موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢ مارس / آذار ٢٠٢٤

موقف يسوع من السَّبْت

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد التَّاسع للسَّنة: موقف يسوع من السَّبْت (مرقس 2: 23-3: 6)

الأحد التَّاسع للسَّنة: موقف يسوع من السَّبْت (مرقس 2: 23-3: 6)

 

النَّص الإنْجيلي (مرقس 2: 23-3: 6)

 

23 ومَرَّ يسوعُ في السَّبْت مِن بينِ الزُّروع، فأَخَذَ تَلاميذُه يَقلَعونَ السُّنبُلَ وهم سائرون. 24 فقالَ له الفِرِّيسيُّونَ: ((أُنظُرْ! لِماذا يَفعَلونَ في السَّبْت ما لا يَحِلّ؟)) 25 فقالَ لهم: ((أَمَا قَرأتُم قَطُّ ما فَعَلَ داوُد، حينَ احتاجَ فجاعَ هو والَّذينَ معَه؟ 26 كَيفَ دخَلَ بَيتَ اللهِ على عَهدِ عَظيمِ الكَهَنَةِ أَبْياتار، فأَكَلَ الخُبزَ المُقدَّس، وأَعطى مِنه لِلَّذينَ معَه، وأَكْلُه لا يَحِلُّ إِلاَّ لِلكَهَنَة)). 27 وقالَ لهم: ((إِن السَّبْت جُعِلَ لِلإِنسان، وما جُعِلَ الإنسان لِلسَّبت. 28 فَابنُ الإنسان سَيِّدُ السَّبْت أَيضًا)).

1 وَدَخَلَ ثانيَةً بَعضَ المَجامِع وكانَ فيه رَجُلٌ يَدُه شَلاَّء. 2 وكانوا يُراقِبونَه لِيَرَوا هَل يَشفيهِ في السَّبْت ومُرادُهم أَن يَشكوه. 3 فقالَ لِلرَّجُلِ ذي اليَدِ الشَّلاَّء: ((قُمْ في وَسْطِ الجمَاعة)). 4 ثُمَّ قالَ لهم: ((أَعَمَلُ الخَيرِ يَحِلُّ في السَّبْت أَم عَمَلُ الشَّرّ ؟ أَتَخليصُ نَفْسٍ أَم قَتْلُها ؟)) فظَلُّوا صامِتين. 5 فأَجالَ طَرْفَه فيهِم مُغضَبًا مُغتَمًّا لِقَساوةِ قُلوبِهم، ثُمَّ قالَ لِلرَّجُل: ((اُمدُدْ يَدَك)). فمَدَّها فعادَت يَدُه صَحيحَة. 6 فخَرَجَ الفِرِّيسيُّونَ وتآمَروا علَيه لِوَقْتِهم معَ الهِيرودُسِيِّينَ لِيُهلِكوه.

 

 

مقدمة

 

يصف إنْجيل مرقس (2: 23-3: 6) مناظرة يسوع مع الفِرِّيسيِّين في أمر السَّبْت متضامنًا مع تلاميذه إزاء نقذ خصومه الفِرِّيسيِّين لهم؛ وكان موضوع مادة النِّزاع حفظ السَّبْت. فقد أراد الفِرِّيسيُّونَ حفظ السَّبْت حرفيًا كعبيد للسَّبت، بينما علَّم المسيح " إِن السَّبْت جُعِلَ لِلإِنسان" (مرقس 2: 27). وكان يريد ليوم السَّبْت أن يكون يوم الخِدمة وعمل الرَّحمة بالإضافة إلى يوم عبادة. إذ جاء السَّيد المسيح يُقدِّم أبعادًا جديدة للشَّريعة، خاصة تقديس يوم السَّبْت، منطلقًا إلى ما وراء الحَرف القاتل لننعم بالرُّوح المُحيي البنّاء. لذلك أعطى يسوع تعليمه حول السَّبْت أولا في الحقول، وثانيا في مجمع.  ومن هنا تكمن أهميَّة البحث في وقائع النَّص الإنْجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولًا: وقائع النَّص الإنْجيلي (مرقس 2: 23-3: 6)

 

23 ومَرَّ يسوعُ في السَّبْت مِن بينِ الزُّروع، فأَخَذَ تَلاميذُه يَقلَعونَ السُّنبُلَ وهم سائرون.

 

عبارة "السَّبْت" في الأصل اليوناني σάββατον مشتقَّة من العبريَّة שַּׁבָּת (معناها راحة) تشير إلى اليوم الذي يترك فيه الإنسان أشغاله الماديَّة حتى يستريح، وذلك تذكارًا لليوم السَّابع من الخليقة " لذلك بارك الله يوم السَّبْت وقدسه، لأنَّ فيه استراح الرَّبّ من جميع أعماله" (تكوين 2: 1 -3)، ولأنَّه قدسه أيضًا (عدد 15: 32 -36). فإن السَّبْت يوم عينته إرادة الله للعبادة. أمَّا عبارة "الزُّروع" فتشير إلى حقول " الحِنطَةِ". والحِنطة تدل على الحبوب التي كانت تُزرع بكثرة في فلسطين، وهي حبوبٌ من النَّوع العادي ذي السُّنبلة الواحدة على الأغلب (خروج 22: 34) وترجع ممارسة زراعتها إلى عصور مبكرة من التَّاريخ، وكان خُبْز العبرانيين يُصنع عادة من دقيق الحنطة (خروج 2: 29). فكانوا يشوون سنابل الحنطة ويفركونها ويأكلون القمح المَشوي (راعوت 14: 2).  أمَّا عبارة " فأَخَذَ تَلاميذُه يَقلَعونَ السُّنبُلَ وهم سائرون" فتشير إلى تلاميذ يسوع وهم يسيرون في حقول القمح يعملون ما يحلُّ فعله في يوم آخر حسب ما ورد في الشّريعة "إِذا دَخَلتَ السُّنبُلَ القائِمَ الَّذي لِقَريبِكَ، فاقطِفْ بِيَدِكَ فَريكًا، ولا تُلْقِ مِنجَلًا على سُنبُلِ قَريبِكَ" (تثنية الاشتراع 23: 26)، ولكن الفِرِّيسيِّين عدّوا ذلك حِصادًا، وهو عمل لا يحلُّ فعله في السَّبْت مُستندين إلى الشّريعة " في سِتَّةِ أيَّام تَعمَل، وفي اليَومِ السَّابِعِ تَستَريح" (خروج 34: 21). ويُعلق القديس أمبروسيوس "يقود الرَّبّ يسوع تلاميذه في يوم السَّبْت بين الزَّرع ليدرِّبهم على الأعمال المُثمرة. فما معنى السَّبْت والحَصاد والسَّنابل؟ الحقل هو العَالَم الحاضر كله الذي زرعه البشر، والحَصَاد هو حَصَاد الرُّوح القدس الوفير، وسنابل الحقل هي ثمار الكنيسة التي بدأتها خدمة الرُّسل".  أمَّا عبارة " تَلاميذُه " فتشير إلى تلاميذه الخمسة، وهم بطرس واندراوس أخيه، ويعقوب ويوحنا أخيه (مرقس 1: 16-19) ولاوي ابن حلفى، وهو متى الإنْجيلي (مرقس 2: 13-14).  أمَّا عبارة "يَقلَعونَ السُّنبُلَ " فتشير إلى الحنطة أو الشّعير، وكان قطف الجائع لتلك السَّنابل من حقل غيره وفركها باليدين (لوقا 1: 6) واكلها أمرٌ مقبول العمل به لسِّد الجوع، كما جاء في شريعة موسى " وإِذا دَخَلتَ السُّنبُلَ القائِمَ الَّذي لِقَريبِكَ، فاقطِفْ بِيَدِكَ فَريكًا، ولا تُلْقِ مِنجَلًا على سُنبُلِ قَريبِكَ" (تثنية الاشتراع 23: 25)، لذلك لم يتَّهم الفِرِّيسيُّونَ التَّلاميذ بالسِّرقة، بل لإتيانهم ذلك العمل يوم السَّبْت.  أمَّا عبارة " وهم سائرون " فتشير إلى السَّير على الطَّريق الجانبي ليس تَعدِّيًا على مُلك الغير، والأكل من الحُبوب على أطراف الحقل لا يعتبر سِرقة، فقد جاء في الشّريعة "وإِذا حَصَدتُم حَصيدَ أَرضِكم، فلا تَذهَبْ في الحِصادِ إلى أَطرافِ حَقلِكَ، ولُقاطَ حَصيدِكَ لا تَلقُطْ.  ولا تَعُدْ إلى فَضَلاتِ كَرمِكَ، ولُقاطَ كَرمِكَ لا تَلْقُطْ، بلِ اَترُكْ ذلِكَ لِلمِسْكينِ والنَّزيل، أَنا الرَّبّ إِلهُكم" (الأحبار 19: 9-10). ولعَّل التَّلاميذ كانوا راجعين يومئذ من الاحتفال بعيد الفصح في أورشليم (يوحنا 5: 1)، لآنَّ السَّنابل لا يُؤكل حَبَّها إلاَ بعد نحو أسبوع أو أسبوعين بعد الفِصح.  

 

24 فقالَ له الفِرِّيسيُّونَ: ((أُنظُرْ! لِماذا يَفعَلونَ في السَّبْت ما لا يَحِلّ؟))

 

عبارة " الفِرِّيسيُّونَ" في الأصل اليوناني   Φαρισαῖοι مُشتقَّة من اللغة الآرامية הַפְּרוּשִׁים (معناها المعتزلة) تشير إلى مذهب ديني يدعو إلى التَّشدًّد على شريعة موسى وسُنَّة الأقدمين في أمور الطَّهارة ومراعاة السَّبْت وأداء العشر...وكان كثيرٌ من الكتبة، أي علماء الكتاب المقدس، ينتمون إليهم. وقد أخذ يسوع عليهم رياءهم وكِبرياءهم وتعلقهم بالألفاظ دون المعاني، وقساوتهم على الشّعب؛ ووقع بينه بينهم جدالٌ كثير في أمور السَّبْت (متى 12: 1-14) وانذرهم بالهَلاك (متى 23). أمَّا عبارة " لِماذا يَفعَلونَ في السَّبْت ما لا يَحِلّ؟" فتشير إلى شكوى ليسوع عن عمل تلاميذه بسبب قطف السَّنابل، وهو امرٌ مقبولٌ به (تثنية الاشتراع 23: 25)، لكنَّهم اعتبروه عمل حصادٍ لا يُسمح به يوم السَّبْت. وكانت الشّريعة تُنهي عن الحَصَاد في يوم السَّبْت (خروج 34: 12). وكان الهدف من ذلك القانون منع الفلاَّحين من الطَّمع وتجاهل الله في يوم السَّبْت، كما انه كان يحمي العمال من إرهاقهم بالعمل.  لكن الفِريسيُّون المتمسكون بحرفية الشّريعة قد ثقّلوا السَّبْت بكثير من الواجبات المُفصَّلة التي لم تكن في الشّريعة الموسوية، ومنها: فرك السَّنابل بالأيدي"، واعتبروا القانون أمرًا مطلقًا. أمَّا عبارة "ما لا يَحِلّ؟"  فتشير إلى إصدار حكم الفِرِّيسيِّين ضِدَّ تلاميذ يسوع، لأنّهم فّسّروا قطف السَّنابل يوم السَّبْت بمنزلة الحَصَاد، وفركها بين اليدين بمنزلة الدَّرس، فحسبوها من المُحرَّمات في ذلك اليوم. وهذا التفسير هو التمسُّك بالشّكليات الحرفيَّة القاتلة. تشير الآية إلى توبيخ لتلاميذ يسوع لا على السِّرقة، ولا على الأكل، بل على العمل المُحرَّم وهو قلع السُّنبل الذي يعادل عمل الحَصَاد، وبالتَّالي فهو محرّم يوم السَّبْت " في سِتَّةِ أيَّام تَعمَل، وفي اليَومِ السَّابِعِ تَستَريح، وحَتَّى في أَوانِ الحَرْثِ والحِصادِ تَستَريح " (خروج 34: 21).  لقد اشتكى اليهود التَّلاميذ للمسيح بسبب حرِّيتهم، لكن ما أحلى أن نجد أن المسيح يدافع عنهم " فمَن يَتَّهِمُ الَّذينَ اختارَهمُ الله؟ اللهُ هوَ الَّذي يُبَرِّرهم " (رومة 8: 33). هل نحن بدورنا نُسبِّب آلاما للآخرين بانتقاداتنا اللاذعة؟

 

25 فقالَ لهم: ((أَمَا قَرأتُم قَطُّ ما فَعَلَ داوُد، حينَ احتاجَ فجاعَ هو والَّذينَ معَه؟

 

تشير عبارة "َمَا قَرأتُم قَطُّ" إلى تعجُّب المسيح مِمنّ يقرأون ولا يفهمون ما حدث في سفر صموئيل: "أَجابَ الكاهِنُ وقالَ لِداوُد: " لَيسَ تَحتَ يَدي خُبزٌ عادِيّ. ولَيسَ عِنْدي إِلاَّ خُبزٌ مُقَدَّس، على أَن يَكونَ الرِّجالُ قد صانوا أَنفُسَهم مِنَ المَرأة. فسَلَّمَ إِلَيه الكاهِنُ مِنَ الخُبزِ المُقَدَّس، لأَنَّه لم يَكُنْ هُنالِكَ خُبزٌ، ما عَدا الخُبزَ المُقَدَّسَ المَرْفوعَ مِن أَمامِ الرَّبّ لِيوضَعَ خُبزٌ سُخنٌ في يَومِ رَفعِه" (1 صموئيل 21: 5-8).  ومن هذا المنطلق، الله هو أوَّل من يبادر إلى الدِّفاع عن الإنسان في ضيقه وحاجاته الضُّرورية. أمَّا عبارة " ما فَعَلَ داوُد، حينَ احتاجَ فجاعَ هو والَّذينَ معَه؟" فتشير إلى استخدام يسوع مثال الملك داود مُبيِّنًا مدى سخافة اتِّهامات الفِرِّيسيِّين. والنُقطة الأساسيَّة في ذلك تكمن في وجود حالة ضروريَّة حث يمكم تجاوز شروط النَّاموس الطَّقسي.  ولم يتجاسر الفريسيُّون على انتقاد ما فعله داود، لأنَّهم يعتبرونه زكيًا طاهرًا من أفضل رجالات لله الذي يُستحق أن يُقتدى بأعماله. نتعلم من جواب المسيح للفَرِّيسيِّين أن أفضل طريق لدفع شبهات المُعترضين في الدِّين هو جواب نُصوص الكتاب المقدس.

 

26 كَيفَ دخَلَ بَيتَ اللهِ على عَهدِ عَظيمِ الكَهَنَةِ أَبْياتار، فأَكَلَ الخُبزَ المُقدَّس، وأَعطى مِنه لِلَّذينَ معَه، وأَكْلُه لا يَحِلُّ إِلاَّ لِلكَهَنَة)).

 

تشير عبارة " كَيفَ دخَلَ بَيتَ اللهِ " إلى داود الذي دخل في أيَّام أَبْياتار خيمة الشِّهادة، ولقبه عظيم الكهنة، لأنَّه صار عظيم الكهنة بعد أبيه، واشتهر بهذا اللقب عند اليهود في عصر المسيح.  ولعَّله خدم مع أبيه في خيمة الشِّهادة، كما فعل ابنا عالي الكاهن.  أمَّا عبارة "عَظيمِ الكَهَنَةِ أَبْياتار" فتشير إلى أَحيمَلِكَ الكاهِن أبو أَبْياتار (2 صموئيل 8: 7)، لكن ورد ذكر اسم أَبْياتار، لأنه أشهر من أَحيمَلِكَ كعظيم كهنة على عهد داود.   وان أَبْياتار كان واحدًا من مجموعة الكهنة الذين كانوا يخدمون في نُوب (شرقي اورشليم) في أيَّام َ أحيمَلِكَ رئيس الكهنة، وقد ذُبح معظمهم بأمر شاول الملك بعد أن أعطى لداود الخبز المقدس (1صموئيل 22: 19). ويرى بعض الدَّارسين أن أبياثار هو ابن أَحيمَلِكَ الكاهِن، وكانا معًا حين التقى بهما داود النَّبي، وأن الأب قتله شاول فهرب أبياثار إلى داود وصار رفيقًا له في فترة هروبه، ولمَّا استقر الأمر صار رئيس كهنة، ونال شهرة أكثر من أبيه. أمَّا عبارة "الخُبزَ المُقدَّس" إلى خبز التَّقدمة، فكانت الأرغفة توضع على المائدة في الهيكل كل سبت، وعندما كانت تخرج من هناك كان يأكلها الكاهن وعائلته، كما جاء في سفر الأحبار: "خُذْ سَميذًا وآخبِزْه آثنَي عَشَرَ رَغيفًا، يَكونُ كُلُّ رَغيفٍ عُشريَن. واَجعَلْها صَفَّين، كُلُّ صَفٍّ سِتَّةٌ مُنَضَّدةٌ على المائِدَةِ الطَّاهِرةِ أَمامَ الرَّبّ. وضَعْ على كُلِّ صَفٍّ بَخورًا خالِصًا، فيَكونُ لِلخُبزِ تَذْكارًا، ذَبيحةً بِالنَّارِ لِلرَّبّ. في كُلِّ يَومِ سَبْت، تُصَفُّ أَرغِفَةُ السَّميذِ أَمامَ الرَّبّ دائِمًا، وهي مِن عِندِ بَني إِسْرائيل: عَهدٌ أَبَدِيّ. فتَكونُ لِهارونَ وبَنيه، يأكُلوَنها في مَوضِعٍ مُقَدَّس، لأَنَّها قُدْسُ أَقْداسٍ لَه مِن الذَّبائحِ بِالنَّارِ لِلرَّبّ: فَريضَةٌ أَبَدِيَّة (الاحبار 24: 5-9).  أمَّا عبارة "أَعطى مِنه لِلَّذينَ معَه، وأَكْلُه لا يَحِلُّ إِلاَّ لِلكَهَنَة " فتشير إلى ما ورد في الكتاب المقدس" أَجابَ الكاهِنُ وقالَ لِداوُد: " لَيسَ تَحتَ يَدي خُبزٌ عادِيّ. ولَيسَ عِنْدي إِلاَّ خُبزٌ مُقَدَّس، فسَلَّمَ إِلَيه الكاهِنُ مِنَ الخُبزِ المُقَدَّس، لأَنَّه لم يَكُنْ هُنالِكَ خُبزٌ، ما عَدا الخُبزَ المُقَدَّسَ المَرْفوعَ مِن أَمامِ الرَّبّ لِيوضَعَ خُبزٌ سُخنٌ في يَومِ رَفعِه (1 صموئيل 21: 5-8). 

 

27 وقالَ لهم: ((إِن السَّبْت جُعِلَ لِلإِنسان، وما جُعِلَ الإنسان لِلسَّبت.

 

تشير عبارة "وقالَ لهم" إلى تتمة لحادثة حقل القمح وقد أضاف مرقس هنا قول يسوع لعلاقته بالموضوع. أمَّا عبارة "إِن السَّبْت جُعِلَ لِلإِنسان، وما جُعِلَ الإنسان لِلسَّبت" فتشير إلى قول انفرد فيه إنْجيل مرقس، ويدلُّ على بقاء يوم الرَّاحة وواجب حفظه ما دام الإنسان على الأرض، وهو رمز إلى الرَّاحة الأبدية (عبرانيين 4: 9). أمَّا عبارة " إِن السَّبْت جُعِلَ لِلإِنسان" فتشير إلى خلق الله السَّبْت لأجل فائدة الإنسان، لذلك الإنسان هو الذي يُقرِّر كيف يُمكن استعماله على أحسن وجه.  والإنسان يستعيد قواه الجسدية والرُّوحية عندما يصرف وقتًا في الرَّاحة وتركيز أفكاره على الله.  فحياة الإنسان أغلى من أوامر العِبادة وأحكامها.  مطلوب الحفاظ على قانون الطَّبيعة البدائي (يجب أن يأكل الجائع) قبل المحافظة على قانون ممارسة الشعائر الدِّينية الصَّارمة، لأنَّ حياة الإنسان في نظر الله هي أثمن من الأحكام الشّرعية. وهذه الفكرة موجودة في الدِّين اليهودي في ذلك الزمان، فإن واجب مراعاة السَّبْت يسقط إذا نتج ضرر جسيم للإنسان (1 ملوك 2: 39-41). أمَّا عبارة " ما جُعِلَ الإنسان لِلسَّبت" فتشير إلى خلق الله السَّبْت لنفع الإنسان وتقديسه، إذ خلق الله الإنسان أولاً، ثم عيّن السَّبْت لخيره (التَّكوين 2: 1-2). ومن هذا المنطلق، لا يجوز تفسير الوصية الآمرة بحفظ السَّبْت بما يحرم الإنسان خيره الحقيقي.  لكن الفِرِّيسيَّون جعلوا تقديس السَّبْت غاية لا وسيلة، مِمّا يتنافى مع إرادة الله. وبهذا أصبحت شريعة السَّبْت عند الفِرِّيسيِّين أهم من الدَّاعي إليها.  لم تقم الشّريعة من أجل الشّريعة، إنَّما لأجل صالح الإنسان. وفي الواقع، سُن القانون لمصلحة الإنسان، وليس مصلحة الإنسان من أجل القانون. القصد الحقيقي من شريعة الله هو تعزيز المَحبَّة لله وللأخرين، لذلك روح الشّريعة أهم من الحرف. "لِأَنَّ الْحَرْفَ يَقْتُلُ وَلكِنَّ الرُّوحَ يُحْيِي" (2 قورنتس 3:6). فتمسك اليهود بالحرف ماتوا في خطيئتهم، وأعمت الخطيئة عيونهم ففضلوا المكوث في الظُلمة على معاينة نور العَالَم.

 

28 فَابنُ الإنسان سَيِّدُ السَّبْت أَيضًا.

 

تشير عبارة " َابنُ الإنسان " إلى يسوع (متى 8: 20) الذي أطلقه على ذاته. قد ورد هذا اللقب 80 مرة.  وأصله يعود لسفر دانيال من القرن الثَّاني قبل الميلاد.  فبعد أن يصف سفر دانيال ممالك العَالَم يصف مجيء ابن الإنسان "فإِذا بِمِثلِ آبنِ إِنسان آتٍ على غَمامِ السَّماء فبَلَغَ إلى قَديمِ الأيَّام وقُرِّبَ إلى أَماموأُوتِيَ سُلْطانًا ومَجدًا ومُلكًا فجَميعُ الشُعوبِ والأُمَمِ والأَلسِنَةِ يَعبُدونَه وسُلْطانُه سُلْطانٌ أَبَدِيّ لا يَزول ومُلكُه لا يَنقَرِض" (دانيال 12: 13-14). فابن الإنسان له من السًّلطان والقدرة ما للمسيح ذاته، والذي كان اليهود في انتظاره.  فإنَّه إذا كان مخلص البشر، له حق السُّلطان على كل ما يختص بالإنسان. ويؤكد يسوع هنا سلطانه حتى على إنشاء السَّبْت. أمَّا عبارة " فَابنُ الإنسان سَيِّدُ السَّبْت أَيضًا " فتشير إلى سلطة يسوع على الشّريعة، ولا سيما شريعة السَّبْت، مُستندًا إلى العهد القديم، وعلى وجه الأخص إلى قول هوشع النَّبي "فإِنَّما أُريدُ الرَّحمَةَ لا الذَّبيحة مَعرِفَةَ اللهِ أَكثَرَ مِنَ المُحرَقات" (هوشع 6: 6). لا يتنكر هذا النَّص لمبدأ الذَّبائح الطَّقسيَّة، بل يتنكر التَّمسك بالطُّقوس التَّقليديَّة الخاصة بالحياة الدِّينيَّة حتى إنها تحمل الإنسان على إهمال وصيَّة الرَّحمة وهي وصيَّة رئيسيَّة.  ولان تقديس الإنسان يوم الرَّاحة نفع له في الدُّنيا والآخرة عُيِّن ابن الإنسان سيد السَّبْت ليُثيب اللذين يقدِّسونه، ويهب لهم البركات، ويعاقب كلَّ من يدنِّسه، وعلى ذلك صحّ أن يُسمَّى يوم الرَّاحة بيوم الرَّبّ.   أمَّا عبارة "سَيِّدُ السَّبْت " فتشير إلى السَّبْت الذي هو في سلطان المسيح ليجعله وفقًا للغاية التي وُضع لها، وهي مجد الله وخير الإنسان مُبيِّنًا ما يحلُّ وما لا يحل ُّ. وسلطانه على السَّبْت سندٌ لإبدال اليوم السَّابع باليوم الأول، أي يوم الأحد. والمسيح أراد تلاميذه أن يعلمِّوا كلما أوصاهم به، وهم علَّموا المؤمنين أن يحفظوا يوم الأحد سبتًا للرَّبِّ. إنه ربُّ السَّبْت وواضع النَّاموس العامل لحسابنا لأجل راحتنا، وليس لتنفيذ حرفيات النَّاموس.

 

1 وَدَخَلَ ثانيَةً بَعضَ المَجامِع وكانَ فيه رَجُلٌ يَدُه شَلاَّء.

 

عبارة "ودَخَلَ ثانيَةً بَعضَ المَجامِع " في الأصل اليوناني εἰσῆλθεν πάλιν εἰς τὴν συναγωγήν. (معناها دخل من جديد إلى المجمع) تشير إلى عادة يسوع المألوفة في حضوره اجتماع الصَّلاة كل يوم سبت في مجمع كفرناحوم (مرقس 1: 21)، كما عمل بولس الرَّسول فيما بعد (أعمال الرُّسل 13: 14-41)، وهذا الأمر هو دليل على مساندة الإنجيل إلى وعود العهد القديم. أمَّا عبارة "يَدُه شَلاَّء" في الأصل اليوناني ἐξηραμμένην ἔχων τὴν χεῖρα (معناها له يد يابسة) فتشير إلى   يدٍ مشلولةٍ لا حياة فيها، كما كان الحال في يد المَلك يارُبْعام، كما جاء في الكتاب المقدس " مَدَّ يارُبْعام يَدَه مِن على المَذبحِ قائلًا: ((أَمسِكوه)). فيَبِسَت يَدُه الَّتي مَدَّها نحوَه، ولم يَستَطع أَن يَرُدَّها إليه" (1 ملوك 13: 4).  

 

2 وكانوا يُراقِبونَه لِيَرَوا هَل يَشفيهِ في السَّبْت ومُرادُهم أَن يَشكوه.

 

تشير عبارة "يُراقِبونَه لِيَرَوا هَل يَشفيهِ في السَّبْت" إلى ترصد الفرِّيسيِّن ليسوع من أجل الحُكم على موقفه من الرَّجل الأشل اليد ليشكوه، لأنَّه بحسب الرَّبّانيين لا يجوز تسكين ألم مريض في السَّبْت إلاّ إذا كان في خطر الموت. وقد اعتبر الفِرِّيسيُّونَ الشِّفاء، حتى الشِّفاء العجائبي، عملَ طبِّي، لذلك فهو محرَّم يوم السَّبْت، كما حدث مع شفاء المرأة المُنحَنِيَة الظهر " فاسْتاءَ رئيسُ المَجمَع، لِأَنَّ يسوعَ أَجْرى الشِّفاءَ في السَّبْت، فقالَ لِلجَمع: ((هُناكَ سِتَّةُ أيَّام يَجِبُ العَمَلُ فيها، فتَعالوا واستَشفوا خِلالَها، لا يَومَ السَّبْت (متى 13: 14).  أمَّا عبارة " مُرادُهم أَن يَشكوه" فتشير إلى قصد اتهام يسوع بسبب شفائه لِلرَّجُلِ ذي اليَدِ الشَّلاَّء باسم الشّريعَة للحكم عليه. ومما يدعو للسخريَّة أنَّ الفِرِّيسيِّين كانوا يتهمون يسوع بمخالفة السَّبْت بسبب شفائه الرَّجل الأشل اليد، بينما كانوا هم يُدبِّرون مؤامرة قتله. ويضيف لوقا الإنْجيلي أنَّ يسوع " عَلِمَ أَفكارَهم "(لوقا 6: 8)، إذ يعرق يسوع خفايا القلب البشري (يوحنا 1: 48)

 

3 فقالَ لِلرَّجُلِ ذي اليَدِ الشّلاَّء: ((قُمْ في وَسْطِ الجمَاعة)).

 

تشير عبارة "قُمْ في وَسْطِ الجمَاعة" إلى طلب يسوع من الرَّجُلِ صاحب اليَدِ الشَّلاَّء أن يقف في وسط الجماعة لكي يراه الجميع بالتَّساوي في وقت شفائه ليكونوا شهودًا على ذلك من ناحية، وليظهر للجميع أنَّه لا يهاب مقاوميه، ولا يخشى مقاومتهم من ناحية أخرى.

 

4 ثُمَّ قالَ لهم: ((أَعَمَلُ الخَيرِ يَحِلُّ في السَّبْت أَم عَمَلُ الشَّرّ؟ أَتَخليصُ نَفْسٍ أَم قَتْلُها؟)) فظَلُّوا صامِتين.

 

 تشير عبارة " أَعَمَلُ الخَيرِ يَحِلُّ في السَّبْت أَم عَمَلُ الشَّرّ؟ إلى سؤال يسوع الذي يُخيّر الفِرِّيسيِّينَ بين اتّباع الشّريعة، أي ما هو يجوز وما هو لا يجوز، وبين متطلّبات الحياة العمليَّة. يسوع يشير إلى مبدأ كان من المُسلم به من قبل الرَّبّانيين الذي يُجيز به مُخالفة شريعة السَّبْت لإغاثة إنسان في خطر الموت، أو إذا كانت حياة الإنسان مُهدَّدة بالخطر. وفي إنْجيل متى اتخذ يسوع براهينه من تصرّف القرويين ليُبرهْن كيف يحل فعل الخير في يوم السَّبْت فانهم إذا ما أرادوا أن يُنقذوا خروفًا لم يتردَّدوا في مخالفة تعليم الرَّبّانيين. فقال " مَن مِنكُم، إِذا لم يَكُنْ لَه إِلاَّ خَروفٌ واحدٌ ووقَعَ في حُفرَةٍ يومَ السَّبْت، لا يُمسِكُه فيُخرِجُه؟  وكمِ الإنسان أَفضَلُ مِنَ الخَروف!" (متى 12: 11-12) فانهم إذا ما أرادوا ان ينقذوا خروفا لم يتردَّدوا في مخالفة تعليم الرَّبّانيين. فانهم يفهمون لماذا يشفى يسوع إنسانا خلافا للمعتقد الرَّسمي.  أمَّا لوقا فيتكلم في إنْجيله على "ابن أو ثور فيقول على لسان يسوع: "مَن مِنكُم يَقَعُ ابنُه أّو ثَورُه في بِئرٍ فلا يُخرِجُه مِنها لِوَقتِه يَومَ السَّبْت؟ "(لوقا 14: 5). يبدو لوقا أقل علمًا بالعادات الفلسطينيَّة من متى الإنْجيلي، وهو يتكلم على "بئر" كالذي في البلاد التي يعرفها، لا على "حفرة" وهو يذكر "أبنا" أو ثورًا" ووقعا فيه.   فالحكمة الشّعبيَّة تغلبت على التَّعليم الرَّسمي، وخلاص الإنسان تفوق على كل الشّرائع مهما كان الاحترام للآباء كبيرًا.  أمَّا عبارة "أَتَخليصُ نَفْسٍ أَم قَتْلُها؟"  فتشير إلى تعميم مبدأ الشِّفاء في السَّبْت على كل عملٍ صالحٍ يُقام به يوم السَّبْت، لأنَّ الامتناع عن الشِّفاء يُساوي القتل، والامتناع عن عمل الخير يُساوي عمل الشّر. وفي كلتا الحالتين، نرى ان موقف يسوع من السَّبْت يميل إلى جعل السَّبْت في خدمة الخير والحياة. ويُميِّز يسوع هنا بين العمل الذي يقوم به من عمل الخير، وهو شفاء مريض عاجز وعمل خصومه الفِرِّيسيِّين الذين يراقبونه بسوء نيَّة بقصد عمل الشّر وقتله، كما أوضح يوحنا الإنْجيلي “اشْتَدَّ سَعْيُ اليَهودِ لِقَتلِه، لأَنَّه لم يَقتَصِرْ على استِباحَةِ حُرمَةِ السَّبْت، بل قالَ إِنَّ اللهَ أَبوهُ، فَساوى نَفْسَه بِالله" (يوحنا 5: 18). وفي الواقع، يعمل يسوع من أجل الحياة، من أجل خلاص النُّفوس وسعادة الإنسان. وهو لم يقوّض السَّبْت، بل أعطاه معنى نبويًا: يجب أن يكون هذا اليوم يوم حُريَّة، حياة، عيد، يوم الرَّبّ لعمل في الخير والصَّالحات. اليوم الذي " نخلص فيه حياة".   أمَّا عبارة " فظَلُّوا صامِتين" فتشير إلى امتناع الفِرِّيسيِّين عن الإجابة على سؤال يسوع لسبب قساوة قلوبهم وتعصُّبهم الذميم والتَّمادي في الضَّلال، وخوفا من مراجعة مواقفهم واثقين بأنفسهم أنهم وحدهم يملكون زمام الحقيقيَّة.  فالجواب هو أنَّ السَّبْت يجب أن يكرَّس لا إلى الرَّاحة وعدم الحركة فحسب، بل لأعمال المحبة والرَّحمة كما صرّح يسوع المسيح " أَخذَ اليَهودُ يَضطَهِدونَ يسوع لأَنَّه كانَ يَفعَلُ ذلكَ يَومَ السَّبْت. فقالَ لَهم: إِنَّ أَبي ما يَزالُ يَعمَل، وأَنا أَعملُ أَيضًا " (يوحنا 5: 16-17). هل نحاول أن نفهم روح الشّريعة بحسب مفهوم يسوع؟

 

5 فأَجالَ طَرْفَه فيهِم مُغضَبًا مُغتَمًّا لِقَساوةِ قُلوبِهم، ثُمَّ قالَ لِلرَّجُل: ((اُمدُدْ يَدَك)). فمَدَّها فعادَت يَدُه صَحيحَة.

 

تشير عبارة " أَجالَ طَرْفَه فيهِم " إلى عبارة مألوفة لدى إنْجيل مرقس التي تُبيّن حالة يسوع من الغضب والاغتمام (مرقس 3: 34 و5: 32 و10: 23و 11: 11). أمَّا عبارة " مُغضَبًا مُغتَمًّا لِقَساوةِ قُلوبِهم " إلى غضب مصحوب بحزن على انغلاق قلوب الفِرِّيسيِّين وقساوتها، والغضب ليس خطأ في ذاته، بل الأمر يتوقف على ما يدفعنا للغضب.  فنوع الغضب الجائز هو الغضب على الخطيئة إذا كان مصحوبًا بالحزن والشّفقة على الخاطئ. والمسيح لم يردَّ بغضبه أذى الفِرِّيسيِّين ولا الانتقام منهم، بل أغضبه قَساوةِ قُلوبِهم وعبَّر عن غضبه بتصحيح المشكلة وذلك بشفاء يد الرَّجل. قال بولس الرَّسول "اِغْضَبُوا وَلَا تُخْطِئُوا" (أفسس 4:26). فالغضب في محله فضيلة لا رذيلة. فالغضبُ في الحزن يسمو به، والحزنُ في الغضبِ يقدِّسه ويجعله فضيلة ساميَّة. انفرد مرقس بين الأناجيل الإزائيَّة بذكر غضب يسوع في هذه الحادثة.  هل نستخدم غضبنا في إيجاد حلول بنَّاة ام لنزيد تعقيد المشكلة؟ أمَّا عبارة "اُمدُدْ يَدَك " فتشير إلى عضو هام وفعّال في جسم الإنسان. ويوضِّح لوقا الإنْجيلي انه "رَجُلٌ يَدُه اليُمنى شَلاَّء " (لوقا 6: 6) واليد اليمنى تدل على العمل في العَالَم الشّرقي. أمَّا عبارة " ِقَساوةِ قُلوبِهم " فتشير إلى الغلاظة بعدم تأثر الفِرِّيسيُّينَ من البراهين القاطعة على صحة كلامه وقصده قتله وعدم انتباههم لدعوة المحبة وإنذارات الدينونة.  أمَّا عبارة "فعادَت يَدُه صَحيحَة " فتشير إلى يسوع الذي أراد ان يعمل الخير جاعلا تمجيد الله في خلاص الإنسان. يسوع يُعرّض حياته للخطر من أجل "خير" يقوم به.

 

6 فخَرَجَ الفِرِّيسيُّونَ وتآمَروا علَيه لِوَقْتِهم معَ الهِيرودُسِيِّينَ لِيُهلِكوه.

 

تشير عبارة " فخَرَجَ الفِرِّيسيُّونَ " إلى بقاء الفِرِّيسيِّين متمسكين بشريعة السَّبْت الشّكليَّة التَّي كانت تمنع كل شكل من أشكال العمل. أمَّا عبارة "تآمَروا علَيه" في الأصل اليوناني συμβούλιον ἐδίδουν καταὐτοῦ (معناها راح يعقدون مجلسا ضده) فتشير إلى اجتماع سرِّي خاص للتآمر بين الفِرِّيسيِّين والهِيرودُسِيِّينَ ضد يسوع.   كانت المقاومة التَّي أثارها هذا الحادث مُرَّة لدرجة أن الفِرِّيسيِّين، وهم وطنيون مُتحمِّسون، كانوا على استعداد للاتِّفاق مع الهِيرودُسِيِّينَ، أعدائهم الذين كانوا يُعتبرونهم خائنين، لبذل مجهود مشترك لقتل يسوع. وانفرد مرقس هنا بين الأناجيل الإزائيَّة بذكر موافقة الهِيرودُسِيِّينَ مع الفِرِّيسيِّين في المؤامرة على يسوع.  أمَّا عبارة " لِوَقْتِهم " في الأصل اليوناني εὐθὺς (معناها في الحال) فتشير إلى تعبير مرقس الإنْجيلي الذي تكرر 41 مرة في إنْجيله.  ويعطي مرقس الإنْجيلي هذه العبارة أهميَّة كبرى حيث خرج الفِرِّيسيُّونَ في الحال مُبيِّنًا فوريَّة عمل الفِرِّيسيِّين مع الهِيرودُسِيِّينَ. أمَّا عبارة "الهِيرودُسِيِّينَ" فتشير إلى هم جماعة، ليسوا طائفة دينية ولا حزباً سياسياً، بل مجرد اتباع هيرودس الكبير وخلفائه في فلسطين. غير أن صداقتهم لملكهم لم تجعلهم موظفين رسميين في بلاطه وكان لهم نفوذ واسع، وحاولوا إقناع الشعب بمولاة هيرودس وحلفائه ومولاة الرومان وحلفائهم ونظر إليهم الشعب المُعادي للرُّومان ولهِيرودُس نظرة كره واحتقار. ولكن هذه النظرة لم تمنع الفِرِّيسيِّين، أعدائهم من التحالف معهم ضد المسيح، فتآمروا معاً، الفِرِّيسيُّون

الهِيرودُسِيّونَ، في الجليل (مرقس 3: 6) وفي القدس أيضًا حيث بقي الهِيرودُسِيّونَ إلى جانب الفِرِّيسيِّين يراقبون يسوع ليصطادوه بأسئلتهم (مرقس 12: 13) ويتامروا على قتله، كما ظهر من ردود اليهود "اشْتَدَّ سَعْيُ اليَهودِ لِقَتلِه، لأَنَّه لم يَقتَصِرْ على استِباحَةِ حُرمَةِ السَّبْت، بل قالَ إِنَّ اللهَ أَبوهُ، فَساوى نَفْسَه بِالله" (يوحنا 5: 18). وربما هم الذين دعوا خمير هيرودس (مرقس 8: 15). أمَّا عبارة " لِيُهلِكوه" في الأصل اليوناني ἀπολέσωσιν (معناها ليروا كيف يقتلونه) فتشير إلى إنباء بالآلام وإلى جسامة الصِّراع وأهميَّة أقوال يسوع.  ومع أنَّ الفِرِّيسيِّين والهِيرودُسِيِّينَ كانوا أعداء، إلاَّ أنَّهم اتَّحدوا ضد يسوع، لأنَّه تحدَّى كبرياءهم وكشف دوافعهم غير الشّريفة، وأضعف سلطان شهرتهم. وبعد هذه البراهين والتَّفسيرات حول شريعة السَّبْت وتأكيدها بالمُعجزة، تملك أعداء يسوع الفِرِّيسيِّين والهِيرودُسِيِّينَ رغبة وحشيَّة في الانتقام. ومن السُّخريَّة أن يدفعهم هذا الحقد والكراهيَّة، مع حماستهم للشريعة، إلى تدبير مؤامرة قتل واضحٍ أنَّها ضد الشّريعة.

 

 

ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنْجيلي (مرقس 2: 23-3: 6)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النَّص الإنْجيلي وتحليله (مرقس 2: 23-3: 6)، يمكن الاستنتاج أنَّ النَّص يتمحور حول شريعة السَّبْت وموقف يسوع إزاء الفِرِّيسيِّين حول هذه الشّريعة.

 

1) شريعة يوم السَّبْت  

 

"السَّبْت" في الأصل اليوناني σάββατον مشتقة من العبريَّة שַּׁבָּת (معناها راحة)، وهو اليوم السَّابع في الأسبوع. ويبدأ عند غروب الشّمس يوم الجمعة ويستمر إلى الغروب التَّالي. يترك فيه الإنسان أشغاله الماديَّة حتى يستريح، لأنَّ الله استراح فيه من الخليقة كما جاء في سفر التكوين: "اَنتَهى اللهُ في اليَومِ السَّابِعِ مِن عَمَلِه الَّذي عَمِلَه، واَستَراحَ في اليَومِ السَّابِعِ من كُلِّ عَمَلِه الَّذي عَمِلَه. وبارَكَ اللهُ اليَومَ السَّابِعَ وقَدَّسَه، لأَنَّه فيه اَستَراحَ مِن كُلِّ عَمَلِه الَّذي عَمِلَه خالِقًا" (تكوين 2: 1 -3). ويُعلق القدّيس ألريد دو ريلفو: "إنّ اليوم السَّابع لا يُقارن؛ إنّ ما علينا التَّأمّل به ليس عمليَّة خلق هذا أو ذاك من عناصر الطَّبيعة، بل التَّأمّل في استراحة الرَّبّ وكمال الخليقة " (مرآة المحبّة). كم هو عظيم هذا اليوم، يوم الرَّاحة هذا وكم هو باهر يوم السَّبْت! ".

 

تطور التَّفكير عن يوم السَّبْت حين أمر الله في طور سيناء في الوصيَّة الرَّابعة من الوصَايا العَشْر بحفظ السَّبْت، التي هي الوحيدة تختصّ بالطُّقوس الخارجيَّة: "اليَومُ السَّابِعُ سَبْتٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ، فلا تَصنَعْ فيه عَمَلًا أَنتَ وآبنُكَ وآبنتُكَ وخادِمُكَ وخادِمَتُكَ وبَهيمَتُكَ ونَزيلُكَ الَّذي في داخِلِ أَبوابِكَ، لأَنَّ الرَّبّ في سِتَّةِ الأَمٍ خَلَقَ السَّمَواتِ والأَرضَ والبَحرَ وكُلَّ ما فيها، وفي اليَومِ السَّابعِ استراح، ولِذلك بارَكَ الرَّبّ يَومَ السَّبْت وقدَّسَه" (الخروج 20: 8 -11).  ولذلك فإن السَّبْت العبري يوم عينته إرادة الله.

 

ما هي دوافع هذه الرَّاحة؟ تنطلق دوافعه من قانون العهد الذي كان يبرز الجانب الإنساني الاجتماعي لهذه الرَّاحة، التي كانت تُتيح للعبيد أن يلتقطوا أنفاسهم (خروج 23: 12، تثنيَّة 5: 12). والتَّشريع الكهنوتي يُعطي للرَّاحة الجانب الدِّيني للعِبادة، فالإنسان بعمله يقتدي بنشاط الله الخلاَّق. فراحته في اليوم السَّابع تُحاكي راحة الله القُدسيَّة (خروج 31: 13...، تكوين 2: 2 -3). وهكذا قد أعطى الله السَّبْت لبني إسرائيل كعلامة، لكي يعلموا أن الله إنما يُقدِّس شعبه "أَعطَيتُهما أَيضًا سُبوتي لِتَكونَ عَلامةً بَيني وبَينَهم، لِيَعلَموا أَنِّي أَنا الرَّبّ مُقَدِّسُهم"(حزقيال 20: 12).

 

وكيف حافظ اليهود على راحة السَّبْت؟  حافظ اليهود على راحة السَّبْت حسب الشّريعة بصورة صارمة جدًا: تحريم إشعال النَّار (خروج 35: 3)، أو جمع الحطب (عدد 15: 32)، أو إعداد الطَّعام (خروج 16: 23). وحسب شهادة الأنبياء، كان احترام السَّبْت شرْطًا يتعلّق به تحقيق الوعود الخاصة بآخر الأزمنة (إرميا 17: 19-27،). ولذا نرى نحميا يتمسَّك بشدّةٍ بحفظ السَّبْت حفظًا كاملًا (نحميا 13: 15-22).  وفي سبيل "تقديس" هذا اليوم (تثنية 5: 12)، كان ينظّم "محفل مقدّس" (الأحبار 23: 3)، وتقدمة ذبائح (عدد 28: 9-10)، وتجديد خبز التَّقدمة (الأحبار 24: 8، أيَّام 9: 32). أمَّا خارج أورشليم، فكانت تُبدَّل هذه الطُّقوس باجتماع في المجمع اليهودي، يُخصَّص للصلاة الجماعيَّة ولقراءة الكتب المقدّسة مع شرحها.  وبقي اليهود يحفظون يوم السَّبْت بمواظبة، حتى تطرفوا في ذلك، فحفظوه حفظًا حرفيًا أحيانًا، وخلطوه بعبادات الأوثان أحيانًا أخرى، فأرسل لهم الله الأنبياء ليُرشدوهم إلى حفظ السَّبْت حِفظًا روحيًا، حسب رغبة الله (2 ملوك 4: 23 وعاموس 8: 5 وهوشع 2: 11 وأشعيا 1: 13).

 

في فترة السَّبي التي قضاها اليهود في بابل نسوا حفظ السَّبْت، حيث بدأ رجال الله يُشدّدون على حفظه بعد العودة إلى كنعان، وجاهد نحميا جهاد الأبطال لإعادة المكانة القديمة ليوم السَّبْت (نحميا 10: 31 و13: 15 -22). وفي الفترة الواقعة بين عزرا والمسيح زاد اليهود عددًا من القوانين التَّقليديَّة التي يجب حفظها في يوم السَّبْت، تاركين الرَّحمة والحق التي هي الأمور الرَّئيسيَّة الواجبة فيه.  وفي فترة ما بين العهدين انتشرت مجامع اليهود، فكان اليهود يقضون يوم السَّبْت في دراسة النَّاموس وفي الرَّاحة من أشغالهم الدُّنيويَّة. وقد شدّدوا في حفظ راحة يوم السَّبْت حتى أن الحسيديين (اليهود الأتقياء) قد آثروا أن يتركوا أنفسهم للموت على أن يدنّسوا السَّبْت بحمل السِّلاح (1 مكابى 32:2-38). ولكنهم عادوا وتجاوزوا عن الحرب في يوم السَّبْت للدفاع عن النَّفس في حالة الهجوم عليهم (1 مكابين 2: 39 -41).

 

في فترة العهد الجديد، حفظ الإسينيُّون يوم السَّبْت أشدّ حفظ وأكمله، بينما علماء الفِرِّيسيِّين، أخذوا يُصيغون بشأنه الكثير من الفتاوي مغالية في دقَّتها. وعندما جاء المسيح كان موضوع حفظ السَّبْت هو مادة النِّزاع الأولى بين المسيح وبين شيوخ اليهود. فقد أرادوا حفظ اليوم حرفيًا كعبيد للسبت، بينما علم المسيح أن السَّبْت إنما جعل لأجل الإنسان (مرقس 2: 27). ولم يُلغِ ِ يسوع شريعة السَّبْت بل كان يتردّد في هذا اليوم على المجمع، وينتهزها فرصة ليُبشِّر بالإنْجيل (لوقا 4: 16). إلا أنه يؤاخذ علماء الفِرِّيسيِّين على تشدّدِهم الشّكلي قائلاً لهم: "إِن السَّبْت جُعِلَ لِلإِنسان، وما جُعِلَ الإنسان لِلسَّبت (مرقس 2: 27) ومُبيّنًا أنَّ واجب المحبَّة هو مقدَّم على التَّمسك ماديًا براحة السَّبْت (متى 12: 5، لوقا 13: 10-16). فضلًا عن ذلك، قرَّر يسوع لنفسه سلطانًا على السَّبْت: " إن َابنُ الإنسان سَيِّدُ السَّبْت" (مرقس 2: 28). وهذا أحد المآخذ التي يأخذها علماء اليهود عليه (يوحنا 5: 9) ولكنَّه، وهو يعمل الخير في يوم السَّبْت، ألا يقتدي بآبيه، الذي، وإن دخل إلى راحته في نهاية الخلق، لا يزال يسوس العَالَم ويُنعش حياة البشر؟ "إنّ أبي ما يَزالُ يَعمَل، وأنا أعمَلُ أيضًا" (يوحنا 5: 17). ويعلق العلامة أوريجانوس: "نحن نرى الله دائمًا في عمل. فلا يوجد سبت يتوقَّفُ فيه الله عن العمل، ولا يوجد يوم لا "يُطلِعُ شَمسَهُ على الأشرارِ والأخيار، ويُنزِلُ المطرَ على الأبرارِ والفُجّار" (متى 5: 45)، ولا وجود ليومٍ لا "يُنبِتُ العُشبَ في الجِبال، والزّرعَ لِمَنفعَةِ الإنسان" (مز147: 8)، وليس هناك يوم لا "يُميتُ ويُحيي" (1صمويل 2: 6) "(عظات حول سفر العدد، 22).

 

2) مجادلات حول شريعة السَّبْت  

 

أ) مجادلات مع المسيح وتفسيره شريعة يوم السَّبْت

 

يكثر في الإنْجيل مجادلات يسوع مع قادة اليهود حول السَّبْت (متى 12: 9-14ولوقا 13: 10-17، و14: 1-6 ويوحنا 5: 1-18 و7: 19-24)، ولقد كان لدى الفِرِّيسيِّين تسعة وثلاثين نوعًا من الأعمال التي يُحرم القيام بها في يوم السَّبْت، وذلك بناء على تفسيراتِهم للشَّريعة والعوائد اليهودية على ممرِّ الأجيال التي جمعت في كتاب التَّلمود. وكان الحَصَاد أحد هذه الأعمال المُحرَّمة، وعندما قطف التَّلاميذ سنابل القمح وفركوها بين أيديهم، كان ذلك نوعا من الحَصَاد في رأي الفِرِّيسيِّين، لكن التَّلاميذ قطفوا القمح، لأنَّهم جاعوا، وليس لأنهم أرادوا ان يحصدوا القمح لربح.  فلم يكن يسوع ولا تلاميذه يعملون يوم السَّبْت.

 

لم يردْ الفِرِّيسيُّونَ أن يروا أبعد من حرفيَّات الشّريعة، بل كانوا مُصمِّمين على اتهام يسوع بارتكاب الخطأ.  لأنهم اتخذوا موقفا عِدائيا ًمن يسوع، فقد حسدوه على شعبيته ومعجزاته وسلطانه في الكلام. وكان اهتمامهم بمكانتهم في المجتمع، وفرصتهم للكسب الشّخصي من الأهميَّة بحيث فقدوا رؤيتهم كقادة دينيِّين. فكان يجب ان يتعرفوا على المسيح، ولكنَّهم أبوا الاعتراف به، لأنَّهم لم يشاؤوا أن يتخلَّوا عن مراكزهم وسلطانهم، وعندما كشف يسوع مواقفهم الحقيقيَّة، صار عدوًا لهم عوضًا عن أن يكون المسيح الذي انتظروه، بل بدأوا يبحثون عن الوسائل ليصطادوه ليُهلكوه.  وحاول يسوع أن يُدافع عن تلاميذه مستعملاً خمسة براهين مختلفة لتفسير شريعة يوم السَّبْت

 

البرهان الأول: داود

 

رجع يسوع إلى جذور الدِّين اليهودي، فأعاد إلى السَّبْت معناه الأصلي، وهو المجال الرُّوحي الذي يتمُّ فيه عمل الله في تاريخ الإنسان. فابتدأ يسوع بتأنيب الفِرِّيسيِّين، لأنَّهم لم يتذكروا ما فعله داود نبيُّهم وملكهم الذي خالف شريعة الهيكل في استسلامه لشريعة الرَّحمة، إذ أكل خبز التَّقدمة هو ورفاقه يوم السَّبْت (الأحبار 24: 8). وخبز التَّقدمة يتكوَّن من اثني عشر رغيفًا الموضوعة على المائدة في المَقدِس، أي القسم المتوسط من خيمة الشِّهادة، وكان الكهنة يأتون بخبزٍ جديدٍ كل يوم سبتٍ، ويضعونه على تلك المَائدة، ويأخذون الخبز ويأكلونه (الأحبار 24: 5-9) ولا يجوز لاحدٍ غير الكهنة أن يأكلَ هذا الخبز (خروج 25: 30).

 

لم يعاقب الرَّبّ داود، لأنَّ حاجته إلى الخبز كانت أهم من الحرفيات الطَّقسيَّة، لأنَّ المحافظة على الحياة في نظر الله أثمن من القوانين الطَّقسيَّة (1 صموئيل 21: 1-6).  فالضُّروريات ة أباحت المَحظورات لداود، إذًا الأعمال الضُّروريَّة مُباحة يوم الرَّاحة، ومن أباحها في يوم الرَّاحة لا يخالف الوصيَّة الرَّابعة. فإن كان الرَّبّ لم يبكت داود على ذلك، فقد جاز لابن داود الأعظم يسوع المسيح، أن يسمح لتابعيه أن يقطفوا سنابلاً ويأكلوها في السَّبْت. وهنا يجب أن نؤكِّد أنَّ يسوع لم يكن يُشجِّع عصيان شرائع الله، بالحري كان يؤكد ضرورة التَّميز عند تنفيذ الشّرائع.  وقد علم كل من داود ويسوع ان القصد الحقيقي من شريعة الله هو تعزيز المحبَّة لله وللأخرين، فلا تحفظ أي شريعة حِفظًا أعمى دون النَّظر بدقة أسبابها، لأنَّ روح الشّريعة أهم من حَرْفها.

 

البرهان الثَّاني: الكهنة

 

استشهد يسوع أيضا بالكهنة المُوكلين بخدمة العِبادة بقوله: أَوَما قَرأتُم في الشّريعَةِ أَنَّ الكَهَنَةَ في السَّبْت يَستَبيحونَ حُرمَةَ السَّبْت في الهَيكَلِ ولا ذَنْبَ علَيهم؟  فأَقولُ لكم إِنَّ هَهُنا أَعظَمَ مِنَ الهَيكَل (متى 12: 5-6). إذ يقومون بأكثر من عمل يوم السَّبْت ليهيئوا الذَّبيحة: ذبح البهائم المقدّمة في ذلك اليوم وسلخها وتقطيعها وإحراقها علمًا أنَّ هذا الامر كان محرَّمًا، لكنَّه جاز، لأنهم خدموا به الله.  فالعمل الذي تقتضيه الخدمة التي أمر بها الله في العِبَادة لإقامة الطُّقوس والشّعائر الدِّينيَّة (متى 12: 5) يحلُّ في يوم السَّبْت مع أنَّ الوصايا العشر تحرم العمل في يوم السَّبْت (خروج 20: 8-11). لانَّ الهدف من السَّبْت كان الرَّاحة وعبادة الله، فقد كان مسموحًا للكهنة أن يقدّموا الذَّبائح وأن يؤدُّوا خدمات العبادة، كان هذا العمل في السَّبْت خدمةً وعبادةً الله.  

 

إذا جاز عمل الكهنة يوم السَّبْت، وهو مخالفٌ لحرف الشّريعة لقداسة خدمتهم في الهيكل، جاز بالأولى عمل تلاميذه لحضور المسيح معهم وقداسة خدمتهم إياه، لأنه هو أعظمُ من الهيكل، بل هو هيكل الله الحَي الحقيقي على الأرض، كما جاء في تعليم بولس الرسول: "فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللَّاهُوتِ جَسَدِيًّا" (كولسي 9: 2)، وفيه تُقدَّم العِبَادة الحقيقيَّة لله، لأنَّه الوسيط بين الله والنَّاس (1 طيموتاوس 2:5)، وبه حضر الله لشعبه. ولم يكن هيكل سليمان سوى رمز إليه (يوحنا 2: 19).  فالمسيح هو الهيكل الحقيقي، وقد حلَّ على الأرض وهؤلاء التَّلاميذ يخدمونه ويتبعونه، فما الخطأ في أن يعمل التلاميذ هذا العمل البسيط ليستمروا في خدمتهم لرِّب الهيكل يوم السَّبْت؟

 

البرهان الثَّالث: النَّبي هوشع

 

أشار يسوع إلى سلطته على الشّريعة، ولا سيما شريعة السَّبْت، (متى 12: 7) مستندًا إلى العهد القديم، (1 صموئيل 15: 22-23، مزمور 40: 6-8، أشعيا 1: 11-17، ارميا 7: 21-23) وعلى وجه الأخص إلى هوشع النَّبي "فإِنَّما أُريدُ الرَّحمَةَ لا الذَّبيحة، مَعرِفَةَ اللهِ أَكثَرَ مِنَ المُحرَقات" (هوشع 6: 6). ويقول يسوع للفرِّيسيِّين " َلو فَهِمتُم مَعنى هذهِ الآية: إِنَّما أُريدُ الرَّحمَةَ لا الذَّبيحة، لَما حَكَمتُم على مَن لا ذَنْبَ علَيهِم"(متى 12: 7). هذا هو مبدأ الرَّحمة الذي يصلح لكل زمان.

 

اقتبس يسوع مبدأ الرَّحمة من قول هوشع النَّبي مُعلنًا أنَّ الله يفضِّل أعمال الرَّحمة على كل الأعمال الطَّقسيَّة مهما عظم شانها. وكون السَّبْت وضع لأجل الإنسان فلا يصحُّ أن يكون سببًا في جوع التَّلاميذ. فالله يريد رحمة لا ذبيحة. ومن هذا المنطلق، لام الفِرِّيسيِّون تلاميذ المسيح بسبب اكلهم وهم في حاجة إلى الطَّعام لأنهم خالفوا شريعة السَّبْت الطَّقسيَّة، ولكن يسوع لامَ الفَريسيِّين لأنهم خالفوا شريعة أعظم منها وهي شريعة الرَّحمة.

 

لا يَنكر يسوع في نَّص هوشع (6: 6) مبدأ الذَّبائح الطَّقسيَّة، بل ينكر التَّمسك المتزمِّت بالطقوس التَّقليديَّة الخاصة بالحياة الدِّينيَّة إلى درجة إهمال وصيَّة الرَّحمة وهي وصيَّة رئيسيَّة.  فكلمة هوشع النَّبي يدعو إلى التَّجديد الرُّوحي بقدر ما يحملهم هذا التَّجديد على الاعتراف بأنَّ يسوع هو المسيح الذي يُذكِّرنا بسُلم الأولويات الحقيقي: موقف قلوبنا من نحو الله يأتي في المقام الأول، بذلك فقط نقدر أن نطيعه ونحفظ الشّرائع والفرائض الدِّينيَّة.  ومن هذا المنطلق، ليس مقياس السَّبْت في العِبَادة وما فيها من شعائر طقسيّة، بل الرَّحمة والشّفقة هما اللتان تُضيفان على التزام الإنسان في عمل الله قِوامه.  ان تطبيق الأخلاق أكثر أهميَّة من الطُّقوس.

 

البرهان الرَّابع: ابنُ الإنسان سَيِّدُ السَّبْت

 

التجأ يسوع إلى برهانٍ آخرٍ مُعلنًا للفِرِّيسيِّن أنه "ابنُ الإنسان سَيِّدُ السَّبْت " (مرقس 2: 28)، إذ هو الذي خلق السَّبْت ومُشرّعه والخالق أعظم من الخليقة، وبذلك كان في يديه السُّلطان والحكم على تقاليد الفِرِّيسيِّين وشرائعهم وتغييرها في موضوع السَّبْت، لأنه خالق السَّبْت. والخالق أكبر من الخليقة. وفي هذا الجدال حول السَّبْت، أثبت يسوع أنَّه أعظم من السَّبْت، لأنَّه ابن الإنسان (متى 12: 8). وأكد كلامه بمعجزة شفاء رَجُلٌ يَدُه شَلاَّء. ان المسيح لا ينقض ناموس السَّبْت لكنه بصفته ابن الإنسان، يُعلن حقه في إخضاع السَّبْت لخير الإنسان.  فالسَّبْت وُضع لخدمة الإنسان ومنفعته. فقد جعل السَّبْت للإنسان لا الإنسان لأجل السَّبْت. والمسيح سيد السَّبْت يُكرمه ويُثبّته، وفي الوقت ذاته يُحرِّره من القيود التي قيّده بها الفِرِّيسيُّونَ. فلو كان المسيح مجرد بشرٍ، لما حقَّ له أن يسمِّي ذاته سيد السَّبْت. لذلك يحق للإنسان أن يجري عملا في السَّبْت لحفظ حياته لا لهلاكه.

 

لا ينقض المسيح ناموس السَّبْت، لكنَّه بصفته ابن الإنسان، يُعلن حقَّه في إخضاع السَّبْت لخير الإنسان.  ولم يجرد المسيح يوم السَّبْت من قيمته كيوم للعِبَادة، فقد ذهب دومًا إلى المجامع للصَّلاة في يوم السَّبْت (لوقا 4: 16)، لكنَّه أضاف إليه أعمال الرَّحمة، فكان يتحنن على الإنسان ويعمل المعجزات في يوم السَّبْت، لأنَّه رب السَّبْت (مرقس 2: 28).   ويعلق القدّيس الأسقف هيلاريون: "في يوم السَّبْت، كان يُطلب من الجميع، بدون استثناء، ألاّ يقوموا بأيّ عمل وبأن يستريحوا دون القيام بأيّ نشاط.  لكن يسوع أعلن "إِنَّ أَبي ما يَزالُ يَعمَل، وأَنا أَعملُ أَيضًا" (يوحنا 5: 17) فكيف يُخالف يسوع قاعدة السَّبْت؟" (دراسة عن المزمور 91).  ولكن في رؤية الفِرِّيسيِّين نجد أنَّ شريعة السَّبْت هي أهم من سيد السَّبْت، الدَّاعي إليها.  دع الفِرِّيسيُّونَ لخدمة السَّبْت، ويسوع دعا لخدمة الإنسان. والفارق كبير بين "خدمة السَّبْت" وبين "خادمة الإنسان".

 

البرهان الخامس: شفاء في السَّبْت

 

أعطى الفِرِّيسيُّونَ لشرائعهم أولويَّة على احتياجات الإنسان وحماية نواميسهم أهم لديهم من تحرير الإنسان وشفائه. كانت قواعد السَّبْت تقول انه يمكن إبراء النَّاس في يوم السَّبْت متى كانت حياتهم معرضة للخطر.  لكن يسوع أراد أن يكون يوم السَّبْت يوم خدمة وعمل الرَّحمة فقام يسوع في يوم السَّبْت، بمعجزة شفاء الرَّجل الذي يده شلاء (مرقس 3: 1-6)، ولم يكن هناك خطر الموت، وهي احدى سبع معجزات التي صنعها المسيح في السَّبْت (مرقس 1: 21؛ 1: 29، يوحنا 5: 9؛ ولوقا 13: 14؛ 14: 2) ليعلن أنَّ عمل الرَّحمة في يوم الجائز ومُرضٍ لله من ناحية، وليعلن للشعب ان الله هو إله الشّعب وليس إله القواعد، وأفضل وقت للوصول للإنسان هو عندما يكون في حاجة إلى عون من ناحية أخرى.  

 

الشِّفاء يوم السَّبْت هو علامة يوم الخليقة الجديدة، يعلق القدّيس البابا يوحنّا بولس الثَّاني أنّ الفكر المسيحي قد أقام عفويًّا الصِّلة بين القيامة التي وقعت في "اليوم الأوّل بعد السَّبْت" واليوم الأوّل في الأسبوع الكوني (التَّكوين 1: 1)، وهو في سفر التَّكوين، اليوم الذي تمّ فيه خلق النُّور (تكوين 1: 3-5). مثل هذه العلاقة تهيب بالمؤمنين إلى فهم القيامة منطلقًا لخليقة جديدة، يكون المسيح المُمجّد هو بكورتها، بما أنّه هو نفسه "بكر كلّ خليقة" (قولسي 1: 15) "والبكر بين الرَّاقدين" (قولسي 1: 18)" (الرِّسالة الرَّسوليّة: يوم الرَّبّ (Dies Domini)، الأعداد 24 و25).

 

نستنتج مما سبق أنَّ يسوع لم يلغِ شريعة السَّبْت، بل يُفسرها من الدَّاخل موليًا إيَّاها روحًا جديدًا. واستخدم يسوع سلطانه كسيد السَّبْت ونقله من اليوم السَّابع في الأسبوع، إلى اليوم الأول الذي هو يوم الأحد، فسُمِّي يوم الأحد يوم الرَّبّ. والمقصود بذلك، هو تخصيص يوم الرَّبّ لأعمال الضُّرورة والرَّحمة والعبادة.   لذلك يدعونا يسوع من خلال هذه البراهين إلى قيمة عملنا في الرُّوح الذي نضعه فيه. ليس المهم المحافظة على شريعة السَّبْت بقدر ما هو الرُّوح الذي نضعه في المحافظة على هذه الشّريعة.  وهكذا أوضح المسيح شريعة يوم الرَّاحة عند المسيحيِّين مُبيّنًا الأعمال المسموح بها: الأعمال الضُّروريَّة وأعمال الرَّحمة، وأعمال العِبَادة (متى 12: 1-8). في هذا الاتجاه استطاع المسيحيون الأوائل أن يستبدلوا السَّبْت بالأحد-أول يوم من الأسبوع.   

 

ب) الاحد بدل السَّبت  

 

1. الأحد بدل السَّبت إكرام لقيامة الرّبِّ: قدّس المسيحيون الأوَّلون يوم السَّبْت، ولكنَّ اليوم الأول من الأسبوع أي (الأحد) حلّ تدريجيًا محل اليوم السَّابع؛ السَّبْت هو اليوم السَّابع من الأسبوع حسب الشّريعة اليهوديَّة، ولكن السَّبْت المسيحي هو اليوم الأول من الأسبوع أي الأحد، إكراما لقيامة الرَّبِّ. وكان المسيحيون الأوَّلون يجتمعون في اليوم الأول من الأسبوع للصَّلاة المتمركزة حول قيامة ربنا. وبتأثير قول يسوع "إِن السَّبْت جُعِلَ لِلإِنسان، وما جُعِلَ الإنسان لِلسَّبت" تغيَّر يوم السَّبْت إلى يوم آخر من أيَّام الأسبوع وهو يوم الأحد الذي صار مُلكًا لجميع الشّعوب.

 

2. تقليد الجماعة المسيحيَّة الأولى: بموجب قرار المجمع المسيحي الأول، لم يفرض قادة الكنيسة الأولى حفظ يوم السَّبْت اليهودي على أحد (أعمال الرُّسل 15: 28)، ولم تعد هناك إلزاميَّة حفظ يوم السَّبْت اليهودي. وهناك الأدلة الكتابيَّة على حفظ الأحد بدل السَّبْت كما ورد في أعمال الرُّسل "اجتَمَعْنا يَومَ الأَحَدِ لِكَسْرِ الخُبز" (أعمال ُّسل 20: 7).  ويُخبرنا تاريخ الكنيسة أنَّها حفظت اليوم الأوَّل من الأسبوع بناء على أوامر الرُّسل. فكتب أغناطيوس "داعيًا بحفظ يوم الأحد كيوم الرَّبّ الذي به قيامة الحياة لنا"، وقال الشّهيد يوستينس النَّابلسي: نجتمع سويّة يوم الأحد، لأنَّه اليوم الأول الذي فيه غيّر الله الظلمة إلى نور، والعدم إلى وجود. وفي هذا اليوم قام مُخلصنا يسوع المسيح من الأموات"، وشهد أثناسيوس الإسكندري: إن الله قد غيّر يوم السَّبْت إلى يوم الرَّبّ "؛ وقال يوسابيوس مؤرخ الكنيسة ": "والكلمة (المسيح) بالعهد الذي قطعه معنا غيّر وليمة السَّبْت إلى نور الصَّباح، وأعطانا المُخلّص يوم الرَّبّ رمز الرَّاحة الحقيقيَّة. ففي هذا اليوم يجب أن نُسلك بموجب الشّريعة الرُّوحيَّة، وكل ما يمكننا أن نعمله يوم السَّبْت فقد نُقل إلى يوم الرَّبّ، وقد أُعلن لنا أنه يجب أن نجتمع في مثل هذا اليوم".

 

3. قرار مجمع لاودكية الكنسي في عام 364 م: كان بعض المسيحيِّين الأوّلين يحفظون كلًا من السَّبْت اليهودي ويوم الرَّبّ المسيحي، واستمر هذا مدة أربعة قرون، ثم انتهى أمره بعد أن منعه مجمع لاودكية الكنسي في عام 364 م. واعتمدوا في ذلك على اجتماع المسيح بتلاميذه في اليوم الأول من الأسبوع دومًا. يعلق التَّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة "فاليوم السَّابع يُتِمُّ الخلق الأوّل. أمّا اليوم الثَّامن فهو يَفتتحُ الخلق الجديد. وهكذا، فعَمَل الخلق يرقى إلى عملٍ أعظمٍ هو الفداء. الخلق الأوّل يجدُ معناه وقمَّته في الخلق الجديد في الرَّبّ يسوع المسيح الذي يفوقُ الخلق الأوّل(345-249) 

 

4. التخلص من أخطاء السبت: نقل المسيحيُّون إلى اليوم الأول من الأسبوع أفضل ما في السَّبْت اليهودي، وتخلصوا من كل الأخطاء التي ألصقها به اليهود. إذ أوضح المسيح شريعة يوم الرَّاحة عند المسيحيِّين مُبيّنًا ثلاثة أنواع من الأعمال المسموح بها: النَّوع الأول الأعمال الضُّروريَّة، والنَّوع الثَّاني أعمال الرَّحمة، والنَّوع الثَّالث أعمال العِبَادة (متى 12: 1-8). في هذا الاتجاه استطاع المسيحيون الأوائل أن يستبدلوا السَّبْت بالأحد-أول يوم من الأسبوع.  ويعلق برنابا: "عن موضوع السَّبْت، كُتِبَ: "رَأسُ الشّهرِ والسَّبْت والدَّعوةُ إلى الحَفلِ لا أُطيقُها" (أشعيا 1: 13). تأمّلوا في هذه الكلمة: "لا أريد السُّبوت الحاليّة، لكن أريد الّذي صنعته يوم ثامن، لذلك نحتفل بفرح باليوم الثَّامن، الذي قام فيه يسوع من بين الأموات، وظهر، ثم صعد إلى السَّماوات" اليوم الذي سيكون فجر عالم جديد"(الرِّسالة المنسوبة إلى برنابا الفقرتان 15 و16).

 

5. تعليم المسيحي التَّعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة: غاية المسيحي من حفظ الأحد عن غاية اليهودي من حفظ السَّبْت، لانَّ المسيحي ينظر إلى يوم الأحد واثقًا بالفادي الذي قام فيه منتصرًا من الأموات لإتمامه له عمل الفداء. ويعلق التَّعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة "تمشّيًا مع تقليد رسولي تحتفل الكنيسة بقيامة الرَّبّ في كلّ يوم ثامن، وهو يسمّى بحقّ يوم الرَّبّ (يوم الأحد). يوم قيامة المسيح هو في آنٍ معًا "أوّل يوم من الأسبوع" (يوحنا 20: 1)، تذكار اليوم الأوّل من الخليقة، و"اليوم الثَّامن" حيث افتتح المسيح، بعد استراحة السَّبْت العظيم، اليوم "الذي صنعه الرَّبّ"(الفقرتان 1166 و1167). لقد أُعطِي لنا يوم اليوم للصلاة والرَّاحة. "هذا هو اليَومُ الَّذي صَنَعَه الرَّبّ فلنبتَهِجْ ونَفرَحْ فيه" (مزمور 117: 24) ولنمجّد الذي قام من الموت في ذلك اليوم أن نعيش حسب يوم الأحد. ويعلق البابا بِندِكتُس السَّادس عشر "أن نعيش بحسب الأحد" يعني أن نعيش واعين للحريّة التي جلبها المسيح لنا وأن نواصل حياتنا باعتبارها تقدمة ذواتنا لله، لكي يتجلّى انتصاره بالملء للبشر أجمعين من خلال سلوك مُتجدّد بعمق" (الإرشاد الرَّسولي: "سرّ المحبّة"، الفقرة 72).

 

 

خلاصة

 

يصف مرقس في النَّص الأول من الإنْجيل (مرقس 2: 23-28) نزاع يسوع مع الفِرِّيسيِّين حول السَّبْت في مشهد سنابل القمح. فحاول الفِرِّيسيُّونَ مجادلة يسوع فيما يحلُّ في يوم السَّبْت، وما لا يحلُّ. فأتهموا تلاميذه بانتهاك حُرمة يوم السَّبْت بمنعهم من أعمال قلع السُّنبُلَ باعتباره من أعمال الحَصَاد متجاهلين نص الشّريعة في سفر تثنية الاشتراع، التي تُجيز قلع السَّنابل يوم السَّبْت على ألا يستخدم الإنسان منجلا.  وكذلك يتجاهلون فتوى التَّوراة في إجازة أكل خبز التَّقدمة لداود ومن معه، يوم هربوا من وجه شاول إلى بيت الرَّبّ في نُوب، وخبز التَّقدمة لا يحل إلاَّ للكهنة.  وتجاهلوا أخيرًا أنَّهم أمام حضرة المسيح، ربِّ السَّبْت، وسيد كلِّ شريعة. فالشّريعة بحسب ما بيّنع المسيح إنَّما وُجدت للإنسان لتحريره ومساعدته للوصول إلى الله لا لتقييده.

 

وفي النَّص الثَّاني من إنْجيل مرقس (مرقس 3: 1-6) أيد يسوع سلطان كلمته بسلطان معجزة رَجُلٌ يَدُه شَلاَّء يوم السَّبْت مُعلنًا أنَّ عمل الرَّحمة في يوم الجائز ومُرضٍ لله. فخرج الفِرِّيسيُّونَ من المجمع وكلهم تصميم على قتل يسوع لأنه انتهك حرمة السَّبْت

 

وكانت خلاصة جواب يسوع للفِرِّيسيِّين أمرين: الأول انه تجوز الأعمال الضُّروريَّة في يوم الرَّاحة، أي يوم الرَّبّ. والثَّاني انه يجوز في ذلك اليوم عمل ما أمر به هو أو ما سمح به، أو ما كان في سبيل خدمته.  ويعلمنا يسوع أن نقدس يوم الرَّبّ وذلك بأن يكون يوم راحة لعبادة الله، ومشاركة الآخرين فيما أتانا الله من مال أو طعام أو متاع أو خدمة.

 

دعاء

 

أيُّها ألاب السَّماوي، يا من أرسلت ابنك يسوع إلى أرضنا لكي يحطِّم قيودنا، ويُحرِّرنا من حدودنا، ويفدينا في يوم قيامته المجيدة، اجعلنا ندرك أهمية هذا اليوم الذي كان بدء الخليقة الجديدة وخلاص العَالَم، فنبتهج مع السَّماء والأرض ونُباركه ونُقدّسه بالعِبَادة والأعمال الرَّحمة والمَحبَّة، كما علمنا ابنك وربنا يسوع المسيح.  آمين.