موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد الأوّل من زمن المجيء (ج)
مُقدّمة
مع هذا الأحد الأول من زمن المجيء المبارك، والّذي يسبق مباشرة إفتتاح اليوبيل الكنسيّ لعام 2025، نتدّرج في قرائتنا الكتابيّة، من خلال سلسلة كتابيّة صغيرة خاصة بزمن المجيء، داخل السلسلة الكبيرة السنويّة لقرائتنا فيما بين العهديّن، إذ سنناقش ربط الأحاد الأربع بخيط ذهبيّ يحملنا للإحتفال بـ"سيّد اليوبيل" من خلال المصابيح الأربع. ففي كلّ مقال في هذه الأسابيع الأربع سنسلّمكم مصباح ما يساعدنا للإستنارة الباطنيّة والسيّر من أسبوع لآخر في زمن المجئ هذا للتمتع بنور كلمة الله الّتي تسير لرفقته لنا في حياتنا لإستقبال إبنه الإلهي.
يتمركز هذا العام، الإنجيل اللُوقاويّ، وهو ينتمي للأناجيل الثلاث الإزائية. يتسمّ كاتبه من بين الإنجيليّين الأربع، لوقا، وهو كاتب الإنجيل الثالث وسفر أعمال الرسل بالعهد الجديد، بأنّه أوّلى إهتمامًا كبيرًا، في لاهوته العميق، بقراءة التاريخ البشريّ باعتباره تاريخ الخلاص.
ونود التنويّه منذ البدء في تعمقنا بقرائتنا في هذا العام الثالث (والذي سنرمز له بـ"ج") من الطقس اللّاتيني، حيث ينقسم التاريخ عند لوقا إلى ثلاث أزّمنة وهي زّمن الوعد؛ زّمن التحقّق والإتمامّ، أي المسيح الّذي يشكل جوهر الزّمن؛ وأخيرًا زّمن الكنيسة، حيث يُدعى المؤمنيّن، بفعل الرّوح القدس، إلى معايشة وجودهم دون الهروب من الواقع أو الإنزلاق في الأوهام الزائفة. يبدو أنّ هذه الأزمنة الثلاث من التاريخ، الّتي يتأملها لُوقا البشير إنطلاقًا من المسيح الّذي بشكل متدرج حينما نصل إلى ليلة الميلاد المجيد سنكتشف أنّه أضاف إلى حياتنا حياة حقّة بل صار هو سيّد اليوبيل منذ ولادته. نعم شخص المسيح الإله والإنسان هو الّذي يشكل مركز الأزّمنة الثلاث وهو بذاته مفتاحه التفسيريّ.
وهذا هو قلب المصباح الأوّل الّذي أسلمه لكم اليّوم والّذي أعطيناه عنوانًا بـ "مصباح اليقظة" الّذي سنخطو من خلاله خطوة أوّلى تجاه سيّد اليوبيل. بحسب نبؤة ارميا (33: 14- 16) سنتعمق من خلال كلمات النبي الشاب الّذي يدعونا إلى اليقظة ليست بفضلنات بل سنتعلمها من إلهنا اليقظّ علينا بكلمته. ثم على ضوئه سنعمق في كلمات لوقا الإنجيليّ (21: 25- 36) الّذي يشدد على اليقظة من خلال السهر والصّلاة.
1. اليقظة الإلهيّة (ار 33: 14-16)
في قرائتنا الأوّلى لرسالة ارميا النبويّة (33: 14–16) حيث يدعونا النبيّ الشاب، في زّمن الوعد، مع شعب الله الّذي يعيش تجربة الهزيمة والسبيّ مما يؤدي إلى عدم شكه في الوعود الإلهيّة، لأن الله لا يفشل في تحقيق ما لقد إلتزم به تجاهنا كبشر، بقول النبي، على لسان الرّبّ: «ها إِنَّها تَأَتي أَيَّام، يَقولُ الرَّبّ، أُتِمُّ فيها الكَلامَ الصَّالِحَ الَّذي تَكَلَّمتُ بِه في شأنِ بَيتِ إِسْرائيلَ وبَيتِ يَهوذا» (ار 33: 14). وفي فقرة أخرى من نبؤة ارميا نقرأ فكره المؤثر الّذي يرويّ فيه أمانة الله، باعتباره حارس الله لكلمته لجعلها تتحققّ. ويقول الرّبّ للنبي: «فإِنِّي أنا ساهِرٌ على كَلِمَتي لِأَصنَعَها» (ار 1: 12). فإذا كانت مسيرتنا لزّمن المجيء هذا هو زّمن يقظتنا كمؤمنيّن كتعبير لإنتظارنا لمجيء الرّبّ، فإننا نتلمس في هذا النص اليقظة الإلهيّة. ليست فقط يقطتنا بل والمفاجىء أنّ الله أيضًا يسهر وهو يقظ علينا. مما يجعلنا نتقدم في زّمن المجيء كزّمن نتبادل فيه هذه اليقظة مع الرّبّ. اليقظة الإلهيّة هي أساس ومعنى يقظتنا الإنسانيّة لنلتقي بـ"سيّد اليوبيل". مما يتأكد لنا إنّه لو لمّ يكن الله يقظًا، لكانت يقظتنا مجرد وهم، وملجأ عديم الفائدة في طرق الهروب العقيمة. مدعوون لنتبادل السهر واليقظة فالرّبّ يسهر على كلمته ليتممّها في تاريخنا وها نحن اليّوم فإنّنا مدعويّن للخروج من نومنا وإنغماسنا في بشريتنا لنلتقي بالله السّاهر علينا ونحن حاملين مصباح اليقظة بينما الرّبّ في ذلك الزّمان يُنبت «لِداوُدَ نَبْتاً بارّاً فيُجري الحُكمَ والبِرَّ في الأَرض. في تِلكَ الأَيَّام يُخَلَّصُ يَهوذا وتَسكُنُ أُورَشَليمُ في الطُّمَأنينَة ستُدْعى به: "الرَّبُّ بِرُّنا" (ار 33: 15-16). النبت الإلهيّ النابع من سهر الرّب ليُتمم خلاصه الّذي سيتجلي في قولنا معًا "الرّبّ برّنا" الآن وللأبد.
2. قلب الحدث (لو 21: 25- 27)
لا يتحدث المقطع الإنجيلي عن قلب التاريخ أي عن زّمن زيارة الله في المسيح يسوع، بل عن تاريخ البشرية بدءًا من هذا المركز. كيف نعيش كمؤمنين في التاريخ وفي زّمن ما بعد مجيء يسوع؟ بأي عيون يجب أنّ ننظر إلى الحاضر والمستقبل؟ ماذا نحمل في قلوبنا لنحيا تاريخ بشري؟ هذه هي الأسئلة الّتي سنحاول بحسب إنجيل لوقا الإجابة عليها. نعم، يكشف الإنجيلي في هذا المقطع عن أحداث كونيّة تهز السماء والأرض وتظهر كعلامات في الشمس والقمر والنجوم؛ هدير البحر والأمواج، زعزعة قوى السماء. إنّها اللغة النموذجية للأدب الرؤيوي بالكتب المقدسة والّتي تتحدث عن الضيقة الّتي سيتعين على التاريخ أنّ يمر بها، في إشارة إلى هذه الإضطرابات الّتي تتعلق بالسماء والأرض. لكن مقطع لوقا يبدو أكثر إهتمامًا بتسليط الضوء على ردود أفعال البشر تجاه مثل هذه الأحداث الّتي تصدم السماء والأرض. في الواقع، بينما نتحدث عن الكّرب والقلق والخوف الكبير، نتحدث أيضًا عن اليقظة في الإنتظار وهذا هو الأهم. لكن في الواقع، ليست مشاعرنا الّتي نحياها في حاضرنا وبتطلعاتنا إلى المستقبل. حيث يذكر لوقا أنّ «تَزهَقُ نُفوسُ النَّاسِ مِنَ الخَوف ومِن تَوَقَّعِ ما يَنزِلُ بِالعالَم، لِأَنَّ أَجرامَ السَّماءِ تَتَزَعزَع، وحينَئذٍ يَرى النَّاسُ ابنَ الإِنسانِ آتِياً في الغَمام في تَمامِ العِزَّةِ والجَلال» (لو 21: 26-27).
قد نشعر بخوف مميت، خاصة أمام أحداث حياتنا العالـميّة اليوميّة الّتي نحياها اليّوم ونحن في حالة إنتظار ما سيحدث. للأسف نحن لا نختبر الإنتظار الحقيقي، لأنّ الإنتظار الحقّ لا يسبب خوفًا مميتًا. لذلك مدعويّن لئلا نتحدث عن معايشتنا للإنتظار بادراك ويقظة، على عكس مَن لا يعرفون كيف يعيشون الإنتظار حاملين مصباح اليقظة من خلال التدريب على مواجهة الأشياء الّتي يجب أنّ تحدث لأنّ المفاجئ في الحدث هو ابن الإنسان الآتي، وهذا هو قلب الحدث تجلي السرّ الإلهيّ في الابن الآتي. على عكس ردود الأفعال الّتي تصف طريقة خاطئة لعيش الحاضر والتطلع إلى المستقبل. إنها طريق أولئك الّذين ليس لديهم رجاء بلا مصباح اليقظة، مّن لا يستطيعون رؤية معنى للتاريخ ولا يقرأون تاريخ البشريّة على إنّه تاريخ خلاص، ولا يستطيعوا أنّ يروا فيه حضور الله الصامت الّذي يسهر على كلمته ليُتممّها كما نوهنا بحسب النص النبوي للشاب ارميا.
3. رفع الرأس (لو 21: 28- 36)
يستمر نص لوقا في وصف طريقة كوننا مؤمنين بالتاريخ والّذي يؤكد على حالتنا كأنُاس في حالة إنتظار ما لابد أنّ يحدث بقلق وقلق وخوف، نجد كلّ الحقائق تؤدي إلى عرقلة علاقتنا بالرّبّ، وإلى عدم القدرة على إتخاذ قرارات حقيقيّة لأجل عيش ملء حياة، مدعوين كمؤمنين بيسوع، أنا وأنت، عند إتمام هذه العلامات والّتي تُحدد مسّار التاريخ الشخصي والبشريّ، أنّ نقبل كلمة الرّلّ برفع رؤوسنا: «وإِذا أَخذَت تَحدُثُ هذِه الأُمور، فانتَصِبوا قائمين وَارفَعوا رُؤُوسَكُم لِأَنَّ اِفتِداءَكم يَقتَرِب» (لو 21: 28). هذه العلامات لن تكون سببا للإستسلام، بل ستصبح المكان الذي نرى فيه تحرير الله الآتي, هذه هو دورنا كمؤمنين بيسوع من خلال ثقتنا فيه حيث أنّ علامة رفع رأسنا، ستجعلنا قادرين على فحص أفق التاريخ وفقًا لمشروع الله، أي الخلاص الّذي يتحقق فينا ولأجلنا. يمكننا القول أنّ المؤمنين يعرفون من هنا والآن بالنظر إلى التاريخ بعيون مختلفة والسرّ هو أنّ الحضور الإلهيّ يسكن تاريخنا البشري وهذا هو ما يدعونا يومًا بعد يوّوم للثقة في الرّبّ. مدعويّن للإنتباه لئلا تثقل قلوبنا بعدم فقدان النظرة المختلفة الّتي تأتي من إدراكنا بأنّ التاريخ له مركز، وبالتالي له معنى.
4. السهر والصّلاة (لو 21: 36)
يشير الإنجيلي إلى خطر آخر قد يطغى علينا وهي الأحداث المظلمة الّتي تميز تاريخ البشرية؛ هناك أيضًا خطر البحث عن مهرب سهل في حياة مريحة أي خالية من الهموم أو في روحانيات ليست إلّا نتيجة عدم القدرة على النظر إلى قلب التاريخ وقراءة سرّ الله الخلاصيّ فيه. الإيمان ليس هروبًا من الواقع، بل هو القدرة على البقاء جديًا في الواقع، مع الثقة بأنّ وعد الرّبّ بالسهر عليه لتحقيقه في حياتنا. يشير المقطع الإنجيلي أيضًا إلى وسائل اكتساب هذه النظرة المختلفة والحفاظ عليها قائلاً: «فاحذَروا أَن يُثقِلَ قُلوبَكُمُ السُّكْرُ والقُصوفُ وهُمومُ الحَياةِ الدُّنيا، فَيُباغِتَكم ذلِكَ اليَومُ كأَنَّه الفَخّ، لِأَنَّهُ يُطبِقُ على جَميعِ مَن يَسْكُنونَ وَجهَ الأَرضِ كُلِّها. فاسهَروا مُواظِبينَ على الصَّلاة، لكي توجَدوا أَهْلاً لِلنَّجاةِ مِن جَميعِ هذه الأُمورِ التي ستَحدُث، ولِلثَّباتِ لَدى ابنِ الإِنْسان» (لو 21: 33-36). السهر والصّلاة هي أسلحتنا كمؤمنين لثقيل القلب بأسلحة تعلن الثقة بالرّبّ. حيث لا ينام المؤمن على عادته، بل يعيش ترقبًا ونشيطًا. في الحقيقة المؤمن يعلم أنّ التاريخ هو المكان صّلاة للمؤمن. الصّلاة، صلّة وعلاقة تعني أنّ هذا ابن الإنسان الآتي له حضور متميز يمكننا كمؤمنين أنّ نستمع إليه. وهنا يصير التاريخ بأحداثه مكان للإصغاء إلى ذاك الـمُنتظر والّذي يأتي للقائنا في كل إنسان وفي كل زمان.
الخلّاصة
سعينا بمقالنا هذا أنّ نبدأ معكم، مسيرة بسيطة حيث قمنا بتسليمكم مصباح اليقظة المؤسس على يقظة الرّبّ علينا كما رأينا بحسب كلمات النبي ارميا (33: 14- 16). وهذا هو ما يحملنا اليّوم كمؤمنين بألّا نفقد ذاواتنا في مخاطر الحياة اليوميّة بل نتحرر من خلال إعلان ثقتنا بالرّبّ اليقّظ علينا بحسب كلمات لوقا (21: 25-36). حيث لا تخيفنا الأيّام والعلامات الّتي تتمّ بتاريخنا البشريّ بقدر ما نتعلم الإنتظار من خلال اليقظة الإلهيّة للرّبّ الآتي الّذي ننتظره حاملين مصباح يقظتنا له ولذلك نتبادل نّور اليقظة بيننا وبين الرّبّ الساهر واليقظ علينا. زّمن مجئ مبارك ينعم الرّبّ الإله بنّور يقظته. دُمتم حاملين مصباح اليقظة بقلب متنبه لحضوره السرّي.