موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد الرابع والثلاثيّن من الزمن العادي (ب)
مُقدّمة
هذا المقال له مذاق مُتميّز حيث نختتم في سلسلتنا الكتابيّة فيما بين العهدين بقرئتنا لنصيّن متوازييّن. يعتبر هذا المقال أيضًا ختام للسنة الليتورجيّة بالطقس اللّاتيني. في نص العهد الأوّل وهو مجرد آيات قليلة من نبؤة دانيال (7: 13- 14) إلّا أنه يحمل معنى لّاهوتي خاص حيث يكشف عن "وجه ابن الإنسان الملكيّ". ثم نجد توازي كلمات النبي دانيال في النص اليوحنّاويّ (18: 33-37)، وهو يعكس حدث فريد ولا يرويّه باقي الإنجيلييّن أثناء موت يسوع وهو يتجلى في مُلكه الكامل أثناء تقديم ذاته من خلال حواره مع بيلاطس الوثني. في مقالنا هذا سنناقش نصًا إنجيليًا مأخوذًا من قصص الآلام في إنجيل يوحنا، وهو جزء من الحوار بين يسوع وبيلاطس، والّذي يتعلق بموضوع الـمُلوكيّة. والخطر هو إغفال الجانب الأخرويّ، الأساسيّ في قرائتنا لهذا الأسبوع، حيث نقوم بالتركيز فقط على موضوع الـملوكية والسلطة. لكن هذا سيكون إفقارًا خطيرًا لكلّا النصييّن. حيث يتميزا بنظرة مهيبة وهادئة تتجه بنا كمؤمنين نحو أفق التاريخ. حيث نتعمق في وجه المسيح الـملك ورّبّ الكون.
مدعوون في هذا المقال التوقف أمام بعض النصوص الّتي ترويّ أحداث عن نهاية الحياة من خلال الموت، وهو بمثابة الإنتقال من فصل الخريف إلى فصل الشتاء. حيث تتخذ الليتورجيا لغتها لتنطق بالسرّ الإلهيّ وتكشف عن قيامة الملك في عيد الفصح. وهكذا تستقبل النصوص الطقسيّة أزّمنة النهاية والموت وإنجاز الخلائق هدف ما خُلقت لأجله، وبفضل اللغة الّتي تستعيرها من الطبيعة، يمكننا نحن أيضًا أنّ نتذوق مُسبقًا ذلك الواقع النهائي الّذي يكمن أمامنا، والّذي يجب أنّ يُشكل حياتنا بالفعل. بالنظر إلى لون سماء الصباح أو بالمساء، حيث تتأمل أعيننا الوجه الإلهيّ الآتي في أفق التاريخ.
1. المحور: ابن الإنسان (دا 7: 13- 14)
إنّ نص قرئتنا الأوّلى بحسب نبؤة دانيال (7: 13-14)، تحمل رسالة نبويّة لقلوبنا اليّوم، حيث تكشف عن وجه ابن الإنسان الملكيّ. تساعدنا الكلمات النبويّة على عدم فقدان البُعد الإسكاتولوجيّ أو الأخرويّ (وهو ما يروي ما سيتم الأيّام الأخيرة) من خلال شخصيّة ابنُ الإنسان وهو الّذي يبقى دائمًا المحور، وفقًا للزاوية الصحيحة. فيقول النبيّ: «كنتُ أَنظر في رُؤيايَ لَيلاً فإِذا بِمِثلِ اِبنِ إِنسان آتٍ على غَمامِ السَّماء فبَلَغَ إِلى قَديمِ الأَيَّام وقُرِّبَ إِلى أَمامِه. وأُوتِيَ سُلْطاناً ومَجداً ومُلكاً فجَميعُ الشُّعوبِ والأُمَمِ والأَلسِنَةِ يَعبُدونَه وسُلْطانُه سُلْطانٌ أَبَدِيّ لا يَزول ومُلكُه لا يَنقَرِض» (دا 7: 13-14).
يشير النبي دانيال، كما أشرنا بالمقال السابق وهو أحد الكتب الرؤيويّة بالعهد الأوّل، في رؤياه بهاتين الآيتيّن، إلى ابن الإنسان الآتي في مجده عند إتمام الأزّمنة الإسكاتولوجيّة. تكشف لنا رؤياه بسيّادته الفائقة الطبيعة والّتي تحمل سلطان، ومجد ومُلك خاص حيث نعرفه كمؤمنين وننحني أمامه علامة لإعترافنا بملكه. يدعونا النص النبوي إلى البدء في الإعتراف، من اليّوم، بهذا بصاحب السلطان الأبدي وهو ابن الإنسان. يتمتع هذا الابن بسلطان أبدي لا فناء له، وهذا ما سنراه ينعكس بحسب كلمات يوحنّا اللّاهوتيّ، بأنّ ابن الإنسان وهو محور اللّاهوت النبويّ لنبؤة دانيال ما هو إلّا صورة إستباقيّة سيكشفها يسوع ابن الله وابن الإنسان معًا.
2. شهادة المجد (يو 18: 33-37)
بناء على ما ناقشناه في وجه ابن الإنسان الّذي كشفته كلمات النبيّ دانيال، سنجد كلمات يوحنّا تأتي في شكل خطاب مُوجه إلى المسيح وهو يمجده. التمجيد أو شهادة المجد الـمُوجه من قِبل الإنجيليّ إلى المسيح الّذي قيل عنه بحسب كلمات كاتب سفر الرؤيا القائل عن ابن الإنسان وهو الملك: «الَّذي أَحَبَّنا فحَلَّنا مِن خَطايانا بِدَمِه، وجَعَلَ مِنَّا مَملَكَةً مِنَ الكَهَنَةِ لإِلهِه وأَبيه، لَه المَجدُ والعِزَّةُ أَبَدَ الدُّهور. آمين. هاهُوَذا آتٍ في الغَمام» (رؤ1: 5-7).
تحمل هذه الآيات شهادة حيّة لتمجيد ابن الإنسان بين الحاضر والماضي. ابن الإنسان يُدعى يسوع الحبيب، أي الشخص الذي يُعرّف "الآن" بأنّه الشخص الّذي يُحب، ولكن يكشف الإنجيليّ أيضًا بأنّه الّذي عُبّر عن هذا الحبّ نفسه بالماضي حيث إنّه حررنا من خلال بذل حياته وجعلنا نحن الخطأة، مُلكًا وملكوتًا لله الآب. هذا الحدث الّذي تمّ بالماضي طُبع في ذاكرة التاريخ البشري، حيث يكشف عن وجه يسوع وهو المحور هو "الّذي يحبنا" ولا يزال حبه هذا يطبع تاريخنا وأحداث إنسانيتنا. يكشف لنا الإنجيلي عن شهادته الّتي بعد خبرته مع يسوع وتبعيته يعلن عن هذا الوجه الملكيّ بل يكشف عن مجده.
3. "أأنت ملك؟" (يو 18: 33-37)
تكشف رواية آلام يسوع بحسب كاتب الإنجيل الرابع، بوجه يسوع الملكي الخاص، حيث أبدع الإنجيلي في صورة الحوار الواردة بين يسوع وبيلاطس الوثنيّ. حيث في آيات قليلة يؤكد الإنجيليّ ما أعلنه النبيّ دانيال عن ملوكيّة ابن الإنسان. حيث يرتكز الإنجيلي على إعتراف بيلاطس الوثنيّ بـملوكيّة يسوع، وسنقدم لكم النص (يو 18: 33- 37) بحسب الأسلوب الكتابي الروائي، ثم سنتوقف على سمات وجه يسوع الـملكيّ:
الروايّ: فعادَ بيلاطُس إِلى دارِ الحاكِم، ثُمَّ دَعا يسوعَ وقالَ له:
بيلاطس: "أَأَنتَ مَلِكُ اليَهود؟"،
الراويّ: أَجابَ يسوع:
يسوع: "أَمِن عِندِكَ تَقولُ هذا أَم قالَه لَكَ فِيَّ آخَرون؟"
الراويّ: أَجابَ بيلاطُس:
بيلاطس: "أَتُراني يَهودِيّاً؟ إِنَّ أُمَّتَكَ وعُظَماءَ الكَهَنَةِ أَسلَموكَ إِلَيَّ. ماذا فَعَلتَ؟"
الراويّ: أَجابَ يسوع:
يسوع: «لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم. لَو كانَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم لَدافعَ عَنِّي حَرَسي لِكي لا أُسلَمَ إِلى اليَهود. ولكِنَّ مَملَكَتي لَيسَت مِن ههُنا».
الراويّ: فقالَ له بيلاطُس:
بيلاطس: "فأَنتَ مَلِكٌ إِذَن!"
الراويّ: أَجابَ يسوع:
يسوع: "هوَ ما تَقول، فإِنِّي مَلِك. وأَنا ما وُلِدتُ وأَتَيتُ العالَم إِلاَّ لأَشهَدَ لِلحَقّ. فكُلُّ مَن كانَ مِنَ الحَقّ يُصْغي إِلى صَوتي".
من خلال هذا الحوار، سنناقش سِّمات الوجهُ الملكيّ الّذي في بدء الحوار يكون بمثابة تساؤل، إلّا أن تأكيد يسوع على ملوكيته الّتي لا تنتمي للفكر ولا للشكل الـملكي البشريّ بل الإلهيّ. ومن خلال هذا الحوار الّذي ينفرد به يوحنّا دون عن باقي الأناجيل، يعلن ويتغنى بتمجيد وملوكيّة يسوع اليّوم، بفضل تقديم ذاته. لقد إستطاع الإنجيلي أنّ يعلن تحققّ الوعد الّذي قطعه الله للآباء حينما قال: «أَنتُم [انا وانت] تَكونونَ لي مَملَكةً مِنَ الكَهَنَة وأُمَّةً مُقَدَّسة» (خر 19: 6). ولهذا السبب لن نتحدث بعد الآن في العهد الجديد عن الطبقة كهنوتية، بل سيُدعى الشعب كله كهنوتًا، لأننا سنتحد برئيس الكهنة الأوحد، الّذي هو المسيح، الّذي تجلى فيه الوجه الملكي ّالحقيقي.
إنطلاقًا من المنظور الّذي إفتتحه النبي دانيال يمكننا أنّ نفهم المقطع الإنجيليّ. في الحوار مع بيلاطس، يعلن يسوع إنّه ملك، لكن مملكته تختلف تمامًا عن الممالك الّتي عاشتها البشريّة في تاريخها المضطرب. لا يمكننا كمؤمنين بأنّ نقرأ كلمات يسوع الملك، بإستخفاف معتقدين أنّ معنى كلامه هو ببساطة إعلام بيلاطس بأنّ مملكته لا تُعكر صفو السلطة الزّمنية، لأنّها تمارس في مكان آخر وفي بُعد آخر. يقول يسوع أن مملكته "أخرى" أي مختلفة وبالأحرى مُتميّزة ولا تشابه ممالك العالم. مملكة يسوع هي "أخرى" ليست غائبة عن العالم، بل حاضرة بطريقة أخرى. إنّ الملكوت الذي يتحدث عنه يسوع مختلف، لأنّه يكشف عن ملكوت الحبّ، يفتتح ابن الإنسان الملك، ملكوتًا جديداً مؤسسًا على الحبّ. فهو ليس غائباً عن تاريخنا، بل حاضراً ويقودنا لنتمتع بملكوته. يكشف يوحنّا عن فكر يسوع في حقيقته كـملك مُحب لنا نحن الّذين ننتمي له ونجعله يـملك علينا بالحبّ، لهذا السبب جاء إلى العالم (راج يو 18: 37). ولهذا فإنّ مملكته مختلفة، لأنها مملكة المحب الّتي تحتضن تاريخ بشريتنا كله، وتقوده إلى الإكتمال، وتنير كل لحظة بنورها، وتشكل مستقبلها.
4. سمات الوجه الملكي (يو 18: 33- 37)
وأخيرًا لدينا تترك كلمات يسوع الملك، في حواره مع بيلاطس، صدى في قلوبنا وآذاننا: «فإِنِّي مَلِك [...] فكُلُّ مَن كانَ مِنَ الحَقّ يُصْغي إِلى صَوتي». حينما يتكلم الملك علينا بالإصغاء نحن الّذين ننتمي لملك ولملوكيته. هذه هي دعوة الإنجيليّ، ليّ ولك، الّذي يكشف عن وجه الملك في وجه يسوع ابن الإنسان. نحن الّذين منذ خلقنا، قد أردنا بحسب صورته ومثاله. يسوع ابن الإسنان ذو الوجه البشريّ يكشف عن وجه الملك الّذي أعلنه أمام بيلاطس ويحوي مستقبل الله هو مستقبل مطلق، لا ينتهي أبدًا ويبقى دائمًا جديداً ومطلقًا لكلّ رجل امرأة يسعى ليتلقي بهذا الوجه الملكيّ. نعم من خلال وجه يسوع في الواقع، بعد مجيئه سيكون من الـمُمكن لنا بأنّ نلتقي بالله في وجه الابن الـملكيّ.
هذه الإشارات الّتي سعيّنا أنّ نربط فيها بين الماضي والحاضر سننتقل إلى بُعد آخر، وهو بُعد مستقبلي أي أسكاتولوجي: «هوذا يأتي في السحاب؛ سوف يتأمله كل الناس، حتى أولئك الذين طعنوه؛ وجميع قبائل الأرض تقرع صدورهم له» (رؤ 1). هناك حديث عن ظهور المسيح للبشريّة والّذي سيشمل جميعنا، خاصة كلّا منا من يرفع نظره إليه مُعترفا بسيادته الـملوكيّة. نعم سننتقل بين الحاضر والماضي حتى نصل إلى المستقبل الّذي سيكون فيه ظهور المسيح للبشريّة، وإعترافنا جميعًا بهوية يسوع الـملك وربوبيته والّذي يكشف عن وجه الـملكيّ على الصلّيب هنا والآن. وإعترافنا هذا سيتمّ مِن قبلنا جميعًا.
الخلّاصة
كاتب نبؤة دانيال (7: 13- 14) عن ابن الإنسان الّذي سيأتي في الأزمنة الأخرويّة ليكشف عن ملكوته. على هذا المنوال رأينا تأكيّد الإنجيليّ يوحنّا (18: 33-37) من خلال حوار يسوع، ابن الإنسان، مع بيلاطس على ملوكيته ليس بحسب المنطق البشريّ بل بعبوره سرّ الموت سيسود بملكه الحقيقي والإلهيّ بشكل قاطع وأبدي. مدعوين كمؤمنين، في ختام السنة الطقسيّة، بإعترافنا بهذا الوجه الـملكيّ الّذي تجسد حبًا بنا، بل سلّم ذاته عنا لتقديم خلاص أبدي يستمر في تأسيسه الملكوت الجديد الّذي لا مثيل له. نعم عكس يسوع في حياته البشريّة الزّمن الإسكاتولوجي من خلال موته وقيامته فأعلن هذا الـمُلك الإلهي الّذي يصير الله الآب الكلّ في الكلّ من خلال وجه يسوع الابن الملكيّ الّذي لا فناء لملكه، بل يسود علينا بحبّه. دُمتم في إعتراف وقبول دائم لهذا الوجه الإلهيّ الّي يرافقنا بقرب بنظرة ملوكيّة تحمل الكثير من الحبّ والفداء.