موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٣ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٢

ما يُطلب من أتباع يسوع

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد الثالث والعشرون: ما يُطلب من أتباع يسوع (لوقا 14: 25-33)

الأحد الثالث والعشرون: ما يُطلب من أتباع يسوع (لوقا 14: 25-33)

 

النص الإنجيلي (لوقا 14: 25-33)

 

25 وكانت جُموعٌ كثيرَةٌ تَسيرُ مَعَه فَالتَفتَ وقالَ لَهم: 26 ((مَن أَتى إِلَيَّ ولَم يُفَضِّلْني على أَبيهِ وأُمِّهِ وامَرأَتِه وبَنيهِ وإِخوَتِه وأَخواتِه، بل على نَفسِه أَيضاً، لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلميذاً 27 ومَن لم يَحمِلْ صَليَبهُ ويَتبَعْني، لا يَسْتَطيعُ أَن يكونَ لي تِلميذاً. 28 فمَن مِنكُم، إذا أَرادَ أَن يَبنِيَ بُرجاً، لا يَجلِسُ قَبلَ ذلِكَ ويَحسُبُ النَّفَقَة، لِيَرى هل بِإِمكانِه أَن يُتِمَّه، 29 مَخافَةَ أَن يَضَعَ الأَساسَ ولا يَقدِرَ على الإتمام، فيأخُذَ جَميعُ النَّاظِرينَ إِلَيه يَسخَرونَ مِنه 30 ويقولون: هذا الرَّجُلُ شَرَعَ في بِناءٍ ولَم يَقْدِرْ على إِتْمامِه. 31 أَم أَيُّ مَلِكٍ يَسيرُ إِلى مُحارَبَةِ مَلكٍ آخَر، ولا يَجلِسُ قَبلَ ذلك فيُفَكِّرُ لِيَرى هل يَستَطيعُ أَن يَلْقى بِعَشَرَةِ آلافٍ مَن يَزحَفُ إِلَيه بِعِشرينَ أَلفاً؟ 32 وإِلاَّ أَرسَلَ وَفْداً، مادام ذَلك المَلِكُ بعيداً عنه، يَسْأَلُه عن شُروطِ الصُّلْحِ. 33 وهكذا كُلُّ واحدٍ مِنكم لا يَتَخَلَّى عن جَميعِ أَموالِه لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلْميذاً.

 

 

مقدمة

 

يتناول إنجيل يوم الأحد (لوقا 14: 25-33) متطلبات يسوع لكل من يريد أن يتبعه ويصبح له تلميذاً. ومن هذه المتطلبات: أن يحمل التلميذ الصليب ويأتي وراء يسوع (لوقا 14: 25-27) وان يحسب نفقة اتِّباعه (لوقا 14: 28-32) وان يتخلى عن كل ما لديه لأجل المسيح.  وأضَّح يسوع ذلك من خلال مثلين: كما أنَّ من يبني برجا أو ملك يستعد للحرب عليه أن يحسب التكلفة والإمكانيات كذلك يتوجب على من يريد أن يتبع يسوع أن يحسب نفقة وإمكانيات إتِّباعه. وهكذا دعوة يسوع تتطلب الأولوية في حياة المدعو تحرّره من القيود الدنيوية والارتباطات الأسرية التي تقف عقبة لنداء الرب. وبإعطاء الله المكانة الأولى في حياته اليومية يُغني المدعو علاقته بالآخرين ويضعها في مكانها الصحيح. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 14: 25-33)

 

25 وكانت جُموعٌ كثيرَةٌ تَسيرُ مَعَه فَالتَفتَ وقالَ لَهم:

 

تشير عبارة "جُموعٌ كثيرَةٌ" إلى هؤلاء الناس العديدين الذين أُعجبوا بيسوع، وتأمّلوا بشخصه وحياته وتعاليمه. أما عبارة "تَسيرُ مَعَه" فتشير إلى المسيح الذي يسير في منطقة بيري إلى اورشليم لتتميم رسالة الفداء والخلاص على الصليب، ومعه الحشد الكبير الذي يسير وراءه لمشاهدة معجزاته وسماع لتعليمه. ويدعو يسوع الجموع ثلاث مرات في هذا النص الإنجيلي (لوقا 14: 28-29). ليتبعوه على هذا الطريق بحمل الصليب. أمَّا عبارة " التَفتَ " فتشير إلى ظاهرة دراميّة، إنها محاولة متعمدة من يسوع الذي أراد بها أن يوقف حماس الجماهير السطحي الطائش في اتباعهم له. أمَّا عبارة "وقالَ لَهم:" فلا تشير إلى القلَّة المختارة، الاثني عشر، بل إلى "جموع كثيرة"، إلى جميع تلاميذ يسوع الحاضرين واللاحقين ولأي شخص، وإلى كل من يرغب في أن يكون تلميذ يسوع.

 

 

26 مَن أَتى إِلَيَّ ولَم يُفَضِّلْني على أَبيهِ وأُمِّهِ وامَرأَتِه وبَنيهِ وإِخوَتِه وأَخواتِه، بل على نَفسِه أَيضاً، لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلميذاً

 

تشير عبارة " مَن أَتى إِلَيَّ " إلى تشديد يسوع على جوهرية التبعية له: من يريد بكامل وعْيه وحريته واختياره أن يتبع يسوع: لا يكفي تعلُّقه الخارجيّ بشخصه، تعلّقا نزَواتيا وعابرا، بل لا بدّ من تعلق داخلي عميق الذي يتطلب التخلّيَ الداخليّ عن شخصه، وعن كل ما يملك من خلال قراره الشخصي الحر. في حياة كلِّ إنسان، تأتي ساعة، عليه أن يُقرر فيها لمستقبله: أن يُقرِّر وظيفته، عمله. كذلك الإيمان يطلب قرارا واضحا. تٌلزم أقوال يسوع على اتخاذ قرارات حاسمة لحياته. أمَّا عبارة " ولَم يُفَضِّلْني " فهي في اللغة اليونانية ( μισεῖ معناها يبغضني بمعنى "أحبني اقل")، فتشير هنا إلى التحرّر من الروابط الأسرية.  وهنا احتفظ لوقا الإنجيلي بالعبارة الأصليّة الآرامية: וְלא יִשְׂנָא אֶת־אָבִיו וְאֶת־אִמּוֹ. وفعل יִשְׂנָא   ويختلف عن فعل كره، وبالتالي فلا يعني الكراهية ولا البغضاء بل الاستياء والاشمئزاز بعد خيبة الأمل علما أنَّ اللغة الآرامية التي تكلمها يسوع لا توجد فيها صيغة التفضيل كما هو الحال في لغة العهد القديم التي لا تعرف أفعال التفضيل (تكوين 29: 31، وتثنية الاشتراع 21: 15-16، وأشعيا 60: 15). لذا استعمل يسوع كلمة قوية حافظ عليها النص الإنجيلي اليوناني بأمانة. فيسوع لم يستعمل فعل "فضّل بل فعل "بغض أو كره ". ولكن يجب أن نتذكّر أن فعل "البغض" في العهد القديم ولاسيّمَا في الأدب الحِكميّ، لا يتضمّن رفضاً أنانيّاً لكل عِلاقة بشرية التي تنزِع الطابع المُطلق عن أمور هذا العالم نزعاً إراديّاً فيجعلها تنتقل إلى المركز الثاني حين تكون مصالح الله في خطر. إن يسوع يفرض حبّاً مُطْلقاً وصِدقاً كاملاً وتكريساً لشخصه دون قيدٍ ولا شرط. هذا لا يعني إنكارَ العواطف الشرعيّة التي تربطنا بعائلتنا، أو محبّةَ حياتنا. ولكن يجب أن نُخضع كلّ شيء لمحبّتنا لله.  فخير لنا إن نغيض أفضل أصحابنا من أن نغيض الذي مات على الصليب من أجلنا، لان طريق الصليب وحدها هي طريق الحياة. والجدير بالذكر أنَّ لوقا الإنجيلي يذكر وصايا الله العشر التي تقضي بما للوالدين من حقوق "أَكرِمْ أَباكَ وأُمَّكَ" (لوقا 18: 20، خروج 20: 12). لكن يسوع يريد أن يتفوَّق حب الله على حب الوالدين، وعدم تفضيل أي شيء على محبتنا له تعالى. وإننا نجد تفسيرا لهذه الآية في إنجيل متى "من كانَ أَبوه أو أُمُّه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي. ومَن كانَ ابنُه أَوِ ابنَتُه أَحَبَّ إِلَيه Ἀγαπήσεις مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي" (متى 10: 37). الفعل اليوناني أحب ἀγαπάω يدل على محبة الله والقريب. أمَّا الفعل اليوناني أحب φιλῶν فإنه يدلُّ على محبة الوالدين وصلات القرابة، وهذا يبيّن أنَّ صلات القرابة وإن كانت مشروعة قد تُمسي عقبات في طريق الذين يريدون أن يسيروا وراء يسوع؛ ويعلق القديس كيرلس الكبير "ما يريد أن يعلمنا إيَّاه بهذه الوصايا يظهر واضحًا لمن يُفهم مما قاله في موضع آخر عن ذات الموضوع: " من كانَ أَبوه أو أُمُّه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي. ومَن كانَ ابنُه أَوِ ابنَتُه أَحَبَّ إِلَيه Ἀγαπήσεις مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي" (متى 10: 37). فبقوله: " أَحَبَّ إِلَيه مِنّي " أوضح أنه يسمح لنا بالحب لكن ليس أكثر منه". يسوع يطلب لنفسه عاطفتنا الرئيسيَّة، وهذا حق، لأن محبَّة الله لها سموها أكثر من تكريم الوالدين ومن العاطفة الطبيعيَّة للأبناء. ويُعلق القديس أمبروسيوس "الله لا يريدنا أن نجهل الطبيعة (الحب الطبيعي العائلي) ولا أيضًا أن نُستعبد لها، وإنما نُخضع الطبيعة، ونكرم خالق الطبيعة، ولا نتخلى عن الله بسبب حبنا للوالدين". أمَّا عبارة "أَبيهِ وأُمِّهِ وامَرأَتِه وبَنيهِ وإِخوَتِه وأَخواتِه" فتشير إلى الروابط الأسرية والتزاماتنا التي يمكن أن تصبح عذرا أو عقبة تمنع من إعطاء التلميذ نفسه للمسيح بالكامل (لوقا 9: ​​23-26، 57-62). الرب يتكلم ليس كفريضة على كل إنسان أن يُبغض أباه وأمَّه، ولكن بمعني أنَّ الإنسان ينبغي عليه أن يُبغض كل شيء يُبعده عن الرب سواء أسرته أو نفسه أو ماله أي شخص أو شيء.  ولا شيء يجب أن يقف أمام الإنسان في طريقه للرب حتى نفسه. وإذا اضطررنا أن نختار بين المسيح وأقاربنا وحياتنا وجب علينا إن نختار المسيح، لان الحياة الجديدة لا تأتينا من الأسرة ولكن من نعمة الرب وحياته فينا من خلال موته وقيامته المجيدة.  أمَّا عبارة "امَرأَتِه" فتشير إلى حب الرجل لزوجته الذي يأتي بعد محبة المسيح (لوقا 18: 29) خلافا لما ورد في إنجيل متى الذي يطالب بترك الزوجة " الحَقَّ أَقولُ لَكم: ما مِن أَحدٍ تَرَكَ بَيتاً أَوِ امرَأَةً أَو إِخوَةً أَو والِدَينِ أَو بَنينَ مِن أَجْلِ مَلَكوتِ الله" (متى 10: 37)؛ أمَّا عبارة " نَفسِه " في الأصل اليوناني ψυχή (معناها النفس والحياة) فتشير إلى التحرُّر من الذات، بحيث نبحث عن الآمن والحياة في أنفسنا وفي قوانا، وذلك يتطلب تخلَّي الإنسان عن الأنانية الشخصيَّة وحُبِّه المفرط لذاته. لأننا في آخر المطاف نجد أنفسنا على طريق الموت، في حين طريق الصليب هي طريق الحياة، ويُعلق القديس غريغوريوس النيزينزي: "لا يكفي أن نتخلى عمّا نملك، بل نتخلّى أيضاً عن نفوسِنا (عن ذواتنا)" (العظة 32/ 10). أمَّا عبارة "لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلميذاً" فتشير إلى صعوبة حياة التلمذة وهي صعوبة إعطاء أوّليّة ليسوع على الآخرين وعلى ذاته، وصعوبة عن حمل الصليب، وصعوبة في التخلي عن المال.  أمَّا عبارة "تِلميذ" الذي وردت في العهد الجديد تحت لفظ اليوناني μαθητής فتشير إلى مَن يتبع باختياره معلما ويشاركه أفكاره. ويُخصص العهد الجديد اسم "تلميذ" لمن اعترف بيسوع معلما مثل الرسل الاثني عشر (متى 10: 1)، وكل من اتَّبع يسوع على مثال الاثنين والسبعين الذين بعثهم يسوع في رسالة التبشير (لوقا 10: 1)؛ أمَّا في سفر أعمال الرسل فيشير لقب "تلميذ" إلى كل مؤمن ٍ، سواء عرف يسوع خلال حياته الأرضية مثل الرسل (أعمال الرسل 1: 13) أم لم يعرفه شخصيا مثل بولس الرسول (أعمال الرسل 9: 10-26).

 

 

27 ومَن لم يَحمِلْ صَليَبهُ ويَتبَعْني، لا يَسْتَطيعُ أَن يكونَ لي تِلميذاً.

 

تشير عبارة "يَحمِلْ صَليَبهُ" إلى عقاب استخدمه الرومان في القرن الأول للخونة والعبيد. وكانت العادة أنَّ المحكوم عليه كان يحمل صليبه إلى مكان الإعدام. فيسوع شبَّه نفسه بالعبد وحمل صليبه، فمن يريد أن يتبعه، عليه أن يتوقع العقبات والآلام وصعوبات الحياة، وان يتحملها لا رغما منه بل برضاه كعلامة اتحاده بالمسيح ومشاركته في السير وراءه، ويَقبل ما ينبغي أن يكابده كوسيلة للتضحية بشخصه حتى الموت؛ وهنا يطالبنا يسوع بقبول الموت اليومي عن كل شيء من أجل الله، وان نحمل معه الصليب بلا انقطاع من خلال حبنا الفائق لله الذي يسمو على كل عاطفة وحب! ويعلق البابا غريغوريوس الكبير "نحن نحمل صليب ربَّنا بطريقتين، إمَّا بالزهد فيما يخص أجسادنا أو خلال حنوِّنا على أقربائنا حيث نحسب احتياجاتهم احتياجاتنا".  حمل الصليب يتطلب اليوم منا أن نزهد بالحياة الدنيوية التي نعتمد عليها، بما فيها من التجارب السهلة والإباحية والإجهاض والكراهية والعنف والسرقة كي نختار يسوع فوق كل شيء ونتبعه. تبعيّة المسيح بدون صليب، لا تكون تبعيَّة. ويعتبر الرسول بولس أن الصليب جوهر إتباع المسيح قائلا: " فإِنِّي لم أَشَأْ أَن أًعرِفَ شَيئًا، وأَنا بَينَكُم، غَيرَ يسوعَ المسيح، بل يسوعَ المسيحَ المَصْلوب " (1 قورنتس 2: 2)، ويضيف في موضع آخر " أَمَّا أَنا فمَعاذَ اللهِ أَن أَفتَخِرَ إِلاَّ بِصَليبِ رَبِّنا يسوعَ المسيح!" (غلاطية 14:6). أمَّا عبارة "يَتبَعْني" في الأصل اليوناني ἔρχεται ὀπίσω (معناه يأتي وراء أو يسير وراءه) فتشير إلى "السير على خطى يسوع " أي "وراء" المعلم ليس بجواره وليس أمامه. كون التلميذ وراء المعلم يسمح له برؤية أين نضع قدميه وإتِّباعه ومشاركته في مصيره. من الضروري أن يسير وراء يسوع حامل صليب كل يوم.  وهنا نلاحظ أنّ اللغتين العبرّيةَ والآرامية لا تمتلكان مُفردة خاصّة تعني "اتّبع".  واتبع تشير في الدين اليهودي في القرن الأول إلى الطاعة ومختلف الخدمات المترتبة على تلاميذ الرابيين نحو معلميهم. ولكن في الإنجيل يتخذ فعل "تبع" معاني أخرى حيث أنه لم يَعد التلميذ أن يختار معلمه بل الدعوة تأتي من يسوع وتُلبّى عادة بطاعة فورية، والتلميذ يتبع يسوع لا كسامع فقط، بل كمعاون وشاهد للملكوت، وكأحد العملة في حصاده (متى 10: 1-27). فتلميذ يسوع لا يتمسك بتعليم المعلم فقط، بل يلازم شخصه، ويسير في خطاه على الطريق التي تقود إلى الصليب. فهناك مشاركة في الآلام بين المسيح وتلميذه. ولذلك فإن كل إنسان ينبغي أن يختار بين أقرب المُقرّبين إليه وأعزّهم من جانب (متى 15: 4) وبين المسيح من جانب آخر. وبما أنَّ يسوع حمل الصليب من أجلنا، علينا أن نحمل صليبنا نحن أيضًا من أجله! هذا هو حساب النفقة التي سألنا السيِّد أن نضعها في الاعتبار لبناء برج الصداقة أو خوض المعركة ضد تجارب إبليس. يعلمنا يسوع وجوب خسراننا أصحابنا على الأرض وحياتنا الجسدية، وتحمّل المشقَّة والعار كل يوم من أجل المسيح وإكراما له.  أَمَّا عبارة " لا يَسْتَطيعُ أَن يكونَ لي تِلميذاً" فتشير إلى صيغة التحذير التي تكرَّرت ثلاث مرات بالنص (لوقا 14: 26. 27. 33)، وذلك لأهميتها لأنها تبين الشروط التي يجب على الإنسان مراعاتها لكي يصبح تلميذً للرب.

 

 

28 فمَن مِنكُم، إذا أَرادَ أَن يَبنِيَ بُرجاً، لا يَجلِسُ قَبلَ ذلِكَ ويَحسُبُ النَّفَقَة، لِيَرى هل بِإِمكانِه أَن يُتِمَّه،

 

تشير عبارة "مَن مِنكُم، إذا أَرادَ أَن يَبنِيَ بُرجاً" إلى ضرورة التفكير لاتخاذ القرار قبل الإقدام على مشروع هام، خاصة مشروع الالتزام بإتباع يسوع كتلميذٍ له.  وفي هذا الصدد يقول يشوع بن سيراخ: " يا بُنَيَّ، إِن أَقبَلتَ لِخِدمَةِ الرَّبِّ فأَعْدِدْ نَفْسَكَ لِلمِحنَة"(يشوع ابن سيراخ 2: 1).  فالإنسان الحكيم يشتغل وقتًا كافيًا بان يحسب قدر النفقة اللازمة لبناء برج ٍقبل أن يبتدئ بناءه. أمَّا عبارة " يَحسُبُ النَّفَقَة " فتشير إلى مطالبتنا أن نحسب حساب النفقة، مقدَّما لنا مثل من يبني برجًا يلزمه أن يحسب النفقة أولًا قبل أن يحفر الأساس. يُذكرنا هذا الأمر بقول يشوع بن سيراخ: "هَيَئ عَمَلَكَ في الخارِج وأَعدِدْه في حَقلِكَ وبَعدَ ذلك اْبنِ بَيتَكَ" (يشوع ابن سيراخ 24: 27). فمن أراد أن يتبع يسوع يتوجب عليه نفقة، وهي التضحية بكل ما في العالم حتى العلاقات الأسرية العادية، والمال حتى الحياة نفسها إن كانت ستُعطِّله عن حب يسوع وإتباعه.  أمَّا عبارة " لِيَرى هل بِإِمكانِه أَن يُتِمَّه" فتشير إلى دعوة الحاضرين إلى التأمل في أنهم مستعدُّون لإتباع المسيح مع كل الشروط والتضحيات وفقا لقول الحكيم "أَن لا تَنذِرَ خَيرٌ مِن أَن تَنذِرَ ولا تَفي" (الجامعة 5: 4). ويُعلق القديس غريغوريوس أسقف النيصي "يُلزمنا أن نجاهد على الدوام لنبلغ نهاية كل عمل صعب بالاهتمام المتزايد بوصايا الله، وبهذا نكمل العمل الإلهي. فإنه لا يكفي حجر واحد لعمل البرج، هكذا لا تكفي وصيَّة واحدة لكمال النفس، إنما يلزمنا أن نحفر الأساس وكما يقول الرسول أن نضع حجارة من ذهب وفضة وأحجار كريمة (1 قورنتس 3: 12). ليتنا إذن ونحن نودُّ أن نتبع الرب أن نجلس مع أنفسنا لنحسب النفقة، ألا وهي "الإيمان الحيّ العامل بالمحبَّة" (غلاطية 5: 6).

 

 

29 مَخافَةَ أَن يَضَعَ الأَساسَ ولا يَقدِرَ على الإتمام، فيأخُذَ جَميعُ النَّاظِرينَ إِلَيه يَسخَرونَ مِنه. 

 

تشير عبارة "مَخافَةَ" إلى نبرة تحذيرية من التسرع في اتخاذ قرار يتناسب مع المشروع.  أمَّا عبارة "أن يَضَعَ الأَساسَ ولا يَقدِرَ على الإتمام" فتشير إلى الالتزام بالفطنة والقناعة بحسب الإمكانيّات المُتاحة له كما يقول المثل الشعبي "على قدر فراشك مدّ رجليك". وهنا يدعونا الإنجيل إلى الحذر من الاندفاع والطموح والتهوّر في إتباع يسوع، ومِنَ الاكتفاء بالعاطفة الدينيَّة السطحيَّة غير المؤسَّسةِ على الإيمان الراسخ به والمحبَّة الصادقة له والإرادة الصامدة أمام الصعوبات، ذلك لأنَّ العاطفة وحدَها مؤقَّتة وضعيفة لا تلبث أن تنهار وتضمحلَّ أمام متطلَّبات يسوع الشاقَّة.

 

 

30 ويقولون: هذا الرَّجُلُ شَرَعَ في بِناءٍ ولَم يَقْدِرْ على إِتْمامِه.

 

تشير عبارة "هذا الرَّجُلُ شَرَعَ في بِناءٍ ولَم يَقْدِرْ على إِتْمامِه" إلى حساب النفقة التي تلزمنا باتباعه قبل الشروع في خدمته.  وفسَّر المسيح المقصود بمثلين لم يذكرهما إلاَّ لوقا: الأول مثلين: مثل بناء البرج والثاني الشروع بالحرب.  ويُعلق القديس كيرلس الكبير "بدون قبول الصليب نحمل اسم المسيح دون حياته فينا، ويكون لنا منظر الصليب دون قوَّته، لهذا تتطلع إلينا القوات الشرِّيرة وتهزأ بنا، قائلة: " هذا الرَّجُلُ شَرَعَ في بِناءٍ ولَم يَقْدِرْ على إِتْمامِه". ويضيف إن لنا أعداء كثيرين يودُّون الاستهزاء بنا، من أرواح شرِّيرة وناموس الخطيئة وشهوات الجسد ...".  لدى كلاً منا مشروع يجب تنفيذه وفي نفس الوقت أمامه الصعوبات التي يجب مواجهتها، فهل نتوقف لاختيار الوسيلة التي تجعل مشروعنا يتمّ بنجاح؟

 

 

31 أَم أَيُّ مَلِكٍ يَسيرُ إلى مُحارَبَةِ مَلكٍ آخَر، ولا يَجلِسُ قَبلَ ذلك فيُفَكِّرُ لِيَرى هل يَستَطيعُ أَن يَلْقى بِعَشَرَةِ آلافٍ مَن يَزحَفُ إِلَيه بِعِشرينَ أَلفاً؟

 

تشير عبارة "أَيُّ مَلِكٍ يَسيرُ إلى مُحارَبَةِ مَلكٍ آخَر" إلى عملية حرب تتطلب تفكير ومثابرة، وهكذا لا يمكن إتباع يسوع دون تفكير؛ وإن إتباعه بحاجة إلى تفكير وتنظيم؛ حيث أن حمل الصليب وراء يسوع يتطلب صراعًا مع عدو الخير، الذي يلتهب حسدًا وغيرة، ولا يتوقف عن محاربتنا بكل طرق الخداع لتحطيم أعماقنا. ويُعلق البابا فرنسيس" هنالك حرب أعمق يجب علينا جميعا خوضها، نحن جميعا! إنه القرار القوي والشجاع بنبذ الشر وإغراءاته واختيار الخير، مستعدِّين لدفع الثمن شخصيا: إن هذا هو معنى اتباع المسيح، وحمل الصليب الخاص! هذه الحرب العميقة ضد الشر! فما الفائدة من شن حروب، الحروب الكثيرة، إن كنتَ عاجزا عن خوض الحرب ضد الشر؟".  أمَّا عبارة " مَلكٍ آخَر" فتشير إلى إبليس، إله هذا الدهر، ورئيس هذا العالم، وذلك لحسده فهو لا يتوقف عن محاربته لنا بكل طرق الخداع والكذب. إن كان إبليس يصارع كونه ملكًا يريد أن يقتنص الكل إلى مملكة الظلمة، فإننا كمؤمنين قد ارتبطنا بملك الملوك يسوع المسيح فصرنا "ملوكًا" (رؤية 1: 6)، ماذا يعني هذا؟ يقول بولس الرسول " فلَيسَ صِراعُنا مع اللَّحمَ والدَّم، بل مع أَصحابِ الرِّئاسةِ والسُّلْطانِ ووُلاةِ هذا العالَم، عالَمِ الظُّلُمات، والأَرواحِ الخَبيثةِ في السَّمَوات" (أفسس 6: 12). أمَّا عبارة " يَجلِسُ قَبلَ ذلك فيُفَكِّرُ "فتشير إلى من أراد أن يكون تلميذ المسيح، عليه أن يحسب حساب التضحيات المطلوبة منه، وأن يكون مستعدّاً لقبولها بقلب كبير. أمَّا عبارة " عَشَرَةِ آلافٍ" فتشير إلى رقم 10 الذي يدل على الوصايا وأمَّا رقم "1000" فيدل على الفكر الروحي السماوي. فالتلميذ يحارب بالمسيح يسوع سالكًا في الوصيَّة بالفكر السماوي، أي حربه سيكون بالتزامه بالوصايا حباً في المسيح "مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها فذاكَ الَّذي يُحِبُّني والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي" (يوحنا 14: 21)؛ أمَّا عبارة " بِعِشرينَ أَلفاً" فتشير إلى العدو الذي يحارب بضربات يمينية (10000) (بر ذاتي) وضربات يسارية (10000) (شهوات). وهو يحارب التلاميذ في الروحانيات (1000) حتى يُخرجهم منها، كما يوضَّح ذلك بولس الرسول "فلَيسَ صِراعُنا مع اللَّحمَ والدَّم، بل مع أَصحابِ الرِّئاسةِ والسُّلْطانِ ووُلاةِ هذا العالَم، عالَمِ الظُّلُمات، والأَرواحِ الخَبيثةِ في السَّمَوات"(أفسس 6: 12). ونلاحظ أن قوة العدو 20000 أكبر من قوة التلاميذ 10000، التي يمثل "القطيع الصغير" (12: 32) الذي يُسر الآب أن يعطيه ملكوت السماوات. يبدو في المظهر أقل وأضعف أمام مقاومة عدو الخير لكنه بقدر ما يترك "جميع أمواله" أي لا يتكل على ذاته، ولا برِّه الذاتي، بل على المسيح ووصاياه وإنجيله، لأن رقم 10 يُشير للوصايا ورقم "1000" يشير إلى الفكر الروحي السماوي. فإنه يحارب بالمسيح سالكًا في الوصيَّة بالفكر السماوي. فمن يلتزم بالوصايا ويعيش الروحانيات، يتيح للمسيح أن يحارب فيه ومعه فيغلب الشر. ولذلك يوصينا يسوع يفي هذين المثلين إلى الحذر والتقدم في آنٍ واحد. لدى كلاً منا مشروع يجب تنفيذه وفي نفس الوقت أمامه الصعوبات التي يجب مواجهتها، فهل نتوقف لاختيار الوسيلة التي تجعل خوض المعركة يتكلل بالانتصار؟

 

 

32 وإِلاَّ أَرسَلَ وَفْداً، مادام ذَلك المَلِكُ بعيداً عنه، يَسْأَلُه عن شُروطِ الصُّلْحِ.

 

تشير هذه الآية إلى نظر الله في قبول شروط الصلح كي لا يتكبد العواقب التي تعرض نفسه وجنوده للقتل وأمواله.   ومعنى ذلك الروحي وجوب نظر إلى العواقب الأمور الدينية، وهي التوبة والإيمان وأنكار الذات.

 

 

33 وهكذا كُلُّ واحدٍ مِنكم لا يَتَخَلَّى عن جَميعِ أَموالِه لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلْميذاً.

 

تشير عبارة "وهكذا" في الأصل اليوناني οὕτως οὖν (معناها فكذلك إذن) إلى الأمر هذا: كما أنّ باني البُرج يقبل بكل النفقات الضروريّة لئلا يسخر الناس منه، وكما أنّ الملك يبدأ بمحادثات سلام لئلاّ يصاب بهزيمة تامّة، كذلك على من يتوق أن يكون تلميذا للمسيح أن يقبل بكلّ التضحيات المفروضة عليه لئلاّ يهلك. وأمَّا لوقا فيقدِم تطبيقاً جديداً للمثلين السابقين، وهي الدعوة إلى " التخلي " عن جميع الأموال. أمَّا عبارة " لا يَتَخَلَّى " فتشير إلى نداء التحرر من المال للاغتناء عند الله (لوقا 12: 13-34). والتحرر يتطلب عدم اتكال التلميذ على أمواله والتعلق به، بل أن ينفق منها على المحتاجين، وينكر ذاته وينبذ كل شيء يمنع اعتماده على المسيح وحده كما أوصى يسوع "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني"(متى 16: 24). ويعلق البابا فرنسيس " تلميذ يسوع يتخلى عن جميع الخيرات لأنه وجد في المسيح “الخير الأعظم"، ذاك الخير الذي منه تنال كل الخيرات الأخرى ملء قيمتها ومعناها"، وخير مثال على ذلك تخلي أبونا إبراهيم من أجل تلبية دعوة الله الذي قال له: " اِنطَلِقْ مِن أَرضِكَ وعَشيرَتكَ وبَيتِ أَبيكَ، إلى الأَرضِ الَّتي أُريكَ. وأنا أَجعَلُكَ أُمَّةً كَبيرة وأُبارِكُكَ وأُعظِّمُ اسمَكَ، وتَكُونُ بَركَة "(التكوين 12: 1-2). أمَّا عبارة "جَميعِ أَموالِه " فتشير إلى هذه قاعدة مطلقة لا تحتمل استثناء أو تلطيفاً لان المال قد ينتصب سيّداً بلا رحمة: إنه يخنق جشع المال كلمة الإنجيل عند التلميذ (متى 13: 22)، وينسيه الأمر الجوهري ألا وهو سيادة الله عليه (لوقا 12: 15-21). كذلك المال يعطّل عن طريق الكمال أحسن القلوب استعداداً (متى 19: 21-22). فالغنيّ الذي له "خيراته" (لوقا 16: 25) وعزاؤه (6: 24) في هذا العالم لا يمكنه أن يدخل الملكوت كما صرّح يسوع لِتلاميذِه: "الحقَّ أَقولُ لكم: يَعسُرُ على الغَنِيِّ أَن يَدخُلَ مَلكوتَ السَّمَوات. وأَقولُ لَكم: لأَن يَمُرَّ الجَملُ مِن ثَقْبِ الإِبرَةِ أَيسَرُ مِن أَن يَدخُلَ الغَنِيُّ مَلكوتَ الله "(متى 19: 23-24). أمَّا عبارة " لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلْميذاً" فتشير إلى استعادة ما ورد في آية 26 وآية 27 لتأكيد ما يميّز وضع تلميذ المسيح الملتزم التزاما كاملاً بخدمة معلّمه يسوع المسيح. على تلميذِ المسيح أن يقبل المسيح من دون قَيد ولا شرط. ويختم لوقا الإنجيل المثلين الواردين أعلاه بهذه الآية فيجعل منهما دعوة إلى التخلي عن جميع الأموال ونداءً إلى الزهد بالنفس والتجرد والتحرُّر (لوقا 12: 13-34 و16: 1-13 و18: 24-30).

 

 

ثانياً: تطبيق النص الإنجيلي (لوقا 14: 25-33)

 

انطلاقا من تحليل وقائع النص الإنجيلي (لوقا 14: 25-33)، نستنتج انه يتمحور حول متطلبات إتباع يسوع، ومن هنا نتساءل ما معنى اتباع يسوع وما هي شروط إتباع يسوع التزاماته أو متطلباته.

 

1) ما معنى اتباع يسوع؟

 

إتباع السيد المسيح معناه السير في طرق الله التي خطَّها يسوع المسيح داعيا جميع البشر إلى ملكوت الخلاص. إتباع يسوع يتطلب دعوة منه كما حدث مع تلاميذه. فقد سمعوا نداءه فلبُّوا الدعوة "كانَ يسوعُ سائراً على شاطِئِ بَحرِ الجَليل، رأَى سِمعانَ وأَخاهُ أَندَراوس يُلقِيانِ الشَّبَكَةَ في البَحر، ِلأَنَّهما كانا صَيَّادَيْن. فقالَ لَهما: اِتبَعاني أَجعَلْكما صَيادَي بَشَر. فتَركا الشِّباكَ لِوَقتِهما وتَبِعاه" (مرقس 1: 16-18).

 

اتبع التلاميذ يسوع على نحو القطيع لراعيه (مزمور 80: 2)، والشعب لمَلكِه (2 صموئيل 15: 13) والمؤمنُ لإلهه (1 ملوك 18: 21). والمطلوب من الإنسان لكي يصير تلميذاً ليسوع، لا الاستعدادات الفكرية (الذكاء)، ولا حتّى الأدبية، بل الدعوة أو النداء الحُر الذي يوجِّهه يسوع "اِتْبَعْني" (يوحنا 1: 43). وفي الإنجيل يدلُّ لفظ يتبع  في الأصل اليوناني  ἀκολουθέω على التعلق بشخص يسوع كما عبّر أحد اتباعه "يا مُعَلِّم، أَتبَعُكَ حَيثُ تَمضي" (متى 8: 19). ومن هذا المنطلق، فإن فعل "يتبع" في مفهوم تلاميذه يعني قطع كل علاقة بالماضي، والتعلُّق الكلي والخضوع المُطلق ليسوع عن طريق الإيمان والاقتداء به.

 

ا) إتباع يسوع عن طريق الإيمان

 

في مفهوم يوحنا الرسول إتّباع المسيح يعني الإيمان به إيماناً كاملاً من خلال آيات خارجية كما صرّح السامريون للمرأة السامرية "لا نُؤمِنُ الآنَ عن قَولِكِ، فقَد سَمِعناهُ نَحنُ وعَلِمنا أَنَّهُ مُخَلِّصُ العالَمِ حَقاً" (يوحنا 4: 42)، وهذا الإيمان يتغلب على كل تردّد من جانب الحكمة البشرية "فتَبِعَه جَمعٌ كثير، لِما رَأوا مِنَ الآياتِ الَّتي أَجْراها على المَرْضى" (يوحنا 6: 2). 

 

يعني إتّباع يسوع أيضا إنه إتباع نور العالم واتخاذه رائداً كما أعلن يسوع " أَنا نُورُ العالَم مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة"(يوحنا 8: 12)، ويفيد الاتباع الانتظام في صف الخراف التي يجمعها الراعي الواحد في قطيع واحد "الخِرافُ إلى صوتِه تُصغي. يَدعو خِرافَه كُلَّ واحدٍ مِنها بِاسمِه ويُخرِجُها" (يوحنا 10: 3).

 

ب) إتباع يسوع عن طريق الاقتداء

 

يؤدي إتِّباع يسوع عن طريق الأيمان إلى الاقتداء به وبمثاله وسماع تعليمه، ومطابقة حياته الشخصية على خطاه "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صَليبَه ويَتبعْني. لِأَنَّ الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حَياتَه يَفقِدُها، وأَمَّا الَّذِي يَفقِدُ حَياتَه في سبيلي وسبيلِ البِشارَة فإِنَّه يُخَلِّصُها" (مرقس 8: 34-35).

 

يؤكد بولس الرسول إتباع يسوع يتمّ عن طريق الاقتداء بموت المسيح وقيامته وتطبيقه، وهذا التطبيق يبدأ بالعماد "أَوَ تَجهَلونَ أَنَّنا، وقَدِ اَعتَمَدْنا جَميعًا في يسوعَ المسيح، إِنَّما اعتَمَدْنا في مَوتِه فدُفِنَّا مَعَه في مَوتِه بِالمَعمُودِيَّةِ لِنَحْيا نَحنُ أَيضًا حَياةً جَديدة كما أُقيمَ المَسيحُ مِن بَينِ الأَمواتِ بِمَجْدِ الآب؟ " (رومة 6: 3-4)، ويكتمل عن طريق الاقتداء بالمسيح كما اقتدا بولس الرسول بالمسيح: "اِقتَدوا بي كما أَقتَدي أَنا بِالمسيح"(1 قورنتس 11: 1)، والاشتراك باختيار في الألم الذي من خلاله تظهر قوة القيامة "نَحمِلُ في أَجسادِنا كُلَّ حِينٍ مَوتَ المسيح لِتَظهَرَ في أَجسادِنا حَياةُ المسيحِ أَيضاً "(2 قورنتس 4: 10).

 

باختصار، إن إتِّباع المسيح يعني الإيمان به كتلاميذ والاقتداء به والسير على نهجه، والالتزام برسالته، وحفظ وصاياه والتبشير بها، وتكريس حياتنا مخلِصين له حتى النهاية، وخلال هذه المسيرة نحتمل الآلام من أجله متشبِّهين بمن أحبَّنا حتى المنتهى، ولذلك لإتباع يسوع هناك بعض الشروط أو المتطلبات.

 

2) المتطلبات لإتباع يسوع

 

يشترط يسوع من أتباعه ثلاث متطلبات، وهي: الزهد بالذات وحمل الصليب وتخلي الإنسان عن جميع أمواله

 

المتطلب الأول: الزهد بالذات

 

يقوم المتطلب الأول على الزهد بالذات حيث أنَّ حضور الذات يُعطِّل كل اتجاه نحو الله، بينما إنكار الذات أي إزاحتها يتيح للمسيح أن يكون الكل في الكل، الأول والآخِر، محبوباً ومُطاعاً أكثر من النفس وأكثر من الأهل والعالم كله. ويقوم الزهد بالذات بالتجرُّد عن كلّ ما هو عزيز على قلبنا، حتى عن عواطف المودّة الشرعيّة (لوقا 14: 26)، والتّرفع عن الرغبات والملذّات الأرضيّة والمصالح الشخصيّة، ومشاركةَ التلميذ في آلام المعلم (لوقا 14: 27)، والاستعداد لنتخلّى عن كلّ ما يملك من أجل المسيح (لوقا 14: 33) كي يعطي ذاته عطاءً تامّاً، ويقبل بكل التضحيات الناجمة عن اتباعه.  وهذا يتطلب من التلميذ التحرّر من الذات عندما يسعى تحقيق الأمن والحياة من خلال جهوده بدلا من الله والاَّ يجد نفسه على طريق الموت.

 

يلخَّص إنجيل متى المطلب الأول بالزهد بالذات بقوله " مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني" (متى 16: 24). فينبغي للتلميذ ألاّ يموت في ذاته فحسب، فإن الصليب الذي يحمله هو العلامة على أنه يزهد في الدنيا أيضا، وأنه قد قطع كل علاقاته الطبيعية مع أهله في حالة وقوفهم في إيمانه (متى 10: 33-39)، وقبل وضعه كمُضطهد" جَميعُ الَّذينَ يُريدونَ أَن يَحيَوا حَياةَ التَّقْوى في المسيحِ يسوعَ يُضطَهَدون." (2طيموتاوس 3: 12).

 

هكذا يتمّ الزهد بالذات بإنكار الذات بالموت عن الخطيئة "فكَذلِكَ أحسَبوا أَنتُم أَنَّكم أَمواتٌ عنِ الخَطيئَة أَحْياءٌ للهِ في يسوعَ المسيح" (رومة 6: 11)، وبالموت عن الإنسان القديم "نَحنُ نَعلَمُ أَنَّ إِنسانَنا القَديمَ قد صُلِبَ معَه لِيَزولَ هذا البَشَرُ الخاطِئ، فلا نَظَلَّ عَبيدًا لِلخَطيئَة" (رومة 6: 6)، وبالموت عن شهوات الجسد ومقاومة الرغبات الجسدية ورفض إغراءات الحياة مهما كان الثمن "إِنَّ الَّذينَ هم لِلمَسيحِ يَسوعَ قد صَلَبوا الجَسَدَ وما فيه مِن أَهْواءٍ وشَهَوات"(غلاطية 5: 24)، وأخيراً بالموت عن كل أركان العالم ( قولسي 2: 20). وخير مثال على ذلك يوسف بن يعقوب الذي احتمل ظلم الاتهام وظلام السجن الطويل، وأَبـَى السقوط في الشهوات، وتجنّب أن يصنع الشر ويُخطئ إلى الله، وذلك بمقاومة تجربة زوجة فوطيفار، رئيس حرس فرعون بتجربتها معه. فأجابها "هُوَذا سَيِّدي كُلُّ ما هو لَه قد جَعَلَه في يَدي. ولَيسَ هو أَكبَرَ مِنِّي في هذا البَيت، ولَم يُمسِكْ عَنِّي شَيئًا غَيرَكِ لأَنكِ زَوجَتُه. فكَيفَ أَصنَعُ هذه السَّيِّئَةَ العَظيمةَ وأَخْطَأُ إلى الله؟ " (تكوين 39: 9).  وفي هذا الصدد رفعت القديسة تريزا دي كالكوتا صلاتها " اجعلنا، يا رب، نفهم أنّنا لن نَبلُغَ ملءَ الحياة إلاّ بموت مستمرّ عن ذاتنا وعن رغباتنا الأنانيّة، لأنّنا فقط عندما نموت معك، يمكننا أن نقوم معك".

 

إن التلميذ، وقد زهد في ذاته وممتلكاته، يتعلّم أن يتبع يسوع حتى الصليب "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني" (متى 16: 24). وعندما يطلب يسوع من تلاميذه مثل هذه التضحية، لا تضحية خيراتهم وممتلكاتهم وحسب، إنما أيضا تضحية أشخاصهم، فهو يظهر نفسه كإله، ويبيِّن نهائياً إلى أيّ مدى تبلغ متطلبات الله. لكن التلاميذ لن يستطيعوا أداء هذه المتطلبات إلاّ عندما يتمم يسوع أولاً فعل هذه التضحية في موته وفصحه. فعلى سبيل المثال بطرس المستعد بالروح لاتّباع يسوع حيثما يذهب، (متى 26: 35) والذي لضعفه لم يتورَّع عن تركه أسوة بباقي التلاميذ (متى 26: 56)، غير إنه لم يستطع أن يُدرك ذلك إلا عندما فتح يسوع الطريق بموته وقيامته: عندئذ فقط ذهب بطرس إلى حيثما لم يكن ليخطر بباله كما صرّح له يسوع "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكَ: لَمَّا كُنتَ شاباً، كُنتَ تَتَزَنَّرُ بِيَديكَ، وتَسيرُ إلى حَيثُ تشاء، فإِذا شِخْتَ بَسَطتَ يَدَيكَ، وشَدَّ غَيرُكَ لكَ الزُّنَّار، ومَضى بِكَ إلى حَيثُ لا تَشاء. قالَ ذلكَ مُشيراً إلى المِيتَةِ الَّتي سيُمَجِّدُ بِها الله. ثُمَّ قالَ له: اِتَبْعني! (يوحنا 21: 18-19). وإن المؤمن الذي يتبع المسيح "حيثما يذهب" (رؤيا 14: 4)، عندئذ يتحقق وعد يسوع: "مَن أَرادَ أَن يَخدُمَني، فَلْيَتْبَعْني وحَيثُ أَكونُ أَنا يَكونُ خادِمي" (يوحنا 12: 26).

 

الزهد بالذات يساعدنا أن نضع حب الله في المقام الأول حيث قال يسوع "مَن أَتى إِلَيَّ ولَم يُفَضِّلْني على أَبيهِ وأُمِّهِ وامَرأَتِه وبَنيهِ وإِخوَتِه وأَخواتِه، بل على نَفسِه أَيضاً، لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلميذاً" (لوقا 14: 26)؛ ما يريد أن يُعلمنا يسوع إيَّاه بهذه الوصية يظهر واضحًا في إنجيل متى "من أحب أبًا أو أمًا أكثر مني فلا يستحقني، ومن أحب ابنًا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني" (متى 10: 37)، فبقوله: "أكثر مني" أوضح يسوع أنه يسمح لنا بالحب، لكن ليس أكثر منه.  تسمو محبة الإنسان لله أكثر من أي أحد. يُعلق القدّيس أمبروسيوس " نتيجة رحمتِه، دعا الرّب يسوع المسيح الجميع، لكنّ تخاذلَنا أو ضياعَنا هو الذي يُبعدُنا عن الملكوت. مثل ذاك الذي اعتذرَ لأنّه كان يريدُ أن يتزوّج، لأنّه كُتِبَ: "مَن أَتى إِلَيَّ ولَم يُفَضِّلْني على أَبيهِ وأُمِّهِ وامَرأَتِه وبَنيهِ وإِخوَتِه وأَخواتِه، بل على نَفسِه أَيضاً، لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلميذاً" (لوقا 4: 26).  فالزهد يُحرِّرنا من كل عائق أسرية فنستطيع أن نتَّبع المسيح (متى 16: 25)؛ فيسوع لا يُريدنا أن نرفض الحب الطبيعي العائلي، بل يطلب أن يزيد حبنا له عن الحب العائلي. ومن هذا المنطلق، يدعونا يسوع إلى حياة جديدة التي لا تأتي من الروابط الأسرية، ولكن من النعمة أي الاتحاد به وبحمل صليبه، لان الروابط الأسرية تسد أحيانا طريقنا وتعيق ثقتنا في الرب عندما نضع ثقتنا في الأسرة كأمان وحماية وحياة أكثر من الله أو بدلا من الله. الروابط الأسرية جيدة في حد ذاتها، ولكنها في بعض الأحيان تُقيدنا ولا تجعلنا نسير.

 

نستنتج مما سبق أنَّ الزهد المطلوب منا هو أن نقطع كل اهتمام (روابط أسرية -مال -كرامة) يُعطِّلنا عن النمو في محبة ربَّنا، لأن محبَّة الله لها سموها أكثر من تكريم الوالدين ومحبتهم. ويُعلق القديس أمبروسيوس "الله لا يريدنا أن نجهل الحب العائلي ولا أيضًا أن نُستَعْبد له، وإنما نُخضع الطبيعة، ونُكرم خالق الطبيعة، فلا نتخلى عن الله بسبب حبِّنا للوالدين. فإتباع المسيح هي هبة الذات للمسيح، وهذا الأمر يتطلب أن نضعه في المقام الأول في الحياة قبل الذات والأهل.

 

إن حب الأهل وإكرامهم ومحبة العائلة وصية من وصايا الله وواجب، ولكن يأتي بعد حب المسيح.  ولكن هذا المحبة يمكن أن تكون مُبررا لعدم خدمة الله أو إنجاز عمل كما ادَّعى بعض الكتبة والفريسيين "وأَمَّا أَنتُم فتَقولون: مَن قالَ لأَبيهِ أَو أُمِّه: كُلُّ شَيءٍ قد أُساعِدُكَ بِه جَعَلتُه قُرْباناً، فَلَن يَلزَمَه أَن يُكرِمَ أَباه. لَقَد نَقَضتُم كلامَ اللهِ مِن أَجْلِ سُنَّتِكم"(متى 15: 5). وهنا يوضِّح السيد المسيح أنَّ إكرام الوالدين وصيه إلهية بل هو وبخ اليهود بشدِّه، لأنهم بعدم التزامهم بهذه الوصية قد خالفوا وتعدُّوا على الناموس.

 

بالإضافة إلى ذلك، بما أنَّ تلميذ يسوع لا يرتبط بتعليم بل بشخص، لذلك لا يستطيع التلميذ أن يترك معلمه الذي أصبح مرتبطاً به أكثر من أبيه وأمه (لوقا 14: 25-26). فاتّباع يسوع، في الواقع، لا يعني اعتناق تعليم أدبي وروحي فحسب، وإنما مشاركته في مصيره أيضاً، أي في آلامه ومجده. وفي الواقع، كان التلاميذ على استعداد لمشاركته في مجده كما صرّح بطرس الرسول " ها قد تَرَكْنا نَحنُ كُلَّ شيءٍ وتَبِعناك، فماذا يكونُ مَصيرُنا؟ " (متى 19: 27). لكن يجب أن يتعلموا أنَّهم لا بدَّ لهم أن يشاركوه أولاً في تجاربه وآلامه. لذا يطالب يسوع تلميذه بالزهد بالذات، وذلك بتفضيل يسوع على نَفسِه (لوقا 14: 26) وبالتجرد الكامل وبترك الأقارب (متى 8: 19-22)، دون ما مقاسمة أو رجعة (لوقا 9: 61-62). وهذا النداء قد يدعى إليه الجميع، لكن ليس الجميع يستطيعون أن يلبّوا هذا النداء (متى 19: 22-24).

 

المتطلب الثاني: حمل الصليب

 

يقوم المطلب الثاني لإتِّباع يسوع على حمل الصليب. قال يسوع " ومَن لم يَحمِلْ صَليَبهُ ويَتبَعْني، لا يَسْتَطيعُ أَن يكونَ لي تِلميذاً" (لوقا 14: 27). ففي زمن المسيح، "حملَ الصليب" معناه أن يتخلّى الإنسان عن حياته، أن يكون مستعدّاً للموت، وفي النهاية أن يموت (لوقا 17: 33). في هذا المعنى "حمل صليبه"، أن نكون في وضع نتحمّل فيه كلّ شيء من أجل المسيح، نتحمّل حتّى الموت.  على التلميذ أن يقبل ما ينبغي أن يتحمله كوسيلة للتضحية بشخصه حتى الموت، فعلى التلميذ الحقيقيّ أن يضع نفسه في وضع إنسانٍ حُكم عليه بالموت، فحمَلَ أداة تعذيبه وموته.

 

اتّخذت العبارة "حمل الصليب" في زمن آباء الكنيسة معنى رمزيّاً. فالصليب صار استعارة تدلّ على أحداث تُضايقنا في حياتنا، وتقلقنا وتؤلمنا. في هذا المفهوم، تعني عبارة "حمل الصليب "، الدخولَ في مخطَّط الله والقَبولَ بسخاء بهذه الأحداث المؤلمة، وكأنّها أداة خلاصنا، وكأنها وسائلُ ترسلها العنايةُ من أجل تقدّم ملكوت الله. فعندما نَحمل صليبَنا بهذه الطريقة نتبع يسوع حقّاً.

 

الصليب قبل المسيح كان يرمز إلى العار وإلى الألم، لكن مع المسيح أصبح يرمز قبل كل شيء إلى المحبة والتضحية والعطاء. إن دعوة يسوع المتطلبة لحمل صليبه وراءه، هي بالأساس إحدى متطلبات الحُب الإنساني نفسه. ومن أحب الله أكثر من نفسه يقدر على حمل الصليب "مَن فَقَدَ حَياتَه في سبيلي يَحفَظُها" (متى 10: 39ب). ولن يقدر على حمل الصليب إلاَّ من أحب الله أكثر من نفسه. ذلك لأن صليب المسيح هو مرتبط بأعظم حُب يمكن أن يصله الإنسان كما قال يسوع: " لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه " (يوحنا 15: 13).

 

صليب المسيح هو إذن البرهان الكبير على حبِّه لكل واحد منا بل أنه أفضل تعبير عن هذا الحُب الكبير. فكل أنواع الحُب تحتاج إلى لغة التضحية أو الذبيحة أي الصليب. وموقف كهذا لو اعتنقناه، قد يعرضنا للاحتقار وعدم تفهم الآخرين لنا وللسخرية وربما للنميمة. ولكن لا ننسى أنَّ يسوع بعد إن حمل صليبه وسُمر عليه عاد وقام من بين الأموات.  إن كنا نتقبَّل ما تحمله لنا الحياة من آلام، انسجاماً مع دعوتنا المسيحية، سنكتشف في حينه أن الصليب درب يقودُنا، منذ الآن إلى فرح لم نختبره من قبل وستنمو حياتنا الروحية، ويثبت فينا ملكوت الله. وفي هذا الصدد أكدت الطبيبة إريكا فيليلا، مُؤسِّسة أبناء مريم، "أنَّ الصليب وحده هو الذي يعطي معنى للألم وقوة للآمل، فيثبت المؤمن في إيمانه وفي مسيرته مع المسيح. الصليب (أي المرض والألم) مع المسيح هو انتصار".

 

كان جمهور الذين يستمعون إلى يسوع يُدركون تماما معنى أنَّ "حمل الصليب". فعندما كان الرومان يسوقون مجرما لتنفيذ حكم الإعدام فيه كانوا يُجبرونه على حمل الصليب الذي سيُعلق عليه إلى مكان تنفيذ العقوبة. وكان هذا يُظهر خضوعه لروما، ويُحذر الآخرين حتى يخضعوا هم أيضا. فإتباع يسوع معناه الخضوع الكامل له حتى الموت. وهذا يتطلب مِن مَن يريد أن يتبعه ألا يندفع في حماس سطحي لابتاعه بل عليه أن يتعمق ويعرف أنَّ هناك ثمن لاتباعه. ويسوع المحكوم عليه بالصَّلْب حمل صليبه إلى مكان تنفيذ العقوبة، كما جاء في أنجيل يوحنا "خَرَجَ حامِلاً صَليبَه إلى المَكانِ الَّذي يُقالُ لَه مَكانَ الجُمجُمة، ويقالُ لهُ بِالعِبرِيَّةِ جُلْجُثَة" (يوحنا 19: 17). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم" أن السيِّد لا يطالبنا أن نضع صليبًا من خشب لنحمله كل يوم، وإنما أن نضع الموت نصب أعيننا".

 

مات يسوع مصلوباً، فأصبح الصليب، أداة للفداء، مع الموت، والألم، والدم، أحد الأركان الأساسية التي تساعد على تذكيرنا بخلاصنا. إن الصليب لم يَعد عاراً، بل أصبح مطلباً، وعنواناً للمجد للمسيح أولاً ثم للمسيحيين من بعده، كما أعلن بولس الرسول "فإِنَّنا نُبَشِّرُ بِمَسيحٍ مَصْلوب، عِثارٍ لِليَهود وحَماقةٍ لِلوَثنِيِّين" (1 قورنتس 1: 23). حمل يسوع الصليب من أجلنا، فلنحمله نحن أيضًا من أجله! هذا هو حساب النفقة التي سألنا أن نضعها في الاعتبار لبناء برج التلمذة أو لمحاربة ملك آخر أي إبليس.

 

نستنتج مما سبق أنَّ المعنى المباشر لحمل الصليب هو قبول الألم والعار والاضطهاد والظلم بأنواعه من أجل المسيح حتى بذل الحياة شهادة له. ولم يتردَّد بطرس الرسول بتشجيع المؤمنين على حمل الصليب "فقَد تأَلَّمَ المسيحُ أَيضًا مِن أَجلِكم وترَكَ لَكم مِثالاً لِتقتَفوا آثارَه" (1بطرس 2: 21). والمؤمن وهو يحمل صليبه يُشارِك الرب الذي تألَّم مظلوماً ولم يفتح فاه (أشعيا 53: 7)، " ويتِمُّ في جَسَدِه ما نَقَصَ مِن شَدائِدِ المسيح في سَبيلِ جَسَدِه الَّذي هو الكَنيسة " (قولسي 1: 24)، ويصرّح بولس الرسول " فأَعرِفَهُ وأَعرِفَ قُوَّةَ قِيامتِه والمُشارَكَةَ في آلامِه فأَتمثَّلَ بِه في مَوتِه، لَعَلي أَبلُغُ القِيامةَ مِن بَينِ الأَموات" (فيلبي 3: 10-11).

 

عاش القديس بولس الرسول حياته في الإيمان مصلوباً، كما صرّح "وقد صُلِبتُ مع المسيح. فما أَنا أَحْيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحْيا فِيَّ" (غلاطية 2: 20 -21)). وسجّل بولس الرسول قائمة آلامه "نَجوعُ ونَعطَشُ ونَعْرى ونُلطَمُ ونُشَرَّد، ونُجهِدُ النَّفْسَ في العَمَلِ بِأَيدينا. نُشتَمُ فنُبارِك، نُضطَهَدُ فنَحتَمِل، يُشَنَّعُ علَينا فنَرُدُّ بِالحُسْنى. صِرنا شِبْهَ أَقْذارِ العالَم ونُفايةَ النَّاسِ أَجمَعين، (1قورنتس 4: 12-13).

 

لكن مع كل هذه الآلام لم يَعد الصليب مجرّد ألم أو مذلَّة فحسب، إنما أيضا يحقق الصليب مجد الله مقدَّماً. إنه علامة للخلاص (يوحنا 3: 14،) "شجرة الحياة" (رؤيا 22: 2 و14 و15). لذا يستطيع المسيحي أن يصرِّح بفخر مع بولس الرسول "أَمَّا أَنا فمَعاذَ اللهِ أَن أَفتَخِرَ إِلاَّ بِصَليبِ رَبِّنا يسوعَ المسيح! وفيه أَصبَحَ العالَمُ مَصْلوبًا عِنْدي، وأَصبَحتُ أَنا مَصْلوبًا عِندَ العالَم" (غلاطية 6: 14). ويضيف "إِذا شارَكْناه في آلامِه، نُشارِكُه في مَجْدِه أَيضًا"(رومة 8: 17). وليس من طريق آخر إلى الحياة والسلام الداخلي الحق سوى طريق الصليب المقدس. إن شئنا الحصول على السلام الداخلي واستحقاق الإكليل الخالد لنحمل الصليب ونتبع يسوع، لقد سبقك هو "حاملا صليبه (يوحنا 19: 17). 

 

المتطلب الثالث: التخلي عن جميع أمواله

 

يقوم المطلب الثالث من اجل إتِّباع يسوع هو تخلي التلميذ عن جميع أمواله. فقال يسوع "كُلُّ واحدٍ مِنكم لا يَتَخَلَّى عن جَميعِ أَموالِه لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلْميذاً. (لوقا 15: 33). يوضِّح إنجيل متى هدف التخلي بقوله "إِذا أَرَدتَ أَن تكونَ كامِلاً، فاذْهَبْ وبعْ أَموالَكَ وأَعْطِها لِلفُقَراء، فَيكونَ لكَ كَنزٌ في السَّماء، وتَعالَ فاتبَعْني"(متى 19: 21). التخلِّي عن جميع أمواله تعني أن تلميذ المسيح لا يستطيع بعد إتباعه للمسيح أن يعتمد على أمواله، بل يجب عليه أن ينبذ كل شيء يمنع اعتماده على المسيح وحده "ومَن لم يَحمِلْ صَليبَه ويَتبَعْني، فلَيسَ أَهْلاً لي مَن حَفِظَ حياتَه يَفقِدُها، ومَن فَقَدَ حَياتَه في سبيلي يَحفَظُها"(متى 10: 38-39). لا يعني التّخلّي عن شيء بل عن كلّ شيء في سبيل المسيح.  

 

لا يستطيع المؤمن أن يتبع المسيح وهو يحمل معه أثقاله: محبته للمال والأشياء وللعالم.  وفي الواقع، ترك التلاميذ الأوائل (بطرس يعقوب ويوحنا ...) السفينة الممتلئة بالسمك الكثير والأهل وتبعوا يسوع " رَجَعوا بِالسَّفينَتَينِ إلى البَرّ، وتَركوا كُلَّ شَيءٍ وتَبِعوه" (لوقا 5: 11)، وتَرْك لاوي مكان الجباية "فتَركَ كُلَّ شيءٍ وقامَ فتَبِعَه" (لوقا 5: 28)، "تركَتِ المَرأَةُ السامرية جَرَّتَها" (يوحنا 4: 28)؛ رمزاً للتخلِّي عن الماضي الشرير. فتغيير الحياة شرطٌ واضح من أجل أن يصبح المرء تلميذ الرب. وخير مثال على ذلك القديس أنطونيوس الكبير الذي باع كل ما كان له ووزَّع ماله على الفقراء ومضى إلى البرية متخلِّياً عن كل شيء ليتَّحد بالرب، فسطع نوره في العالم كله.

 

أمَّا الشاب الغني، الذي استكثر أن يتخلَّى عن أمواله ويُوزِّعها على الفقراء، أخفق أن يتبع المسيح، لأنه أحب أمواله أكثر، وهذا ما نستنتجه من قول يسوع له: "واحِدَةٌ تَنقُصُكَ بَعدُ: بعْ جَميعَ ما تَملِك ووَزِّعْه على الفُقَراء، فَيكونَ لكَ كَنزٌ في السَّموات، وتَعالَ فَاتبَعْني. فلمَّا سَمِعَ ذلك اغتَمَّ لِأَنَّه كانَ غَنِيّاً جِدّاً"(لوقا 18: 18-23). وكذلك يقول بولس الرسول أنَّ رفيقه " ديماسَ قد تَرَكَني لِحُبِّه هذِه الدُّنْيا" (2 طيموتاوس 10:4)، فأصبح بهذا عثرة وسخرية.

 

وكثيرون ممن كانوا يتبعون يسوع سمعوا كلامه، قالوا هذا كلام قاسٍ، فمن يسمعه؟ لذا تركه الكثيرون، ولم يعودوا يمشون معه. فقال يسوع للاثني عشر:" أَفلا تُريدونَ أَن تَذهبَوا أَنتُم أَيضاً؟  أَجابَهُ سِمْعانُ بُطُرس: يا ربّ، إِلى مَن نَذهَب وكَلامُ الحَياةِ الأَبَدِيَّةِ عِندَك؟" (يوحنا 6: 67-68). ويُعلق الراهب الدومنيكاني جان تولير "نلاحظ أنّ عددًا كبيرًا من الناس يتبعون هذا العالم الدنيويّ من أجل نيل ألقاب سخيفة، ومن أجل تلك الغاية بالتّحديد يتخلّون عن الراحة الجسديّة، وعن مسكنهم وأصدقاءهم، كما يعرّضون أنفسهم لمخاطر الحروب... كلّ هذا من أجل كسب ممتلكات خارجيّة وحسب! الصّواب إذًا هو أن نمارس التّخلّي الكامل من أجل كسب الخير الكامل، ألا وهو الله، وبتلك الطريقة نتبع رئيسنا" (لعظة 21، الرابعة عن الصعود)

 

وقد يواجه الإنسان المسيحي من اجل إتباع يسوع خسارة في المركز الاجتماعي أو في المال، وقد يُضطر أن يفقد ماله أو وقته أو وظيفته. وقد يكره البعض أو تعزله أسرته أو حتى يُحكم عليه بالموت، وهذا يدل أنَّ إتباع المسيح ليس معناه حياة خالية من المتاعب. فيجب أن نحسب بدقه تكاليف التلمذة حتى نعرف ما نحن مقبلون عليه وحتى لا نتعرض فيما بعد لتجربة الارتداد عنه فنصبح عثرة وسخرية. من هنا فقد طلب يسوع من كل مَن يرغب أن يتبعه ويصير تلميذا له أن يجلس أولاً ويحسب النفقة، ليس فقط لأن يبدأ بل ليواصل المسيرة إلى النهاية (لوقا 14: 28-30). بعد أن دعا يسوع الكل للملكوت، قال إن هناك متطلبات وهناك نفقة. فمن يقبل بهذه المتطلبات وبهذه النفقة يكون من تلاميذ يسوع. 

 

ونستنتج مما سبق أنَّ المطلب الثالث يقتضي التخلِّي عن تعلَّق القلب بحُبِّ المال حيث يصبح المال إلَهاً يُعبد من دون الله. لذلك التخلي يتطلب السعي للعيش بكرامة ومساعدة الفقراء وسدِّ حاجة المُعوزين اقتساماً للخيرات، ومشاركة المرضى ومنكوبي اضطرابات الطبيعة والمجاعات، وغير ذلك من الحاجات الإنسانيَّة والدينيَّة الضروريَّة، بالخدمة والتبرُّع السخي برهاناً لصِدْق الإيمان.

 

 

الخلاصة

 

مالت جموع غفيرة إلى الاعتقاد أنَّ يسوع هو المسيح، لكنهم أساءوا فهم طبيعة الملكوت. فبيّن يسوع متطلبات التلمذة من خلال مثلين قد أنفرد بهما لوقا الإنجيلي: بناء برج (لوقا 14:28-30) ومحاربة ملك (لوقا 14: 31 – 32).  ويبدو أن هذين المثلين هما في الأصل عبرة في ضرورة التفكير قبل الإقدام على مشروع هام، وهو، ولا شك، مشروع الالتزام باتباع يسوع. لكن لوقا يختتم ربط هذين المثلين، بدعوة إلى الزهد بالنفس "وهكذا كُلُّ واحدٍ مِنكم لا يَتَخَلَّى عن جَميعِ أَموالِه لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلْميذاً"(لوقا 14: 33). فكما أنَّ رأس مال بناء البرج هو المال الكافي (لوقا 14: 28-30) وراس مال الملك المحارب هو الجيش الكافي (لوقا 14: 331-32) كذلك راس مال تلميذ المسيح هو حمل الصليب والزهد (لوقا 14: 26-27، 33). 

 

من أراد أن يتبع يسوع يتوجب عليه أن يتمم الشروط التالية: أن يحمل الصليب ويأتي وراءه (لوقا 14: 25-27) وان يحسب نفقة إتباعه حتى النهاية (لوقا 14: 28-32)، وان يتخلى عن كل ما لديه لأجل المسيح والبقاء على روح التضحية وإعطاء الأفضلية لأمور الروح، والشهادة العلنية للمسيح (لوقا 9: 23-26) كي يُصبح تلميذا حقيقيا ليسوع " وهكذا كُلُّ واحدٍ مِنكم لا يَتَخَلَّى عن جَميعِ أَموالِه لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلْميذاً" (لوقا 14: 33). وإن كان حمل الصليب هو نفقة اتباعنا وراء المسيح، فمطلوب منّا أن نحسب هذه النفقة، مثل من يبني برجًا يلزمه أن يحسب النفقة أولًا قبل أن يحفر الأساس، ومثل الملك الذي يحارب ملكًا آخر أن يراجع إمكانياته قبل بدء المعركة.

 

 

دعاء

 

أيها الآب السماوي، نطلب إليك باسم ابنك يسوع المسيح، أن نضعك في المكانة الأولى في حياتنا فنستطيع أن نردد مع القديس نيقولا:

"ربّي والهي، إنزع منِّي كل مل يُبعدني عنك

ربِّي والهي، هبني كلَّ ما يُقرِّبني منك.

ربِّي والهي، جرّدني من ذاتي لكي أكون كلّيا لك".

(القديس نيقولا دي فلو 1417-1487 متصوف وناسك سويسري).