موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (يوحنا 8: 1-11)
1 أ َمَّا يسوع فذَهَبَ إلى جَبَلِ الزَّيتون. 2 وعادَ عِندَ الفَجرِ إلى الهَيكلَ، فأَقبَلَ إِلَيهِ الشَّعبُ كُلُّه. فجلَسَ وجَعلَ يُعَلِّمُهم. 3 فأَتاهُ الكَتَبةُ والفِرِّيسيُّونَ بِامرَأَةٍ أُخِذَت في زنًى. فأَقاموها في وسَطِ الحَلقَةِ 4 وقالوا له: ((يا مُعَلِّم، إِنَّ هذِه المَرأَةَ أُخِذَت في الزِّنى المَشْهود. 5 وقد أَوصانا مُوسى في الشَّريعةِ بِرَجْمِ أَمثالِها، فأَنتَ ماذا تقول؟)) 6 وإِنَّما قالوا ذلكَ لِيُحرِجوهُ فيَجِدوا ما يَشْكونَه بِه. فانحنَى يسوعُ يَخُطُّ بِإِصبَعِه في الأَرض. 7 فلَمَّا أَلحُّوا علَيه في السُّؤال اِنتَصَبَ وقالَ لَهم: ((مَن كانَ مِنكُم بلا خَطيئة، فلْيَكُنْ أَوَّلَ مَن يَرميها بِحَجَر!)) 8 ثُمَّ انحَنى ثانِيةً يَخُطُّ في الأَرض. 9 فلَمَّا سَمِعوا هذا الكَلام، انصَرَفوا واحِداً بَعدَ واحِد يَتَقدَّمُهم كِبارُهم سِناًّ. وبَقِيَ يسوعُ وَحده والمَرأَةُ في وَسَطِ الحَلْقَة. 10 فانتَصَبَ يسوعُ وقالَ لَها: ((أَينَ هُم، أَيَّتُها المَرأَة؟ أَلَم يَحكُمْ عَليكِ أحَد؟)) 11 فقالت: ((لا، يا ربّ)). فقالَ لها يسوع: ((وأَنا لا أَحكُمُ علَيكِ. إِذهَبي ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إلى الخَطيئة)).
مُقَدِّمَةٌ
يَصِفُ يُوحَنَّا الإِنْجِيلِيُّ في إِنْجِيلِ الأَحَدِ الخَامِسِ (يُوحَنَّا 8: 1–11) السَّيِّدَ يَسُوعَ المَسِيحَ في هَيْكَلِ أُورَشَلِيمَ، في الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ قَبْلَ آلَامِهِ، وَهُوَ يُعَلِّمُ الشَّعْبَ وَيَعْفُو عَنِ المَرْأَةِ الزَّانِيَةِ، تَأْكِيدًا لِتَصْرِيحِهِ: "أَنا لا أَحْكُمُ عَلى أَحَدٍ" (يُوحَنَّا 8: 15). وَبِهَذَا الأَمْرِ، يَكْشِفُ رَحْمَتَهُ تِجَاهَ الخُطَاةِ وَمَغْفِرَتَهُ لَهُمْ، وَيَدْعُونَا أَنْ نُلْقِيَ مَا نُمْسِكُ فِي أَيْدِينَا مِنْ حِجَارَةِ التَّحْقِيرِ وَالإِدَانَةِ، الَّتِي نَرْغَبُ أَحْيَانًا فِي أَنْ نَرْمِيَ بِهَا الآخَرِينَ. كما يَدْعُونَا إِلَى ٱلتَّوْبَةِ وَٱلِٱعْتِرَافِ بِخَطَايَانَا، لِيَغْفِرَ لَنَا آثَامَنَا وَيُحَرِّرَنَا، فَنَسْتَعِدَّ لِلِقَاءِ ٱلْقَائِمِ فِي لَيْلَةِ قِيَامَتِهِ ٱلْمَجِيدَةِ. وَأَصْبَحَتْ هذِهِ المَرْأَةُ الزَّانِيَةُ مِثَالًا لِمَنْ يَتُوبُ عَنْ ضَعْفِهِ وَخَطَيئِهِ وَمَاضِيهِ، فَقِصَّتُهَا تَفْتَحُ أَمَامَ كُلِّ نَفْسٍ بَابَ الرَّحْمَةِ الإِلَهِيَّةِ.
وَمِنْ هُنَا تَكْمُنُ أَهَمِّيَّةُ البَحْثِ فِي وَقَائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ وَتَطْبِيقَاتِهِ.
أولا: تحليل وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 8: 1-11)
1 أَمَّا يسوع فذَهَبَ إلى جَبَلِ الزَّيتون.
تُشِيرُ عِبَارَةُ "فَذَهَبَ إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ" إِلَى الاِسْتِرَاحَةِ فِي بَيْتِ أَحَدِ أَصْدِقَائِهِ: لِعَازَرَ وَأُخْتَيْهِ، مَرْيَمَ وَمَرْثَا (يُوحَنَّا 11: 1)، أَوْ فِي بُسْتَانِ الجَسَمَانِيَّةِ غَرْبِيَّ الجَبَلِ، حَيْثُ كَانَ يَعْتَادُ التَّرَدُّدَ (يُوحَنَّا 18: 2)، أَوْ قَضَاءَ لَيْلَتِهِ فِي الصَّلَاةِ (لُوقَا 21: 37–38). فَقَدْ كَانَ، فِي النَّهَارِ، يُعَلِّمُ فِي الهَيْكَلِ خِلَالَ أَيَّامِ عِيدِ المِظَالِّ (يُوحَنَّا ٧: ١٤)، وَفِي اللَّيْلِ، يَخْرُجُ لِلمَبيتِ فِي جَبَلِ الزَّيْتُونِ. أَمَّا عِبَارَةُ "جَبَلِ الزَّيْتُونِ"، فَتُشِيرُ إِلَى الاِسْمِ المَأْخُوذِ مِنْ شَجَرِ الزَّيْتُونِ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا فِي الجَبَلِ بِكَثْرَةٍ. وَلا تَزَالُ تَوْجَدُ فِيهِ بَعْضُ أَشْجَارِهِ الكَبِيرَةِ الحَجْمِ وَالقَدِيمَةِ العَهْدِ حَتَّى الآن، وَخُصُوصًا فِي بُسْتَانِ الجَسَمَانِيَّةِ. وَيُشرِفُ هَذَا الجَبَلُ عَلَى القُدْسِ مِنَ الجِهَةِ الشَّرْقِيَّةِ (1 مُلُوك 11: 7). وَيُكْثِرُ العَهْدُ القَدِيمُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الجَبَلِ، مَرَّةً بِاِسْمِ "جَبَلِ الزَّيْتُونِ" (2 صَمُوئِيل)، وَمَرَّةً بِاِسْمِ "الجَبَلِ" (نَحِمْيَا 8: 15)، وَمَرَّةً بِاِسْمِ "جَبَلِ الهَلَاكِ" (2 مُلُوك 23: 13). وَيَفْصِلُ وَادِي قَدْرُون هَذَا الجَبَلَ عَنْ أُورَشَلِيمَ (2 صَمُوئِيل 15: 14). وَقَدْ حُسِبَتِ المَسَافَةُ بَيْنَ أَقْصَى قِمَمِهِ الشِّمَالِيَّةِ وَبَيْنَ أُورَشَلِيمَ بِـ سَفَرِ سَبْتٍ (أَعْمَال الرُّسُل 1: 12)، وَكَانَتْ هذِهِ المَسَافَةُ، حَسَبَ تَعْلِيمَاتِ الرَّبِّيينَ، أَلْفَيْ ذِرَاعٍ (مَا يُعَادِلُ 914 م) مِنْ مَنْزِلِ الشَّخْصِ (عَدَد 35: 5)، أَوْ نَحْوَ سَبْعِ غَلَوَاتٍ وَنِصْفٍ، أَي حَوَالَيْ 1387 م (خُرُوج 16: 29). وَمِنْ هذَا الجَبَلِ، تَوَجَّهَ يَسُوعُ إِلَى أُورَشَلِيمَ فِي أَحَدِ الشَّعَانِين، وَمِنْهُ بَكَى يَسُوعُ عَلَى المَدِينَةِ وَمَصِيرِهَا القَرِيبِ (لُوقَا 19: 37–44). وَقَدْ تَحَدَّثَ يَسُوعُ أَيْضًا مِنْ سَفْحِ ذَلِكَ الجَبَلِ عَنْ خَرَابِ الهَيْكَلِ وَتَدْمِيرِ المَدِينَةِ (مَتَّى 24: 3). وَأَخِيرًا، مِنْهُ صَعِدَ يَسُوعُ إِلَى السَّمَاءِ. وَيُسَمِّيهِ العَرَبُ فِي الوَقْتِ الحَاضِرِ: جَبَلَ الطُّورِ، (أَيْ: الجَبَلَ ذَا الشَّجَرِ وَالثَّمَرِ).
2 وعادَ عِندَ الفَجرِ إلى الهَيكلَ، فأَقبَلَ إِلَيهِ الشَّعبُ كُلُّه. فجلَسَ وجَعلَ يُعَلِّمُهم
تُشِيرُ عِبَارَةُ "عِندَ الفَجر" إِلَى وَقْتِ بَدْءِ شُعَاعِ الشَّمْسِ بِالظُّهُورِ مُعْتَرِضًا فِي الأُفُقِ، أَي فِي الصَّبَاحِ الْمُبَكِّرِ، جَاءَ السَّيِّدُ الْمَسِيحُ إِلَى الهَيْكَلِ لِيُعَلِّمَ الشَّعْبَ، كَمَا جَاءَ فِي أَسْفَارِ الحِكْمَةِ: "أَنا أُحِبُّ الَّذِينَ يُحِبُّونَنِي، وَالمُبْتَكِرُونَ إِلَيَّ يَجِدُونَنِي" (أمثال 8: 17). أمَّا عِبَارَةُ "الهَيْكَلَ" فتُشِيرُ إِلَى البِنَاءِ الَّذِي شَيَّدَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ لأَدَاءِ فَرَائِضِ العِبَادَةِ اليَهُودِيَّةِ للهِ. وَقَدْ دَمَّرَهُ البَابِلِيُّونَ سَنَةَ 581 ق.م، ثُمَّ أَعَادَ اليَهُودُ بِنَاءَهُ بَعْدَ عَوْدَتِهِمْ مِنْ بَابِلَ بِقِيَادَةِ زَرُبَّابِل (520–516 ق.م)، ثُمَّ وَسَّعَهُ هِيرُودُسُ الكَبِيرُ سَنَةَ 20 ق.م. وَكَانَ فِي الهَيْكَلِ قِسْمَانِ: القُدْس: لا يَدْخُلُهُ إِلَّا الكَهَنَةُ، وَفِيهِ مَكَانٌ يُسَمَّى قُدْسُ الأَقْدَاسِ، لا يَدْخُلُهُ إِلَّا عَظِيمُ الكَهَنَةِ مَرَّةً فِي السَّنَةِ. سَاحَاتٌ أُخْرَى: يَدْخُلُهَا اليَهُودُ وَحْدَهُمْ، وَكَانَ فِي الخَارِجِ أَيْضًا أَرْوِقَةٌ يَحِقُّ لِجَمِيعِ النَّاسِ وحَتَّى الوَثَنِيِّينَ الدُّخُولُ إِلَيْهَا. وَكَانَ يَسُوعُ يَذْهَبُ إِلَى الهَيْكَلِ فِي النَّهَارِ، وَفِي اللَّيْلِ يَخْرُجُ إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ. أمَّا عِبَارَةُ "أَقْبَلَ" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ: ἤρχετο، فَتُفِيدُ الاِسْتِمْرَارِيَّةَ، أَي أَنَّ الشَّعْبَ كَانَ يُقْبِلُ إِلَى يَسُوعَ بِرَغْبَةٍ لِسَمَاعِ أَقْوَالِهِ وَالاِنْتِفَاعِ بِهَا. أمَّا عِبَارَةُ "الشَّعبُ كُلُّهُ" فتُشِيرُ إِلَى عَدَدٍ كَبِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمِمَّنْ أَتَوْا إِلَيْهَا لِلْعِيدِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ تَزَايُدِ الحَرَكَةِ مِنَ الصَّبَاحِ فِي إِنْجِيلِ لُوقَا (21: 38). أمَّا عِبَارَةُ "الشَّعبُ" فتُشِيرُ إِلَى جُمُوعٍ كَثِيرَةٍ، إِذْ كَانَتِ الحَرَكَةُ مُسْتَمِرَّةً َمُتَزَايِدَةً مُنْذُ الصَّبَاحِ الْبَاكِرِ، كَمَا يُؤَكِّدُ لُوقَا الإِنْجِيلِيُّ: "كَانَ الشَّعْبُ كُلُّهُ يَأْتِي إِلَيْهِ بُكْرَةً فِي الهَيْكَلِ لِيَسْتَمِعَ إِلَيْهِ" (لوقا 21: 38). أمَّا عِبَارَةُ "جَلَسَ"فتُفِيدُ الْجُلُوسَ كَمُعَلِّمٍ، إِذْ كَانَتْ عَادَةُ الْمُعَلِّمِينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَنْ يَجْلِسُوا عِنْدَ التَّعْلِيمِ (متى 5: 1)، لأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّمُونَ لِسَاعَاتٍ طَوِيلَةٍ (لوقا 4: 20). وَيُذَكِّرُنَا هَذَا المَشْهَدُ بِـ مُوسَى النَّبِيِّ، الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ فِي الْمُخَيَّمِ مِنَ الصَّبَاحِ حَتَّى الْمَسَاءِ لِحَلِّ الْمَسَائِلِ بَيْنَ النَّاسِ (خروج 18: 13): "إِنَّ الشَّعْبَ يَأْتِي إِلَيَّ لِيَسْتَشِيرَ الله" (خروج 18: 16)، لِمَعْرِفَةِ مَرَاسِيمِهِ وَشَرَائِعِهِ. أمَّا عِبَارَةُ “وَجَعَلَ يُعَلِّمُهُمْ" فتُشِيرُ إِلَى تَعْلِيمِ يَسُوعَ لِلشَّعْبِ فِي أُورَشَلِيمَ وَفِي الهَيْكَلِ فِي يَوْمِ العِيدِ الأَخِيرِ كُلِّهِ، أَيْ اليَوْمِ الثَّامِنِ مِنْ عِيدِ المِظَالِّ. وَلَمْ يَذْكُرِ الإِنْجِيلُ مَوْضُوعَ التَّعْلِيمِ، وَالأَرْجَحُ أَنَّهُ دَارَ حَوْلَ حَقِيقَةِ مَلَكُوتِهِ وَتَعْلِيمِ الكِتَابِ المُقَدَّسِ فِي شَأْنِ المَسِيحِ المَوْعُودِ بِهِ.
3 فأَتاهُ الكَتَبةُ والفِرِّيسيُّونَ بِامرَأَةٍ أُخِذَت في زنًى. فأَقاموها في وسَطِ الحَلقَةِ
تُشِيرُ عِبَارَةُ "الكَتَبَةُ وَالفِرِّيسِيُّونَ" إِلَى مُعَلِّمِي الشَّعْبِ، الَّذِينَ كَانُوا يَقْرَأُونَ التَّوْرَاةَ وَيُفَسِّرُونَهَا وَيَنْسَخُونَهَا. كَانَ تَعْلِيمُهُمْ تَقْلِيدِيًّا، وَسُلْطَتُهُمْ بَشَرِيَّةً لا رُوحِيَّة. أَمَّا الفِرِّيسِيُّونَ، فَهُمْ جَمَاعَةٌ "اِنْفَصَلَتْ" عَنِ الشَّعْبِ وَتَعَلَّقَتْ بِـ شَرِيعَةِ مُوسَى، حِفَاظًا دَقِيقًا عَلَيْهَا، وَبِـ تَقْلِيدِ الشُّيُوخِ أَيْضًا (متى 15: 2). وَفِي مَا يَخُصُّ الكَتَبَةَ، فَإِنَّ يُوحَنَّا البَشِيرَ لَمْ يَذْكُرْهُمْ فِي إِنْجِيلِهِ إِلَّا فِي هذِهِ الْمَرَّةِ. هُمْ مُعَلِّمُو الشَّرِيعَةِ، الذين اهْتَمُّوا بِدِرَاسَةِ النَّامُوسِ وَالتَّقَالِيدِ لِيُفَسِّرُوهَا لِلشَّعْبِ، وَحُسِبُوا عُلَمَاءَ الأُمَّةِ اليَهُودِيَّةِ، وَكَانُوا ذَوِي سُلْطَةٍ وَمَقَامٍ سَامٍ. وَقَدْ أَبْغَضُوا يَسُوعَ وَاتَّفَقُوا مَعَ الفِرِّيسِيِّينَ عَلَيْهِ. أمَّا عِبَارَةُ "بِاِمْرَأَةٍ أُخِذَتْ فِي زِنًى" فلَمْ تُذْكَر هُوِيَّةُ المَرْأَةِ الزَّانِيَةِ، لأَنَّهَا تُمَثِّلُنَا جَمِيعًا، وَقِصَّتُهَا تَفْتَحُ أَمَامَ كُلِّ نَفْسٍ بَابَ الرَّحْمَةِ الإِلَهِيَّةِ. أمَّا عِبَارَةُ "زِنًى" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ: μοιχείᾳ، فَتَعْنِي كُلَّ اتِّصَالٍ جِنْسِيٍّ غَيْرِ شَرْعِيٍّ، كَأَنْ يُضَاجِعَ رَجُلٌ اِمْرَأَةً مُتَزَوِّجَةً، أَوْ فَتَاةً مَخْطُوبَةً لِرَجُلٍ آخَر، أَوْ حَتَّى فَتَاةً حُرَّةً غَيْرَ مَخْطُوبَةٍ. وَكَانَ عِقَابُ هذِهِ الْخَطِيئَةِ: الرَّجْمَ وَالمَوْتَ، كَمَا وَرَدَ فِي الأَحْبَار (20: 10) وَتَثْنِيَةِ الاِشْتِرَاعِ (2: 22–29). أمَّا عِبَارَةُ "فَأَقَامُوهَا فِي وَسَطِ الحَلْقَةِ" فتُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ جَاءُوا بِالمَرْأَةِ إِلَى حَيْثُ كَانَ يَسُوعُ يُعَلِّمُ، ثُمَّ أَحَاطُوا بِهِ هُمْ وَأَتْبَاعُهُمْ، وَوَضَعُوا المَرْأَةَ فِي الوَسَطِ، كَأَنَّهُمْ يُقِيمُونَ مَسَافَةً نَفْسِيَّةً وَجَسَدِيَّةً بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا. فَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ بَعِيدُونَ عَنِ الخَطِيئَةِ وَالشَّرِّ، وَكَأَنَّ الخَطِيئَةَ تَخُصُّ هذِهِ المَرْأَةَ وَحْدَهَا، فَيُعَرِّضُونَهَا لِلحُكْمِ وَالدَّيْنُونَةِ. وَلَكِنْ، هَلْ يُوجَدُ مَا هُوَ أَقْسَى وَأَشَدُّ مِنْ وَضْعِ هذِهِ المَرْأَةِ الخَاطِئَةِ "فِي وَسَطِ الحَلْقَةِ"، فِي الهَيْكَلِ، لِتَكُونَ مَوْضِعَ نَظَرِ الجُمُوعِ القَاسِيَةِ وَنُفُوسِهِمُ المُتَجَبِّرَةِ؟
4 وقالوا له: يا مُعَلِّم، إِنَّ هذِه المَرأَةَ أُخِذَت في الزِّنى المَشْهود
تُشِيرُ عِبَارَةُ "يا مُعَلِّم" إِلَى لَقَبٍ عَظِيمٍ عِنْدَ اليَهُودِ، كَانَ يُطْلَقُ عَلَى مُعَلِّمِي الشَّرِيعَةِ وَأَهْلِ العِلْمِ. وَلَكِنَّ الكَتَبَةَ وَالفِرِّيسِيِّينَ لَمْ يُنَادُوا يَسُوعَ بِهَذَا اللَّقَبِ إِكْرَامًا، بَلْ خُبْثًا وَمَكْرًا لِاصْطِيَادِهِ وَتَجْرِبَتِهِ. فَفِي الوَاقِعِ، مُنَادَاتُ يَسُوعَ بِـ"يَا مُعَلِّم" تَكْشِفُ نِفَاقَ الكَتَبَةِ وَالفِرِّيسِيِّينَ، إِذْ إِنَّهُمْ فِي اليَوْمِ السَّابِقِ، قَالُوا عَنْهُ إِنَّهُ مُضَلِّلٌ (يُوحَنَّا 7: 47). أمَّا عِبَارَةُ "إِنَّ هذِه المَرأَةَ أُخِذَتْ فِي الزِّنَى المَشْهُود" فتُظْهِرُ أَنَّ الكَتَبَةَ وَالفِرِّيسِيِّينَ لَمْ يُقَدِّرُوا كَرَامَةَ المَرْأَةِ، بَلْ أَذَلُّوهَا وَشَهَّرُوا بِهَا أَمَامَ الجُمُوعِ. فَلَوْ كَانَ هَمُّهُم تَطْبِيقَ الشَّرِيعَةِ بِحَقٍّ، لَكَانَ مِنَ المُمْكِنِ أَنْ يَحْتَفِظُوا بِهَا وَيَسْأَلُوا يَسُوعَ بِسِرِّيَّةٍ، لا أَنْ يُقَدِّمُوهَا أَمَامَ الشَّعْبِ لِلتَّشْهِيرِ. وَفِي هذَا، مُخَالَفَةٌ صَرِيحَةٌ لِلشَّرِيعَةِ، الَّتِي تَقْضِي بِـ رَجْمِ الرَّجُلِ وَالمَرْأَةِ مَعًا فِي حَالَةِ الزِّنَى، كَمَا وَرَدَ فِي: "إِنْ أُخِذَ رَجُلٌ يُضَاجِعُ امْرَأَةً مُتَزَوِّجَةً، فَلْيَمُتَا كِلَاهُمَا" (تثنية 22: 22). وَأَيْنَ العَدْلُ الإِلَهِيُّ الَّذِي "لَا مُحَابَاةَ فِيهِ"؟ (يَعْقُوب 3: 17). أمَّا عِبَارَةُ "المَشْهُود" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ: αὐτοφώρῳ، وَمَعْنَاهَا: فِي نَفْسِ الفِعْلِ، أَيْ فِي لَحْظَةِ ارْتِكَابِ الجُرْمِ، فَيُفِيدُ هذَا أَنَّهُمْ أَمْسَكُوا بِالمَرْأَةِ فِي حَالَةِ الزِّنَى بِمَرْأَى النَّاسِ، أَوْ عَلَى الأَقَلِّ تَجَسَّسُوا عَلَيْهَا لِيَنْتَهِزُوا اللَّحْظَةَ المُنَاسِبَةَ لِفَضْحِهَا. فِي العَهْدِ القَدِيمِ، كَانَ الزِّنَى رَمْزًا لِخِيَانَةِ الشَّعْبِ لِرَبِّهِ، عِنْدَمَا يَقْبَلُونَ بِـ آلِهَةٍ أُخْرَى، وَيَتَرُكُونَ الإِلَهَ الحَقِيقِيَّ، كَمَا جَاءَ فِي سِفْرِ الحِكْمَةِ: "إِنَّ فِكْرَةَ صِنَاعَةِ الأَصْنَامِ هِيَ أَصْلُ الزِّنَى، وَاخْتِرَاعَهَا فَسَادٌ لِلْحَيَاةِ" (حِكْمَة 14: 12).
5 وقد أَوصانا مُوسى في الشَّريعةِ بِرَجْمِ أَمثالِها، فأَنتَ ماذا تقول؟
تُشِيرُ عِبَارَةُ "أَوْصَانَا مُوسَى فِي الشَّرِيعَةِ بِرَجْمِ" إِلَى حُكْمِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ بِالمَوْتِ، كَمَا وَرَدَ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى: "أَيُّ رَجُلٍ زَنَى بِامْرَأَةِ رَجُلٍ (الَّذِي يَزْنِي بِامْرَأَةِ قَرِيبِهِ)، فَلْيُقْتَلِ الزَّانِي وَالزَّانِيَةُ" (الأَحْبَار 20: 10). وَلَمْ تُعَيِّنِ الشَّرِيعَةُ نَوْعَ القَتْلِ، إِلَّا أَنَّهُ فِي أَيَّامِ حِزْقِيَالَ النَّبِيِّ، تَمَّ القَتْلُ بِالرَّجْمِ وَالقَطْعِ بِالسَّيْفِ مَعًا: يَجْلُبُونَ عَلَيْكِ الجَمَاعَةَ، وَيَرْجُمُونَكِ بِالحِجَارَةِ، وَيَطْعَنُونَكِ بِسُيُوفِهِمْ" (حِزْقِيَال 16: 40). وَفِي حَالَةِ الزَّانِيَةِ الَّتِي هِيَ بِنْتُ كَاهِنٍ، كَانَتِ العُقُوبَةُ أَشَدَّ، إِذْ كَانَتْ تُحْرَقُ بِالنَّارِ: "أَيَّةُ ابْنَةِ رَجُلٍ كَاهِنٍ تُدَنِّسُ نَفْسَهَا لِلزِّنَى، فَقَدْ دَنَّسَتْ أَبَاهَا، فَلْتُحْرَقْ بِالنَّارِ" (الأَحْبَار 21: 9). فِي عَصْرِ المَسِيحِ، كَانَ حُكْمُ اليَهُودِ بِـ الرَّجْمِ، وَهُوَ نَوْعُ الْمَوْتِ المُعْتَمَدِ فِي هذِهِ الْحَالَةِ. أَظْهَرَ الكَتَبَةُ وَالفِرِّيسِيُّونَ، بِتَصَرُّفِهِمْ هذَا، أَنَّهُمْ يَغَارُونَ عَلَى الشَّرِيعَةِ وَيُقَاوِمُونَ الخَطِيئَةَ، وَلَكِنَّهُمْ لَيْسُوا مُتَحَرِّرِينَ مِنْهَا. فَقَدْ قَالَ لَهُمُ السَّيِّدُ المَسِيحُ: "إِنَّكُمْ مِنَ الدَّاخِلِ مَمْلُوؤُونَ نَجَاسَةً" (متى 23: 27–28). ِمَاذَا نُلْقِي الحِجَارَةَ عَلَى إِخْوَتِنَا، وَنَحْنُ أَيْضًا نَسْتَحِقُّ الرَّجْمَ؟ أمَّا عِبَارَةُ " بِرَجْمِ أَمْثَالِهَا" فتُشِيرُ إِلَى مَوْقِفِ رِجَالِ الدِّينِ، الَّذِينَ أَشَارُوا إِلَى الجَرِيمَةِ بِاحْتقارٍ، وَحَدَّدُوا العِقَابَ، فِي نَفْسِ الوَقْتِ. قَامُوا بِـ دَوْرِ المُدَّعِي وَالقَاضِي مَعًا، وَلَمْ يُتِيحُوا أَيَّةَ فُرْصَةٍ لِلدِّفَاعِ. وَلِلأَسَف، هذَا المَشْهَدُ لا يَزَالُ مَاثِلًا أَمَامَنَا حَتَّى اليَوْمِ. لا يَزَالُ بَعْضُ النَّاسِ يَرْفَعُونَ أَصَابِعَ الاِتِّهَامِ:"هذَا كَذَّابٌ، انْبِذُوهُ"، "هذَا مُنَافِقٌ، احْتَقِرُوهُ"، "هذَا كَسْلَانٌ، رْفُضُوهُ"، "هذَا حَرَامِي، اسْجِنُوهُ"، "هذَا كَافِر، اقْتُلُوهُ"، "هذَا زَانٍ، اجْلِدُوهُ"، "هذَا مُخْتَلِف، دَمِّرُوهُ". تَكَلَّمُوا عَنِ الزَّانِيَةِ بِاحْتِقَارٍ، كَأَنَّهَا لا تَسْتَحِقُّ الوُجُودَ عَلَى الأَرْضِ. لِمَاذَا هذِهِ الرَّغْبَةُ الْكَبِيرَةُ فِي رَجْمِ الآخَرِينَ؟ قَالَ أَحَدُ الفَلَاسِفَةِ: "الإِنْسَانُ هُوَ ذِئْبٌ لِلإِنْسَانِ الآخَرِ". لَا يُرِيدُ الرَّبُّ أَنْ يَحْمِلَ أَحَدٌ الحِجَارَةَ فِي يَدَيْهِ، لِأَنَّ الحِجَارَةَ وَالبُغْضَ وَالغَضَبَ: تُشَوِّهُنَا، وَتُؤْذِينَا، وَتُفْسِدُ قُلُوبَنَا. أمَّا عِبَارَةُ "رَجْمِ" عند اليهود فيَسْتَوْجِبُ:
1. رَبْطَ يَدَيِ المُجْرِمِ مِنَ الخَلْفِ، وَهُوَ نِصْفُ عَارٍ.
2. وَضْعَهُ عَلَى مِنَصَّةٍ اِرْتِفَاعُهَا ثَلَاثَةُ أَمْتَارٍ.
3. ثُمَّ يَدْفَعُهُ شَاهِدَانِ بِكُلِّ قُوَّةٍ.
4. فَإِنْ مَاتَ، يُنْهَى الأَمْرُ.
5. وَإِلَّا، يَأْخُذُ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ حَجَرًا ضَخْمًا وَيَضْرِبُهُ عَلَى صَدْرِهِ.
وَكَانَتِ الضَّرْبَةُ الأُولَى غَالِبًا قَاتِلَةً. فَـ الزَّانِيَةُ، بِنَظَرِهِم، لَا تَسْتَحِقُّ الحَيَاةَ، وَتُلْقَى فِي حُفْرَةٍ، وَتَنْهَالُ عَلَيْهَا الحِجَارَةُ. كُلُّ ذَلِكَ بِدُونِ حُقُوقِ الدِّفَاعِ، وَبِدُونِ سَمَاعِ صَوْتِهَا، وَبِدُونِ سُؤَالٍ: كَيْفَ؟ وَلِمَاذَا؟ إِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ المَوْتِ الوَحْشِيِّ، وَالإِذْلَالِ، مِنْ أَشْنَعِ المَيْتَاتِ المَعْرُوفَةِ. فِي هذَا المَشْهَدِ، فَقَدَ الكَتَبَةُ وَالفِرِّيسِيُّونَ جَوْهَرَ رِسَالَتِهِمْ، وَهُوَ: الدُّخُولُ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ، لِكَيْ تَعْرِفَ مَشِيئَةَ اللهِ، وَتَتَمَتَّعَ بِـ الحُبِّ الإِلَهِيِّ. لَكِنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِالحَرْفِ القَاتِلِ، وَنَسُوا الرُّوحَ الْمُحْيِيَةَ. "فَأَنْتَ، مَاذَا تَقُول؟" تُشِيرُ هذِهِ العِبَارَةُ إِلَى طَلَبِ حُكْمِ المَسِيحِ فِي الوَصِيَّةِ السَّابِعَةِ، فَهُم يُرِيدُونَ تَأْكِيدَ دَيْنُونَةِ المَرْأَةِ مِنْ فَمِهِ. وَلَكِنَّهُ سُؤَالٌ كَسَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ:
- إِنْ أَجَابَ بـ"لا تُرْجَم"، اتُّهِمَ بِمُخَالَفَةِ النَّامُوسِ.
- وَإِنْ قَالَ "تُرْجَم"، سَيَفْقِدُ رَسَالَتَهُ الرَّحِيمَةَ.
6 وإِنَّما قالوا ذلكَ لِيُحرِجوهُ فيَجِدوا ما يَشْكونَه بِه. فانحنَى يسوعُ يَخُطُّ بِإِصبَعِه في الأَرض.
تُشِيرُ عِبَارَةُ "لِيُحرِجوهُ" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ: πειράζοντες، وَهِي نَفْسُ الكَلِمَةِ المُسْتَخْدَمَةِ لِوَصْفِ إِبْلِيسَ المُجَرِّبِ (متى 4: 1–3) إلى رغبة الكتَبةِ والفِريسيِّين بإِيقَاعِ يَسُوعَ فِي وَرْطَةٍ: إِنْ أَفْتَى بِرَجْمِ الزَّانِيَةِ، ثَارَ عَلَيْهِ الرُّومَانُ، إِذْ كَانَ لَهُم وَحْدَهم الحَق فِي إِنْزَالِ عُقُوبَةِ المَوْتِ (يوحنّا 18: 31). وَإِنْ عَفَا عَنْهَا، فَأَيْنَ الرَّحْمَةُ الَّتِي يُنَادِي بِهَا؟ أَلَا يُنَاقِضُ رِسَالَتَهُ فِي الْمَحَبَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ؟ وَإِنْ أَفْتَى بِبَرَاءَتِهَا، ثَارَ عَلَيْهِ مُعَلِّمُو الشَّعْبِ، لِمُخَالَفَتِهِ شَرِيعَةَ مُوسَى، وَيُقَالَ إِنَّهُ يُفْتَحُ بَابَ الزِّنَى. وَقَدْ عَلَّقَ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس عَلَى هذَا، قَائِلًا: "بِهذِهِ الكَلِمَاتِ وَالآرَاءِ، رُبَّمَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى إِشْعَالِ الحَسَدِ ضِدَّ يَسُوعَ، وَإِثَارَةِ الاِتِّهَامَاتِ ضِدَّهُ، وَتَكُونُ سَبَبًا لِطَلَبِ إِدَانَتِهِ. وَلَكِن، ضِدَّ مَنْ؟ الحَمَاقَةُ ضِدَّ الاِسْتِقَامَةِ، البُطْلَانُ ضِدَّ الحَقِّ، القَلْبُ الفَاسِدُ ضِدَّ القَلْبِ المُسْتَقِيمِ، وَالجَهَالَةُ ضِدَّ الحِكْمَةِ." أمَّا عِبَارَةُ " فيَجِدوا ما يَشكونَه بِه" فتُشِيرُ إِلَى نَفْسِ المَكِيدَةِ الَّتِي دَبَّرَهَا الكَتَبَةُ وَالفِرِّيسِيُّونَ ليسوع فِي مَسْأَلَةِ الجِزْيَةِ لِقَيصَر (متى 22: 17–18). فَهُم يُرِيدُونَ إِيقَاعَهُ بَيْنَ: مُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ الرُّومَانِيَّةِ إِنْ حَكَمَ بِالمَوْتِ، وَمُخَالَفَةِ شَرِيعَةِ مُوسَى إِنْ عَفَا عَنْهَا. أمَّا عِبَارَةُ " فانحنَى يَسُوعُ" فتُشِيرُ إِلَى حُزْنِهِ العَمِيقِ عَلَى مَا آلَ إِلَيْهِ حَالُ الإِنْسَانِ الَّذِي خَلَقَهُ حُرًّا. فَالمَرْأَةُ الزَّانِيَةُ: مُسْتَعْبَدَةٌ لِشَهَوَاتِهَا، وَالكَتَبَةُ وَالفِرِّيسِيُّونَ: مُسْتَعْبَدُونَ لِلْخُبْثِ وَالمَكْرِ. أَمَّا عِبَارَةُ: "يَخُطُّ بِإِصْبَعِهِ فِي ٱلْأَرْضِ"، فَتُشِيرُ إِلَى ٱلْمَرَّةِ ٱلْوَحِيدَةِ فِي ٱلْأَنَاجِيلِ ٱلَّتِي يُسَجِّلُ فِيهَا ٱلْوَحْيُ ٱلإِلَهِيُّ أَنَّ يَسُوعَ كَتَبَ شَيْئًا، وَكَانَ ذٰلِكَ بِإِصْبَعِهِ عَلَى تُرَابِ ٱلْأَرْضِ. وَهُنَا تَلُوحُ فِي ٱلْأُفُقِ صُورَةٌ قَدِيمَةٌ: ذَاكَ ٱلَّذِي سَبَقَ وَكَتَبَ ٱلْوَصَايَا ٱلْعَشْرَ بِإِصْبَعِهِ عَلَى ٱللَّوْحَيْنِ، وَسَلَّمَهُمَا لِمُوسَى (خُرُوج 31: 18). فَٱلْكَاتِبُ هُوَ نَفْسُهُ، وَٱلرَّسَالَةُ هِيَ نَفْسُهَا: شَرِيعَةُ ٱللَّهِ، لَكِنْها هٰذِهِ ٱلْمَرَّةَ، مَكْتُوبَةٌ عَلَى تُرَابِ قُلُوبِنَا، وَمُرَافَقَةٌ بِرَحْمَتِهِ. مَا كَتَبَهُ اللهُ فِي العَهْدِ الأَوَّلِ عَلَى الحِجَارَةِ، يَكْتُبُهُ يَسُوعُ فِي العَهْدِ الجَدِيدِ عَلَى القُلُوبِ: "ها إِنَّهَا تَأْتِي أَيَّامٌ، يَقُولُ الرَّبُّ، أَقْطَعُ فِيهَا مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ... عَهْدًا جَدِيدًا... أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي بَوَاطِنِهِم، وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِم" (إرميَا 31: 31–34). وهناك تَفاسيرٌ مُمكنة أُخْرى لهذا التَّصرف منها تَجَاهُلُ السُّؤَالِ عَمْدًا لإِفْشَالِ خُبْثِهِم، أو تَصَرُّفُهُ كَمَنْ لَمْ يَسْمَعْهُمْ (يوحنا 3: 17، لوقا 9: 5، 12: 14)، أو مُرَاعَاةً لِمَشَاعِرِ المَرْأَةِ الزَّانِيَةِ: فَـ ثَبَتَ نَظَرُهُ فِي التُّرَابِ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا. يَقُولُ القِدِّيسُ يوحنا ذهبي الفم "إِنْ سَأَلْتَ: مَاذَا كَتَبَ السَّيِّدُ المَسِيحُ عَلَى الأَرْضِ؟ أُجِيبُكَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَدْ رَسَمَ شَيْئًا يُسَبِّبُ الحَيَاءَ وَالخَجَلَ لِلْكَتَبَةِ وَالفِرِّيسِيِّينَ، وَيُبَكِّتُهُمْ عَلَى خَطَايَاهُمْ". "رُبَّمَا كَتَبَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ لِيَرَى كُلُّ وَاحِدٍ صُورَةَ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ دُونَ أَنْ يَفْضَحَهُمْ أَمَامَ الآخَرِينَ. وَكَتَبَهَا فِي التُّرَابِ، لا عَلَى الرُّخَامِ وَلا عَلَى النُّحَاسِ، لِتَكُونَ كَـ ذُنُوبٍ تَزُولُ فِي اللَّحَظَةِ. كَتَبَ فِي التُّرَابِ لِكَيْ يَحْكُمَ التُّرَابُ عَلَى التُّرَابِ." أَمَّا عِبَارَةُ: "يَخُطُّ"، فَفِي ٱلأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ هِيَ κατέγραφεν، وَهِيَ تُشِيرُ إِلَى فِعْلِ ٱلْكِتَابَةِ عَلَى نَحْوٍ رَسْمِيٍّ أَوْ قَانُونِيٍّ. وَهٰذَا يُعِيدُنَا إِلَى ٱلنَّصِّ ٱلْعِبْرِيِّ، حَيْثُ ٱسْتُخْدِمَ ٱلْفِعْلُ כָּתַב (كَتَبَ) لِوَصْفِ كِتَابَةِ ٱللَّوْحَيْنِ، حِينَ قَالَ ٱلرَّبُّ لِمُوسَى: "ٱكْتُبْ هٰذَا تِذْكَارًا فِي ٱلْكِتَابِ" (خُرُوج 17: 14). وَيَرْوِي ٱلنَّصُّ أَنَّ "ٱلْأَلْوَاحَ هِيَ عَمَلُ ٱللَّهِ، وَٱلْكِتَابَةُ هِيَ كِتَابَةُ ٱللَّهِ، مَنْقُوشَةً عَلَى ٱللَّوْحَيْنِ" (خُرُوج 32: 15-16، وَٱلتَّثْنِيَةُ 9: 10). فِي هٰذَا ٱلْمَوْقِفِ ٱلْفَرِيدِ، نَرَى يَسُوعَ، ٱلَّذِي كَتَبَ ٱلشَّرِيعَةَ فِي سِينَاء، يَكْتُبُ مَرَّةً أُخْرَى، لَكِنْ لَيْسَ عَلَى ٱلْحِجَارَةِ، بَلْ عَلَى تُرَابِ ٱلْأَرْضِ، لِيُذَكِّرَنَا أَنَّنَا تُرَابٌ، وَأَنَّ نِعْمَتَهُ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْقُشَ نَامُوسَ ٱلرَّحْمَةِ فِي قُلُوبِنَا. أَمَّا عِبَارَةُ "ٱلْأَرْضِ"، في الأصل اليوناني γῆν فَتُشِيرُ إِلَى أَصْلِنَا، فَنَحْنُ لَا نَزَالُ تُرَابًا، كَمَا قِيلَ: "لِأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى ٱلتُّرَابِ تَعُودُ". وَلَكِنَّ ٱلنَّسَمَةَ ٱلْإِلَهِيَّةَ ٱلَّتِي نَفَخَهَا ٱللَّهُ فِينَا، هِيَ جُزْءٌ مِنهُ، تَسْكُنُ فِي أَعْمَاقِنَا، رَغْمَ هَشَاشَتِنَا ٱلْأَرْضِيَّةِ. فَتُرَابُ ٱلْأَرْضِ لَا يُشِيرُ فَقَطْ إِلَى خَلْقِنَا، بَلْ أَيْضًا إِلَى حَقِيقَتِنَا ٱلْخَاطِئَةِ، ٱلَّتِي نَنْتَمِي إِلَيْهَا جَمِيعًا. فَلَيْسَتِ ٱلْمَرْأَةُ فَقَطْ مَنْ سَقَطَتْ، بَلْ نَحْنُ أَيْضًا، كُلُّنَا نَشْتَرِكُ فِي هٰذِهِ ٱلطَّبِيعَةِ ٱلْبَشَرِيَّةِ ٱلضَّعِيفَةِ. وَيَأْتِي يَسُوعُ، بِٱنْحِنَائِهِ، لِيَمْحُوَ خَطِيئَةَ ٱلْمَرْأَةِ، ٱلَّتِي تُجَسِّدُنَا جَمِيعًا، فَيَرْفَعَنَا، وَيُصَالِحُنَا مَعَ ٱلْآبِ، وَيُعِيدُ إِلَيْنَا كَرَامَتَنَا ٱلَّتِي سَلَبَتْهَا ٱلْخَطِيئَةُ.
7 فلَمَّا أَلحُّوا علَيه في السُّؤال اِنتَصَبَ وقالَ لَهم: مَن كانَ مِنكُم بلا خَطيئة، فلْيَكُنْ أَوَّلَ مَن يَرميها بِحَجَر!
تُشِيرُ عِبَارَةُ إ فَلَمَّا أَلَحُّوا عَلَيْهِ فِي السُّؤَالِ" إلَى إِصْرَارِهِمْ المُتَكَرِّرِ، وَتَوَاصُلِهِمْ فِي التَّشْكِيكِ، عِنْدَمَا لَمْ يُبْدِ يَسُوعُ اكْتِرَاثًا لِسُؤَالِهِم، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِم فِي البَدَايَةِ. فَلَمْ يُرِدِ الكَتَبَةُ وَالفِرِّيسِيُّونَ أَنْ يُفْهَمَ صَمْتُ يَسُوعَ عَلَى أَنَّهُ رَفْضٌ لِلدُّخُولِ فِي دَوْرِ القَاضِي، فَـ أَلَحُّوا عَلَيْهِ لِيُجْبِرُوهُ عَلَى الجَوَابِ. أمَّا عِبَارَةُ "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلَا خَطِيئَةٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَنْ يَرْمِيهَا بِحَجَرٍ" "فَتَشِيرُ إِلَى دَعْوَةٌ أيضًا لِلتَّفْكِيرِ وَالتَّأَمُّلِ قَبْلَ الحُكْمِ وَالإِدَانَةِ، ودَعْوَةٌ لِفَحْصِ الذَّاتِ، وَلِلتَّنَازُلِ عَنْ الكِبْرِيَاءِ الرُّوحِيَّةِ، ونَقْلٌ لِمَجْرَى القَضِيَّةِ مِنَ الزَّاوِيَةِ الشَّرْعيِّة إِلَى المَعْنَى الأَدَبِيِّ وَالأَخْلَاقِيِّ. وَضَعَ يَسُوعُ كُلًّا مِنْهُمْ أَمَامَ ضَعْفِهِ وَخَطِيئَتِهِ، وألغى الفُرُوقَاتِ بَيْنَ المَرْأَةِ وَمُتَّهِمِيهَا. وَأَمَامَ السُّؤَالِ المَحْوَرِيِّ: "مَنْ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُنَفِّذَ الحُكْم؟" هذا الموقف ليس هروبًا من العدالة، فَيَسُوعُ لَمْ يُعَارِضِ الشَّرِيعَةَ، بَل قَالَ: "لَمْ آتِ لأُنقِضَ النَّامُوسَ بَل لأُكَمِّلَ" (متى 5: 17). وَلَكِنَّهُ سَأَلَهُمْ: "مَنْ يَتَأَهَّلُ لِلبِدَايَةِ بِالرَّجْمِ؟" فَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُنَفِّذَ القَانُونَ، يَجِبْ أَنْ يَكُونَ مَعَ القَانُونِ، لا مُخَالِفًا لَهُ. وفي هذا السياق يقول القديس أوغسطينوس: "هذَا هُوَ صَوْتُ العَدَالَةِ لِمُعَاقَبَةِ الخُطَاةِ، وَلَكِن لَيْسَ بِوَاسِطَةِ الخُطَاةِ لِيُنَفَّذِ النَّامُوسُ، أو بِمُخَالِفِيهِ." يُطالب يسوع تَطبيقَ الشَّريعة بِعُمْقِها لا بِحرفِها. ويُذَكِّرُ يَسُوعُ الكَتَبَةَ وَالفِرِّيسِيِّينَ بِـمَا تَقْضِي بِهِ الشَّرِيعَةُ (تثنية 17: 5–7). "يَبْدَأُ الشُّهُودُ بِرَجْمِ المُذْنِبِ" لَكِنْ، مَنْ يَجْرُؤُ عَلَى البَدْءِ، وَهُوَ مُثْقَلٌ بِالخَطَايَا؟ نَقَلَ يَسُوعُ القَضِيَّةَ مِنْ مَرْأَةٍ وَاحِدَةٍ خَاطِئَةٍ، إِلَى الجَمْعِ كُلِّهِ، بَدْءًا بِالكَتَبَةِ وَالفِرِّيسِيِّينَ الَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يُحْرِجُوهُ، فَأَحْرَجَهُمْ هُوَ. وَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: "لِمَاذَا تَنْظُرُ إِلَى القَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَالخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ أَفَلَا تَأْبَهُ لَهَا؟" (متى 7: 3). ويُعلِّق القديس أوغسطينوس قائلاً: "لَمْ يَسْقُطِ السَّيِّدُ فِي الشِّبَاكِ الَّتِي نَصَبُوهَا لَهُ، بَلِ انْقَلَبَتْ عَلَيْهِم، وَسَقَطُوا فِيهَا هُم!" " أمَّا عِبَارَةُ "بِلَا خَطِيئَةٍ" فتُشِيرُ إِلَى خَطَايَا مِثْلِ الزِّنَى وَمَا يُشَابِهُهَا، كَمَا بَيَّنَ إِنْجِيلُ لوقا 7: 27، فَقَدْ يَكُونُ هَؤُلَاءِ أَيْضًا مُتَوَرِّطِينَ فِي مِثْلِ تِلْكَ الخَطَايَا". أمَّا عِبَارَةُ "يَرْمِيهَا بِحَجَرٍ" فتشير إلى تَطْبِيقٌ لِـ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ، حَيْثُ يُبَاشِرُ الشُّهُودُ بِالرَّجْمِ (تثنية 17: 7). لكِنَّ يَسُوعَ: حَوَّلَ الحُكْمَ مِنْ خَطِيئَةِ الزَّانِيَةِ إِلَى خَطَايَاهُمْ هُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يُدِينُوا أَنْفُسَهُمْ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يُدِينُوهَا، وَبِذَلِكَ أَبْكَمَهُمْ دُونَ أَنْ يُبَرِّرَهَا، وَدُونَ أَنْ يُنْكِرَ شَرِيعَةَ مُوسَى. أمَّا عِبَارَةُ "حَجَر" فيشير إلى الحَجَرُ الَّذِي يُرْمَى بِهِ الزَّانِي رَمْزٌ لِرَجْمِ الشَّرِّ، وَلَكِن مَنْ فِيهِ شَرٌّ، لا يَجِبْ أَنْ يَرْجِمَ شَرًّا.
8 ثُمَّ انحَنى ثانِيةً يَخُطُّ في الأَرض
تُشِيرُ عِبَارَةُ "انْحَنَى ثَانِيَةً يَخُطُّ فِي الأَرْضِ" إلى تَكرارِ الفِعلِ مَرَّتَيْن، وهو ما يُعيدُ إلى الأذهانِ تَسلِيمَ مُوسَى لَوْحَيِ العَهْدِ الآخَرَيْنِ، الّلذَينِ كَتَبَهُمَا اللهُ مَرَّةً أُخْرَى (الخروج 34: 1–28). فالأُولَيَانِ، في الواقِع، قَد كَسَرَهُمَا مُوسَى كَرَمْزٍ لِخَطِيئَةِ الشَّعْبِ فِي عَدَمِ الوَفَاءِ، وعِبَادَةِ الأَوْثَانِ (الخروج 32)، فالعَهْدُ الَّذِي تَمَّ تَوْقِيعُهُ حَدِيثًا كُسِرَ فَوْرًا. وهنا، في مَشهَدِ يَسُوع، نَرَى إِعَادَةَ الكِتَابَةِ الإِلَهِيَّةِ، لا على الحِجَارَةِ، بل فِي التُّرَابِ، كَأنَّهُ يُوَجِّهُ العُيُونَ لا إلى النَّصِّ القَانُونِيِّ، بَلْ إِلَى الرَّحْمَةِ المَغْرُوسَةِ فِي القَلْبِ، وَالعَهْدِ الجَدِيدِ الَّذِي يُكْتَبُ فِي الضَّمَائِرِ، لا على الألواح. بِكُلِّ تَأْكِيدٍ، أُولٰئِكَ الَّذِينَ جَرُّوا الْمَرْأَةَ إِلَى يَسُوعَ، وَفِي أَفْوَاهِهِمْ حُكْمُ الْمَوْتِ، لَمْ يَكُنْ خَفِيًّا عَلَيْهِمْ تِلْكَ اللَّفْتَةُ الصَّامِتَةُ: يَسُوعُ يَكْتُبُ فِي التُّرَابِ، ثُمَّ يَكْتُبُ مَرَّةً أُخْرَى. فَهٰذَا مَا يَصْنَعُهُ ٱللَّهُ مَعَ شَعْبِهِ، وَمَعَ كُلِّ نَفْسٍ: يُعِيدُ الْكِتَابَةَ، يُعِيدُ الْفُرْصَةَ. إِنَّهُ إِلٰهُ الرَّحْمَةِ الَّذِي لَا يَمَلُّ مِنْ إِعْطَاءِ الْفُرَصِ، لِأَنَّنَا جَمِيعًا، بِلَا ٱسْتِثْنَاءٍ، نَحْتَاجُ إِلَى تِلْكَ الْفُرْصَةِ الثَّانِيَةِ. أمّا عبارة "فَانْحَنَى ثَانِيَةً"، فَتُفِيد تَكرار الفِعل، مِمّا يَدُلُّ على تَصميمِ يسوعَ على عَدَمِ الدُّخولِ في دَورِ القاضي، وَأَنَّهُ لَيسَ لديهِ جَوابٌ أَكثَرُ ممّا قالَ. فَهُم قَد أشاروا إلى شريعةِ موسى المَكتوبةِ على الحِجارةِ، وأمّا هو، فَقَد أشارَ إلى الشريعةِ المَكتوبةِ في ضمائرِهِم بإِصبعِ اللهِ. وأمّا عبارةُ "يَخُطُّ في الأرضِ"، ففي بَعضِ المخطوطاتِ القديمةِ، تُشيرُ العبارةُ إلى أنَّهُ: "كانَ يَكتُبُ خَطاياهم على الأرضِ". وفي إحدى الترجماتِ القديمةِ، يُوجَدُ نَصٌّ يقولُ: "كَتَبَ خَطيئَةَ كُلِّ واحدٍ منهم." يُعَلِّقُ القِدِّيسُ إيرونيموس قَائِلًا: "إِنَّ يَسُوعَ دَوَّنَ خَطَايَا مُتَّهِمِيهَا عَلَى التُّرَابِ." كَتَبَ فِي التُّرَابِ، لِيَكُونَ الحُكْمُ مِنَ التُّرَابِ عَلَى التُّرَابِ، فَقَرَأَ كُلُّ وَاحِدٍ فِيهِ خَطِيَّتَهُ الخَفِيَّةَ. وَذَلِكَ تَمَامًا لِمَا قَالَهُ يَسُوعُ: "لَمْ آتِ لأَدِينَ العَالَمَ، بَلْ لِأُخَلِّصَ العَالَمَ" (يوحنّا 12: 47). ويُعلِّقُ القدِّيسُ يُوحنَّا الذَّهبيُّ الفَمِّ: " يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَدْ رَسَمَ شَيْئًا يُسَبِّبُ الحَيَاءَ وَالخَجَلَ لِلكَتَبَةِ وَالفِرِّيسِيِّينَ، وَيُبَكِّتُهُمْ عَلَى خَطَايَاهُمْ." وكأنَّهُ يقولُ لِلفِرِّيسِيِّينَ: "إنْ كُنتُم تُدِينونَها، فالأَوْلَى أنْ تُدِينوا أَنفُسَكُم أيضًا، وإنْ آثَرتُم رَجمَها، فبِالأَوْلَى وَجَبَ رَجمُكُم".
9 فلَمَّا سَمِعوا هذا الكَلام، انصَرَفوا واحِداً بَعدَ واحِد يَتَقدَّمُهم كِبارُهم سِناًّ. وبَقِيَ يسوعُ وَحده والمَرأَةُ في وَسَطِ الحَلْقَة.
تُشيرُ عبارةُ "انصَرَفوا واحِدًا بَعدَ واحِدٍ" إلى إدراكِ الكَتَبَةِ والفِرِّيسِيِّينَ أنَّهُم كُلَّهُم خُطاةٌ، "وَمُشَارِكُونَ فِي الشَّرِّ الَّذِي يَرَوْنَهُ فِي الآخَرِ، حِينَ حَاسَبُوا ضَمَائِرَهُمْ، وقد أُدينوا في بَواعِثِ قُلوبِهِم، فانْسَحَبَ قُضاةُ هذه المرأة كما انسَحَبَ قُضاةُ سوسنَّة (دانيال 13: 1–64)، إذ عَلِموا أنَّ مُؤامراتِهِم كانت عبثًا، ولم يَعُد لِبَقائِهِم غَرَض. انسَحَبَ الجميعُ، إذِ انكَشَفُوا أمامَ الرَّبِّ وضَمائِرِهِم، وتَبَيَّنَ لهُم أنَّهُم ليسوا أهلاً لأن يَكونوا قُضاةً على تلك المرأة. وقد جرى عليهم كما جرى على الجُنودِ الذينَ ذَهَبوا لِيُمسِكوا يسوع، حيثُ كُتِبَ:"فلمَّا قالَ لهم: أَنا هو، رَجَعوا إلى الوَراءِ ووَقَعوا إلى الأَرض" (يوحنَّا 18: 6). أمَّا عبارةُ "يَتَقَدَّمُهُم كِبارُهُم سِنًّا" فتُشيرُ إلى انسحابِ الشُّيوخِ قبل الشَّباب، جَرْيًا على عادةِ سَبْقِ الكبيرِ للصغير. وغالبًا ما يكون الشُّيوخُ أكثر إدراكًا لِخَطاياهُم بِسببِ سنواتِ عُمرِهِم الأطول، وخطاياهم أعظم، وتوبيخًا لضمائِرِهِم أشدّ. أو ربَّما فَهِموا قُوَّةَ كلامِ السَّيِّدِ المسيح قَبلَ غَيرِهم؛ فتعلَّموا أنَّهُم لن يستطيعوا بعدَ الآن اتّهامَ أحدٍ دون أن يتذكَّروا أنَّهُم شُركاءُ في الشرِّ الذي يَرَونَهُ في الآخَرين. إنَّ ما حدثَ لهذه المرأة من اتّهامٍ، سيحدثُ أيضًا ليسوعَ على الصَّليب؛ حيثُ سيَجِدُ نفسَه مُتَّهَمًا بريئًا، مُدانًا أمامَ قاضٍ سيكون عبدًا لدَورِه. أولئك الذين يَتَّهِمونه، بحسبِ فِكرِ يوحنَّا، هُم فئةُ الكَتَبَةِ والفِرِّيسِيِّينَ، الذينَ يَجِدونَ أنفسَهُم مُتَّهَمين، فيَتركونَ السَّاحة، ويقرِّرونَ الانسِحابَ من دائِرةِ الاتّهامِ التي بدأوها. أمَّا عبارةُ "بَقِيَ يسوعُ وَحدَه" فتُشيرُ إلى يسوعَ وحدَه بلا خَطيئة، لأنَّ جميعَ المُشتَكينَ من الكَتَبَةِ والفِرِّيسِيِّينَ قدِ انصرَفوا؛ يَسُوعُ هُوَ ٱلْبَاقِي، ٱلثَّابِتُ، فِي زَمَنِ ٱلْخَطِيئَةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ. نَحْنُ نَتَغَيَّرُ، نَسْقُطُ وَنَقُومُ، نَخُونُ وَنَتُوبُ، أَمَّا هُوَ، فَيَبْقَى أَمِينًا، لَا يُنْكِرُ نَفْسَهُ. حُضُورُهُ لَا يَفْتُرُ، وَرَحْمَتُهُ لَا تَنْقَطِعُ، وَيَدُهُ ٱلْمَمْدُودَةُ تَنْتَظِرُنَا عَلَى تُرَابِ خَطَايَانَا لِتُقِيمَنَا مِنْ جَدِيدٍ. ويُعلِّقُ القدِّيسُ أُوغُسطينوس قائلًا:"بَقِيَ اثنانِ في السَّاحة: المرأةُ البائِسَةُ، والرَّحمةُ اللَّامُتناهية". فلم يَبقَ سِوى المسيحِ الدَّيّانِ وحدَه. لكنَّهُ، في مَجيئِهِ الأوَّل، لم يأتِ ليَدين، بل ليُكفِّرَ عن خَطايا البَشَرِ بِدَمِهِ. وأمَّا عبارةُ "المَرأَةُ في وَسَطِ الحَلْقَة" فتُشيرُ إلى أنَّها كانت في وَسَطِ التَّلاميذِ والجمعِ. ولو أنَّ الكَتَبَةَ والفِرِّيسِيِّينَ كانوا يُريدونَ محاكَمةَ المرأةِ بالعَدل، لكانوا قَد أخَذوها حينَها إلى المَعنيِّينَ بالحُكم، لا أن يَجلِبُوها للسَّيِّدِ المسيحِ ليُحرِجوه ويُجَرِّبوه. هذا النَّصُّ يُظهِرُ لنا حكمةَ السَّيِّدِ المسيحِ وعَدالتَهُ الممزوجةَ بالرَّحمة. فهو لم يُلغِ النَّاموسَ، بل أَكمَلَهُ، وأعطاهُ بُعدًا أعمق، يَتَجاوَزُ الحَرفَ إلى الرُّوح.
10 فانتَصَبَ يسوعُ وقالَ لَها: "أَينَ هُم، أَيَّتُها المَرأَة؟ أَلَم يَحكُمْ عَليكِ أحَد؟
تُشيرُ عبارةُ "أَيْنَ هُم" إلى سؤالِ يسوعَ عن الكَتَبَةِ والفِرِّيسِيِّينَ الذين كانوا يَشكونَ المرأةَ الزانية، وهو سؤالٌ يحملُ في طيّاته إشارةً إلى تبرئتها. فبانسحابِ المُدَّعينَ والشُّهود، سقطَت القضيَّة، وبقيَتِ المرأةُ وحدَها ولم تَنسَحب، وهذا دليلٌ على بدايةِ مشاعرِ التوبةِ والانسحاق في قلبِها. أمَّا عبارةُ "أَيَّتُهَا المَرأَةُ"، فتُشيرُ إلى كيفيَّةِ مخاطبةِ يسوعَ لها بكلِّ احترامٍ لإنسانيَّتِها ومشاعرِها وكرامتِها. لم يَقُل لها: "يا زانية"، أو "يا ساقطة"، أو "يا نجسة"، بل خاطبَها بلُغةِ المحبّةِ السماويّة الحريصةِ على خلاصِ النفسِ البشريّة. لقد أعادَ يسوعُ خَلقَ هذه المرأة، كأنَّهُ يُقيمُها عَروسًا له، فهو العريسُ الذي تنتظِرُهُ البشريّةُ الخاطئة! وهي، اليوم، صورةٌ لدعوتِه الإلهيّةِ لِبشريّتِنا الساقطة، ليُعيدَ إليها كرامتَها المفقودة. أمَّا عبارةُ "أَلَم يَحكُمْ عَلَيْكِ أَحَد؟"، فتُشيرُ إلى أنَّهُ لا جُرأةَ لِلخُطاة أن يحكُموا على المرأةِ الزانية. لم يبقَ أحدٌ في السّاحة، إلّا يسوع، القدّوسُ البارُّ، صاحبُ الرحمة، الذي وقَفَ أمامَ المرأةِ التي بقيَت وحدَها تُواجهُ ديّانَ العالَمِ كُلّه. لكنَّه، لم يأتِ لِيُدين، بل لِيُخَلِّص.
11 فقالت: ((لا، يا ربّ)). فقالَ لها يسوع: "وأَنا لا أَحكُمُ علَيكِ. إِذهَبي ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إلى الخَطيئة.
تُشِيرُ عِبَارَةُ "لَا، يَا رَبُّ" إِلَى جَوَابٍ صَافٍ، خَالٍ مِنَ ٱلتَّلَعْثُمِ أَوِ ٱلْبُكَاءِ، وَلَكِنْ مَمْلُوءٍ بِثِقَةٍ عَظِيمَةٍ فِي رَحْمَةِ ٱللَّهِ. هُوَ إِعْلَانٌ دَاخِلِيٌّ عَنْ تَغْيِيرٍ جَذْرِيٍّ فِي حَيَاتِهَا. لَقَدْ بَدَأَتِ ٱلْمَرْأَةُ تَتَكَلَّمُ، وَرَفَعَتْ وَجْهَهَا عَنِ ٱلتُّرَابِ وَٱلْخَجَلِ، وَفِي لَحْنِ صَوْتِهَا ٱعْتِرَافٌ صَامِتٌ بِأَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلرَّبُّ. عَرَفَتْ أَنَّهَا تَحَرَّرَتْ، وَتَخَلَّصَتْ مِنْ مُتَّهِمِيهَا، وَسَقَطَ عَنْهَا حُكْمُ ٱلْمَوْتِ. فَلَمْ يَبْقَ شَاكٍ، وَلَا شَاهِدٌ، وَلَا إِثْبَاتٌ، فَسَقَطَتِ ٱلْقَضِيَّةُ بِنَفْسِهَا. وَفِي هٰذِهِ ٱلْحَظَةِ، نَكْتَشِفُ نَحْنُ أَيْضًا وَجْهَ ٱلْآبِ ٱلْغَافِرِ، ٱلَّذِي لَا يَحْكُمُ عَلَيْنَا، بَلْ يُحَرِّرُنَا وَيَمْنَحُنَا قِيمَةً وَكَرَامَةً لَا مَثِيلَ لَهُمَا. إِذْ يَقُولُ لَنَا: "ٱذْهَبْ، وَلَا تُخْطِئْ أَيْضًا"، فَنَصِيرُ مَدْعُوِّينَ لِطَاعَةِ ٱلرَّبِّ، لِنَحْيَا فِي حُرِّيَّةِ ٱلْمَغْفِرَةِ. وَأَمَّا عِبَارَةُ: "أَنَا لَا أَحْكُمُ عَلَيْكِ"، فَلَا تَعْنِي إِنْكَارَ خَطِيئَةِ الْمَرْأَةِ، وَلَا التَّقْلِيلَ مِنْ جِسَامَتِهَا، وَلَا التَّخْفِيفَ مِنْ مَسْؤُولِيَّتِهَا، كَمَا لَمْ يُنْكِرْ مُوسَى أَمَامَ ٱللَّهِ خَطَايَا شَعْبِهِ. بَلْ هِيَ كَلِمَةٌ تُفَجِّرُ نَبْعَ الرَّحْمَةِ، وَتَفْتَحُ بَابَ التَّوْبَةِ، وَتُعِيدُ لِلْإِنْسَانِ كَرَامَتَهُ الْمَفْقُودَةَ فِي خَطِيئَتِهِ. لَا يُبَرِّرُهَا، وَلَكِنَّهُ يَغْفِرُ لَهَا. لَا يُدِينُهَا، وَلَكِنَّهُ يَدْعُوهَا لِحَيَاةٍ جَدِيدَةٍ: "ٱذْهَبِي، وَلَا تُخْطِئِي أَيْضًا". يسوعَ الذي كان قد عرَضَ على المُشتَكِين أن يرجُموها إنْ كانوا أبرياء، فلم يُرِيدوا، وهو أيضًا لم يُرِد أن يُدينها بالموت، أي أنَّهُ لم يُرِد أن يُمارسَ وظيفةَ القاضي في الأمورِ الأرضيّة، كما صرَّح أمامَ بيلاطس:"لَيسَتْ مَملَكَتي مِن هذا العالَم" (يوحنّا 18: 36). فلم يحكم يسوع، إلهُ الرّحمة، على المرأةِ الزانية، لأنَّ الرَّبَّ لا يُريدُ موتَ الخاطئ، بل "أنْ يَرجِعَ عن طريقِهِ فيَحيا" (حزقيال 33: 33). لذلك لم يسألْها شيئًا عن خطيئتِها، ولا عن تفاصيلِ ما اقترَفَت، ولم يُوبِّخها، ولم ينظر إلى ماضيها، بل حرَّرها من قيودِ حُكّامِها المُنافِقين الخاطئين؛ وقد غفر لها، إظهارًا لرحمةِ الله الواسعةِ بالخُطاة. ثم دعاها يسوعُ أن تَقبَلَ الغفرانَ لنفسِها، ففتح أمامَها أبوابَ الرّجاء، فنالت الخلاصَ والغفران، ودعاها ألاّ تُخطِئَ بعد. لم يأتِ يسوع لِيُدينَ العالَم، بل ليُخَلِّصَه، كما حدث مع المرأة الخاطئة (لوقا 7: 36–50). ولم يُنهِ يسوعُ عن التقييمِ الموضوعي، بل نهى عن الحكمِ القاسي على الآخرين؛ إذ نسبَ إلى نفسِهِ السُّلطانَ الخاصَّ بالله، الديّانِ وحدَه، كما ورد في المزمور: "السَّمَواتُ تُخبِرُ بِعَدلِهِ، لأنَّ اللهَ هو الدَّيّان" (مزمور 50: 6). لقد ظهر يسوعُ لِيُدينَ الخطيئة، لا ليُدينَ الخاطئ، بل لِيُخَلِّصَه. إنَّهُ لا يَتَساهلُ مع الخطيئة، ولا يتجاوزُ عنها، لأنَّ بِرَّ اللهِ يُدينُ الخطيئة، لكنَّهُ في ذاتِ الوقت، يغفرُها لمن يتوب. يسوعُ ليسَ القاضيَ فحسب، بل هو المُخلِّص أيضًا. والدَّرسُ الذي علَّمهُ لليهود هو أنَّ البشرَ ليسوا المُنفِّذين لعقابِ الله. الحقُّ الكائنُ في المسيح، وبَّخ الكذبَ الكائنَ في الكتبةِ والفِرِّيسِيِّين، والطَّهارةُ الكائنةُ فيه، أدانَتِ الشَّهوةَ الكائنةَ في المرأةِ الزانية. وأمَّا عبارةُ "اِذْهَبِي"، فتُشيرُ إلى أنَّ يسوعَ منحَ المرأةَ بركةً وسلامًا، مع غفرانٍ وقوّةٍ ترفضُ بها الخطيئة، وتختبرُ معنى جديدًا للفَرح ونور الحياة. لقد جاء يسوعُ ليُعطيَ الناسَ فُرصةً جديدةً في الحياة، وهنا تتحقَّق نبوءةُ إشعياءَ النبيّ: "هاءَنَذا آتِي بالجَديد، ولَقَد نَبَتَ الآن، أَفلا تَعرِفونَه؟" (إشعياء 43: 19). وَأَمَّا عِبَارَةُ: "وَلَا تَعُودِي بَعْدَ ٱلآنَ إِلَى ٱلْخَطِيئَةِ"، فَفِيهَا يَقْدِمُ يَسُوعُ لِلْمَرْأَةِ فُرْصَةً ثَانِيَةً. لَمْ يُبَرِّرْ خَطِيئَتَهَا، وَلَمْ يُخَفِّفْ مِنْ وَقْعِهَا، بَلْ دَعَاهَا بِحَزْمٍ لِقَطْعِ صِلَتِهَا بِالْمَاضِي الْمُظْلِمِ، وَأَنْ تَسْلُكَ طَرِيقَ التَّوْبَةِ، وَتَنْظُرَ نَحْوَ الْأَمَامِ، وَتَتَّخِذَ قَصْدًا جَدِيدًا لِلْمُسْتَقْبَلِ. فَتَبْدَأَ حَيَاةً جَدِيدَةً، لَا تَعُودُ فِيهَا إِلَى ٱلْخَطِيئَةِ. فَٱلْخَطِيئَةُ هِيَ ٱلدَّاءُ، وَٱلْمَغْفِرَةُ هِيَ ٱلدَّوَاءُ. وَلَكِنْ، إِنْ عَادَ ٱلْإِنْسَانُ إِلَى خَطِيئَتِهِ، فَهُوَ يَرْفُضُ ٱلرَّحْمَةَ وَيُبْعِدُ نَفْسَهُ عَنِ ٱلشِّفَاءِ. وَيَصْدُقُ فِيهِ ٱلْمَثَلُ ٱلْكِتَابِيُّ: "عَادَ ٱلْكَلْبُ إِلَى قَيْئِهِ يَلْحَسُهُ، وَٱلْخِنْزِيرَةُ ٱلْمَغْتَسِلَةُ تَمَرَّغَتْ فِي ٱلْوَحْلِ" (2 بُطْرُس 2: 22). المسيحُ هنا لم يَتَساهلْ مع الشَّر، بل غفرَ مع توصيةٍ ألاّ تُخطِئَ ثانيةً. فالمسيح لا يقبلُ الخطيئة، لكنَّهُ يقبلُ الخاطئَ حينَ يعودُ بالتوبة. لقد كان لقاءُ يسوعَ مع المرأةِ الزانية نقطةَ تحوُّلٍ في حياتِها، بفضلِ نظرَتِهِ الرحيمة، ومغفرتِهِ المجّانية. المسيحُ هنا لم يُبَرِّرِ الخطيئةَ، بل أدانَها بلُطْفٍ، وأعطى للمرأةِ فُرصةً جديدةً للتَّوبة، وَبَدْء حَياة جَديدَة ، مُؤَكِّدًا أنَّ الرَّحمةَ لا تُلغي القَداسَة، بل تفتحُ بابًا للرُّجوعِ إلى الله.
ثانياً: تطبيقاتُ النَّصِّ الإِنجيلي (يوحنَّا ٨: ١–١١)
بعد دِراسةِ وَقائِعِ النَّصِّ الإِنجيلي (يوحنَّا 8: 1–11)، نَستَنتِجُ أنَّهُ يَتَمحورُ حولَ نُقطتَينِ رئيسيَّتَين: إدانةُ الزِّنى، ورحمةُ السَّيِّدِ المسيحِ للمَرأةِ الزَّانِيَة، فَما العِبرةُ من هذه الرِّواية؟
1) إدانةُ الزِّنى
الزِّنى هو فِعلٌ يُنتهِكُ حُرمةَ تابِعيَّةِ المرأةِ لِرَجُلِها أو خَطيبِها، كما جاءَ في سفرِ الأحبار: "وأَيُّ رَجُلٍ زَنى بِامرَأَةِ رَجُلٍ (الَّذي يَزني بِامرَأَةِ قَريبِهِ)، فَليُقتَلِ الزَّاني والزَّانِيَة" (الأحبار 20: 10). لذا، حُرِّم الزِّنى تَحريمًا باتًّا كما وردَ في الوصايا العَشر:"لا تَزْنِ" (خروج 20: 14). فالرَّجُلُ والمَرأةُ، هُوَ وهِيَ، واحِدانِ في أمانةٍ مُتبادَلةٍ، كما وردَ في سفرِ التكوين: "قالَ الإِنسان: هذهِ المَرَّةَ هيَ عَظْمٌ مِن عِظامي ولَحْمٌ مِن لَحمي، هذه تُسَمَّى امرَأَةً، لأَنَّها مِنِ امرِئٍ أُخِذَت. ولذلكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباهُ وأُمَّهُ ويَلزَمُ امرَأَتَهُ، فيَصيرانِ جَسَدًا واحِدًا" (تكوين 2: 23–24). وقد أَدانَ الحُكماءُ التَّرَدُّدَ على المومِسات، فقالوا: "لا تَلقَ المَرأَةَ البَغِيَّ، لِئلّا تَقَعَ في أَشراكِها" (سيراخ 9: 3).
ولم يتردَّدِ السَّيِّدُ المسيحُ في إدانةِ خَطيئةِ الزِّنى، بل كَشَفَ عن أبعادِ الأمانةِ الزوجيّة قائلاً: "سَمِعتُم أَنَّهُ قيل: لا تَزْنِ، أَمّا أَنا فأقولُ لكم: مَن نظَرَ إلى امرَأَةٍ بِشَهْوَةٍ، زَنى بِها في قَلبِهِ" (متى 5: 27–28). وانطلاقًا من هذا المبدأ، يزني بالقلب مَن يَشتَهي الارتباطَ بغيرِ زوجتِهِ. فالزِّنى هو خُروجٌ على قانونِ الخالِقِ العادِلِ والمُقدَّس، المُتعلِّق بسعادةِ الإنسان (خروج 20: 14). ويَحتلُّ الزِّنى المرتبةَ الأولى في "أعمالِ الجَسَد"، كما جاء في رِسالَةِ غلاطية: "وأَمّا أَعمالُ الجَسَدِ فإِنَّها ظاهِرَة: الزِّنى، والدَّعارة، والفُجور"(غلاطية 5: 19).
بيَّنَ يسوعُ أنَّ الزَّواجَ يَربِطُ الزَّوجَينِ برباطٍ غيرِ قابِلٍ للانحلال: "فلا يكونانِ اثنَينِ بَعدَ ذلك، بل جَسَدٌ واحِد. فما جَمَعَهُ اللهُ، فلا يُفَرِّقْهُ الإِنسان" (متى 19: 6). وأعلَنَ القِدِّيسُ بولس الرَّسول عن عُقوبةِ تدنيسِ الرابِطِ الزوجيّ، فقال: "لِيَكُنِ الزَّواجُ مُكَرَّمًا عِندَ جَميعِ النّاس، ولْيَكُنِ الفِراشُ بَريئًا مِنَ الدَّنَس، فإِنَّ الزُّناةَ والفاسِقينَ سَيَدينُهُمُ الله" (عبرانيّين 13: 4). لذا، تَحرِمُ خَطيئةُ الزِّنى الإنسانَ مِن دُخولِ الملكوت، كما ورد: "أَمَا تَعلَمونَ أَنَّ الفُجّارَ لا يَرِثونَ مَلَكوتَ الله؟" (1 قورنتس 6: 9). من خلال هذه الإدانات، تُسلِّط كلمةُ اللهِ الضَّوءَ على الأمانةِ الزوجيّة، التي هي في ذاتِها ثَمرةُ الحُبِّ وشَرطُه.
أدانَ يسوعُ الخَطيئةَ، لكنَّهُ لم يُدِنِ المرأةَ الزانية، بل خلَّصَها برحمتِه، ولم يَحكُم عليها. قالَ لها: "وأَنا لا أَحكُمُ عَلَيكِ. اِذْهَبِي ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إلى الخَطيئة" (يوحنَّا 8: 11). لقد رحِمَ ولم يَرجُم، وأدانَ الَّذينَ أرادوا رجْمَها من الكتبةِ والفِرِّيسِيِّين، الَّذين قالوا: "إِنَّ هذهِ المرأةَ أُخِذَت في الزِّنى المَشهود" (يوحنَّا 8: 4). عامَلَهُم يسوعُ بالعدل، وأمَّا المرأةُ الزانيةُ، فعاملَها بالرَّحمة. لقد كشفَ أنَّ اللهَ في عدلِه يُدِين، وفي رحمتِه يُخَلِّص، وهو لا يُريد موتَ الخاطئ، بل أن يرجعَ فيَحيا.
2) عَدْلُ يسوعَ تجاهَ الفِرِّيسِيِّين
خانتِ المرأةُ الزانيةُ زوجَها، وبموجبِ الشريعةِ الموسويّة، تَستحقُّ الموتَ رَجمًا، كما وردَ في سِفرِ الأحبار: "أَيُّ رَجُلٍ زَنى بِامرَأَةِ رَجُلٍ (الَّذي يَزني بِامرَأَةِ قَريبِهِ)، فَليُقتَلِ الزَّاني والزَّانِيَة" (الأحبار 20: 10). ويُعلِّق الفيلسوفُ البولنديُّ شوبنهاور: "أُؤَكِّدُ أنَّ الإنسانَ من طَبيعتِهِ، ليس فقط شرّيرًا ويَسمَحُ لنفسِهِ بصُنعِ الشَّر، لكنَّه لا يَحتَمِلُ صُنعَه عند جارِهِ." لقد تَجاهَلَ رؤساءُ اليهودِ الشَّريعة، إذ أَحضَروا المرأةَ دونَ الرَّجُل، في حينِ أنَّ الشريعةَ تُطالِبُ برَجمِ كِلا الطَّرَفَين. لكنَّهُم استخدَموا المرأةَ الزانيةَ فخًّا لاصطيادِ يسوع؛ فإن قال: "لا تُرجَم"، لَأَمسكوا عليه خِلافَه لشريعةِ موسى، وإن وافقَ على رجْمِها، لَاشتَكوه للرُّومان الذين كانوا يمنعون اليهودَ من تنفيذِ أحكامِ الإعدامِ بأنفسِهِم. في الحقيقة، لم يكن أمرُ المرأةِ يعنيهم، بل كان همُّهُم اصطيادَ يسوع.
وفي الواقع، "انحنى يسوعُ يَخطُّ بإِصبَعِهِ في الأرض" (يوحنَّا 8: 6). لهذا الصَّمتِ والكتابةِ في التّراب غايتان:
1. تهدئةُ رَوعِ المرأةِ الزانية، وإعطاؤُها شُعورًا بالأمانِ والثِّقة.
2. دعوةُ خصومِه للدُّخولِ إلى أعماقِ ذَواتِهِم، لاكْتشافِ خَطَاياهم، فبصَمتِهِ كان يُعلِّمهم أنَّه لا يَجوزُ للخاطئِ أن يَرجُمَ خاطئًا مثلَه.
ولمّا ألحُّوا عليه أن يَحكُم عليها، اتَّخذَ يسوعُ موقفَ العدل تجاهَ الفريسيِّينَ، وموقفَ الرحمة تجاهَ المرأةِ الزانية. لم يُدِنها، بل أعادَهم إلى ضمائِرِهِم، قائلاً:"مَن كانَ مِنكُم بلا خَطيئة، فَليَكُنْ أَوَّلَ مَن يَرميها بحَجر". أي، انظُروا داخلَ أنفسِكم، قبل أن تُصدِروا أحكامًا قاسية. "فانصرَفوا واحِدًا بعدَ واحِدٍ، يَتقدَّمُهُم كِبارُهُم سِنًّا" (يوحنَّا 8: 9). لقد ارتدَّ حُكمُ الفِرِّيسيِّينَ عليهم؛ فمَن يَجرُؤُ على أن يرجمَ نَفسَهُ بحَجر؟
أدانَ يسوعُ الفريسيِّينَ والكتبةَ، حين اعترفوا بخطاياهم بالانسحاب. فهم يَحبّون أن يُدينوا الآخرين، ويَفرحون بأخطائِهِم، ويَظُنّونَ أنَّهُم يُطبِّقونَ الشَّريعة، لكنَّهم في الواقع حوَّلوا القوانينَ إلى حجارةٍ يَرمونَ بها النّاس. وفي هذا السِّياق، كتب القدِّيس أمبروسيوس: "حيثُ تكونُ الرَّحمة، هناكَ الله؛ وأمّا حيثُ تكونُ القساوةُ والتّصلُّبُ والحُكم، فَرُبَّما تَجِدون خُدّامَ الله، ولكنَّكُم لن تَجِدوا الله." اللهُ لا يَحتَمِلُ المُرائينَ، أصحابَ القلوبِ المُزدَوِجة، ولا يَحتملُ مَن يُحاكِمون الآخرين وهم أنفسُهُم تحتَ الدَّينونة. إنَّ جوهرَ المسيحيَّةِ هو المُصالَحةُ بين الله والإنسان.
يسوع يُحارِبُ قلبَ المرائي المُتحجِّر، ويَدينُ انتهاكَ حياةِ الآخرين، سواء بالحِجارة أو بالسُّلطة. وقد أظهر الكتبةُ والفريسيونَ، أنَّهُم يَغارون ضدَّ الخطيئة، لكنَّهُم لم يَتحرَّروا منها. كما وصفَهم يسوع: "الوَيلُ لَكُم أَيُّها الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون، فإِنَّكُم أَشبَهُ بِالقُبورِ المُكَلَّسَة، يَبدو ظاهِرُها جَميلاً، وأمّا داخِلُها فمُمتَلِئٌ مِن عِظامِ المَوتى وكُلِّ نَجاسَة" (متى 23: 27–28).
لم يَتَحاشَ السَّيِّدُ المسيحُ الشَّبكةَ التي نَصَبَها له الكَتَبَةُ والفِرِّيسِيُّونَ، وإنّما سَمَحَ لهم أن يَسقُطوا في ذاتِ الشَّبكة، إذ شَعَروا بالخِزيِ والعارِ أمامَ الجَمع. إذ لم يستطيعوا تنفيذَ النَّاموس، لأنَّه لم يُوجَدْ أحدٌ مِنهم مُستحِقًّا أن يَرفعَ أوَّلَ حجرٍ ويَرميَه على المرأةِ الزَّانية. "فانصَرَفوا واحِدًا بَعدَ واحِدٍ، يَتقدَّمُهُم كِبارُهُم سِنًّا" (يوحنَّا 8: 9). لقد حوَّلَ السَّيِّدُ المسيحُ أنظارَهُم مِن التَّركيزِ على تصرُّفاتِ المرأةِ الزانية، أو مِن انتِظارِ الحكمِ عليها، إلى ضَّمائرِهِم الدَّاخليَّة، لِيَروا الفَسادَ في أعماقِهِم، لَعَلَّهُم يَتوبون ويَرجِعون إلى الله. لكن عِوَضًا عن الاعترافِ بالخطيئة، وقَبولِ مَشورةِ طبيبِ النُّفوس، هَربوا، كما فَعَلَ الشَّعبُ في معركةِ داود ضدَّ أبشالوم: "فانقَلَبَ النَّصرُ في ذلِكَ اليومِ إلى مَنَاحَةٍ عندَ كُلِّ الشَّعب" (2 صموئيل 19: 3). ما فَعَلوه أنَّهُم خَشُوا الفضيحةَ والعَار، فهربوا لا إلى المسيحِ مُخلِّصِهِم، بل إلى خارِجِ نورِه، حتى لا يَفضَحَهُم.
إنَّ كلماتِ يسوعَ وتصَرُّفاته تُزيلُ الأحكامَ المُسبقة، لأنَّهُ بِرَحمته يقودُنا أبعدَ مِن الأحكامِ الأخلاقيّة. إنَّهُ يَطلُبُ مِن العينِ ألاّ ترى الخطيئةَ في الآخَرِ فقط، بل أن تلمحَ النُّورَ المزروعَ في قلبِه. فمَن يُدينُ أخاهُ، يُدان، وبِالحُكمِ الذي يَحكمُ به على الغير، يُحكَمُ عليه: "لا تَدينوا فَلا تُدانوا. لا تَحكُموا على أَحدٍ، فلا يُحكَمَ علَيكم" (لوقا 6: 37). ولأنَّ الحكمَ للهِ وحدَه، يُعلِّمُ بولسُ الرَّسولُ قائلاً: "فلا تَدينوا أَحدًا قبلَ الأوان، قبلَ أن يَأتيَ الرَّبّ، فهو الَّذي يُنيرُ خَفايا الظُّلُمات، ويَكشِفُ عن نِيَّاتِ القُلوب، وعِندَئِذٍ يَنالُ كُلُّ واحِدٍ مِنَ اللهِ ما يَعودُ عليهِ مِنَ الثَّناء" (1 قورنتس 4: 5). بعد أن حارَبَ يسوعُ الشرَّ في الَّذين استَعبَدَهُم الشَّر، التفتَ إلى الَّذين اعتَبرَهُم المجتمعُ خاطئين، وأوّلهم المرأةُ الزانية.
إنَّ هناك تَعارُضًا واضحًا بين تصرُّف الكَتَبَةِ والفِرِّيسِيِّينَ من جهة، وتصرُّفِ يسوعَ من جهةٍ أخرى:
- الكَتَبَةُ والفِرِّيسِيُّونَ أرادوا الحُكمَ على المرأة، باعتبارهم حُمَاةَ الشَّريعة وتطبيقِ العدالة؛
- أمّا يسوعُ، فأراد خلاصَها، لأنَّه يُجَسِّدُ رحمةَ الله، الَّذي بالمغفرةِ يَفدي، وبالمُصالحةِ يُجدِّد.
هو وحده القادر على تحويل الشريعة من أداة دينونة إلى وسيلة توبة، ومن منصة حُكم إلى لقاء يُخلّص.
3) رَحمةُ يسوعَ للمَرأةِ الزَّانية
يسوعُ هو الوحيدُ الذي يَقدِرُ أن يَرمِيَ الحَجَرَ الأوَّل، لأنَّهُ الوحيدُ المَعصومُ من كلِّ خَطيئة. ومع ذلك، لم يَحكُم يسوعُ على الزَّانِية، إنَّما أدانَ خَطيئتَها، وبرَحمتهِ غَفَرَ لها وخلَّصها. لقد ذهَبَ أبعدَ مِن الشَّريعة! لم يَقُل للمرأةِ إنَّ الزِّنى ليسَ خَطيئة، لكنَّهُ أيضًا لم يُحاكِمها بحسبِ الشَّريعة. وهذا هو سِرُّ الرَّحمة.
الرَّحمة لا تَمحو الخَطايا، بل يَغفِرُ اللهُ الخَطايا بِواسِطةِ الرَّحمة. إنَّ اللهَ يَغفِرُ لنا بِلَمسَةِ حَنانِه ورَحمته. وقفَ يسوعُ أمامَ المرأةِ الزانية كمن يهتمُّ بحياتِها وتاريخِها، وقفَ ليكونَ قريبًا منها ويُكَلِّمَها. لقد فَهِمَ جَوهَرَ هذهِ النَّفس، وسَعَى إلى إدراكِ حقيقتِها، ودَعاهَا إلى التوبة. لم يتوقَّف عندَ الخَطيئة، بل عندَ ألمِها واحتياجِها. كانت تَعيشُ بِشُعورٍ بالذَّنبِ بسببِ أخطائِها الماضية، لكنَّ يسوعَ فتحَ أبوابَ سِجنِها، وحرَّرَها، لأنَّهُ يَعرِفُ أنَّ الإنسانَ لا يُساوي خَطيئتَه، واللهُ لا يَهمُّهُ ماضيها، بَل مستقبلُها.
فقالَ لها يسوعُ: "أَلَمْ يَحكُم عَلَيكِ أَحَد؟" (يوحنَّا 8: 10). وكأنَّهُ يقولُ لها: "أنتِ الآن وحدَكِ أمامَ الله، بلا اتّهامات، بلا أحكام. أنتِ واللهُ فقط!" فقالت: "لا، يا ربّ!" لم تُبرِّر نفسَها، بل اعترفَت بخَطيئتِها. وقد وصفَ القدِّيس أُوغُسطينوس هذا المشهد بقوله: "بقيتِ الرَّحمةُ والبُؤسُ وجهًا لِوجه." اتَّخَذَ يسوعُ موقفًا مُتَعاطِفًا، مَملوءًا رِقَّةً ورحمةً وصفحًا. اتَّخَذَ موقفًا يتحدّى موقفَ الرأيِ العام. لم يَنظرْ إلى قضيَّةِ الزِّنى في ظاهرِها، بل نَظرَ إلى داخِلِ قلبِ الزانية. لم يَحكمْ عليها، ولم يُدِنْها، بل غيَّرَ نفسَها التي أقفَرَت وتَوحَّشَت بالخطيئة، وحوَّلَها إلى سلامِه. قال لها: "وأَنا لا أَحكُمُ عَلَيكِ" (يوحنَّا 8: 11). وبهذه الكلمات، أعادَ يسوعُ إلى المرأةِ الزانية شَرَفَها وكَرامتَها. قالَ البابا فرنسيس وفي هذا السِّياق: "رَحمةُ اللهِ هي نورُ مَحبَّةٍ وحَنانٍ كبير! إنَّها لَمسَةُ حَنانِ اللهِ على جِراحِ خَطايانا. فمَغفِرَةُ اللهِ هي مَحبَّةٌ حقيقيَّة، تَحثُّ الإنسانَ ليُصبِحَ أفضلَ ما بإمكانِه أن يَكون."
يسوعُ لا يَعرِفُ إلا هذا الطريق: المُسامَحة، المغفِرة، لا سَبعَ مرّات، بل: "سَبعينَ مرَّةً سَبعَ مرَّات" (متى 18: 22). لم تَكنِ المرأةُ الزَّانيةُ واقِفَةً أمامَ حاكمٍ، بل أمامَ مُخلِّص، لأنَّه: "فَإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إلى العالَم لِيَدينَ العالَم، بل لِيُخَلَّصَ به العالَم" (يوحنَّا 3: 17).
يسوعُ لم يَسألها عن ماضيها، ولا طلبَ منها اعتذارًا عمّا صنعت. كانت صامتةً، مُخفِضَةَ الجَفنَينِ حياءً، تُصغي لِتَسمَعَ الحُكمَ عليها مِن فَمِ أشهرِ مَن في الزمان. فإذا بها لا تسمع: "أنا أيضًا أَحكُم عليكِ بالرَّجم"، بل:
"أنا لا أَحكُم عليكِ"، بشرطٍ واحد: "اِذْهَبِي، ولا تعودي تُخطئين." إذًا، هي لم تكن واقفةً أمام قاضٍ قاسٍ، بل أمامَ مُخلِّصٍ يُقدِّمُ الحياة. ما جئتُ لأَحكُم، بل لأُخلِّص. وما هي إلا أيّام، وسَيُعلَّقُ على الصَّليب، ليَحملَ خَطاياها ويُخلِّصَها، لأنَّهُ هو "حَمَلُ اللهِ الَّذي يَحمِلُ خَطايا العالَم." وقد كتبَ البابا يوحنّا بولس الثاني، في أوَّل منشورٍ رسوليٍّ له بعنوان "مُخلِّصُ البَشر" في مطلع الثمانينات: "كم يجب أن تكونَ قيمةُ الإنسانِ غالية، حتّى استحقَّت هذا المُخلِّص!"
يسوع هو الوحيد القادر أن يرمي الحجر الأوّل، هو الوحيد المعصوم من أي خطيئة. ومع ذلك، لم يحكم يسوع على الزانية، إنما أدان يسوع خطيئتها، ولكن برحمته غفر للمرأة الزانية وخلّصها. إنه ذهب أبعد من الشريعة! لم يقل للمرأة أنّ الزنى ليس خطيئةً، ولكنّه لم يحاكمها بحسب الشريعة. وهذا هو سرّ الرحمة. فالرحمة لا تمحو الخطايا؛ إنما يغفر الله الخطايا بواسطة الرحمة. فالله يغفر لنا بلمسة حنانه ورحمته.
وقف يسوع أمام المرأة الزانية كمن يقف أمام شخص يهمُّه حياتها وتاريخها، وقف ليكون أقرب إليها ويُكلّمها، فقد فهم جوهر هذه النفس؛ وحاول أن يُدرك الحقيقة التي لديها، ويدعوها إلى التوبة. فلم يتوقّف عند الخطيئة وإنما عند ألمها وحاجتها. فهي تعيش بشعور بالذنب بسبب أخطائها الماضي، لكن يسوع يفتح أبواب سجنها ويُحرِّرها، لأنه يعرف أن الإنسان لا يُساوي خطيئته، والله لا يهمّه ماضيها إنما مستقبلها. فسألها يسوع أَلَم يَحكُمْ عَليكِ أحَد؟" (يوحنا 8: 10). وكأنّ به يقول لها: "أنتِ وحدكِ الآن أمام الله، بدون اتهامات وبدون أحكام! أنتِ والله فقط! فقالت: "لا، يا ربّ!"، لم تُبرّر نفسها بل اعترفت بخطيئتها. وقد وصف القديس أوغسطينوس هذا المشهد بقوله: "بقيت الرحمة والبؤس وجها لوجه".
اخذ يسوع موقفا متعاطفا، ملؤه رقةً ورحمة ًوصفحاً، اخذ موقفا يتحدّى موقف الرأي العام. ولم ينظر إلى قضية الزنى في ظاهرها، بل نظر إلى داخل قلب الزانية. فلم يحكم عليها ولم يدنْها، بل غَّيَّر نفسها التي أقفرت وتوحشت بالخطيئة، وحوّلها إلى سلامه. فقال لها " وأَنا لا أَحكُمُ علَيكِ" (يوحنا 8: 11)؛ وبهذه الكلمات أعاد يسوع إلى المرأة الزانية شرفها وكرامتها. وفي هذا الصدد قال البابا فرنسيس "رحمة الله هي نور محبة وحنان كبير! إنها لمسة حنان الله على جراح خطايانا؛ لان مغفرة الله هي محبّة حقيقيّة تحثُّ الإنسان ليصبح أفضل ما بإمكانه أن يصير". يسوع لا يعرف إلا هذا الطريق: المسامحة، المغفرة " سَبعينَ مَرَّةً سَبعَ مَرَّات (متى 17: 20). لم تكمن المرأة الزانية واقفة أمام حاكمٍ بل أمام مخلّصٍ إذ " فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم" (يوحنا 3: 17) ويعلق البابا يوحنا بولس الثاني " كم يجب أن تكون قيمة الإنسان غالية، حتى استحقّت هذا المخلِّص!".
4) العِبَرُ والدُّرُوس
يَتمحورُ هذا الإنجيلُ حولَ دروسٍ متعدِّدة أرادَ السَّيِّدُ المسيحُ أن يُعلِّمنا إيَّاها:
أ) إدانةُ الخطيئة
يُعلِّمُنا يسوعُ أنَّه لا يُتجاهلُ خطيئةَ الزِّنى، ولا يتساهلُ معها، بل يُدِينها. إنَّ طهارتَه أدانت خطيئةَ المرأةِ الزانية. فالعهدُ الجديدُ ليس عهدَ تساهُلٍ مع الخطيئة، بل يُظهر لنا دينونةَ العدلِ الإلهيّ كما جاء في الرسالة إلى العبرانيّين: "فإِذا كانَ الكَلامُ الَّذي أُعلِنَ على لِسانِ المَلائِكَةِ قد أُثبِتَ، فَنالَت كُلُّ مَعصِيَةٍ ومُخالَفَةٍ جَزاءً عادِلاً، فَكَيفَ نَنْجو نَحنُ إِذا أَهمَلْنا مِثلَ هذا الخَلاصِ؟" (عبرانيّين 2: 1– 3). يسوعُ يكره الخطيئة ويرفُضها، لكنَّه يَغفِرُ لِصاحبِها إن تابَ عن حقّ.
ب) رَحمةُ الخاطئ
بِرَحمتِه، خلَّصَ يسوعُ المرأةَ الزانية ولم يَحكُم عليها، إنَّما دعاهَا إلى التوبة قائلاً: "اِذْهَبِي، ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إلى الخَطيئة" (يوحنَّا 8: 11). يَقبلُ المسيحُ الخاطئ، لكنَّه لا يَقبلُ أن يستمرَّ في خطيئتِه. فاللهُ يَغفِر ويُحرِّر، ومغفرتُه تُعيدُ الإنسانَ إلى مسيرتِه المستقيمة. قالَ: "فَإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إلى العالَم لِيَدينَ العالَم، بل لِيُخَلَّصَ به العالَم" (يوحنَّا 3: 17). ودعانا أن نَغفِر "سَبعينَ مرّةً سَبعَ مرّات" (متى 18: 22).
الرَّحمةُ ليست ضَعفًا، بل هي دعوةٌ إلى التوبة. فيسوعُ يُعيدُ الخاطئَ إلى الدَّربِ القويم، كما في نبوءةِ حزقيال:
"أَلَيسَ في أَن يَتوبَ عن طُرُقِه فيَحْيا؟" (حزقيال 18: 23). قِصَّةُ المرأةِ الزانيةِ تكشفُ لنا طبيعةَ يسوعَ المُلتَهبةِ بالمحبَّة نحو الخطأة. يُعلِّمنا أن نَقتربَ منه حتى لو حَمَلْنا خطايا ثقيلة، لأنَّه لا يُريد أن يُدينَنا، بل أن يُغيِّرَنا. ويُحذِّرُنا من اليأسِ والرَّجاءِ الباطل: فمَن يَئِسَ ظانًّا أنَّ اللهَ لا يَغفِر له، قَتَلَ نفسَهُ باليأس. ومَن أَهمَلَ التوبةَ بدعوى أنَّ رحمةَ الله ستُخلِّصه غدًا، أهلَكَ نفسَه بالرَّجاءِ الكاذب.
ج) عَدَمُ إِدانةِ الآخَرين
يُعلِّمُنا السيِّدُ المسيحُ أن نفعل أمرَين:
1. نُفرِغَ أيدينا من حجارة الإدانة، فلا يَحِقُّ لأحدٍ أن يُصدرَ حكمًا إلاَّ إذا كان بلا خَطيئة.
2. أن نُدِين الخطيئة في حياتنا قبل أن نُدينَ أخانا.
قال: "مَن كانَ مِنكُم بلا خَطيئة، فلْيَكُنْ أَوَّلَ مَن يَرميها بِحَجَر!" (يوحنّا 8: 7)، وذكَّرنا أيضًا: "بالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ" (متى 7: 1). المَطلوب أن نجتهد في حفظِ أنفسِنا من الخطيئة أكثر من اجتهادنا في رَجمِ الآخرين. ليست المشكلة في الشريعة، بل في فسادِ الشهود، كما حدث في قصة سوسنَّة (دانيال 13)، ونابوت اليَزرَعيلي (1 ملوك 21).
د) يسوع وحدَهُ الدَّيَّان
كلُّ إنسانٍ خاطئٌ أمامَ الله، والرَّبُّ وحده ديّانُ القلوب. فلنَتقدَّم بالتوبة إلى المسيحِ الذي لا يَكتُبُ خطايانا على الحجارة، بل على الرِّمال، لكي يُمحِيها. فإذا اعترفنا بخطايانا، نَسمَع صَوتَ الربِّ على فمِ الكاهن يقول: "مَغفورةٌ لكَ خَطاياك. لا تَعودْ تُخطِئْ. اِذهَبْ بِسَلامِ المسيح".
الخُلاصة
في رحلاتِ يسوعَ التبشيريّة، التقى مع ثلاثِ نساءٍ ارتكبنَ الزنى: المرأة السامريّة (يوحنّا 4: 18)، المرأة في بيتِ سِمعان الفِرِّيسي (لوقا 7: 37)، المرأة الزانية (يوحنّا 8). وفي كلِّ مرَّة، كانَ يُعاملهُنَّ بِالرَّحمةِ والرِّقَّة، وخصوصًا في الرّواية الأخيرة. عندما جاءَ إليه اليهودُ بامرأةٍ أُمسِكَت في زنى، أرادوا أن يُوقِعوه في فخٍّ: إن قال "لا تُرجَم"، يُخالف شريعة موسى؛ وإن قال "تُرجَم"، يُخالف قانون روما الّذي يُجرِّم تنفيذ أحكام الموت دون إذن الدولة. لكنَّهُ انحنى يكتبُ بإصبعِه على الأرض، علامةً لرفضه إصدار حكم بشري. ثم قال: "مَن كانَ مِنكُم بلا خَطيئة، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَن يَرميها بِحَجَر!" فانسحبوا، دينونتهم عادت عليهم. بقي يسوع وحده، لم يُدِن المرأة، لكنَّه أوصاها ألاّ تُخطئ أيضًا.
إنَّ برَّ الله يُدينُ الخطيئة، لكن رحمتهُ تُفتَح لنا بابَ الخلاص. لم يَذكر يوحنّا اسمَ المرأة الزانية، لأنَّها تُشبهنا جميعًا. قصتُها بابُ رحمةٍ إلهيّةٍ مفتوح لكلِّ نفس. نَسمَع فيها الصَّوتَ الإلهي: "ما جِئتُ لأدينَ العالَم، بل لأُخلِّصَ العالَم" (يوحنَّا 12: 47). لقد تحوّلت القِصَّة من محكمةٍ أرضيّة إلى مدخلٍ إلى الملكوت.
يُحذّرُنا القدِّيس أوغسطينوس: "من ييأس ظانًّا أنَّ اللهَ لا يَغفِر له، يَقتلُ نفسَه باليأس؛ ومن يُهمِل التوبةَ بدعوى أنَّ رحمةَ الله ستُخلِّصه غدًا، يُهلِكُ نفسَه بالرَّجاءِ الباطل." إنَّ فَرَحَ الإنجيل يَملأ قلوبَ كلِّ مَن يَلتقونَ الرّبَّ يسوع. فمَن يُسلِّم له قلبَه، يتحرَّر مِن الخطيئةِ والحزنِ والعُزلة. مع يسوع، يُولَدُ الفرحُ من جديد.
ونُصغي إلى دعوةِ البابا فرنسيس: "أدعو كلّ مسيحيّ، أينما كان، أن يُجدِّد لقاءه الشّخصي بالرَّب يسوع، أو على الأقل أن يَقرِّر أن يدعَ يسوعَ يَلتقيه. لا يَظُنَّ أحدٌ أن هذه الدعوة ليست له، فليس أحدٌ مستبعَدًا عن الفرحِ الّذي يُعطيه لنا الرَّبُّ."
دعاء
يا ربّ،
لقد خُدِعنا بطرقٍ عديدة، وهربنا من حُبِّك،
ومع ذلك، ها نحنُ أمامَك مرّةً جديدة،
لِنُجدِّدَ عهدَنا معَك.
إنّنا نحتاجُ إليك،
خَلِّصنا يا ربّ، واقبَلنا مجدّدًا بين ذِراعَيكَ المفتوحَتين.
يا ربّ،
أنتَ وحدَكَ القادرُ أن تَرمينا بِحجارةٍ كثيرة،
لأنّكَ الوحيدُ بِلا خَطيئة.
ولكنّك لا ترمينا بحجرٍ واحد، ولا تَحكمُ علينا.
نشكُرُكَ يا ربّ،
من أجلِ حُبِّك، ومن أجلِ مغفرتِكَ.
شكرًا لأنّكَ تُحِبُّنا، حتّى حينَ نَقَعُ في الخَطيئة.
شكرًا لأنّكَ حوَّلتَ حجارتَنا المُتَّسخة
إلى حجارةٍ ثمينةٍ ذاتِ قيمة.
شكرًا لأنّكَ أعطيتَنا الإمكانيّة
لِمَعرِفةِ خَطايانا،
ولِعَيشِ لحظاتِ المُصالَحةِ معَك.
أعطِنا، يا ربّ،
ألاّ نرميَ بعدَ الآن الحجارةَ على الآخرين.
أعطِنا أن نعيشَ في محبّتِكَ،
أصدقاءَ لك، وأصدقاءَ للجميع.