنّه كان من الذين رأَوا الرّب، كما صرَّحَ قائلاً: "ذاكَ الَّذي كانَ مُنذُ البَدْء، ذاكَ الَّذي سَمِعناه، ذاكَ الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا، ذاكَ الَّذي تَأمَّلناه، ولَمَسَته يَدانا، مِن كَلِمَةِ الحَياة" (1 يوحنّا 1: 1). ومِن هنا، تَنبُعُ أهميّةُ الشَّهادةِ في إنجيلِ يوحنّا: "جاءَ شاهِدًا لِيَشهَدَ لِلنُّور، فَيُؤمِنَ عن شَهادَتِه جَميعُ النّاس" (يوحنّا 1: 7). لدَينا في كلماتِ الكتابِ المقدّس كُلُّ شَهادةٍ نَحتاجُ إليها لِنُؤمِنَ أنَّ يسوعَ هو المسيحُ، ابنُ الله، الذي به نَلنا الحياةَ الأبدية. وبهذا الإيمانِ، يَدخُلُ المسيحيّون في اتّحادٍ وثيقٍ بالمسيحِ القائمِ من بينِ الأموات (يوحنّا 17: 20). فيسوعُ يُعلِن أنَّ الإيمانَ لا يقومُ بعد اليوم على العِيان، بل على شَهادةِ الذينَ عاينوا ورأَوا. وقدِ اختارَهُم هو ليكونوا شهودًا له، كما جاء في أعمالِ الرُّسل: "فَيَسوعُ هذا قد أَقامَهُ الله، ونَحنُ بِأَجمَعِنا شُهودٌ على ذلك" (أعمال الرسل 2: 32). وأمّا الأدلّةُ الحسيّةُ فليست كافيةً للإيمان. وفي هذا السياق، كتب بولسُ الرّسول عن إِبراهيم: "هو أَبٌ لَنا عندَ الذي بِه آمَنَ... آمَنَ راجِيًا على غيرِ رَجاء، فأَصبَحَ أَبًا لعددٍ كبيرٍ مِن الأُمم... فلِهذا حُسِبَ له ذلك بِرًّا. ولَيس مِن أَجْلهِ وَحده كُتِبَ حُسِبَ له، بل مِن أَجْلِنا نحنُ أيضًا، الذينَ يُحْسَبُ لنا الإِيمانُ بِرًّا، لأَنّنا نُؤمِنُ بمَن أَقامَ مِن بينِ الأمواتِ يسوعَ ربَّنا، الّذي أُسلِمَ إلى الموتِ مِن أَجْلِ زلّاتِنا، وأُقيمَ مِن أَجْلِ بِرِّنا" (رومة 4: 17–25). فلدَينا كُلُّ بُرهانٍ نَحتاجُ إليه: فالإنسانُ يستطيعُ أن يَلتقيَ يسوعَ مِن خلالِ تعليمِ وشهادةِ جماعةِ التلاميذ والكنيسة. إنَّ يسوعَ لم يُظهِر ذاتَه لتوما عندما كان خارجَ جماعةِ التلاميذ، بل أظهرَ ذاتَه له حينما اجتمعَ معهم. فالخبرةُ الإيمانيّةُ الشخصيّةُ لا يُمكنُ أن تتحقَّق إلا داخل الجماعة، مع الآخَرينَ الذينَ يَسيرون معنا في دربِ الإيمان. قال أحدُ القدّيسين: "لا يُمكنُ للإنسانِ أن يَخلُصَ بمفرده". فمَن أرادَ أن يُؤمِنَ بالمسيح، فليُؤمِن بكَنيستِه. ويُعلّق القِدّيس إيريناوس قائلاً: "إنّ الكنيسةَ تحفظُ هذا الإيمانَ بكلِّ دقّة، كأنّها تعيشُ في مكانٍ واحد، وتُؤمِنُ إيمانًا واحدًا، لها قلبٌ واحدٌ وروحٌ واحد، وباتّفاقٍ تامٍّ تُبشِّرُ وتُعلِّمُ وتمنحُ هذا الإيمان كأنّها تملكُ فمًا واحدًا". فالإِيمانُ المسيحيُّ المَبنيُّ على الشَّهادة، لا على العِيان، لا يَقلُّ عُمقًا عن إِيمانِ الرُّسلِ أنفسِهم. أمّا مَن يَبحثُ عن كنيسةٍ بلا عَيب، فسيَبقى دون كنيسة. هذا ما كان يردِّده اللاهوتيّ الأب إيف كُونغار قائلاً: "فإن كنّا نَبحث عن كنيسةٍ معصومةٍ من الهَفَوات حتّى نَلتزمَها، فلن نلتزم". ورغمَ صعوبةِ إيمانِ توما بالقيامة، فقد بقي في جماعةِ الرُّسلِ ولم يَنفصِل عنها، وهذا ما قادَه في النهاية إلى إعلانِ إيمانه قائلاً: "رَبِّي وإِلهي".
30 وأتى يسوعُ أمامَ التَّلاميذ بِآياتٍ أُخرى كثيرة لم تُكتَبْ في هذا الكِتاب
تُشيرُ عِبارةُ "آياتٍ" باليونانيّة σημεῖα، وبالعبريّة אוֹתוֹת (خروج 10: 1)، إلى رَمزٍ يَدُلُّ على خارِقةٍ دينيّة؛ فالآيةُ هي عملٌ يُوصِلُ إلى حقيقة. فظُهورُ يسوع يُظهِرُ حقيقةَ أَنَّهُ ابنُ اللهِ الحَيُّ الأبديّ. فالمُعجِزةُ هي آيةٌ تَمتازُ بوجهٍ خاصٍّ بكَشفِها عن قُدرةِ اللهِ ومَجدِه وشُعاعِ قَداسَتِه وسُموِّه، وهي تَهدِفُ إلى الدَّعوةِ إلى الإِيمان. أمَّا عِبارةُ "آياتٍ أُخرى"، فتَشيرُ إلى آياتٍ لم يذكُرْها الإِنجيل، بل اختارَ فقط سَبعَ آياتٍ صَنَعَها يسوعُ قبل موتِه، وكان أَوَّلُها معجزةَ الخمرِ في عُرسِ قانا الجليل، كما أَكَّدَ ذلك يوحنّا الإنجيلي: "هذِه أُولى آياتِ يسوعَ أَتى بها في قانا الجَليل، فأَظهَرَ مَجدَه، فَآمَنَ بِه تَلاميذُه" (يوحنّا 2: 11)، ومِنها أيضًا: شِفاءُ المُقعَدِ عند بركةِ الغنم (يوحنّا 5: 1–9)، شِفاءُ الأَعمى في أورشليم (يوحنّا 9: 1–38)، إحياءُ لِعازَرَ (يوحنّا 11: 1–44). وهذه الآياتُ هي معجزاتٌ تُثبِتُ لاهوتَ يسوعَ المسيح، وتُظهِرُ مَجدَه، وتَكشِفُ حضورَ اللهِ بين الناس. أمَّا عِبارةُ "لَم تُكتَبْ في هذا الكِتاب"، فتَشيرُ إلى عَدَمِ كتابةِ قِصَّةِ حياةِ المسيحِ كُلِّها؛ إنّما ما دَوَّنَهُ يوحنّا الإنجيليّ ليسَ سوى القَليلِ مِن أحداثٍ كثيرةٍ جَرَت في حياةِ يسوعَ على الأرض. لكن ما كُتِب، هو كُلُّ ما نَحتاجُ معرفتَه لكي نُؤمِنَ أنَّ يسوعَ هو المسيحُ، ابنُ الله، والذي به نَلنا الحياةَ الأبدِيَّة (يوحنّا 20: 31).
31 وإِنَّما كُتِبَت هذه لِتُؤمِنوا بِأَنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله، ولِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِه
تُشيرُ عِبارةُ "إِنَّما كُتِبَت" إلى ما دوَّنَهُ يوحنّا الإنجيليّ هو القَليلُ مِن أحداثٍ كثيرةٍ التي جَرَت في حياةِ يسوعَ المسيحِ على الأرض. ما كُتِبَ لَيْسَ اسْتِعْرَاضًا تَارِيخِيًّا شَامِلًا، بَلْ إِعْلَانًا خَلَاصِيًّا لِمَا يَكْفِي لِكَيْ نُؤمِنَ وَنَحْيَا. فغايةُ إنجيلِ يوحنّا ليست تقديمَ عرضٍ تاريخيٍّ شاملٍ عن حياةِ السيّدِ المسيحِ وأعمالِه وأقوالِه كُلِّها، بل تقديمُ ما ينبغي معرفتُه مِن حياةِ يسوع لنَيلِ الإِيمانِ الحَيّ، الذي يَهبُ الحياةَ الأبدِيَّة. أمَّا عبارةُ "لِتُؤمِنوا" فتُشيرُ إلى الدعوةِ إلى الإيمان، وإلى التقدُّم فيه لدى الذينَ صاروا أعضاءً في جماعةِ المؤمنين؛ الإِيمَانُ هُنَا لَيْسَ نُقْطَةَ وُصُولٍ بَلْ مَسِيرَةً مُتَجَدِّدَةً نَحْوَ العُمْقِ فِي المَسِيحِ، دَعْوَةً مُسْتَمِرَّةً لِلنُّمُوِّ فِي الشَّرِكَةِ مَعَهُ. فالإِيمانُ هو هدفُ إنجيلِ يوحنّا الأساسيّ. أمَّا عبارةُ "بِأَنَّ يَسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله" فتُشيرُ إلى يسوعَ الذي من الناصِرة، الذي وَلَدَتْهُ العذراءُ، وصُلِبَ وقامَ من بينِ الأموات، وهو المسيحُ، ابنُ الله، ذاك الذي تنبّأ عنه الأنبياءُ، رَجاءُ الشُّعوبِ كلِّها. فهدفُ الإِنجيلِ هو دعوةُ القُرّاءِ إلى الإِيمانِ بالمسيح، حتّى وإن كانوا من بين أولئك الذين "ولَم يَرَوا". يسوعَ هو المسيحُ هو لَيْسَ مُجَرَّدَ نَبِيٍّ أَوْ مُعَلِّمٍ، بَلِ المَمْسُوحَ، المُخَلِّصَ، الإِلَهَ الحَقَّ مِنَ الإِلَهِ الحَقِّ، الحَاضِرَ فِي التَّارِيخِ، وَالقَائِمَ مِنَ المَوْتِ. ويُعلِّق القدّيس يوحنّا الذهبيُّ الفم قائلاً: "الإِيمانُ بيسوعَ أَنَّهُ المسيحُ ابنُ الله لا يَترُكُ الإنسانَ في موقعِه كما هو، بل يَقودُهُ إلى التمتُّعِ بالحياةِ الأبدِيَّة، أو التمتُّعِ باسمِ المسيح، أي بشخصِه، بكونِه الحياةَ في ذاتِها". أمَّا عبارةُ "لِتَكونَ لَكُم إذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِه"، ففي الأصلِ اليونانيِّ: ἵνα πιστεύοντες ζωὴν ἔχητε، وتُشيرُ إلى الاستمراريّة؛ أي إلى إِيمانٍ فَعّالٍ مُستمرٍّ، باعتبارِه الهدفَ الأوَّلَ لتَدوينِ إنجيلِ يوحنّا. والإيمانُ هنا هو قَبولُ المسيحِ، والثِّقةُ فيه، وإعطاؤه السيادةَ على الحياة؛ الإِيمانُ الذي، في جوهرِه، يدورُ حولَ شخصِ المسيحِ، ابنِ الله، ورِسالتِه الخلاصيّة، فهو الذي يَهبُ الذين يُؤمِنونَ به حقًا الحياةَ الأبدِيَّة: "فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتّى إنَّه جادَ بابنِه الوَحيد، لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ به، بل تكونَ له الحياةُ الأبدِيَّة" (يوحنّا 3: 16). كما أعلَن بُطرسُ الرّسول: "أَنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ" (متى 16: 16). فالإِيمانُ بيسوعَ يقومُ على أَنَّهُ المسيحُ، ابنُ الله، كما جاءَ في افتتاحيةِ إنجيلِ مرقس: "بَدءُ بِشارَةِ يسوعَ المسيحِ ابنِ الله" (مرقس 1: 1). وهذا الإِيمانُ لا يَقتصرُ على اعتقادٍ ذهنيٍّ، بل هو مَعرِفةٌ حيّةٌ تهبُ الحياةَ الأبدِيّة، لأنَّ هناك صِلةً وثيقةً بين الإِيمانِ والحياةِ. أمَّا عبارةُ "الحياةُ" فتُشيرُ إلى الحياةِ الأبدِيّة، التي ظهَرَت في قيامةِ المسيح، وهي الهدفُ الثاني لتَدوينِ إنجيلِ يوحنّا؛ فغايتا هذا الإِنجيلِ هما ذاتُ غايتي الكتابِ المقدّسِ كُلِّه، من سِفرِ التكوين إلى سِفرِ الرؤيا، إذ كُلُّ نُبوءاتِه تُثبِتُ مجدَ يسوعَ المسيح وكونَهُ مصدرَ الحياةِ الأبدِيّة. الإِيمَانُ لَيْسَ فِكْرَةً مُجَرَّدَةً، بَلْ دُخُولٌ فِي شَرِكَةِ حَيَاةٍ، تَنْبُعُ مِنِ اسْمِ يَسوعَ، الَّذِي فِيهِ الخَلاصُ وَالحَيَاةُ، وَالَّذِي بِهِ يَحْيَا المُؤْمِنُ حَقًّا. أمّا عبارةُ "بِاسمِه" فتُشيرُ إلى صفاتِ المسيحِ ووظائفِه المُعلَنَة، بما سُمِّيَ به: كيسوع (أي المُخلِّص)، وعمّانوئيل (أي الله معنا)، والملك، والنبي، والكاهن. فـ"الاسم" هنا يَدلُّ على حضورِ المسيحِ الحَيّ، كما في العهدِ القديم، حيثُ اسمُ الله الذي لا يُلفَظ (خروج 3: 15) كان يُشيرُ إلى حضورِ اللهِ الفعّال. ولذا كان اليهودُ يَحظُرونَ نُطقَ اسمِه، لأنَّ ذِكرَ اسمِه هو الدخولُ في حَضرَتِه. فالإِيمانُ باسمِ يسوع يَقودُ إلى الحياة، لأنَّه هو الحياة، كما صرّح هو بنفسِه: "أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة" (يوحنّا 14: 6). واسمُ يسوع يَجلبُ الخلاصَ للبشر، كما قال بطرس في المجمع: "لا خَلاصَ بأَحدٍ غيرِه، لأَنَّه ما مِنِ اسمٍ آخَرَ تَحتَ السماءِ أُطلِقَ على أَحدِ الناسِ نَنالُ به الخَلاص" (أعمال 4: 12). وليست المعجزاتُ إلا صورةً لهذا الخلاص. ومن أجلِ هذا الاسم، كان الرسلُ: يَلقَونَ العَذاب (أعمال 5: 41)، ويُعَمَّدُ المؤمنون فيه (أعمال 2: 38)، ويَدعونه في الصلاة (أعمال 9: 14). فمَن يَقرأُ هذه الآية ولا يُؤمِن بلاهوتِ يسوع، ولا ينالُ الحياةَ الأبدِيَّة، فقد أساءَ قراءةَ هذه الآية وغايتها الخلاصية. فِي هذِهِ الآية، يَعرِضُ يُوحَنَّا دَعْوَةً وَاضِحَةً إِلَى الإِيمَانِ الحَيِّ، القَائِمِ لا عَلَى كَثْرَةِ المُعْجِزَاتِ، بَلْ عَلَى الشَّهَادَةِ الحَقِيقِيَّةِ لِشَخْصِ يَسوعَ المَسِيحِ، الكَلِمَةِ المُتَجَسِّدِ، ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَظْهَرَ مَحَبَّةَ الآبِ، وَوَهَبَنَا الحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ. إِنَّ غَايَةَ الإِنْجِيلِ، كَمَا غَايَةَ الكِتَابِ المُقَدَّسِ كُلِّهِ، أَنْ يُعَرِّفَنَا عَلَى المَسِيحِ، فَنُؤمِنَ بِهِ، وَنَنْفَتِحَ عَلَى سِرِّ الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتِي يَهَبُهَا لَنَا، لا بِالعِيَانِ، بَلْ بِالثِّقَةِ وَالشَّهَادَةِ، دَاخِلَ جَمَاعَةِ المُؤْمِنِينَ، حَيْثُ تُعْلَنُ الكَلِمَةُ وَتُحْيَا الأَسْرَارُ. وَهَكَذَا، فَإِنَّ مَن يُؤمِنْ، يَرَى. وَمَن يَرَ، يَشْهَدْ. وَمَن يَشْهَدْ، يَهَبِ الحَيَاةَ لِلآخَرِينَ.
ثانياً: تطبيقاتُ النَّصِّ الإِنجيليِّ
بَعدَ قراءةِ وتحليلِ وَقائِعِ نَصِّ إنجيلِ يُوحَنّا (20: 19-31)، يُمكِنُ أنْ نَستَنتِجَ أنَّ هَدَفَ كِتابةِ الفَصلِ العِشرينَ مِن إنجيلِ يُوحَنّا، هو حَملُ قُرّائِهِ على الإيمانِ بِقِيامَةِ المسيحِ، حتّى وإنْ كانوا مِن بَينِ أولئكَ الذينَ لَم يَرَوا. فيَصِفُ النَّصُّ تَرائيَ يَسوعَ المسيحِ للتَّلاميذِ (20: 19-23)، وتَرائيَهُ لتوما الرَّسولِ (يُوحَنّا 20: 24-31). ومِن هُنا نَبحَثُ في ثلاثِ نِقاطٍ: مَفهومُ تَرائي المسيحِ القائِمِ مِن بَينِ الأموات؛ تَرائيه إلى تَلاميذِهِ الاثنَي عشَر؛ وتَرائيه إلى توما الرَّسول.
1) مَفهومُ تَرائي يَسوعَ القائِمِ مِن بَينِ الأَمواتِ
تَختَلِفُ كَلِمَةُ "تَرائي" عن كَلِمَةِ "الرُّؤيا"، إذ إنَّ الرُّؤيا تُرَكِّزُ على المَجدِ، وتَكشِفُ عن الأُمورِ السِّرِّيَّةِ والسَّماويَّةِ، وتَعرِضُ مَشاهِدَ خارِقَة. أَمَّا التَّرائي، فَهُو وَسيلَةٌ مِن وَسائِلِ التَّعبيرِ عن وَحيِ اللهِ، الَّذي بواسِطَتِهِ تُصبِحُ الكائِناتُ غَيرُ المَنظورَةِ بِطَبعِها حاضِرَةً بِشَكلٍ مَنظورٍ.
يُقَدِّمُ القِدِّيسُ بُولُس أوَّلَ قائمةٍ لِتَرائي يَسوعَ القائِمِ مِن بَينِ الأَمواتِ في سنةِ (55 م)، انطلاقًا مِن تَقليدٍ كانَ قد تَسَلَّمَهُ قَبلَ ذلِكَ، فَوِفقًا لِاعْتِرافِ الإيمانِ القَديمِ هذا: "تَراءَى لِصَخْرٍ، فَلِلاْثَنَي عَشَر، ثُمَّ تَراءَى لأَكثَرَ مِن خَمْسِمِائَةِ أَخٍ مَعًا، لا يَزالُ مُعظَمُهُم حَيًّا، وبَعضُهُم ماتوا، ثُمَّ تَراءَى لِيَعقوب، ثُمَّ لِجَميعِ الرُّسُل، حتَّى تَراءَى آخِرَ الأَمرِ لي أَيضًا أَنا السِّقْط" (1 قورنتس 15: 5-8).
لا تَذكُرُ الأناجيلُ مِن هذِهِ القائِمَةِ إلّا التَّرائيَينِ الأَوَّلَينِ لِسِمعانَ بُطرُس (لوقا 24: 34)، وَللأَحَدَ عشَر (يوحنّا 20: 19-29)، الَّذينَ انضَمَّ إلَيهِم بَعضُ التَّلاميذِ الآخَرينَ (لوقا 24: 33-50). ومعَ ذلك، تُورِدُ الأناجيلُ تَرائيّاتٍ أُخرى لِبَعضِ الأَفرادِ: لِمَريمَ وَلِلنِّسوَةِ (يوحنّا 20: 11-18)، وَلِتِلميذَي عِمّاوُس (لوقا 24: 13-35)، وَلِسَبعَةِ رُسُلٍ على شاطِئِ البُحَيرَةِ (يوحنّا 21: 1-23).
تَندَرِجُ هذِهِ التَّرائيّاتُ المُختَلِفَةُ تَحتَ نَوعَينِ: عامَّة وخاصَّة. التَّرائيّاتُ العامَّة هِيَ تَرائيّاتٌ رَسميَّةٌ لِجَماعَةِ الرُّسُلِ أَوِ التَّلاميذِ بِصِفَةٍ عامَّة، وتَستَهدِفُ بَيانَ الرِّسالَةِ وَتَأسيسِ الكَنيسَةِ. أَمّا التَّرائيّاتُ الخاصَّة، فَتَدورُ رِوايَتُها حَولَ التَّعَرُّفِ على المَسيحِ الَّذي ظَهَرَ.
لَم تَكُنِ التَّرائيّاتُ ضَروريَّةً لِلرُّسُلِ وَالتَّلاميذِ، إنَّما يَكفي أَن يَكونوا قَد أُخبِروا مِن قَبلُ وَبَرْهَنوا على ذلِكَ، كَما حَدَثَ مَعَ تِلميذَي عِمّاوُس:"فَلَمَّا رَجَعا تِلميذا عِمّاوُسِ وأَخبَرا الآخَرينَ، فَلَم يُصَدِّقوهُما"(مرقس 16: 13). وكانَ جَديرًا بِفَهمِ التلاميذ لِلكُتُبِ المُقَدَّسَةِ أَن يَقودَهُم نَحوَ الإيمانِ بِالقِيامَةِ (يوحنّا 20: 9). فَالتَّرائيّاتُ تَستَجيبُ لِاحتِياجاتِ إيمانٍ ما زالَ ناقِصًا.ومَعَ ذلِكَ، كانَتِ التَّرائيّاتُ ضَروريَّة، لأَنَّ الَّذينَ عاشوا مَعَ يَسوعَ النَّاصِري، كانَ يَنبَغي أَن يَكونوا الشُّهودَ الوَحيدينَ وَالمُختارينَ لِيَسوعَ المَسيح، وَأَن تَنغَرِسَ بِصُورَةٍ تاريخِيَّةٍ نُقطَةُ الانطِلاقِ في الإيمانِ المَسيحي وفي الكَنيسَةِ.
يُمكِنُ القَولُ إِنَّ التَّلاميذَ رَأَوا الرَّبَّ حَيًّا في اختبارٍ تاريخيّ، حَيثُ أَنَّ إيمانَهُم نَوعًا ما كانَ نَتيجَةً لِرُؤيَةِ العَينِ، فَهُم شُهودُ عِيانٍ لِلمَسيحِ القائِمِ مِن بَينِ الأَمواتِ. إنَّ رِواياتِ تَرائي القائِمِ مِن بَينِ الأَمواتِ مَعَ تَلاميذِهِ تَرتَبِطُ عَادَةً بِمَسيرَةٍ. نَرى ذلِكَ في زِيارَةِ التَّلاميذِ لِلقَبرِ، وَذَهابِ يَسوعَ إِلَيهِم في العِلِّيَّةِ، وَسَفَرِ التِّلميذَينِ إِلى عِمّاوُس، وَمِنها يَعودانِ أَدراجَهُما إِلى القُدْس. إِنَّها مَسيرَةٌ جَسَدِيَّةٌ، ولَكِنَّها رُوحِيَّةٌ أَيضًا. هِيَ مَسيرَةُ إيمان.
2) تَرائي يسوعَ لِتَلاميذِهِ وتَثبيتُ إيمانِهِم بِقِيامَتِهِ المَجيدة (يوحنّا 20: 19-23)
تَغلَّبَ يَسوعُ على قِلَّةِ إيمانِ تَلاميذِهِ الاثنَي عَشَر بِتَرائيهِ لَهُم، وإعطائِهِم عَلاماتٍ على حَقيقَةِ قِيامَتِهِ، كَما جاءَ في تَعليمِ الرُّسُلِ: "أَظهَرَ لَهم نَفْسَه حَيًّا بَعدَ آلامِه بِكَثيرٍ مِنَ الأَدِلَّة" (أَعمالُ الرُّسُلِ 1: 3). ومِن أَهمِّ هذِهِ الأَدِلَّةِ، أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَيهِم، وأَراهُم يَدَيهِ وجَنبَهُ المَطعون، وأَعطاهُم الفَرَحَ والسَّلامَ والرُّوحَ القُدُس، ومَنَحَهُم سُلطَةَ مَغفِرَةِ الخَطايا، وأَرسَلَهُم لِلتَّبشير.
ظَهَرَ يَسوعُ لِلتَّلاميذِ في مَساءِ يومِ الأَحد، كَأَنَّ نَهارَ ذلِكَ الفِصحِ لَم يَكتَمِلْ بِدونِ ظُهورِهِ لِلتَّلاميذِ المُجتَمِعينَ. فَشاهدَ التَّلاميذُ يَسوعَ الَّذي تألَّم، ويَسوعَ الَّذي قام، وهو الآنَ مَعَهُم إِلى الأَبَد (عِبرانيّينَ 2: 18). وشاهدوا جَسَدَه هو نَفسُه، قَبلَ موتِهِ وَبَعدَ قِيامَتِهِ، لَكِن مَعَ أَثَرِ الجُروحاتِ في يَدَيهِ وجَنبِهِ. وانفَرَدَ يُوحنّا الإِنجيليُّ بِذِكرِ "جَنبِهِ"، لِلدَّلالَةِ على العَلاقَةِ بَينَ حادثَةِ الطَّعنِ بِالحَربَةِ وَحَدَثِ العَشاءِ الأَخيرِ. يَسوعُ هو الحَمَلُ الذَّبيحُ (رُؤيا 5: 6)، حَمَلُ الفِصحِ، الذَّبيحُ على الجُلجُثَةِ، الَّذي يَعودُ إِلى تَلاميذِهِ حامِلًا في جِسمِهِ المُـمَجَّدِ آثارَ ذَبيحَتِهِ الخَلاصِيَّة.
وشاهدَ التَّلاميذُ يَسوعَ في جَسَدٍ مُـمَجَّدٍ، غَيرِ خاضِعٍ لِقَوانِينِ عالَمِنا، إِذ دَخَلَ وَالأَبوابُ مُغلَقَةٌ، وفَجأَةً وَقَفَ في وَسَطِهِم. ويُعلِّقُ القِدّيسُ بُطرُس خُرَيزُولُغُس قائلًا: "انظُروا جِراحاتِ جَسَدي... تَأمَّلوا الآثارَ الَّتي صَنَعَها أَعدائي... اِلمِسوني، لِكَي تُعطِيَكُم يَدُكُمُ البُرهان، اكتَشِفوا ثُقوبَ يَدَيَّ، ضَعوا يَدَكُم في جَنبِي، اِفتَحوا جِراحاتي، لِأَنَّني لا أَستَطيعُ أَن أَرفُضَ هذا لِتَلاميذي، مِن أَجلِ الإِيمان... ولتُثبِتْ هذِهِ الجِراحاتُ الَّتي لا تَزالُ مَفتوحَةً، أَنَّني أَنا هُوَ حَقًّا".
رافَقَ إيمانَ التَّلاميذِ فَرَحٌ كَبيرٌ: "فَفَرِحَ التَّلاميذُ لِمُشاهَدَتِهِمِ الرَّبَّ" (يُوحنّا 20: 20). وكانَ يَسوعُ قَد تَكلَّمَ مَعَهُم عَن هذَا الفَرَحِ في العَشاءِ الأَخيرِ: "سَأَعودُ فَأَراكُم فتَفَرحُ قُلوبُكُم، وما مِن أَحَدٍ يَسلُبُكُم هذا الفَرَح" (يُوحنّا 16: 22). وأَعطاهُم يَسوعُ مَعَ الفَرَحِ السَّلامَ، فَقالَ لَهُم مَرَّتَينِ: "السَّلامُ علَيكُم!" (يُوحنّا 20: 21، 26). وهذا السَّلامُ لَيسَ مُجرَّدَ تَحيَّةٍ، بَل ثَمَرَةُ قِيامَتِهِ، سَلامُ ابنِ اللهِ المُنتَصِرِ على المَوتِ، الَّذي لا يَستَطيعُ العالَمُ أَن يُعطيَه: "السَّلامَ أَستَودِعُكُم، وسَلامي أُعطِيكُم. لا أُعطِي أَنا كما يُعطي العالَم. فلا تَضطَرِبْ قُلوبُكُم ولا تَفزَعْ" (يُوحنّا 14: 27). وهو سَلامٌ يُبَدِّدُ كُلَّ اضطرابٍ، كَما وَعَدَهُم يَسوعُ: "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكُم: ستَبكونَ وتَنتَحِبون، وأَمَّا العالَمُ فَيَفرَح. ستَحزَنون، ولكِنَّ حُزنَكُم سَيَنقَلِبُ فَرَحًا" (يُوحنّا 16: 20). إنَّه سَلامٌ يُقَوِّي التَّلاميذَ في مَهامِّهِم المُستَقبَلِيَّة: "قُلتُ لَكُم هذِه الأَشياء لِيَكونَ لَكُم بيَ السَّلام. تُعانونَ الشِّدَّةَ في العالَم، ولكِن ثِقوا، إِنِّي قد غَلَبتُ العالَم" (يُوحنّا 16: 33).
وبَعدَ أَن تَعَرَّفَ التَّلاميذُ إلى يَسوعَ، وآمَنوا أَنَّهُ المَسيحُ القائِمُ مِنَ المَوت، أَرسَلَهُم لِلتَّبشيرِ في أَنحاءِ العالَم. وهذِهِ الرِّسالَةُ لَيسَت أَقَلَّ مِن رِسالَةِ الاِبنِ الَّذي أَرسَلَه الآبُ إِلى العالَمِ لِيُخَلِّصَه: "كَما أَرسَلَني الآبُ، أُرسِلُكُم أَنا أَيضًا" (يُوحنّا 20: 21). ويُعلِّقُ أَحدُ المُفَسِّرينَ: "لا يُوجَدُ إِلَّا رِسالَةٌ واحِدَةٌ مِنَ السَّماءِ إِلى الأَرض، وهي رِسالَةُ يَسوع. ورِسالَةُ التَّلاميذِ تَقَعُ في مَضمونِ رِسالَةِ يَسوع، وتُكَمِّلُها". فَهُناكَ رَبطٌ بَينَ ظُهورِ يَسوعَ القائِمِ مِنَ المَوتِ، وبَينَ إِرسالِ التَّلاميذِ لِتَبشيرِ العالَم: "اِذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وَعَمِّدوهُم بِاسمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحِ القُدُس" (مَتّى 28: 19).
فَكَيفَ يَكونُ القِيامُ بِهذِهِ المَهمَّةِ، الَّتي تُفوقُ القُدرَةَ البَشَرِيَّةَ، دونَ مَبدأٍ داخِلِيٍّ يُؤهِّلُهُم؟ إِنَّهُ الرُّوحُ القُدُس. لِذلِكَ، أَعطى يَسوعُ تَلاميذَهُ الرُّوحَ القُدُسَ بِالنَّفخِ:"ونَفَخَ فيهم وقالَ لَهم: خُذوا الرُّوحَ القُدُس" (يُوحنّا 20: 22). فَتَحقَّقَت نُبوءَةُ حِزقيال (36: 25-27)، إِذ كانَ الرُّوحُ القُدُسُ مَبدأَ الحَياةِ لِخَلقٍ جَديدٍ لِشَعبِ اللهِ الجَديد. وهكَذا أَصبحَ الفِصحُ نُقطَةَ الانطِلاقِ لِعالَمٍ جَديد.
3) تَرائي يَسوعَ لِتوما وتَثبيتُ إيمانِهِ بِقِيامَتِهِ المَجيدة (يوحنّا 20: 24-29)
بَعدَ ظُهورِ يَسوعَ القائِمِ مِنَ المَوتِ لِلتَّلاميذِ لِتَثبيتِ إيمانِهِم، تَرَاءى لِتوما الرَّسولِ الَّذي رَفَضَ الإيمانَ بِقِيامَةِ الرَّبّ، ولَم يُرِدْ أَن يُؤمِنَ إِلَّا بِشُروطٍ، فَانتهى أَمرُهُ بِالإيمانِ، واستَحَقَّ إيمانُهُ الطُّوبى.
أ) عَدَمُ إِيمانِ توما بِقِيامَةِ المَسيح
إيمانُ التَّلاميذِ الفَوريُّ بِقِيامَةِ المَسيحِ هو نُقطَةٌ مُشتَرَكَةٌ بَينَ الأناجيلِ الأَربَعَةِ (مَتّى 28: 17، مَرقُس 16: 14، لوقا 24: 36-42)، وأمَّا إِنجيلُ يُوحنّا فيُرَكِّزُ على عَدَمِ إِيمانِ توما. فَقَد رَفَضَ توما شَهادَةَ التَّلاميذِ الَّذينَ قالوا لَه: "رَأَينا الرَّبّ"، فأجابَهُم: "إِذا لَم أُبصِرْ أَثَرَ المِسمارَينِ في يَدَيهِ، وأَضَعْ إِصبَعي في مَكانِ المِسمارَين، ويَدي في جَنبِه، لَن أُومِن" (يُوحنّا 20: 25).
أَنكرَ توما ورفَضَ أَن يَثِقَ بِشَهادَةِ الجَماعَةِ الرَّسولِيَّةِ، واشتَرَطَ طَالِبًا بُرهانًا خاصًّا بِهِ. إِنَّهُ يُريدُ أَن يَختَبِرَ بِنَفسِهِ، ويَطلُبُ أَن يَرى وَيَلمُسَ كَي يُؤمِن. بِتَعبيرٍ آخَر، إِنَّهُ يَفرِضُ على المَسيحِ شُروطَ إيمانِهِ، وكَأَنَّهُ يُملي على اللهِ السَّبيلَ الَّذي يَجبُ أَن يَسلُكَهُ لِيُظهِرَ نَفسَه لَه. إِنَّهُ يَجهَلُ سُموَّ حُرِّيَّةِ اللهِ المُطلَقَةِ في عَطائِهِ وعَمَلِهِ. فَالتَّسليمُ الكامِلُ للهِ مَطلوبٌ. لِذلِكَ، كانَ واجِبًا عَلَى تُوما الرَّسولِ أَنْ يُخْضِعَ عَقْلَهُ وَحِكْمَتَهُ لِحِكْمَةِ اللهِ، لِيَكْتَشِفَ الرَّبَّ مِن خِلالِ العَلاماتِ الَّتي يُعْطِيهِ إِيَّاها عَنْ حُضُورِهِ وَحُبِّهِ. وَهٰذا الحُضُورُ هُوَ عَلامَةٌ عَلى أَنَّ رَحْمَةَ الرَّبِّ لا تَزَالُ تَعْمَلُ فِي العالَمِ، وَتَتَجَلَّى فِي لِقاءِ الإِنسَانِ بِالمَسِيحِ القائِمِ، الَّذي يَأتي لِيُرِيَنا جِراحَهُ كَبَيانٍ حَيٍّ لِمَحبَّتِهِ اللامَحدودَة. يَعرِفُ يَسوعُ عَقليَّةَ توما، المُتَطَلِّبَةَ لِلشُّروطِ، ولَكِنَّهُ يَعرِفُ أَنَّ قَلبَهُ ظَلَّ صادِقًا مَع نَفسِهِ، ومَع الآخَرينَ.
ظَهَرَ يَسوعُ لِلتَّلاميذِ وَتوما مَعَهُم، وأراهُ جِراحاتِهِ، ودَعاهُ لِيَضَعَ يَدَهُ عَلَيها. فَلَم يَجِدْ توما كَلِمَةً واحِدَةً تُعَبِّرُ عن رَدِّ فِعلِهِ أَمامَ يَسوعَ المَسيحِ إِلَّا: "رَبِّي وإِلهي!" (يُوحنّا 20: 28). وَهِيَ عِبارَةٌ لا تُقالُ في العَهدِ القَديمِ إِلَّا للهِ، كَما في قَولِ صاحِبِ المَزامير: "اِستَيْقِظْ وقُمْ لِحَقِّي، لِقَضِيَّتي، يا إِلهي وسَيِّدي" (مزمور 35: 23). فأَقَرَّ توما بِعَماه، وَاعْتَرَفَ بِسِيادَةِ يَسوعَ الإلهِيَّة. ويمثِّلُ هذا الاعتِرافُ ذُروَةَ إعلانِ الإيمانِ المَسيحيّ: "يَشهَدَ كُلُّ لِسانٍ أَنَّ يَسوعَ المَسيحَ هوَ الرَّبّ، تَمجيدًا للهِ الآب" (فيلبِّي 2: 11). إِنَّ جَوابَ توما يُعيدُنا إِلى مُقَدِّمَةِ إِنجيلِ يُوحنّا: "في البَدءِ كانَ الكَلِمَة، والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله، والكَلِمَةُ هوَ الله" (يُوحنّا 1: 1). ويَقودُنا إِلى إِيمانٍ ساجِدٍ، مُستَسْلِمٍ لِإِرادَةِ الله، والمُستَحِقِّ الطُّوبى. هٰذا هُوَ القائِمُ مِن بَيْنِ الأَمْوَاتِ، الَّذي لا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنَّا وَحْدَهُ فِي صِراعٍ أَو تَحَدٍّ إِيمَانِيٍّ، بَلْ يَأتِي إِلَيْنا فِي وَسَطِ ضُعْفِنا، وَيَحْمِلُنا بِنِعْمَتِهِ، وَيُثَبِّتُنا فِي الإِيمَانِ وَالرَّجَاءِ. يَدْعُونَا يَسُوعُ القَائِمُ أَنْ نَتَمَتَّعَ بِالرَّحْمَةِ الإِلَهِيَّةِ، الَّتِي تَنْجِدُنَا فِي ضُعْفِنَا، لِنَعْبُرَ مِنَ الشَّكِّ إِلَى الإِيمَانِ، وَمِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى النُّورِ، وَمِنَ العُنْفِ إِلَى الرَّحْمَةِ. الرَّحْمَةُ هِيَ الَّتي تُمَيِّزُ أَبْنَاءَ اللهِ، كَمَا قالَ الرَّبُّ يَسُوعُ: "كُونوا رُحَماءَ، كَما أَنَّ أَبَاكُم رَحِيمٌ" (لوقا 6: 36). فَالرَّحْمَةُ لَيْسَتْ فَضِيلَةً ثَانَوِيَّة، بَلْ هِيَ عَلامَةُ الاِنْتِمَاءِ الحَقِيقِيِّ إِلى اللهِ، وَسِمَةُ مَنْ يَتَشَبَّهُونَ بِالقَائِمِ مِن بَيْنِ الأَمْوَاتِ.
ب) تَطويبةُ الإِيمانِ بِقِيامَةِ المَسيح
اُختُتِمَ اللِّقاءُ بَينَ توما وَيسوعَ بِالتَّطويبةِ: "أَلِأَنَّكَ رَأَيتَني آمَنتَ؟ طوبى لِلَّذينَ يُؤمِنونَ ولَم يَرَوا" (يُوحنّا 20: 29). توما يُريدُ أَن يَرى لِيُؤمِن، وأمَّا المسيحُ فيُريدُه أَن يُؤمِن لِيَرى. فَالإِيمانُ عِندَ توما هو رُؤيَةٌ ثُمَّ تَصديق، أَمّا عِندَ يَسوعَ فَهُو تَصديقٌ ثُمَّ رُؤيَة. لِذلِكَ، جاءَت تَطويبةُ الإِيمان، وهِيَ التَّطويبةُ الثَّانِيَةُ في إِنجيلِ يُوحنّا بَعدَ التَّطويبةِ الأُولى الَّتي تَتَعلَّقُ بِالمحبَّةِ الأُخَوِيَّةِ: "فَقَد جَعَلتُ لَكُم مِن نَفْسي قُدوَةً لِتَصنَعوا أَنتُم أَيضًا ما صَنَعتُ إِلَيكُم. أَمّا وَقَد عَلِمتُم هذا، فَطوبى لَكُم إِذا عَمِلتُم بِه" (يُوحنّا 13: 15-17).
يَظُنُّ البعضُ أَنَّهُم سَيُؤمِنونَ بِيَسوعَ لو رَأَوا عَلامةً مِثلَ توما. أَمَّا يَسوعُ، فقد طَوَّبَ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِه، ولَم يَرَوهُ قائِمًا مِن بَينِ الأَموات، بَل يُصَدِّقونَ شَهادَةَ الَّذينَ رَأَوه، وَقدِ اختارَهُم هُوَ لِيَكونوا شُهودًا لَه، كَما جاءَ في عِظَةِ بُطرُسَ الأُولى: "فَيَسوعُ هذا قد أَقامَهُ الله، وَنَحنُ بِأَجمَعِنا شُهودٌ على ذلِكَ" (أَعمالُ الرُّسُلِ 2: 32). إِنَّ لَدَينا كُلَّ بُرهانٍ نَطلُبُهُ في كَلِماتِ الكِتابِ المُقدَّسِ، وَفي شَهادَةِ المُؤمِنين.
أخيرًا، يَدعو يُوحنّا البَشيرُ القارئَ، مِن خِلالِ هذا النَّصِّ الإِنجيلِيِّ، إِلى تَصديقِ شَهادَتِهِ، لِأَنَّهُ واحِدٌ مِنَ الَّذينَ رَأَوا الرَّبَّ: "والكَلِمَةُ صارَ بَشَرًا فسَكَنَ بَينَنا، فرأَينا مَجدَه" (يُوحنّا 1: 14). إِنَّهُ واحِدٌ مِنَ الَّذينَ سَمِعوا، وَرَأَوا بِأَعيُنِهِم، وَتَأمَّلوا، وَلَمَسوا بِأَيديهِم كَلِمَةَ الحَياة، كَما جاءَ في شَهادَتِهِ: "ذاكَ الَّذي كانَ مُنذُ البَدء، ذاكَ الَّذي سَمِعناه، ذاكَ الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا، ذاكَ الَّذي تَأَمَّلناه، وَلَمَسَتْهُ يَدانَا مِن كَلِمَةِ الحَياة" (1 يُوحنّا 1: 1). يُوحنّا يُعطي شَهادَةَ عِيانٍ شَخصِيَّة، تُؤَكِّدُ رُؤيَتَهُ وَحَديثَهُ مَعَ القائِمِ مِن بَينِ الأَمواتِ، لِيَحمِلَنا نَحنُ أَيضًا إِلى إِيمانٍ يُؤدِّي إِلى الحَياةِ.
الخلاصة: الإِيمانُ وَوَجهُ القائِمِ فِي حَياتِنا
اليَومُ الثّامِنُ هو بَدءُ أُسبوعٍ جَديدٍ وَزَمنٍ جَديدٍ في حياةِ الرُّسُلِ وَالكنيسَةِ الَّتي بَدأت تَظهَرُ مَلامِحُها وَتَتَكَوَّنُ صُورَتُها، بِفَضلِ سِرِّ مَوتِ الرَّبِّ يَسوعَ وَقِيامَتِهِ. فَبَعدَ ظُهوراتِ يَسوعَ المُتَكرِّرَةِ لِتَلاميذِهِ وَرُسُلِهِ، أَصبحَ هُناكَ وَعيٌ جَديدٌ لَدَى التَّلاميذِ وَالكنيسَةِ لِعُمقِ حَدَثِ القِيامَةِ.وَهكذا، فَإِنَّ رِواياتِ تَرائي القائِمِ مِن بَينِ الأَمواتِ مَعَ تَلاميذِهِ، رُبِطَت بِمَسيرَةٍ إِيمانيَّةٍ، سَواءٌ مَعَ الاثنَي عَشَر، أَو مَعَ توما الَّذي طَلَبَ أَن يَرى وَيَلمُسَ لِكَي يُؤمِن.
وعَلى أَثَرِ ظُهورِهِ، مَنَحَ المَسيحُ تَلاميذَهُ الرُّوحَ القُدُسَ: "ونَفَخَ فيهم وقالَ لَهم: خُذوا الرُّوحَ القُدُس (يوحنّا 20: 22)، وأَرسَلَهُم لِيُشرِكوا كُلَّ إِنسانٍ فِي حَياةِ قِيامَتِهِ المَجيدةِ، عَن طَريقِ مَغفِرَةِ الخَطايا: "مَن غَفَرتُم لَه خَطاياه، تُغفَر لَه" (يوحنّا 20: 23)، فَسُلطانُ مَغفِرَةِ الخَطايا هو العَلامَةُ المُطلَقَةُ على اِنتِصارِ الرَّبِّ القائِمِ على المَوت.
كَشَفَ يَسوعُ النَّاصِريُّ عَن نَفسِهِ مِن خِلالِ الاِختِبارِ التاريخِيِّ لِلشُّهودِ الأَوَّلين. وَلا يَستَطيعُ كُلُّ مَسيحيٍّ اليومَ أَن يَعرِفَ يَسوعَ حَقًّا، إِلَّا بِمِقدارِ ما يَشهَدُ لَه في العالَمِ وَعِندَ إخوَتِهِ. فَهَل يُتيحُ لَنا إِيمانُنا أَن نَتَعرَّفَ إِلى يَسوعَ، كَما قالَ: فِي أَحداثِ حَياتِنا: "كُلَّما صَنَعتُم شَيئًا مِن ذلِكَ لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فَلي قَد صَنَعتُموه"(مَتّى 25: 40)؟ في قُلوبِنا:"ثَبُتوا فيَّ وأَنا أَثبُتُ فيكم" (يُوحنّا 15: 4)؛ في تَطَوُّرِ العالَم:"وهاءَنذا مَعَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايَةِ العالَم" (مَتّى 28: 20)؛ في رِجالِ الدِّين:"مَن سَمِعَ إِلَيكُم، سَمِعَ إِلَيَّ"(لوقا 10: 16)؛ وفي الفُقَراءِ وَالصِّغار: "لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريبًا فآويتُموني، وعُريانًا فَكسَوتُموني، ومَريضًا فعُدتُموني، وسَجينًا فجِئتُم إِلَيَّ"(مَتّى 25: 35).
إنَّ نَصَّ يوحنّا (20: 19–31) يُعلِّمُنا أَنَّ الإِيمانَ بِقِيامَةِ المَسيحِ لَيسَ حَصيلةَ رُؤيَةٍ حِسِّيَّةٍ، بَل ثَمرَةُ ثِقَةٍ بِالشَّهادَة، وَسُلوكٍ فِي مَسيرَةِ الإِصغاءِ لِكَلِمَةِ الله، وَقَبولِ فِعلِهِ فِي حَياتِنا. تَرَاءى يَسوعُ لِتَلاميذِهِ، لا لِيُظهِرَ قُدرَتَهُ الخارِقَةَ، بَل لِيَمنَحَهُم السَّلامَ والرُّوحَ القُدُسَ، وَيُرسِلَهُم شُهودًا لِقِيامَتِهِ. وتَرَاءى لِتوما، لا لِيَدينَ ضَعفَ إِيمانِهِ، بَل لِيَرفَعَهُ مِن الشَّكِّ إِلى اليَقين، فَكانَ اعتِرافُه ذُروَةَ الإِعلانِ الإِيمانيِّ في الإِنجيل. وفي كُلِّ ذلِكَ، نَسمَعُ صَوتَ يَسوعَ يُنادينا فِي الزَّمانِ الحاضِرِ: "طوبى لِلَّذينَ يُؤمِنونَ ولَم يَرَوا". فَهَل نَقبل أَن نَكونَ مِن هؤُلاءِ الطُّوباوِيّينَ؟ هَل نَفتحُ قُلوبَنا لِنُصدِّقَ شَهادَةَ الكِتابِ وَالرُّسُلِ وَالكنيسَةِ؟ هَل نَسمَحُ لِروحِ القائِمِ أَن يَنفُخَ فينا من جَديد، لِنَكونَ نَحنُ أَيضًا شُهودًا أحياء لِلحَياةِ وَالغُفرانِ وَالسَّلامِ؟ إِذًا، لِنُجَدِّد إِيمانَنا فِي القائِمِ، وَنَسِر مَعَه في مَسيرَةِ الإِيمانِ الَّتي تَبدَأُ بِالتَّصديق، وَتَكتَمِلُ بِالرُّؤيَة.
دعاء
أيُّها الآبُ السَّماوي، نَطلُبُ إِلَيكَ بِاسمِ ابنِكَ يَسوع، أَن تُفيضَ فينا رُوحَكَ القُدُّوس،
فَيُبَدِّدَ خَوفَنا، وَيُقَوِّي إِيمانَنا بِقِيامَةِ ابنِكَ يَسوع.
فَنَتَمَكَّنَ أَن نَنظُرَ إِلى جِراحاتِهِ المُقَدَّسَة، فَنَنالَ الشِّفاءَ وَالسَّلامَ وَفَرَحَ القِيامَة.
وَنُعلِنَ بُشرى القِيامَةِ المَجيدَةِ لِلعالَم، ونَحنُ نُرَدِّدُ كَلِماتِ توما ذاتَها: "رَبِّي وإِلهي!" آمين.
سؤال وعبرة
وقد سُئِلَ مرّةً عالِمٌ في الرياضياتِ والفلك
هل تَعتقِدُ أنَّ الكونَ لا نِهايةَ له؟
فأجاب: بالتأكيد.
قيلَ له: وما الذي يُؤكِّدُ لكَ ذلك؟
فقال: لأني أُؤمن وأُصَدِّقُ ما تَعلَّمتُه.
وبهذا الإيمانِ، مِن خلالِ الكنيسة، يَدخُلُ المسيحيّون في اتّحادٍ وثيقٍ بالمسيحِ القائمِ مِن بينِ الأموات (يوحنّا 17: 20). علينا أن نُخضِعَ حكمتَنا لحكمةِ الله، وأن نَكتشفَ حضورَه من خلالِ العلاماتِ التي يُعطيها لنا عن ذاتِه وعن محبّته. هذا هو الإيمانُ المستحِقُّ الطوبى، والمفتاحُ للولوجِ إلى أعماقِ سرِّ المسيح وحياتِه. بِالإيمانِ نَسلكُ، لا بِالعِيان (٢ قورنتس 5: 7). فالمسيحُ هنا يُطوِّبُ، عبرَ كلِّ الدُّهور، مَن يُؤمِنونَ دون أن يَرَوا. فهل لنا هذا الإيمان؟ هل نَنظُرُ إليه بِعُيونِ الإيمان؟ هل نُؤمِنُ به مُخلِّصًا ورَبًّا لِحياتِنا؟ هل نَصرُخُ إليه، مثلَما صرَخَ توما: "رَبِّي وإِلهي"؟ هل نَملِكُ الثِّقة الكافيةَ بالربِّ لِنَفتَحَ له الأبوابَ، ونُخبِرَ العالَمَ بأعظَمِ بشارةٍ سَمعها الإنسانُ حتى الآن؟