موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٩ مارس / آذار ٢٠٢٥

مَثَلُ الآبِ الرَّحيم والابْن الضَّال والابْن الأكْبَر

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحَد الرَّابِع من الصَّوم: مَثَلُ الآبِ الرَّحيم والابْن الضَّال والابْن الأكْبَر (لوقا 15: 1-3، 11-32)

الأحَد الرَّابِع من الصَّوم: مَثَلُ الآبِ الرَّحيم والابْن الضَّال والابْن الأكْبَر (لوقا 15: 1-3، 11-32)

 

النَّص الإنْجِيلي (لوقا 15: 1-3، 11-32)

 

1 وكانَ الجُباة والخاطِئونَ يَدنونَ مِنه جَميعاً لِيَستَمِعوا إِلَيه. 2 فكانَ الفِرِّيسِيُّونَ والكَتَبَةُ يَتَذَمَّرونَ فيَقولون: ((هذا الرَّجُلُ يَستَقبِلُ الخاطِئينَ ويَأكُلُ مَعَهم!)) 3 فضرَبَ لَهم هذا المَثَلَ قال: 11 وقال: ((كانَ لِرَجُلٍ ابنان. 12 فقالَ أَصغَرُهما لِأَبيه: يا أَبَتِ أَعطِني النَّصيبَ الَّذي يَعودُ علَيَّ مِنَ المال. فقَسَمَ مالَه بَينَهما. 13 وبَعدَ بِضعَةِ أَيَّامٍ جَمَعَ الاِبنُ الأَصغَرُ كُلَّ شَيءٍ لَه، وسافَرَ إِلى بَلَدٍ بَعيد، فَبدَّدَ مالَه هُناكَ في عيشَةِ إِسراف. 14 فَلَمَّا أَنفَقَ كُلَّ شَيء، أَصابَت ذلكَ البَلَدَ مَجاعَةٌ شَديدة، فأَخَذَ يَشْكو العَوَز. 15 ثُمَّ ذَهَبَ فالتَحَقَ بِرَجُلٍ مِن أَهلِ ذلكَ البَلَد، فأرسَلَه إِلى حُقولِه يَرْعى الخَنازير. 16 وكانَ يَشتَهي أَن يَملأَ بَطنَه مِنَ الخُرنوبِ الَّذي كانتِ الخَنازيرُ تَأكُلُه، فلا يُعطيهِ أَحَد. 17 فرَجَعَ إِلى نَفسِه وقال: كم أَجيرٍ لَأَبي يَفضُلُ عنه الخُبْزُ وأَنا أَهلِكُ هُنا جُوعاً! 18 أَقومُ وأَمضي إِلى أَبي فأَقولُ لَه: يا أَبتِ إِنِّي خَطِئتُ إِلى السَّماءِ وإِلَيكَ. 19 ولَستُ أَهْلاً بَعدَ ذلك لِأَن أُدْعى لَكَ ابناً، فاجعَلْني كأَحَدِ أُجَرائِكَ. 20 فقامَ ومَضى إِلى أَبيه. وكانَ لم يَزَلْ بَعيداً إِذ رآه أَبوه، فتَحَرَّكَت أَحْشاؤُه وأَسرَعَ فأَلْقى بِنَفسِه على عُنُقِه وقَبَّلَه طَويلاً. 21 فقالَ لَه الِابْن: يا أَبَتِ، إِنِّي خَطِئتُ إِلى السَّماءِ وإِلَيكَ، ولَستُ أَهْلاً بَعدَ ذلِكَ لأَن أُدْعى لَكَ ابناً. 22 فقالَ الأَبُ لِخَدَمِه: أَسرِعوا فأتوا بِأَفخَرِ حُلَّةٍ وأَلبِسوه، واجعَلوا في إِصبَعِه خاتَماً وفي قَدَمَيه حِذاءً، 23 وأتوا بالعِجْلِ المُسَمَّن واذبَحوه فنأكُلَ ونَتَنَعَّم، 24 لِأَنَّ ابنِي هذا كانَ مَيتاً فعاش، وكانَ ضالاًّ فوُجِد. فأَخذوا يتَنَّعمون. 25 وكانَ ابنُه الأَكبَرُ في الحَقْل، فلمَّا رَجَعَ واقترَبَ مِنَ الدَّار، سَمِعَ غِناءً ورَقْصاً. 26 فدَعا أَحَدَ الخَدَمِ واستَخبَرَ ما عَسَى أَن يَكونَ ذلك. 27 فقالَ له: قَدِمَ أَخوكَ فذَبَحَ أَبوكَ العِجْلَ المُسَمَّن لِأَنَّه لَقِيَه سالِماً. 28 فغَضِبَ وأَبى أَن يَدخُل. فَخَرَجَ إِلَيه أَبوهُ يَسأَلُه أَن يَدخُل، 29 فأَجابَ أَباه: ها إِنِّي أَخدُمُكَ مُنذُ سِنينَ طِوال، وما عَصَيتُ لَكَ أَمراً قَطّ، فما أَعطَيتَني جَدْياً واحِداً لأَتَنعَّمَ به مع أَصدِقائي. 30 ولمَّا قَدِمَ ابنُكَ هذا الَّذي أَكَلَ مالَكَ مع البَغايا ذَبَحتَ له العِجْلَ المُسَمَّن! 31 فقالَ له: يا بُنَيَّ، أَنتَ مَعي دائماً أبداً، وجَميعُ ما هو لي فهُو لَكَ. 32 ولكِن قد وَجَبَ أَن نَتَنعَّمَ ونَفرَح، لِأَنَّ أَخاكَ هذا كانَ مَيتاً فعاش، وكانَ ضالاًّ فوُجِد)).

 

 

مُقَدِّمَةٌ

 

يَصِفُ لوقا الإنجيليُّ ثَلاثَةَ أَمْثالٍ عَنِ الرَّحْمَةِ لِلْخُطاةِ، وَهِيَ: مَثَلُ الْخَرُوفِ الضَّالِّ (لوقا 15: 4–7)، وَالدِّرْهَمِ الْمَفْقُودِ (لوقا 15: 8–10)، وَالِابْنِ الضَّالِّ (لوقا 15: 11–32)، وَأَبْرَزُها مَثَلُ الِابْنِ الضَّالِّ، حَيْثُ يُصَوِّرُ اسْتِقْبالَ اللهِ الآبِ الرَّحِيمِ لِلْخاطِئِ التَّائِبِ؛ اللهِ الَّذِي لا يَتَخَلَّى عَمَّنِ يَبْتَعِدُ عَنْهُ، وَلا يَحْكُمُ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ يَبْحَثُ عَنْهُ، وَيُحِبُّهُ، وَيَنْتَظِرُ عَوْدَتَهُ. وَهٰذا الْمَثَلُ هُوَ جَوابُ يَسُوعَ عَلَى تَذَمُّرِ الْفَرِّيسِيِّينَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ مُشَارَكَتِهِ لِلْعَشَّارِينَ وَقَبُولِهِ لِلْخُطَاةِ. وَيُعَبِّرُ يَسُوعُ مِنْ خِلَالِ هٰذَا الْمَثَلِ عَنِ الْفَرَحِ الَّذِي يَشْعُرُ بِهِ أَبُوهُ السَّمَاوِيُّ عِنْدَ عَوْدَةِ أُولٰئِكَ الْأَبْنَاءِ الضَّالِّينَ وَلِقَائِهِمْ، وَيَدْعُو الْفَرِّيسِيِّينَ إِلَى الدُّخُولِ فِي هٰذَا الْفَرَحِ؛ يَسُوعُ هُوَ الأَخُ الأَكْبَرُ، الَّذِي جَاءَ لِيَحْمِلَ المَلَكُوتَ لِإِخْوَتِهِ، لِيُعِيدَ لَهُم هُوِيَّتَهُم كَأَبْنَاء، وَيَكْشِفَ لَهُم قَلْبَ الآبِ الْمَفْتُوحَ. لُوقَا يُقَدِّمُ لَنَا هَؤُلَاءِ الإِخْوَةَ عَلَى شَكْلِ فِئَاتٍ مُتَحَارِبَة: الْجُبَاةُ وَالْخُطَاةُ مِن جِهَة، والْفَرِّيسِيُّونَ وَالْكَتَبة مِن جِهَةٍ أُخْرَى. كِلْتَا الْفِئَتَيْنِ، عَلَى اخْتِلَافِهِمَا، يُمَثِّلَانِ الوَاقِعَ الكَنَسِيَّ اليَوْم. فِي كُلٍّ مِنْهُمَا نَجِدُ أَنْفُسَنَا: فِي ضَعْفِ الْخَطَاةِ، وَفِي كِبْرِيَاءِ الْمُتَدَيِّنِينَ. وَيَأْتِي يَسُوعُ، الأَخُ الأَكْبَرُ، لِيَجْمَعَ مَا تَفَرَّقَ، وَيُصَالِحَ مَنْ تَصَادَمُوا، وَيُقِيمَ جِسْرَ المَحَبَّةِ بَيْنَ القُلُوبِ الْمُنْقَسِمَةِ. فَهَل نَسْمَحُ لَهُ أَنْ يُرَمِّمَ أُخُوَّتَنَا الْمُهَشَّمَة؟ وَهَل نَقْبَلُ أَنْ نَكُونَ كَنِيسَةً تَحْمِلُ وَجْهَ الإِخُوَّةِ لا الحُكْم؟ وَمِنْ هُنَا تَكْمُنُ أَهَمِّيَّةُ الْبَحْثِ فِي وَقَائِعِ النَّصِّ الْإِنْجِيلِيِّ وَتَطْبِيقَاتِهِ.

 

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 15: 1-3، 11-32)

 

1 وكانَ الجُباة والخاطِئونَ يَدنونَ مِنه جَميعاً لِيَستَمِعوا إِلَيه

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "الجُبَاةِ" إِلَى العَشَّارِينَ الَّذِينَ يَجْمَعُونَ الأَعْشَارَ (الضَّرَائِبَ) فِي الإِمْبِرَاطُورِيَّةِ الرُّومَانِيَّةِ، وَكَانُوا يَتَعَهَّدُونَ لِلْحَاكِمِ الرُّومَانِيِّ بِتَسْدِيدِها مِنْ جُيُوبِهِمْ فِي حَالِ عَجْزِهِمْ عَنْ جَمْعِهَا، لِذٰلِكَ وُصِفُوا بِالْقَسْوَةِ وَالظُّلْمِ. وَقَدِ احْتَقَرَهُمُ الشَّعْبُ وَمَنَعَهُم مِـنْ دُخُولِ الْهَيْكَلِ أَوْ مَجَامِعِهِمْ، وَمِنَ الاشْتِرَاكِ فِي الصَّلَوَاتِ وَالْحَفَلَاتِ (لوقا 3:12). وَكَانَ أَحَدُ العَشَّارِينَ فِي مَنطِقَةِ أَرِيحَا (لوقا 19: 1)، وَكَانَ مَتَّى وَكِيلًا لِعَشَّارِينَ فِي مَنطِقَةِ كَفْرَنَاحُومَ (لوقا 5: 27). وَقَدْ قَصَدَ يَسُوعُ أَنْ يُحَرِّرَهُمْ مِنَ النَّقْمَةِ اللَّاحِقَةِ بِهِمْ، لِأَنَّهُ لا يُوَافِقُ عَلَى سَيِّئَاتِ أَصْحَابِ الْمَظَالِمِ. أَمَّا عِبَارَةُ "الخَاطِئُونَ" فَتَشِيرُ إِلَى "المَرْضَى" فِي نَظَرِ يَسُوعَ، الَّذِينَ يَجِبُ شِفَاؤُهُمْ، فَهُوَ صَدِيقُ الْخَاطِئِينَ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ (لوقا ٥: ٣٢). وَقَدْ شَبَّهَ نَفْسَهُ بِالطَّبِيبِ، قَائِلًا: "لَيْسَ الأَصِحَّاءُ ِمُحْتَاجِينَ إِلَى طَبِيبٍ، بَلِ المَرْضَى. مَا جِئْتُ لِأَدْعُوَ الأَبْرَارَ، بَلِ الخَاطِئِينَ إِلَى التَّوْبَةِ" (لوقا 4: 31–32). أَمَّا عِبَارَةُ "يَدْنُونَ مِنْهُ" فَتَشِيرُ إِلَى اقْتِرَابِ جَمِيعِ الجُبَاةِ وَالخَاطِئِينَ إِلَى المَسِيحِ عَلَى التَّوَالِي، لا لِمُشَاهَدَةِ مُعْجِزَاتِهِ فَقَط، بَلْ لِسَمَاعِ تَعْلِيمِهِ أَيْضًا، لِأَنَّهُمْ شَعَرُوا بِإِثْمِهِمْ وَاحْتِيَاجِهِمْ إِلَى مَغْفِرَةِ اللهِ، وَلَمْ يَجِدُوا ذٰلِكَ الأَمْرَ فِي تَعْلِيمِ رُؤَسَاءِ اليَهُودِ، لِأَنَّ أُولٰئِكَ الرُّؤَسَاءَ حَسِبُوهُمْ أَشْرَارًا وَنَجِسِينَ لا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يَدْنُوا مِنْهُمْ، إِذْ لا يُرْجَى لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا السَّمَاءَ. أَمَّا عِبَارَةُ "جَمِيعًا" فَتَشِيرُ إِلَى كَثِيرِينَ مِنَ الجُبَاةِ وَالخَاطِئِينَ، وَهُمْ أَكْثَرُ الْجَمْعِ، كَمَا يَتَضِحُ ذٰلِكَ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى: "بَيْنَمَا هُوَ عَلَى الطَّعَامِ فِي الْبَيْتِ، جَاءَ كَثِيرٌ مِنَ الجُبَاةِ وَالخَاطِئِينَ، فَجَالَسُوا يَسُوعَ وَتَلَامِيذَهُ" (مَتَّى 9: 10).  أَمَّا عِبَارَةُ "لِيَسْتَمِعُوا إِلَيْهِ" فَتَشِيرُ إِلَى سَمَاعِ كَلِمَةِ اللهِ وَقَبُولِهَا، وَهٰذَا لا يَعْنِي الاسْتِمَاعَ إِلَيْهَا بِأُذُنٍ صَاغِيَةٍ فَحَسْب، بَلْ يَتَضَمَّنُ أَيْضًا فَتْحَ القَلْبِ لَهَا (أَعْمَال 16: 14)، وَالعَمَلَ بِهَا (مَتَّى 7: 24–26)، وَالطَّاعَةَ لَهَا. تِلْكَ هِيَ طَاعَةُ الإِيمَانِ الَّتِي يَطْلُبُهَا سَمَاعُ البِشَارَةِ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ:"بِالمَسِيحِ نِلْنَا النِّعْمَةَ بِأَنْ نَكُونَ رُسُلًا، فَنَهْدِيَ إِلَى طَاعَةِ الإِيمَانِ جَمِيعَ الأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ، إِكْرَامًا لاسْمِهِ" (رومة 1: 5).

 

2 فكانَ الفِرِّيسِيُّونَ والكَتَبَةُ يَتَذَمَّرونَ فيَقولون: هذا الرَّجُلُ يَستَقبِلُ الخاطِئينَ ويَأكُلُ مَعَهم!

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "الفِرِّيسِيُّونَ" فِي الأَصْلِ الآرَامِيِّ הַפְּרוּשִׁים (وَمَعْنَاهَا: المُعْتَزِلُونَ)، إِلَى إِحْدَى فِئَاتِ اليَهُودِ الرَّئِيسِيَّةِ الثَّلاث، الَّتِي كَانَتْ تُنَاهِضُ فِئَتَيِ الصَّدُوقِيِّينَ وَالأَسِينِيِّينَ، وَكَانَتْ أَضْيَقَهَا رَأْيًا وَتَعْلِيمًا (أَعْمَال 26: 5)، وكانوا َيَتَجَنَّبُونَ العَشَّارِينَ وَالخَاطِئِينَ. وَيُرَجَّحُ أَنْ يَكُونَ الفِرِّيسِيُّونَ خُلَفَاءَ الحَسِيدِيِّينَ، المُتَظَاهِرِينَ بِالتَّقْوَى، المَذْكُورِينَ فِي سِفْرِ المَكَّابِيِّينَ (1 مكابين ٢: ٤٢)، وَالَّذِينَ اشْتَرَكُوا فِي الثَّوْرَةِ المَكَّابِيَّةِ ضِدَّ أَنْطِيُوخُس أَبِيفَانُوس (175 – 163 ق.م.). وَقَدْ ظَهَرَ الفِرِّيسِيُّونَ بِهٰذَا الاِسْمِ فِي عَهْدِ يُوحَنَّا هِرْكَانُس (135 – 105 ق.م.)، وَسَعَى ابْنُهُ إِسْكَنْدَر يُنِّي بَعْدَهُ إِلَى إِبَادَتِهِمْ، وَلٰكِنَّ زَوْجَتَهُ أَلِكْسَنْدْرَا، الَّتِي خَلَفَتْهُ عَلَى العَرْشِ سَنَةَ 78 ق.م.، رَعَتْهُمْ، فَقَوِيَ نُفُوذُهُمْ، وَأَصْبَحُوا قَادَةَ اليَهُودِ فِي الأُمُورِ الدِّينِيَّةِ. أَمَّا مِنْ حَيْثُ العَقِيدَةِ، فَكَانُوا يُؤْمِنُونَ بِخُلُودِ النَّفْسِ، وَقِيَامَةِ الجَسَدِ، وَوُجُودِ الأَرْوَاحِ (أَعْمَال 23: 8)، وَبِمُكَافَأَةِ الإِنْسَانِ وَمُعَاقَبَتِهِ فِي الآخِرَةِ حَسَبَ صَلَاحِ حَيَاتِهِ الأَرْضِيَّةِ أَوْ فَسَادِهَا. وَلٰكِنَّهُمْ حَصَرُوا الصَّلَاحَ فِي طَاعَةِ الشَّرِيعَةِ، فَجَاءَتْ دِيَانَتُهُمْ ظَاهِرِيَّةً وَلَيْسَتْ قَلْبِيَّةً دَاخِلِيَّةً. وَقَالُوا بِوُجُودِ تَقْلِيدٍ سَمَاعِيٍّ عَنْ مُوسَى، تَنَاقَلَهُ الخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ، فَجَاءَ تَصْرِيحُ المَسِيحِ بِأَنَّ الإِنْسَانَ لَيْسَ مُلْزَمًا بِهٰذَا التَّقْلِيدِ (مَتَّى 15: 2–6). وَكَانَ الفِرِّيسِيُّونَ فِي أَوَّلِ عَهْدِهِمْ مِنْ أَنْبَلِ النَّاسِ خُلُقًا وَأَنْقَاهُمْ دِينًا، وَقَدْ لَاقَوْا أَشَدَّ الِاضْطِهَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ عَلَى مَرِّ الزَّمَنِ دَخَلَ حِزْبَهُمْ مَنْ كَانَتْ أَخْلَاقُهُ دُونَ ذٰلِكَ، فَفَسَدَ جِهَازُهُمْ، وَاشْتُهِرَ مُعْظَمُهُمْ بِالرِّيَاءِ وَالعُجْبِ. فَتَعَرَّضُوا – عَنْ اسْتِحْقَاقٍ – لِلِانْتِقَادِ اللَّاذِعِ وَالتَّوْبِيخِ القَاسِي، حَيْثُ دَعَاهُمْ يُوحَنَّا المَعْمَدَانُ "أَوْلَادَ الأَفَاعِي"، وَقَدْ وَبَّخَهُمُ السَّيِّدُ المَسِيحُ بِشِدَّةٍ عَلَى رِيَائِهِمْ وَكِبْرِيَائِهِمْ وَادِّعَائِهِمُ البِرَّ كَذِبًا، وَقَسَاوَتِهِمْ عَلَى الشَّعْبِ، وَتَحْمِيلِهِمُ النَّاسَ أَثْقَالَ العَرَضِيَّاتِ دُونَ الاِكْتِرَاثِ لِجَوْهَرِ النَّامُوسِ (مَتَّى 5: 20 وَ23: 1–39). وَاسْتِقْبَالُ يَسُوعَ لِلْخَاطِئِينَ دَفَعَ الفِرِّيسِيِّينَ إِلَى التَّذَمُّرِ مِنْهُ. وَكَانَتْ لَدَيْهِمْ يَدٌ بَارِزَةٌ فِي المُؤَامَرَةِ عَلَى حَيَاةِ المَسِيحِ (يُوحَنَّا 11: 47–57). وَمَعَ ذٰلِكَ، فَكَانَ فِي صُفُوفِهِمْ دَوْمًا أَفْرَادٌ مُخْلِصُونَ وَذَوُو أَخْلَاقٍ سَامِيَةٍ، مِنْهُمْ بُولُسُ فِي حَيَاتِهِ الأُولَى (أَعْمَال 23: 6) وَمُعَلِّمُهُ جِمْلَائِيل (أَعْمَال 5: 34). أَمَّا عِبَارَةُ "الكَتَبَةُ"، فَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ γραμματεῖς (وَمَعْنَاهَا: مُعَلِّمُو الشَّرِيعَةِ)، فَتَشِيرُ إِلَى عُلَمَاءِ الكِتَابِ المُقَدَّسِ الَّذِينَ كَانُوا يَنْتَمُونَ إِلَى مَذْهَبِ الفِرِّيسِيِّينَ. فَقَدْ خَصَّصُوا أَنْفُسَهُمْ لِدِرَاسَةِ النَّامُوسِ وَتَفْسِيرِهِ، وَلِدِرَاسَةِ أَسْفَارِ الكِتَابِ المُقَدَّسِ بِوَجْهٍ عَامٍّ، مِنَ الوَجْهَتَيْنِ التَّارِيخِيَّةِ وَالتَّعْلِيمِيَّةِ. وَأَصْبَحَتْ قَرَارَاتُهُمْ شَفَوِيَّةً تُدْعَى "التَّقَالِيد". وَبَلَغُوا أَوْجَ نُفُوذِهِمْ عَلَى الشَّعْبِ فِي أَيَّامِ المَسِيحِ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ أَعْضَاءٌ فِي السَّهْنَدْرِين (مَجْمَعِ اليَهُودِ)، آمَنُوا بِتَعَالِيمِ المَسِيحِ (مَتَّى 8: 19)، إِلَّا أَنَّ أَكْثَرَهُمْ قَامُوا ضِدَّهُ وَتَذَمَّرُوا عَلَيْهِ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ وَجَدُوا أَخْطَاءً فِي أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ (مَتَّى 21: 15). وَعَلَى الكَتَبَةِ يَقَعُ جُزْءٌ كَبِيرٌ مِنْ مَسْؤُولِيَّةِ صَلْبِ المَسِيحِ، وَقَدْ اشْتَرَكُوا مَعَ الحُكَّامِ وَالشُّيُوخِ فِي اضْطِهَادِ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا (أَعْمَال 4: 5)، كَمَا اشْتَرَكُوا فِي اسْتِشْهَادِ إِسْطِفَانُس (أَعْمَال 23: 9). وَقَدْ وَصَفَ السَّيِّدُ المَسِيحُ بَعْضَ الكَتَبَةِ بِـ الْمُرَائِينَ، لِأَنَّ اهْتِمَامَهُمْ كَانَ مُنْصَبًّا عَلَى الأُمُورِ المَادِّيَّةِ العَرَضِيَّةِ دُونَ الرُّوحِيَّةِ الجَوْهَرِيَّةِ (مَتَّى 23). أَمَّا عِبَارَةُ "يَتَذَمَّرُونَ"، فَتَشِيرُ إِلَى احْتِقَارِ الفِرِّيسِيِّينَ وَالكَتَبَةِ لِهٰؤُلَاءِ الجُبَاةِ وَالخَاطِئِينَ، وَبُغْضِهِمْ لَهُمْ لِقُبْحِ سِيرَتِهِمْ. وَأَظْهَرُوا ذٰلِكَ بِتَذَمُّرِهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ أَوْ بِمُخَاطَبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. أَمَّا عِبَارَةُ "هٰذَا الرَّجُلُ"، فَتَشِيرُ إِلَى اسْتِخْفَافٍ بِالمَسِيحِ، كَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ أَنْ يُلَقَّبَ بِـ "مُعَلِّمٍ" أَوْ "رَبِّي" أَوْ "نَبِيٍّ"، بَلِ اعْتَبَرُوهُ خَاطِئًا كَسَائِرِ العَشَّارِينَ، زَعْمًا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذٰلِكَ، لَمَا عَاشَرَهُمْ، بَلْ عَاشَرَ الأَبْرَارَ.  أَمَّا عِبَارَةُ "يَسْتَقْبِلُ الخَاطِئِينَ"، فَتَشِيرُ إِلَى لُطْفِ يَسُوعَ بِهِمْ، وَالسَّمَاحِ لَهُمْ بِأَنْ يَتَعَلَّمُوا مِنْهُ، رَغْبَةً فِي خَلاصِهِمْ. مَا حَسِبَهُ الفِرِّيسِيُّونَ عَارًا عَلَى المَسِيحِ، حَسِبَهُ المَسِيحُ شَرَفًا وَخَيْرًا لِلْخُطَاةِ. وَأَمَّا عِبَارَةُ "يَأْكُلُ مَعَهُمْ"، فَتَشِيرُ إِلَى فُرْصَةٍ لِلْمَسِيحِ لِتَعْلِيمِ الخُطَاةِ، وَإِقْنَاعِهِمْ بِمَحَبَّتِهِ لَهُمْ (مَتَّى 9: 10–11)، وَبِرَحْمَةِ اللهِ بِهِمْ (لوقا 5: 21).

 

3 فضرَبَ لَهم هذا المَثَلَ قال

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "هٰذَا المَثَلَ" إِلَى تَاجِ أَمْثَالِ المَسِيحِ، إِذْ هُوَ إِنْجِيلٌ مُخْتَصَرٌ يُظْهِرُ مَحَبَّةَ اللهِ وَرَحْمَتَهُ لِلْخُطَاةِ، وَرَغْبَتَهُ فِي قَبُولِ الرَّاجِعِينَ إِلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ، وَقِيمَةِ النَّفْسِ مِنْ نَاحِيَةٍ، وَتَوْبِيخٍ لِلْفِرِّيسِيِّينَ المُتَذَمِّرِينَ عَلَيْهِ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى. أَمَّا عِبَارَةُ "المَثَلَ"، فَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ παραβολή فَتَشِيرُ إِلَى حَدِيثٍ مُوجَزٍ لِلمَوْعِظَةِ أَوْ لِلْعِبْرَةِ، أَوْ قِصَّةٍ مُسْتَمَدَّةٍ مِنَ الطَّبِيعَةِ أَوْ مِنَ الحَيَاةِ اليَوْمِيَّةِ، لِإلْقَاءِ مَزِيدٍ مِنَ الضَّوْءِ عَلَى بَعْضِ الحَقَائِقِ الرُّوحِيَّةِ. فَـالمَثَلُ بِالتَّالِيتَعْلِيمٌ، وَلَيْسَ حَدَثًا. يَقُولُ يَسُوعُ لَنَا مَثَلًا مُعَيَّنًا لِلتَّعْبِيرِ عَنْ وَاقِعٍ مُعَيَّنٍ، وَلَيْسَ عَنْ حَدَثٍ مُعَيَّنٍ. وَيَتَرَاوَحُ عَدَدُ الأَمْثَالِ فِي الأَنَاجِيلِ مَا بَيْنَ خَمْسِينَ إِلَى سِتِّينَ مَثَلًا.  وَأَغْنَى الأَنَاجِيلِ بِالأَمْثَالِ هُوَ إِنْجِيلُ لُوقَا، إِذْ فِيهِ نَحْوَ (24) مَثَلًا، مِنْهَا (15) مَثَلًا لا تُذْكَرُ إِلَّا فِيهِ. وَأَمَّا فِي إِنْجِيلِ مَتَّى، فَهُنَاكَ (20) مَثَلًا، مِنْهَا (11) مَثَلًا لا تُذْكَرُ إِلَّا فِيهِ؛ وَأَمَّا فِي إِنْجِيلِ مُرْقُسَ، فَهُنَاكَ (18) مَثَلًا، مِنْهَا (٢) فَقَط لا يُذْكَرَانِ إِلَّا فِيهِ. وَمَعَ أَنَّ كَلِمَةَ "مَثَلٍ" أَوْ "أَمْثَالٍ" لا تُوجَدُ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا، إِلَّا أَنَّ الرَّبَّ يَسُوعَ اسْتَخْدَمَ بَعْضَ التَّشْبِيهَاتِ لِنَفْسِهِ، مِثْلَ: الرَّاعِي الصَّالِح، البَاب، خُبْزِ الحَيَاة، الكَرْمَة. وَكان هَدَفُ يَسُوعَ المَسِيحِ مِنْ اسْتِخْدَامِ الأَمْثَالِ هُوَ تَوْضِيحُ حَقَائِقَ رُوحِيَّةٍ وَإِيصَالُهَا إِلَى أَذْهَانِ السَّامِعِينَ. لِذٰلِكَ، لا بُدَّ مِنْ تَفْسِيرِ الأَمْثَالِ فِي إِطَارِ المَلَكُوتِ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ سَيِّدُنَا يَسُوعُ المَسِيحُ.

 

11 وقال: كانَ لِرَجُلٍ ابنان.

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "الرَّجُلُ" إِلَى شَخْصِ الآبِ السَّمَاوِيِّ، الَّذِي "كَانَ فِي المَسِيحِ مُصَالِحًا لِلْعَالَمِ، وَغَيْرَ مُحَاسِبٍ لَهُمْ عَلَى زَلَّاتِهِمْ" (2 قورنتس 5: 19)، وَهُوَ الشَّخْصُ الرَّئِيسِيُّ فِي هٰذَا المَثَلِ. وَالأُبُوَّةُ فِي نَظَرِ يَسُوعَ هِيَ أَقْرَبُ وَصْفٍ لِصِفَاتِ اللهِ، وَمِنْهَا تَسْتَمِدُّ كُلُّ أُبُوَّةٍ عَلَى الأَرْضِ. كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "لِهٰذَا أَجْثُو عَلَى رُكْبَتَيَّ لِلآبِ، فَمِنْهُ تَسْتَمِدُّ كُلُّ أُسْرَةٍ اسْمَهَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ" (أَفَسُس 3: 14). أَمَّا عِبَارَةُ "ابْنَانِ"، فَتَشِيرُ إِلَى: الابْنِ الأَكْبَرِ: الَّذِي يُمَثِّلُ الفِرِّيسِيِّينَ وَالكَتَبَةَ، وَبِالتَّالِي اليَهُودَ المُتَكَبِّرِينَ، الَّذِينَ يَتَّكِلُونَ عَلَى بِرِّ أَنْفُسِهِمْ، وَالابْنِ الأَصْغَرِ: الَّذِي يُمَثِّلُ العَشَّارِينَ وَالخَاطِئِينَ، وَبِالتَّالِي الأُمَمَ، الَّذِينَ يَعْتَرِفُونَ بِآثَامِهِمْ وَيَطْلُبُونَ رَحْمَةَ اللهِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّسُ الكَبِيرُ قَائِلًا: "إِنَّ الابْنَ الأَكْبَرَ يَنْطَبِقُ عَلَى جَمَاعَةِ الفِرِّيسِيِّينَ، الَّذِينَ يَفْتَخِرُونَ بِأَنَّهُمْ يَسْلُكُونَ بِالْبِرِّ حَسَبَ الشَّرِيعَةِ، لَكِنَّهُمْ فِي كِبْرِيَائِهِمْ يَرْفُضُونَ حُبَّ المُخَلِّصِ لِلْخُطَاةِ وَالعَشَّارِينَ، عِوَضَ الفَرَحِ وَالبَهْجَةِ بِخَلاصِهِمْ."

 

12 فقالَ أَصغَرُهما لِأَبيه: يا أَبَتِ أَعطِني النَّصيبَ الَّذي يَعودُ علَيَّ مِنَ المال. فقَسَمَ مالَه بَينَهما.

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "أَعْطِنِي النَّصِيبَ الَّذِي يَعُودُ عَلَيَّ مِنَ الْمَالِ" إِلَى طَلَبِ الابْنِ الأَصْغَرِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْمِيرَاثِ. وَيُعَدُّ هٰذَا الطَّلَبُ غَيْرَ شَرْعِيٍّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذٰلِكَ أَنَّهُ كَانَ مُتَدَاوَلًا فِي الشَّرِيعَةِ الْيَهُودِيَّةِ أَنَّ الأَبَ – وَهُوَ حَيٌّيُقَسِّمُ أَمْوَالَهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَلَيْسَ بِطَلَبِ أَبْنَائِهِ. فَقَدْ قَسَّمَ أَبُونَا إِبْرَاهِيمُ مَالَهُ عَلَى أَوْلَادِهِ فِي حَيَاتِهِ بِاخْتِيَارٍ مِنْهُ، مَنَعًا لِانْشِقَاقِ الْعَائِلَةِ (التَّكْوِين 25: 5–6). وَالابْنُ الأَصْغَرُ هُنَا طَلَبَ نَصِيبَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ لِيُنْفِقَهُ عَلَى شَهَوَاتِهِ الْجَسَدِيَّةِ، مُتَحَرِّرًا مِنَ اللهِ وَشَرِيعَتِهِ، لِيَكُونَ إِلَهًا لِنَفْسِهِ، يَتْبَعُ مَيْلَ قَلْبِهِ (التَّكْوِين 3: 5). فَقَسَّمَ مَعِيشَتَهُ، وَفَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَوِيهِ، لِأَنَّهُ فَكَّرَ أَنَّ وُجُودَهُ يَتَحَقَّقُ فَقَط عِنْدَمَا يُصْبِحُ وَحِيدًا مُنْعَزِلًا. وَلٰكِنَّ المَسِيحِيَّةَ تُعَلِّمُ أَنَّ الحَيَاةَ لا تَتَحَقَّقُ بِالابْتِعَادِ، بَلْ بِالِاتِّصَالِ. أَمَّا عِبَارَةُ "قَسَمَ مَالَهُ بَيْنَهُمَا"، فَتُشِيرُ إِلَى نَصِيبِ الابْنِ الأَصْغَرِ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَالَّذِي يَبْلُغُ ثُلُثَ أَمْلَاكِ أَبِيهِ، كَمَا تَنْصُّ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ الْيَهُودِيَّةُ (يَشُوعُ بْنُ سِيرَاخ 33: 24). وَأَمَّا الابْنُ الأَكْبَرُ، فَلَهُ نَصِيبُ اثْنَيْنِ (تَثْنِيَةُ الِاشْتِرَاعِ 21: 17). فَالابْنُ لَهُ حِصَّةٌ فِي الْبَيْتِ، وَهٰذِهِ الْحِصَّةُ لَيْسَتْ قَسْمًا مِنَ الْمَالِ فَحَسْب، بَلْ هِيَ "الْبُنُوَّةُ". وَحِينَ يَبْتَعِدُ الابْنُ بِحِصَّتِهِ، يَخْسَرُ حَقِيقَتَهُ الذَّاتِيَّةَ.إِنَّ اللهَ يَتْرُكُ الإِنْسَانَ حُرًّا، وَلَا يُجْبِرُهُ عَلَى خِدْمَةٍ غَيْرِ مَرْضِيَّةٍ، لِيَخْتَبِرَ: هَلْ عُبُودِيَّتُهُ لِشَهَوَاتِهِ أَهْوَنُ مِنَ الخِدْمَةِ للهِ تَعَالَى؟ كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "إِنَّهُمْ عَرَفُوا اللهَ وَلَمْ يُمَجِّدُوهُ وَلَا شَكَرُوهُ كَمَا يَنْبَغِي لِلَّه، بَلْ تَاهُوا فِي آرَائِهِمِ الْبَاطِلَةِ، فَأَظْلَمَتْ قُلُوبُهُمُ الْغَبِيَّةُ..." (رُومَة 1: 21، 28).

 

13 وبَعدَ بِضعَةِ أَيَّامٍ جَمَعَ الاِبنُ الأَصغَرُ كُلَّ شَيءٍ لَه، وسافَرَ إلى بَلَدٍ بَعيد، فَبدَّدَ مالَه هُناكَ في عيشَةِ إِسراف.

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "سَافَرَ" إِلَى رَحِيلٍ أَوْ اغْتِرَابٍ عَن بَلَدِهِ. إنَّهُ يَبْتَعِدُ بِدَافِعِ الحَاجَةِ إِلَى الِاسْتِقْلَالِ، بَحْثًا عَنْ حُرِّيَّةٍ بِلا قُيُودٍ أَوْ رَوَابِطَ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس قَائِلًا: "هُوَ اتِّكَالُ الإِنْسَانِ عَلَى ذَاتِهِ وَقُوَّتِهِ الخَاصَّةِ، فَيَفْقِدُ عَمَلَ اللهِ فِيهِ. وَعَلَى العَكْسِ، الاقْتِرَابُ مِنَ اللهِ يَعْنِي الاتِّكَالَ عَلَيْهِ، لِيَعْمَلَ فِينَا، فَنَصِيرَ عَلَى مِثَالِهِ." أَمَّا عِبَارَةُ "بَلَدٍ بَعِيدٍ" فتُشِيرُ إِلَى بِلَادٍ وَثَنِيَّةٍ غَيْرِ يَهُودِيَّةٍ، بَعِيدَةٍ عَنِ البَيْتِ الأَبَوِيِّ. وَتَدُلُّ عَلَى بُعْدٍ عَنِ اللهِ بِالقَلْبِ وَالمَشَاعِرِ، وَانْغِمَاسٍ فِي مَلَذَّاتِ الْخَطِيئَةِ وَكُلِّ مَا يُرْضِي الشَّهَوَاتِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوس قَائِلًا: "الِابْتِعَادُ الأَعْظَمُ هُوَ انْفِصَالُ الإِنْسَانِ، لَا مِنْ خِلَالِ المَسَافَاتِ المَكَانِيَّةِ، وَإِنَّمَا مِنْ خِلَالِ العَادَاتِ؛ فَلَا يَذْهَبُ إِلَى بِلَادٍ مُخْتَلِفَةٍ، بَلْ يَحْمِلُ اتِّجَاهَاتٍ وَسُلُوكِيَّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَمَنْ يَنْفَصِلُ عَنِ المَسِيحِ، يَتَغَرَّبُ عَنِ الْوَطَنِ، وَيَصِيرُ وَطَنُهُ هٰذَا العَالَمَ." أَمَّا عِبَارَةُ "فَبَدَّدَ مَالَهُ هُنَاكَ" فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ الابْنَ الأَصْغَرَ أَنْفَقَ عَلَى شَهَوَاتِهِ القُوَى وَالمَوَاهِبَ وَالبَرَكَاتِ الَّتِي مَنَحَهُ اللهُ إِيَّاهَا، لِـمَجْدِهِ تَعَالَى وَلِخَيْرِ النَّاسِ. فَهُوَ شَابٌّ مَتَهَوِّرٌ، مُتَلَهِّفٌ وَرَاءَ الحُرِّيَّةِ الخَاصَّةِ، وَبِلَا مَسْؤُولِيَّةٍ، لَا يَعْرِفُ إِلَى أَيْنَ يَسُوقُهُ مَصِيرُهُ عِنْدَمَا يَبْتَعِدُ عَنْ بَيْتِهِ الأَبَوِيِّ. أَمَّا عِبَارَةُ "عِيشَةِ إِسْرَافٍ" فَتُشِيرُ إِلَى العَيْشِ فِي الزِّنَى وَالخَلَاعَةِ، وَالابْتِعَادِ عَنِ اللهِ وَخِيَانَتِهِ، إِذِ انْجَرَّ الابْنُ الأَصْغَرُ لِشَهَوَاتِهِ، مُبْتَعِدًا عَنْ إِرْشَادَاتِ عَقْلِهِ وَوَصَايَا أَبِيهِ. فَقَدْ اسْتَوْلَتِ الْخَطِيئَةُ عَلَيْهِ، فَكَانَ كَـالخَرُوفِ الضَّالِّ (لوقا 15: 4)، وَالدِّرْهَمِ الْمَفْقُودِ (لوقا 15: 8).

 

14 فَلَمَّا أَنفَقَ كُلَّ شَيء، أَصابَت ذلكَ البَلَدَ مَجاعَةٌ شَديدة، فأَخَذَ يَشْكو العَوَز.

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ" إِلَى ضَيَاعِ كُلِّ طَاقَاتِهِ فِي أُمُورِ العَالَمِ وَشَهَوَاتِهِ. فَقَدْ بَدَّدَ الابْنُ كُلَّ نِعْمَةٍ وَمَوْهِبَةٍ كَانَ قَدْ أَخَذَهَا مِنَ اللهِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوس قَائِلًا: "قَدْ بَدَّدَ مِيرَاثَ كَرَامَتِهِ الرُّوحِيَّةِ الَّتِي نَالَهَا فِي الْمَلَذَّاتِ الأَرْضِيَّةِ." أَمَّا عِبَارَةُ "مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ" فَتُشِيرُ إِلَى حُدُوثِ مَجَاعَةٍ، وَهٰذَا لَيْسَ أَمْرًا غَرِيبًا فِي الأَيَّامِ الْقَدِيمَةِ (أَعْمَال الرُّسُلِ 11: 28)، إِذْ لَمْ تَكُنْ وَسَائِلُ النَّقْلِ وَالإِمْدَادَاتِ كَمَا فِي أَيَّامِنَا هٰذِهِ. وَهٰذِهِ المَجَاعَةُ هِيَ رَمْزٌ لِجُوعِ النَّفْسِ الَّتِي ابْتَعَدَتْ عَنِ اللهِ، فَـمَلَذَّاتُ العَالَمِ غَيْرُ قَادِرَةٍ أَنْ تُشْبِعَ. فَإِذَا أَشْبَعَتِ الجَسَدَ، فَهِيَ لَا تُشْبِعُ الرُّوحَ، وَالإِنْسَانُ هُوَ رُوحٌ وَجَسَدٌ، وَالرُّوحُ لَا تَشْبَعُ إِلَّا بِقُرْبِهَا مِنَ اللهِ. فَكَمَا جَذَبَ اللهُ يُونَانَ لِلرُّجُوعِ إِلَيْهِ بِهِيَاجِ البَحْرِ وَالْحُوتِ الَّذِي ابْتَلَعَهُ، جُذِبَ هٰذَا الابْنُ الضَّالُّ بِهٰذِهِ المَجَاعَةِ. وَعُمُومًا، فَأَيُّ نَفْسٍ تَبْتَعِدُ عَنِ اللهِ لا بُدَّ أَنْ تَشْعُرَ بِـ:الْجُوعِ الرُّوحِيِّ، وَالْفَرَاغِ الدَّاخِلِيِّ، لِأَنَّ الإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ عَلَى صُورَةِ اللهِ، وَلَنْ تَشْبَعَ نَفْسُهُ إِلَّا بِقُرْبِهَا مِنْهُ.  أَمَّا عِبَارَةُ "فَأَخَذَ يَشْكُو العَوَزَ"، فَتُشِيرُ إِلَى إِفْلَاسِ الابْنِ الأَصْغَرِ، وَجُوعِهِ بَعْدَ أَنْ تَمَتَّعَ بِـ"حُرِّيَّتِهِ"، َصَرَفَ عَلَى شَهَوَاتِهِ.فَابْتَعَدَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ الأَشْرَارُ عِنْدَمَا أَفْلَسَ، لأَنَّهُمْ أَصْدِقَاءُ الْمَنْفَعَةِ، لا الْمَحَبَّةِ. وَجُوعُ الجَسَدِ لَا يُقَارَنُ بِـجُوعِ النَّفْسِ الَّتِي شَعَرَتْ بِبُعْدِهَا عَنِ اللهِ، كَمَا جَاءَ فِي نُبُوءَةِ إِشَعْيَاءَ لِإِسْرَائِيلَ: "إِنَّ شَرَّكِ يُؤَدِّبُكِ، وَارْتِدَادَاتِكِ تُبَكِّتُكِ، فَاعْلَمِي وَانْظُرِي أَنَّ تَرْكَكِ الرَّبَّ إِلَهَكِ شَيْءٌ سَيِّئٌ وَمُرٌّ، وَأَنَّ مَهَابَتِي لَيْسَتْ فِيكِ، يَقُولُ السَّيِّدُ رَبُّ الْقُوَّاتِ" (إِرْمِيَا 2: 19).

 

15 ثُمَّ ذَهَبَ فالتَحَقَ بِرَجُلٍ مِن أَهلِ ذلكَ البَلَد، فأرسَلَه إلى حُقولِه يَرْعى الخَنازير.

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "فَالْتَحَقَ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ ذٰلِكَ الْبَلَدِ" إِلَى حُصُولِ الابْنِ عَلَى مَعَاشِهِ بِتَعَبِهِ، رَغْبَةً فِي إِصْلَاحِ شَأْنِهِ وَالبَحْثِ عَنْ سَبِيلٍ لِلْحَيَاةِ بَعْدَ سُقُوطِهِ. أَمَّا عِبَارَةُ "يَرْعَى الْخَنَازِيرَ"، فَتُشِيرُ – فِي نَظَرِ الْيَهُودِ – إِلَى الإِهَانَةِ، وَمُنْتَهَى الذُّلِّ وَالنَّجَاسَةِ، لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ حَيَوَانٌ "نَجِسٌ" (تَثْنِيَةُ الِاشْتِرَاعِ 14: 8)، وَمَعْنَى ذٰلِكَ أَنَّ الْخِنْزِيرَ: لَا يُؤْكَلُ، وَلَا يُقَدَّمُ كَذَبَائِحَ، وَيُحَرَّمُ عَلَى الْيَهُودِ مَسُّهُ خَوْفًا مِنَ النَّجَاسَةِ. وَكَانَ رَاعِي الْخَنَازِيرِ مِنْ أَحَطِّ الْمِهَنِ وَأَدْنَاهَا، وَلَا يَتَعَاطَاهَا إِلَّا الفُقَرَاءُ الْمُعْدَمُونَ (لوقا 15: 15)، وَالمُتَدَنُّونَ فِي السُّلَّمِ الاِجْتِمَاعِيِّ. وَلَمْ يَكُنْ يُسْمَحُ لِرَاعِي الْخَنَازِيرِ أَنْ يَدْخُلَ الْهَيْكَلَ، وَلَا أَنْ يَتَزَوَّجَ إِلَّا مِن بَنَاتِ رُعَاةِ الْخَنَازِيرِ مِثْلِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُرْضِي أَحَدٌ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ لِرَاعِي خَنَازِيرَ (هِيرُودُوتُس 2: 47). طَلَبَ هٰذَا الابْنُ التَّخَلُّصَ مِنْ خِدْمَةِ أَبِيهِ الْخَفِيفَةِ، فَاضْطُرَّ إِلَى خِدْمَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ تُعَدُّ –فِي نَظَرِ الْيَهُودِ  أَنْجَسَ وَأَكْرَهَ خِدْمَةٍ. وَكُلُّ ذٰلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الابْنَ الأَصْغَرَ ذَهَبَ إِلَى أَرْضٍ وَثَنِيَّةٍ، وَخَسِرَ كُلَّ كَرَامَتِهِ، وَلَمْ يَقْبَلْ بِهٰذَا العَمَلِ إِلَّا مُكْرَهًا، بِسَبَبِ الْحَاجَةِ، وَالْعَوَزِ، وَفُقْدَانِ مِيرَاثِهِ. أَمَامَ البَطَالَةِ وَالْجُوعِ، لَمْ يَجِدِ الاِبْنُ الضَّالُّ سَبِيلًا سِوَى أَنْ يَتَّخِذَ قَرَارًا مُذِلًّا: أَنْ يَصِيرَ رَاعِيًا لِلْخَنَازِيرِ. وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، كَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَأْكُلَ مِنْ طَعَامِهَا، إِذْ صَارَتْ حَيَاتُهُ تُشْبِهُ حَيَاتَهَا، فَقَدَ مَعَالِمَ الإِنسَانِ، وَتَلَطَّخَتْ هُوِيَّتُهُ بِالْوَحْلِ، وَأَضَاعَ مَعْنَى البُنُوَّةِ، وَنَسِيَ مَكَانَهُ فِي بَيْتِ الآب. مِنْ بَيْتِ الْحُبِّ وَالأُبُوَّةِ وَالأُخُوَّةِ، إلَى حَظِيرَةِ الْخَنَازِيرِ، حَيْثُ الْجُوعُ وَالْعُزْلَةُ وَالْمَذَلَّةُ. أَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ أَيْضًا صُورَةً لِأَحْيَانٍ نُشْبِهُ فِيهَا هَذَا الاِبْنَ؟ نَخْتَارُ بِنَفْسِنَا الطَّرِيقَ الأَبْعَدَ، فَنَجِدُ أَنْفُسَنَا نَفْقِدُ إِنسَانِيَّتَنَا، وَنُشْبِهُ مَا لَمْ نُخْلَقْ لِنُشْبِهَهُ. وَلكِن... الحَظِيرَةُ لَمْ تَكُنِ النِّهَايَة. فِي أَعْمَاقِ الْمُذَلَّةِ، وُلِدَ الْحَنِينُ، وَاشْتَعَلَ الشَّوْقُ...إِلَى بَيْتِ الآب، إِلَى مَكَانِ الْكَرَامَةِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْحَيَاةِ.

 

16 وكانَ يَشتَهي أَن يَملأَ بَطنَه مِنَ الخُرنوبِ الَّذي كانتِ الخَنازيرُ تَأكُلُه، فلا يُعطيهِ أَحَد.

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "كانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلَأَ بَطْنَهُ" إِلَى الْجَائِعِ الَّذِي لَا هَمَّ لَهُ سِوَى أَنْ يُشْبِعَ بَطْنَهُ.  وَهٰذَا يُشِيرُ إِلَى مَلَذَّاتِ العَالَمِ وَشَهَوَاتِهِ، الَّتِي يُحَاوِلُ الْخَاطِئُ أَنْ يَمْلَأَ بِهَا نَفْسَهُ، وَلٰكِنَّهَا لَا تُشْبِعُ. فَـالْخَاطِئُ كُلُّ هَمِّهِ إِشْبَاعُ بَطْنِهِ وَشَهَوَاتِهِ، كَمَا قِيلَ: "إِلَهُهُمْ بَطْنُهُمْ" (فيلبِّي 3: 19). أَمَّا عِبَارَةُ "الخُرْنُوبِ الَّذِي كَانَتِ الْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ"، فَتُشِيرُ إِلَى عَمَلِ الابْنِ الأَصْغَرِ، إِذْ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ حَيْثُ شَجَرُ الْخُرْنُوبِ، فَيَجْنِي ثَمَرَهُ وَيُقَدِّمُهُ طَعَامًا لِلْخَنَازِيرِ. وَالْخَنَازِيرُ وَحْدَهَا هِيَ الَّتِي تَأْكُلُ الخُرْنُوبَ، لِأَنَّهُ الطَّعَامُ الْمُنَاسِبُ لَهَا.  فَـالخُرْنُوبُ: فَارِغٌ فِي الدَّاخِلِ، لَيِّنٌ فِي الْخَارِجِ، يَمْلَأُ الْبَطْنَ بِلَا فَائِدَةٍ غِذَائِيَّةٍ، وَوَزْنُهُ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ. أَمَّا عِبَارَةُ "الخُرْنُوبِ" فَتُشِيرُ إِلَى نَوْعٍ مِنْ ثِمَارِ الشَّجَرِ، تُؤْكَلُ قُرُونُهُ بَعْدَ جَفَافِهَا، وَهُوَ طَعَامٌ لِتَسْمِينِ الْخَنَازِيرِ وَالْمَوَاشِي. وَمَعَ أَنَّهُ طَعَامٌ لِلْحَيَوَانَاتِ، إِلَّا أَنَّ النَّاسَ فِي أَيَّامِ الْمَجَاعَاتِ يَضْطَرُّونَ لِأَكْلِهِ مُجَفَّفًا. وَقَدِ اضْطُرَّ الابْنُ الأَصْغَرُ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الخُرْنُوبِ، لِأَنَّ الأَجْرَ الَّذِي يَتَقَاضَاهُ لَمْ يَكُنْ كَافِيًا لِإِعَالَتِهِ بِخُبْزٍ كَافٍ فِي أَرْضِ الْمَجَاعَةِ.  فَـالجُوعُ هُوَ عَلَامَةُ مَوْتِ الْجَسَدِ، وَخِدْمَةُ الْخَنَازِيرِ هِيَ عَلَامَةُ مَوْتِ النَّفْسِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الابْنَ الأَصْغَرَ وَصَلَ إِلَى الْحَضِيضِ جَسَدًا وَنَفْسًا. أَمَّا عِبَارَةُ "فَلَا يُعْطِيهِ أَحَدٌ"، فَتُشِيرُ إِلَى رِضَى الابْنِ بِطَعَامِ الْخَنَازِيرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ طَعَامًا غَيْرَ الخُرْنُوبِ. وَهٰذَا يُبَيِّنُ إِلَى أَيِّ حَدٍّ وَصَلَ فِيهِ مِنَ الإِذْلَالِ وَالْفَقْرِ وَفُقْدَانِ الْكَرَامَةِ. "تَصِفُ هذِهِ الآيَةُ رِحْلَةَ الاِبْنِ الأَصْغَرِ فِي اِنْحِدَارِهِ الجَسَدِيِّ وَالرُّوحِيِّ.

 

17 فرَجَعَ إلى نَفسِه وقال: كم أَجيرٍ لَأَبي يَفضُلُ عنه الخُبْزُ وأَنا أَهلِكُ هُنا جُوعاً!

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ" إِلَى اسْتَعَادَ ذَاكِرَته، كَيْفَ كَانَ يَعِيشُ فِي حِضْنِ البَيْتِ الأَبَوِيِّ، يَتَمَتَّعُ بِـ بُنُوَّةٍ لَا مَثِيلَ لَهَا، مَلِيئَةٍ بِالكَرَامَةِ، وَالمَحَبَّةِ، وَالعِيشَةِ الوَاثِقَةِ فِي قَلْبِ الآب. صَوْتُ الآبِ، الَّذِي كَانَ يَغْمُرُهُ بِالحَنَانِ، وَخُبْزُ البَيْتِ الَّذِي لَمْ يُفَارِقْهُ أَبَدًا، كُلُّ ذَلِكَ بَدَأَ يَرْتَسِمُ فِي أَعْمَاقِ نَفْسِهِ، فَتَوَلَّدَ فِي دَاخِلِه صَوْتٌ جَدِيدٌ، صَوْتُ الْقَرَارِ، صَوْتُ الرُّجُوعِ، صَوْتُ الاِعْتِرَافِ وَالأَمَلِ: "أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي...". وهي الخُطْوَةِ الأُولَى مِن رُجُوعِهِ إِلَى أَبِيهِ، وَرُجُوعِهِ إِلَى ذَاتِهِ، وَهٰكَذَا سَارَ الابْنُ الأَصْغَرُ بِمُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالضَّمِيرِ، اسْتِعْدَادًا لِلرُّجُوعِ إِلَى اللهِ. إِنَّهَا نُقْطَةُ التَّحَوُّلِ وَبِدَايَةُ طَرِيقِ التَّوْبَةِ، حَيْثُ أَنَّ كَلِمَةَ "تَوْبَةٍ" تَعْنِي تَغْيِيرَ الْفِكْرِ. فَقَدِ اسْتَخْدَمَ عَقْلَهُ وَضَمِيرَهُ، وَلَيْسَ عَوَاطِفَهُ وَشَهَوَاتِهِ.  إِنَّهُ أَدْرَكَ الْحَقِيقَةَ، كَمَا حَدَثَ مَعَ القِدِّيسِ بُطْرُسَ عِنْدَمَا أَنْكَرَ الرَّبَّ ثُمَّ تَطَلَّعَ إِلَيْهِ: "فَخَرَجَ مِنَ الدَّارِ وَبَكَى بُكَاءً مُرًّا" (لوقا 22: 62). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس قَائِلًا: "الآنَ يَعُودُ إِلَى نَفْسِهِ، فَيَعُودُ إِلَى أَبِيهِ، حَيْثُ تَكُونُ نَفْسُهُ فِي أَمَانٍ تَامٍّ." وَهٰذِهِ العِبَارَةُ تَدُلُّ عَلَى أُسْلُوبٍ مُمَيَّزٍ فِي أَمْثَالِ إِنْجِيلِ لُوقَا، يُعَبِّرُ فِيهِ الشَّخْصُ عَنْ فِكْرِهِ بِـكَلَامٍ يُحَدِّثُ فِيهِ نَفْسَهُ، فَيَجِدَ نَفْسَهُ فِي صِرَاعٍ دَاخِلِيٍّ بَيْنَ خِيَارَيْن: إِمَّا أَنْ يُتَابِعَ تَمَرُّدَهُ وَابْتِعَادَهُ، فَيَبْقَى فِي بُؤْسِهِ الْمُدْقِعِ حَتَّى الْمَوْتِ، وَإِمَّا أَنْ يَتَوَاضَعَ وَيَعُودَ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ، فَيَجِدَ الْفَرَحَ وَالشِّبَعَ. أَمَّا عِبَارَةُ "كَمْ أَجِيرٍ لِأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ"، فَتُشِيرُ إِلَى الْبَيْتِ الأَبَوِيِّ، الَّذِي يُوصَفُ كَمَنْزِلٍ يَتَوَفَّرُ فِيهِ الطَّعَامُ وَالْخُبْزُ، بَدَلَ الخُرْنُوبِ. إِذْ تَذَكَّرَ الابْنُ الأَصْغَرُ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ فِيهِ حَتَّى الشَّبَعِ، وَلَا يَنْقُصُ فِيهِ شَيْءٌ، حَتَّى الأُجَرَاءُ كَانُوا يَأْكُلُونَ بِوَفْرَةٍ. فَهُنَاكَ: أَبٌ يُطْعِمُ الْجَمِيعَ بِوَفْرَةٍ، وَمِنْ جَانِبٍ آخَرَ، هُنَاكَ ابْنٌ أَصْبَحَ أَجِيرًا وَلَا يُعْطِيهِ أَحَدٌ شَيْئًا. يَعِيشُ بَعِيدًا عَنْ بَيْتِهِ الأَبَوِيِّ فِي جُوعٍ شَدِيدٍ، بَيْنَمَا الأُجَرَاءُ فِي بَيْتِ أَبِيهِ يَشْبَعُونَ! ذَكَرَ الابْنُ حَالَ بَيْتِ أَبِيهِ، وَقَابَلَهَا بِـحَالَتِهِ التَّعِيسَةِ. فَـالْخَاطِئُ يُقَارِنُ حَالَهُ بِـحَالِ وَاحِدٍ مِنَ الأُجَرَاءِ. أَمَّا عِبَارَةُ "أَجِيرٍ"، فَتُشِيرُ إِلَى الْعَامِلِ الَّذِي يَعْمَلُ لِقَاءَ أُجْرَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا، َهُوَ رَمْزٌ لِمَنْ يَحْيَا بِرُوحِ الْعُبُودِيَّةِ، وَلَا يَعْمَلُ عَنْ حُبٍّ، بَلْ طَمَعًا فِي الأُجْرَةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "أَنَا أَهْلِكُ هُنَا جُوعًا!"، فَتُشِيرُ إِلَى الابْنِ الأَصْغَرِ، الَّذِي رَأَى نَفْسَهُ لَا فَارِغَ الْيَدَيْنِ وَالْمَعِدَةِ فَقَط، بَلْ وَالْقَلْبِ أَيْضًا، لَا صَدِيقَ لَهُ، وَلَا مُعِينَ، وَلَا مَأْوًى. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الْفَمِ: "أَحَسَّ بِهَلَاكِهِ، مُدْرِكًا أَنَّهُ بِإِرَادَتِهِ أَلْقَى بِنَفْسِهِ فِي أَيْدِي الْغُرَبَاءِ بَعِيدًا عَنْ أَبِيهِ، فَصَارَ فِي مَنْفًى عِوَضَ بَيْتِهِ، وَفِي عَوَزٍ عِوَضَ الْغِنَى، وَفِي مَجَاعَةٍ عِوَضَ الْخَيْرَاتِ وَالتَّرَفِ." هُنَا نَجِدُ نَتِيجَةَ خِدْمَةِ الْعَالَمِ بَدَلًا مِنْ خِدْمَةِ اللهِ. فَـعَذَابُ الإِنْسَانِ هُوَ فِي الِانْفِصَالِ عَنِ اللهِ، لِأَنَّهُ خُلِقَ عَلَى صُورَتِهِ وَمِثَالِهِ، وَلَنْ يَرْتَاحَ إِلَّا فِيهِ، كَمَا يَقُولُ الْعَلَّامَةُ أُوغُسْطِينُوس. وَمَهْمَا حَاوَلَ أَنْ يَشْبَعَ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ، فَلَنْ يُفْلِحَ، لِأَنَّ شَبْعَهُ الْحَقِيقِيَّ هُوَ فِي بَيْتِ الْآبِ. فَـالشُّعُورُ بِالشَّقَاءِ هُوَ فُرْصَةٌ لِلاِسْتِعْدَادِ لِلرُّجُوعِ إِلَى الآبِ السَّمَاوِيِّ الَّذِي يَنْتَظِرُهُ، كَمَا جَاءَ فِي رِسَالَةِ العِبْرَانِيِّينَ: "بَسَطْتُ يَدَيَّ طَوَالَ النَّهَارِ لِشَعْبٍ عَاصٍ مُتَمَرِّدٍ" (العِبْرَانِيِّينَ 19: 21). هذِهِ الآية تُتَوِّجُ العُمْقَ الرُّوحِيَّ وَاللّاهُوتِيَّ فِي رِحْلَةِ الاِبْنِ الأَصْغَرِ، مُظْهِرَةً لَحْظَةَ التَّحَوُّلِ المَحْوَرِيَّةَ فِي هَذَا المَثَلِ العَمِيقِ."

 

18 أَقومُ وأَمضي إلى أَبي فأَقولُ لَه: يا أَبتِ إِنِّي خَطِئتُ إلى السَّماءِ وإِلَيكَ.

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "أَقُومُ" إِلَى قَرَارٍ إِيجَابِيٍّ، يَتَجَلَّى فِي الرُّجُوعِ عَمَّا هُوَ فِيهِ، نَتِيجَةً لِـتَأَمُّلِهِ فِي سُوءِ الْحَالِ الَّتِي صَارَ إِلَيْهَا. وَهٰذَا القَرَارُ هُوَ قِيَامَةُ الابْنِ الأَصْغَرِ مِنْ مَوْتِ الْجَسَدِ، وَمَوْتِ النَّفْسِ. وَهٰذَا القَرَارُ يُسَمَّى التَّوْبَةَ، وَالتَّوْبَةُ لَيْسَتْ عَمَلًا سَلْبِيًّا، فِيهِ يَكْتَشِفُ الإِنْسَانُ ضَعْفَهُ وَهَلَاكَهُ، بَلْ هِيَ عَمَلٌ إِيجَابِيٌّ، يَقْبَلُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ مَسِيحَهُ كَسِرِّ قِيَامَتِهِ وَحَيَاتِهِ، مُشْتَاقًا أَنْ يَبْلُغَ قِيَاسَ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ (أَفَسُس 4: 13). فَكَأَنَّ بَرِيقًا أَنَارَهُ، وَذَكَّرَهُ بِـالرَّفَاهِيَةِ الَّتِي كَانَ غَارِقًا فِيهَا فِي بَيْتِهِ الأَبَوِيِّ، فَفَاضَ قَلْبُهُ بِالْحَنِينِ، وَعَرَفَ خَطَأَهُ، وَنَدِمَ عَلَى فِعْلَتِهِ. أَمَّا عِبَارَةُ "خَطِئْتُ"، فَهِيَ مُصْطَلَحٌ عِبْرِيٌّ חָטָאתִי (مَعْنَاهُ: ارْتَكَبْتُ ذَنْبًا بِتَعَمُّدٍ)؛ وَتُشِيرُ إِلَى الاِعْتِرَافِ بِالْخَطَأِ، وَمُوَاجَهَةِ الْخَطِيئَةِ بِتَوَاضُعٍ وَثِقَةٍ، وَلَوْمِ الذَّاتِ. فَطَرِيقُ الْمَلَكُوتِ يَبْدَأُ بِلَوْمِ الذَّاتِ وَالاعْتِرَافِ:" أَنَا خَطِئْتُ".  وَبالرغم منَ مَعْرفة اللهَ بكُلَّ شَيْءٍ، فَهُوَ يَنْتَظِرُ هٰذَا الاعْتِرَافَ، لِأَنَّ: الاعْتِرَافَ بِالْخَطِيئَةِ شَرْطٌ ضَرُورِيٌّ لِلْمَغْفِرَةِ، وَلَا تَكُونُ التَّوْبَةُ صَحِيحَةً دُونَ الاِعْتِرَافِ. كَمَا جَاءَ فِي الرِّسَالَةِ الأُولَى لِيُوحَنَّا: "إِذَا اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا، فَإِنَّهُ أَمِينٌ بَارٌّ يَغْفِرُ لَنَا خَطَايَانَا، وَيُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ" (1 يُوحَنَّا 1: 9). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَنْطُونِيُوسُ الْكَبِيرُ: "إِذَا سَلَّمَتِ النَّفْسُ ذَاتَهَا لِلرَّبِّ، بَطَلَتْ قُوَّتُهَا، وَيُظْهِرُ اللهُ الصَّالِحُ لَهَا هٰذِهِ الْأَوْجَاعَ وَالْعُيُوبَ وَاحِدَةً فَوَاحِدَةً، لِكَيْ تَحِيدَ عَنْهَا." وَهٰكَذَا يَلِيقُ بِكُلِّ خَاطِئٍ أَنْ يُصَلِّي كَقَوْلِ الْعَشَّارِ: "اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي أَنَا الْخَاطِئَ!" (لوقا 18: 13). فَـعَلَامَةُ التَّوْبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ هِيَ أَنْ يَشْعُرَ الْخَاطِئُ بِأَنَّهُ أَخْطَأَ إِلَى اللهِ، وَأَنَّ ذٰلِكَ أَعْظَمُ جُرْمًا مِنَ الْأَخْطَاءِ إِلَى النَّاسِ. كَذٰلِكَ كَانَتْ تَوْبَةُ دَاوُدَ، إِذْ قَالَ: "إِلَيْكَ وَحْدَكَ خَطِئْتُ، وَالشَّرَّ أَمَامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ" (مزمور 51: 6). أَمَّا عِبَارَةُ "السَّمَاءِ"، فَتُشِيرُ إِلَى اللهِ، دُونَ ذِكْرِ اسْمِهِ الَّذِي لَا يُوصَفُ (دَانِيال 14: 22)، وَمَسْكَنِ اللهِ الْخَاصِّ. وَلِذٰلِكَ يُقَالُ: إِنَّ اللهَ فِي السَّمَاءِ، وَأَنَّهُ إِلَهُ السَّمَاءِ، وَمَشِيئَتُهُ نَافِذَةٌ هُنَاكَ. فجاءت صلاة يسوع لتلاميذه "لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ، لِيَكُنْ مَا تَشَاءُ فِي الأَرْضِ كَمَا فِي السَّمَاءِ" (متى 6: 10).  فَـالْمَسِيحُ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، وَصَعِدَ إِلَيْهَا، وَهُوَ فِيهَا (يُوحَنَّا 3: 13)، وَهُنَاكَ تَسْكُنُ الْمَلَائِكَةُ، وَيَسُودُ الْفَرَحُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ هَيَّأَ الْمَسِيحُ فِيهَا مَنَازِلَ كَثِيرَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (يُوحَنَّا 14: 2)، وَصَعِدَ إِيلِيَّا فِي عَاصِفَةٍ إِلَيْهَا (2 ملوك 2: 1)، وَلِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِيرَاثٌ فِيهَا (1 بُطْرُس 1: 4). وَقَدْ قَالَ الرَّبِّيونَ إِنَّهُ هُنَاكَ سَبْعُ سَمَاوَاتٍ، وَلٰكِن بُولُسَ الرَّسُولَ يَقُولُ: "إِنَّهُ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ" (2 قُورِنْتُس 12: 2). السَّمَاءُ الأُولَى: سَمَاءُ السُّحُبِ وَالطُّيُورِ، السَّمَاءُ الثَّانِيَة: سَمَاءُ الْكَوَاكِبِ وَالنُّجُومِ، السَّمَاءُ الثَّالِثَة: مَظْهَرُ الْمَجْدِ الإِلَهِيِّ، وَمَسْكَنُ الْمَسِيحِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْقِدِّيسِينَ، وَحَالَتُهَا فَوْقَ فَهْمِنَا (أَفَسُس 1: 3). أَمَّا عِبَارَةُ "إِلَيْكَ"، فَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ ἐνώπιόν σου (مَعْنَاهَا: قُدَّامَكَ)، وَتُشِيرُ إِلَى اعْتِرَافِ الإِنْسَانِ لِلهِ، وَالاتِّضَاعِ أَمَامَهُ تَائِبًا.

 

19 ولَستُ أَهْلاً بَعدَ ذلك لِأَن أُدْعى لَكَ ابناً، فاجعَلْني كأَحَدِ أُجَرائِكَ.

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "لَسْتُ أَهْلًا بَعْدَ ذٰلِكَ لِأَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا" إِلَى اعْتِقَادِ الِابْنِ الأَصْغَرِ ليس باسْتِطَاعتِه الدُّخُولَ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ، عَلَامَةً مِنْ عَلامَاتِ التَّوَاضُعِ وَعَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَبِالتَّالِي، التَّوْبَةِ الحَقِيقِيَّةِ. فَـأَوَّلًا: يَعْتَرِفُ الإِنْسَانُ بِخَطِيئَتِهِ، ثُمَّ يَتَوَاضَعُ، وَيُقَرِّرُ أَنْ يُغَيِّرَ، مُسْتَسْلِمًا كُلِّيًّا لِرَحْمَةِ اللهِ، عَالِمًا أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِمَحَبَّةِ الآبِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوس قَائِلًا: "الأَبُ يُنْصِتُ إِلَيْكَ، وَأَنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ فِي دَاخِلِكَ، وَيُسْرِعُ لِمُقَابَلَتِكَ." فَمِنْ عَلَامَاتِ التَّوْبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ هُوَ التَّوَاضُعُ، وَأَفْضَلُ بُرْهَانٍ عَلَيْهِ هُوَ شُعُورُ الإِنْسَانِ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ. أَمَّا الِابْنُ الأَكْبَرُ، فَعَلَى العَكْسِ، فَهُوَ يَرَى نَفْسَهُ مُسْتَحِقًّا لِدُخُولِ البَيْتِ، لَكِنَّهُ لا يُرِيدُ أَنْ يَسْكُنَ فِي بَيْتٍ يُوجَدُ فِيهِ ذَلِكَ الأَخُ الَّذِي يَعْتَبِرُهُ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ (لوقا 15: 28). أَمَّا عِبَارَةُ "فَاجْعَلْنِي كَأَحَدِ أُجَرَائِكَ"، فَتُشِيرُ إِلَى شُعُورٍ عَمِيقٍ بِعَدَمِ الاسْتِحْقَاقِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ نَصِيبَهُ مِنْ قَبْلُ وَبَدَّدَهُ. وَلٰكِنَّ الآبَ فِي مَحَبَّتِهِ لَمْ يَسْمَحْ لَهُ أَنْ يَقُولَ هٰذِهِ الْعِبَارَةَ (لوقا 15: 23)، لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُهُ كَأَجِيرٍ، بَلْ يُعِيدُهُ كَابْنٍ.  أَمَّا عِبَارَةُ "الأَجِيرِ"، فَتُشِيرُ إِلَى مَنْ يَحْيَا بِرُوحِ الْعُبُودِيَّةِ، وَالَّذِي يَعْمَلُ لَيْسَ عَنْ مَحَبَّةٍ، بَلْ طَمَعًا فِي الأُجْرَةِ. وَهٰكَذَا الخَطِيئَةُ تُغَيِّرُ نَظْرَةَ الابْنِ لِأَبِيهِ، فَيَرَاهُ سَيِّدًا، وَيَرَى نَفْسَهُ خَادِمًا، بَعْدَ أَنْ كَانَ يَرَاهُ أَبًا مُحِبًّا وَيَرَى نَفْسَهُ ابْنًا عَزِيزًا. تُوَفِّقُ هذِهِ الآيَةُ بَيْنَ العُمْقِ الرُّوحِيِّ وَالإِتْقَانِ اللّاهُوتِيِّ، فِي تَعْبِيرٍ بَلِيغٍ وَمُؤَثِّرٍ.

 

20 فقامَ ومَضى إلى أَبيه. وكانَ لم يَزَلْ بَعيداً إِذ رآه أَبوه، فتَحَرَّكَت أَحْشاؤُه وأَسرَعَ فأَلْقى بِنَفسِه على عُنُقِه وقَبَّلَه طَويلاً

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "فَقَامَ وَمَضَى إِلَى أَبِيهِ" إِلَى عَوْدَةِ الابْنِ الضَّالِّ إِلَى أَبِيهِ، وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ تَوْبَتِهِ، وَكَأَنَّهُ يَسْمَعُ صَوْتَ النَّبِيِّ زَكَرِيَّا: "هٰكَذَا قَالَ رَبُّ الْقُوَّاتِ: اِرْجِعُوا إِلَيَّ، يَقُولُ رَبُّ الْقُوَّاتِ، فَأَرْجِعَ إِلَيْكُمْ" (زَكَرِيَّا 1: 3). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الْفَمِ قَائِلًا: "قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: كَيْفَ أَرْجِعُ؟ فَقَطِ ابْتَدِئْ بِالْعَمَلِ، فَيَتَحَقَّقَ كُلُّ شَيْءٍ." فَقَدْ أَدْرَكَ الابْنُ أَنَّ الْمَسَافَةَ مَهْمَا طَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ لَا تُمَثِّلُ عَائِقًا. وَمَا فَعَلَهُ الابْنُ هُنَا يُشْبِهُ مَا فَعَلَهُ الْجُبَاةُ وَالْخُطَاةُ عِنْدَمَا: "كَانُوا يَدْنُونَ مِنْهُ لِيَسْمَعُوهُ (لوقا 15: 1). أَمَّا عِبَارَةُ "كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيدًا إِذْ رَآهُ أَبُوهُ"، فَتُشِيرُ إِلَى انْتِظَارِ الآبِ، وَتَوَقُّعِهِ عَوْدَةَ ابْنِهِ الضَّالِّ، وَتَرَقُّبِهِ بِقَلْبٍ مُمْتَلِئٍ مَحَبَّةً وَحِكْمَةً وَبَصِيرَةً. إِنَّهُ: الأَبُ الْمُحِبُّ، الَّذِي يَرْغَبُ بِقَلْبِهِ فِي رُجُوعِ ابْنِهِ، وَيَرَى بِعَقْلِهِ أَنَّ ذٰلِكَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ تَشَرُّدِهِ وَضَيَاعِهِ.  أَمَّا عِبَارَةُ "فَتَحَرَّكَتْ أَحْشَاؤُهُ"، فَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ: ἐσπλαγχνίσθη، وَتُشِيرُ إِلَى تَحَنُّنِ الآبِ عَلَى ابْنِهِ، لِمَا صَارَ إِلَيْهِ مِنْ سُوءِ حَالٍ. فَـرَقَّ لَهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَفَاضَ قَلْبُهُ بِالْحَنَانِ. أَمَّا عِبَارَةُ "أَسْرَعَ"، فَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ τρέχω (مَعْنَاهَا: رَكَضَ)، وَتُشِيرُ إِلَى تَصَرُّفٍ اسْتِثْنَائِيٍّ فِي عُرْفِ أَهْلِ الشَّرْقِ، إِذْ الرَّكْضُ جِهَارًا أَمَامَ النَّاسِ، لَيْسَ مِنْ شِيمَةِ أَصْحَابِ النُّفُوسِ الْوَقُورَةِ. وَعَلَى حَدِّ قَوْلِ أَرِسْطُو: "الرَّكْضُ لا يَلِيقُ بِذَوِي الْمَقَامِ." وَمَعَ ذٰلِكَ، رَكَضَ الآبُ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَحَبَّتِهِ الْعَظِيمَةِ، وَمَسَرَّتِهِ بِرُجُوعِ ابْنِهِ، وَلَمْ يَأْتِ لِيُوَبِّخَهُ، بَلْ لِيَضُمَّهُ وَيُقَبِّلَهُ، ويُعِيدُ لَهُ كَرَامَتَهُ كَابْنٍ، وَهِيَ كَرَامَةٌ لَمْ يَسْتَطِعِ الزَّمَنُ وَلَا البُعْدُ أَنْ يَمْحُوَ أَثَرَهَا. وَيَقُولُ الْكَاتِبُ الفَرَنْسِيُّ بِيَرُو كُورْنِيِيه: "لِلْقَلْبِ أَسْبَابٌ لَا يَعْرِفُهَا الْعَقْلُ." فَقَلْبُ الآبِ يُرِيدُ أَنْ يَرْفَعَ مِنْ مَعْنَوِيَّاتِ ابْنِهِ، وَيُشَجِّعَهُ، كَمَا أَنَّ مَحَبَّةَ الآبِ تَتَجَلَّى فِي تَضْحِيَةِ ابْنِهِ يَسُوعَ فِدَاءً لِلْخَاطِئِينَ: "إِنَّ اللهَ أَحَبَّ الْعَالَمَ، حَتَّى إِنَّهُ جَادَ بِابْنِهِ الْوَحِيدِ، لِكَيْ لَا يَهْلَكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونَ لَهُ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ" (يُوحَنَّا 3: 16). أَمَّا عِبَارَةُ "فَأَلْقَى بِنَفْسِهِ عَلَى عُنُقِهِ"، فَتُشِيرُ إِلَى عَلَامَةِ حُبِّهِ، كَمَا فَعَلَ: يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ مَعَ أَخِيهِ بِنْيَامِينَ (التَّكْوِين 45: 14). أَمَّا عِبَارَةُ "قَبَّلَهُ"، فَتُشِيرُ إِلَى عَلَامَةِ الصَّفْحِ وَالسَّلَامِ، وَتَعْبِيرٍ عَنْ الْمَحَبَّةِ الْأَبَوِيَّةِ، وَالْمَغْفِرَةِ بِلَا عِتَابٍ أَوْ جَرْحٍ لِلْمَشَاعِرِ. كَذٰلِكَ قَبَّلَ دَاوُدُ الْمَلِكُ ابْنَهُ أَبْشَالُوم، غَافِرًا لَهُ إِثْمَهُ (2 صَمُوئِيل 14: 33). وَيَعْكِسُ هٰذَا الِاسْتِقْبَالُ الْوَالِدِيُّ صُورَةَ الآبِ الأَزَلِيِّ، الَّذِي يَنْتَظِرُنَا دَوْمًا بَعْدَ تَوْبَتِنَا. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوس: "هَكَذَا يَحْتَضِنُكَ الرَّبُّ عِنْدَمَا تَتُوبُ."فَعِنْدَمَا نُخْطِئُ نَحْيَا فِي الْغُرْبَةِ، وَلٰكِنَّ اللهَ لَا يَنْسَانَا، بَلْ يَنْتَظِرُ عَوْدَتَنَا بِذِرَاعَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ، كَأَنَّ شَيْئًا لَمْ يَحْدُثْ. إَنَّ اللهَ يَخْتَارُ أَنْ يَدْخُلَ فِي غُرْبَتِنَا لِيَقْتَرِبَ مِنَّا حَيْثُمَا كُنَّا، فَيُرْسِلَ ابْنَهُ، يَسُوعَ، لِيَكُونَ رَفِيقًا لَنَا فِي رِحْلَتِنَا، وَيُشَارِكَنَا أَعْمَاقَ ضَعْفِنَا وَظُرُوفَنَا.

 

21 فقالَ لَه الِابْن: يا أَبَتِ، إِنِّي خَطِئتُ إلى السَّماءِ وإِلَيكَ، ولَستُ أَهْلاً بَعدَ ذلِكَ لأَن أُدْعى لَكَ ابناً.

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "يَا أَبَتِ" إِلَى مُنَادَاةِ الابْنِ الضَّالِّ لِأَبِيهِ بِثِقَةٍ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ أَسَاءَ إِلَيْهِ. أَمَّا الأَبُ، فَلَمْ يُشِرْ إِلَى خَطِيئَةِ وَلَدِهِ بِشَيْءٍ: لَا بِمَلَامِحِ وَجْهِهِ، وَلَا بِكَلِمَاتِهِ. وَمَعَ ذٰلِكَ، اعْتَرَفَ الابْنُ بِذَنْبِهِ، لِأَنَّهُ شَعَرَ بِمَحَبَّةِ أَبِيهِ لَهُ. فَلْـنَتَعَلَّمْ نحن كَيْفَ نَتَضَرَّعُ إِلَى الآبِ...يَا لِرَحْمَةِ اللهِ وَعَطْفِهِ! الَّذِي لَا يَرْفُضُ مُنَادَاتَنَا "يَا أَبَتِ"، رَغْمَ إِسَاءَتِنَا إِلَيْهِ تَعَالَى. أَمَّا عِبَارَةُ "إِنِّي خَطِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَإِلَيْكَ" عْبِيرٌ عِبْرِيٌّ: חָטָאתִי גַּם לְשָׁמַיִם فَتُشِيرُ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِالذَّنْبِ قُدَّامَ سَيِّدِ الرَّحْمَةِ، وَأَمَامَ دَيَّانِ الْخَطِيئَةِ. اللهُ يَعْرِفُ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَكِنَّهُ يَنْتَظِرُ الإِقْرَارَ بِالِاعْتِرَافِ، لِأَنَّهُ:"الشَّهَادَةُ بِالْفَمِ تُؤَدِّي إِلَى الْخَلَاصِ" (رُومَة 10: 10). فَلَا نَتَرَدَّدْ أَنْ نَعْتَرِفَ بِخَطَايَانَا، فَيَشْفَعَ فِينَا الْمَسِيحُ، لِأَنَّهُ هُوَ شَفِيعُنَا لَدَى الآبِ، كَمَا جَاءَ فِي: "إِذَا خَطِئَ أَحَدٌ، فَهُنَاكَ شَفِيعٌ لَنَا عِنْدَ الآبِ، وَهُوَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ الْبَارُّ" (1 يُوحَنَّا 2: 1). أَمَّا عِبَارَةُ "لَسْتُ أَهْلًا بَعْدَ ذٰلِكَ لِأَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا"، فَتُشِيرُ إِلَى تَوَاضُعِ الابْنِ الضَّالِّ، وَإِعْلَانِهِ أَنَّهُ مُخْطِئٌ وَغَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْبُنُوَّةِ. وَعِنْدَئِذٍ، قاطعه أَبُوهُ قَبْلَ أن يُكْمِلُ جُمْلَتَهُ: "فَاجْعَلْنِي كَأَحَدِ أُجَرَائِكَ" (لوقا 15: 19). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوس: "يَلِيقُ بِالْخَاطِئِ أَلَّا يَتَكَبَّرَ، بَلْ يَرْجِعَ مُتَوَاضِعًا." فَـالأَبُ يُنْصِتُ لِاعْتِرَافِ ابْنِهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَسْمَحُ لَهُ بِالْمَذَلَّةِ، فَلَا يَتْرُكُهُ يُكْمِلُ كَلَامَهُ "اجْعَلْنِي كَأَحَدِ أُجَرَائِكَ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس: "لَمْ يَقُلِ الابْنُ: اجْعَلْنِي كَأَحَدِ أُجَرَائِكَ، لِأَنَّهُ عِنْدَمَا كَانَ فِي عَوَزٍ إِلَى خُبْزٍ، اشْتَاقَ أَنْ يَكُونَ وَلَوْ عَبْدًا. لَكِنَّهُ إِذْ تَقَبَّلَ الْقُبْلَةَ مِنْ أَبِيهِ بِنُبْلٍ، كَفَّ عَنْ ذٰلِكَ." "تُعَدُّ هذِهِ الآيَةُ تَتْوِيجًا لِمَسِيرَةِ التَّوْبَةِ فِي مَثَلِ الاِبْنِ الضَّالِّ، وَتُضِيءُ اللَّحْظَةَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي تَمْتَزِجُ فِيهَا الثِّقَةُ بِرَحْمَةِ اللهِ مَعَ تَوَاضُعِ الاِعْتِرَافِ وَالاِنْسِحَاقِ."

 

22 فقالَ الأَبُ لِخَدَمِه: أَسرِعوا فأتوا بِأَفخَرِ حُلَّةٍ وأَلبِسوه، واجعَلوا في إِصبَعِه خاتَماً وفي قَدَمَيه حِذاءً،

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "حُلَّةٍ" إِلَى إِرْجَاعِ الْكَرَامَةِ لِلِابْنِ، وَهِيَ عَلَامَةُ الرِّضَا التَّامِّ وَالإِكْرَامِ، كَمَا جَاءَ فِي (التَّكْوِين 41: 42). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس: "الْكَرَامَةُ الَّتِي فَقَدَهَا آدَم."  وَبِهٰذَا الأَمْرِ يُعِيدُهُ أَبُوهُ إِلَى حَضْنِ الْعَائِلَةِ، وَيُعْطِيهِ كُلَّ حُقُوقِهِ الْمَفْقُودَةِ. لَمْ يَقْبَلِ الأَبُ أَنْ يَعُودَ ابْنُهُ كَعَبْدٍ أَوْ خَادِمٍ، بَلْ كَابْنٍ وَارِثٍ مِنْ جَدِيدٍ. وَيَرَى القِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوس فِي الْحُلَّةِ: "ثَوْبَ الْحِكْمَةِ، وَالْكِسَاءَ الرُّوحِيَّ، وَثَوْبَ الْعُرْسِ." وَهٰكَذَا، يَرَى آبَاءُ الْكَنِيسَةِ فِي الْحُلَّةِ: "ثَوْبَ الْمَعْمُودِيَّةِ." أَمَّا عِبَارَةُ "وَاجْعَلُوا فِي إِصْبَعِهِ خَاتَمًا"، فَتُشِيرُ إِلَى وَضْعِ خَاتَمِ الصَّدَاقَةِ فِي يَدِهِ، دَلَالَةً عَلَى التَّغْيِيرِ الدَّاخِلِيِّ الَّذِي أَظْهَرَهُ بِالنَّدَمِ الصَّادِقِ. وَعِبَارَةُ "اجْعَلُوا فِي إِصْبَعِهِ" تَكْشِفُ أَنَّ الكَلَامَ مُوَجَّهٌ لِلْخَدَمِ، لَيْسَ لِلِابْنِ نَفْسِهِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الْفَمِ: "إِنَّ الآبَ لَا يُوَجِّهُ كَلَامَهُ لِابْنِهِ الرَّاجِعِ، بَلْ لِخَدَمِهِ. فَإِنْ كَانَ التَّائِبُ هُوَ الَّذِي جَاءَ مُتَوَسِّلًا، فَهُوَ يَنَالُ الْإِجَابَةَ، لَا بِكَلِمَاتٍ مُوَجَّهَةٍ إِلَيْهِ، بَلْ بِأَعْمَالِ الرَّحْمَةِ الَّتِي تُقَدَّمُ لَهُ." أَمَّا عِبَارَةُ "خَاتَمًا"، فَتُشِيرُ إِلَى السُّلْطَةِ، وَعَلَامَةِ عَوْدَتِهِ لِلْبُنُوَّةِ، وَالحُصُولِ عَلَى الْمَوَاهِبِ الإِلَهِيَّةِ. فَالْخَاتِمُ كَانَ يُسْتَخْدَمُ لِـخَتْمِ الأَوْرَاقِ الرَّسْمِيَّةِ وَصَرْفِ النُّقُودِ. وَقَدْ جَاءَ مِثَالُ ذٰلِكَ فِي قِصَّةِ يُوسُف: "قَالَ فِرْعَوْنُ لِيُوسُف: قَدْ أَقَمْتُكَ عَلَى كُلِّ أَرْضِ مِصْر، وَنَزَعَ خَاتَمَهُ مِنْ يَدِهِ وَجَعَلَهُ فِي يَدِ يُوسُفَ" (التكوين 41: 41–42). وَيَرَى القِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوس: "الخَاتَمُ هُوَ صَكُّ الإِيمَانِ الصَّادِقِ وَخَتْمُ الْحَقِّ." وَيَرَى القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس فِي الْخَاتَمِ: "عَرْبُونَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، بِسَبَبِ شَرِكَةِ النِّعْمَةِ."  أَمَّا عِبَارَةُ "حِذَاءً"، فَتُشِيرُ إِلَى لِبَاسِ الإِنْسَانِ الْحُرِّ، الَّذِي يُمَيِّزُهُ عَنِ الْعَبْدِ، وَيَحْمِي قَدَمَيْهِ مِنْ وَعُورَةِ الطَّرِيقِ. إِذْ كَانَ لُبْسُ الْحِذَاءِ تَمْيِيزًا لِلْبَنِينَ عَنِ الْعَبِيدِ، لِأَنَّ الْعَبِيدَ كَانُوا حُفَاةً. فَـالْحِذَاءُ هُوَ عَلَامَةُ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ عُبُودِيَّةِ الْخَطِيئَةِ. وَيَرَى القِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوس: "أَنَّ الْحِذَاءَ يُشِيرُ إِلَى الْكِرَازَةِ بِالإِنْجِيلِ." وَيُفَسِّرُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس: "الْحِذَاءَ فِي الْقَدَمَيْنِ هُمَا الِاسْتِعْدَادُ لِلْبِشَارَةِ، كَيْ لَا نَمَسَّ الْأَرْضِيَّاتِ."  فَالْـحُلَّةُ، وَالْخَاتَمُ، وَالْحِذَاءُ، وَالْعِجْلُ الْمُسَمَّنُ، لَمْ تُقَدَّمْ لِـسَدِّ حَاجَةِ الابْنِ فَقَط، بَلْ لِإِعْطَائِهِ مَرْكَزَ الْكَرَامَةِ فِي الْبَيْتِ. وَهٰذِهِ الأُمُورُ الثَّلَاثَةُ: قَدَّمَهَا السَّيِّدُ الْمَسِيحُ لِلْبَشَرِيَّةِ الْخَاطِئَةِ، لِيُقِيمَ مِنْهَا أَبْنَاءَ لِلهِ الْحَيِّ، يَرْتَدُونَ حُلَّةَ الْعُرْسِ اللَّائِقَةِ بِالْوَلِيمَةِ السَّمَاوِيَّةِ، وَيَحْمِلُونَ خَاتَمَ الْبُنُوَّةِ، وَيَسْتُرُونَ أَرْجُلَهُمْ مِنْ أَتْرِبَةِ الْعَالَمِ وَدَنَسِهِ، فِي عُبُورِهِمْ خِلَالَ كَلِمَةِ الْكِرَازَةِ. إِنَّ اللهَ يَتَعَامَلُ مَعَنَا، كَمَا تَعَامَلَ هٰذَا الْوَالِدُ الْمُحِبُّ مَعَ ابْنِهِ الْمُتَمَرِّدِ. "اللهُ يُرِيدُ خَلَاصَنَا، وَهٰذَا هُوَ وَقْتُ رَحْمَتِهِ وَخَلَاصِهِ. فَلْنَقُمْ وَنَعُدْ إِلَيْهِ!" "تَتَلَأْلَأُ فِي هذِهِ الآيَةِ مَعَالِمُ الاِسْتِرْدَادِ وَعَظَمَةُ الكَرَامَةِ وَفَرَحُ السَّمَاءِ، كَتَتْوِيجٍ لِرِحْلَةِ التَّوْبَةِ الَّتِي سَلَكَهَا الاِبْنُ الضَّالُّ.

 

23 وأتوا بالعِجْلِ المُسَمَّن واذبَحوه فنأكُلَ ونَتَنَعَّم،

 

تُشيرُ عبارةُ "وَأَتَوْا بِالْعِجْلِ الْمُسَمَّنِ" إلى عِجْلٍ يُطعَمُ في البيتِ، إمّا لِوَليمةٍ أو تَقدِمةٍ؛ وكانَ هُنا لِلوَليمةِ إشارةً إلى فَرَحِ الوالدِ بِرُجوعِ وَلَدِهِ. أمّا عبارةُ "العِجْلِ"، فتَشيرُ إلى البَقَرَةِ أو الثَّوْرِ في صِغَرِهِ. وهو من الحَيَواناتِ الّتي عَرَفَها الإنسانُ القَديمُ مُنذُ أبعَدِ العُهودِ. وكانَ يُستَعمَلُ لِلأكلِ وَلِلذَّبيحةِ أو لِلتَّضحيةِ. وبِسَبَبِ نَفعِهِ وقيمتِهِ، عَبَدَتْهُ شُعوبٌ كثيرةٌ من عَبَدَةِ الأوثانِ. وكان "أبيس"، من آلِهَةِ مِصرَ المُقَدَّسَةِ، يَتَّخِذُ صورةَ ثَوْرٍ صغيرٍ، وتُنْحَتُ تَماثيلُهُ من الذَّهَبِ الخالِصِ. ولذلكَ كانَ هارونُ مُتأثِّرًا بِعِبادَتِهِ، فَصَنَعَ تِمثالًا لِعِجْلٍ مِن ذَهَبٍ لِيَعبُدَهُ بنو إسرائيلَ بَعدَ خُروجِهِم مِن مِصرَ (خروج ٣٢: ٤). كَذلكَ فَعَلَ يَرُبْعَامُ بَعدَ اِنقِسامِ بني إسرائيلَ إلى مَملَكَتَيْنِ، فَقَدْ بَنى تِمثالَيْنِ، واحِدًا في "بيتِ إيل" والآخَرَ في "دان". أمّا عبارةُ "الْمُسَمَّنِ"، فتَشيرُ إلى غِنى العِجْلِ وتَكلِفَتِهِ، وهو "إشارةٌ إلى الرَّبِّ يَسوعَ المَسيحِ، الّذي دُعِيَ هكذا، مُقَدِّمًا جَسَدَهُ الّذي بِلا عَيْبٍ ذَبيحَةً لِخَلاصِ العالَمِ كُلِّهِ"، كما يُعلِّقُ القِدِّيسُ يُوحنّا الذَّهَبيُّ الفَمِّ. أمّا عبارةُ "اِذبَحوهُ فَنَأكُلَ وَنَتَنَعَّمْ"، فتَشيرُ إلى مَأدُبَةٍ، والمَأدُبَةُ علامةٌ على المُشارَكَةِ. ودَعْوَةُ الإنسانِ تَتمثَّلُ في المُشارَكةِ في المَأدُبَةِ الّتي أَقامَها الآبُ لِجَميعِ أبنائِهِ، والّتي يُغَذّينا فيها مِن ذاتِهِ وحَياتِهِ، والحَياةِ الّتي تَجري داخِلَ بَيتِهِ. هُناكَ الطَّعامُ الوافِرُ، والطيِّبُ، والمَجّانيُّ، الّذي يَرغَبُ الآبُ في إعطائِنا إيّاه؛ وتَمَّ تَصويرُ الحياةِ معَ اللهِ على صورةِ مَأدُبَةٍ، كما وَرَدَ في نُبوءَةِ أشعيا: "في هذا الجَبَلِ، يَضَعُ رَبُّ القُوّاتِ لِجَميعِ الشُّعوبِ مَأدُبَةَ مُسَمَّناتٍ، مَأدُبَةَ خَمرَةٍ مُعَتَّقَةٍ، مُسَمَّناتٍ ذاتِ مُخٍّ، وَنَبيدٍ مُرَوَّقٍ" (أشعيا 25: 6). وقد وَرَدَت ذِكرى المَأدُبَةِ عدَّةَ مرّاتٍ في هذا النَّصِّ الإنجيليِّ لأهمِّيّتِها (لوقا 15: 23، 27، 30). أمّا عبارةُ "وَاذبَحوهُ"، فتَشيرُ إلى تَقديمِ المَسيحِ نَفسَهُ ذَبيحَةً على الصَّليبِ. أمّا عبارةُ "فَنَأكُلَ"، فتَشيرُ إلى علامةِ اتِّحادِنا معَ المَسيحِ. أمّا عبارةُ "وَنَتَنَعَّمْ"، فتَشيرُ إلى الفَرَحِ بِعَودَةِ الخاطِئِ وَاتِّحادِهِ بِأبيهِ بَعدَ اِنفِصالٍ. وهُنا إشارةٌ إلى الفَرَحِ الّذي يَكونُ في السَّماءِ كُلِّها (لوقا 15: 10). نَجِدُ في هذا المَثَلِ مُقابَلَةً بينَ حالَةِ الاِبنِ في الغُربةِ وحالتِهِ في بَيتِ أبيهِ: فصارَ لَهُ بدلَ العُريِ الحُلَّةُ، وبدلَ الخِدمةِ القاسيةِ الخاتَمُ والحِذاءُ، وبدلَ الخَرنوبِ العِجلُ المُسَمَّنُ. ومعنى ذلكَ: إنَّ اللهَ يَقبَلُ التّائِبَ إليهِ بِعلاماتِ المَحبَّةِ والرِّضى، فيَرفَعُ عنهُ كُلَّ دَينونةٍ، ويَغفِرُ لَهُ، ويَهبُ لَهُ كُلَّ حُقوقِ الاِبنِ، ويُعامِلُهُ كأنَّهُ لَم يَضِلَّ عَنهُ، إكرامًا ليسوعَ المَسيحِ.

 

24 لِأَنَّ ابنِي هذا كانَ مَيتاً فعاش، وكانَ ضالاًّ فوُجِد. فأَخذوا يتَنَّعمون

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "لِأَنَّ ابْنِي" إِلَى اعْتِرَافِ الآبِ بِابْنِهِ أَمَامَ الْحَاضِرِينَ، وَتَصْرِيحِهِ بِأَنَّ لَهُ كُلَّ حُقُوقِ الْبُنُوَّةِ. وَكَانَ قَصْدُ الآبِ مِنْ ذٰلِكَ كَقَصْدِ الرَّاعِي، عِنْدَمَا دَعَا أَصْدِقَاءَهُ وَجِيرَانَهُ لِلْفَرَحِ مَعَهُ لِوُجْدَانِهِ خَرُوفَهُ الضَّالَّ (لوقا 15: 6)، وَالْمَرْأَةِ، عِنْدَمَا دَعَتْ صَدِيقَاتِهَا وَجَارَاتِهَا لِتُشَارِكَهَا فِي فَرَحِهَا عَلَى وُجْدَانِ الدِّرْهَمِ الْمَفْقُودِ (لوقا 15: 9).  أَمَّا عِبَارَةُ "مَيِّتًا فَعَاشَ"، فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْخَطِيئَةَ هِيَ الْمَوْتُ، كَمَا يُؤَكِّدُ ذٰلِكَ بُولُسُ الرَّسُولُ: "وَأَنْتُمْ، وَقَدْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا بِزَلَّاتِكُمْ وَخَطَايَاكُمْ" (أفسس 2: 1). فَالتَّائِبُ يَعُودُ إِلَى الْحَيَاةِ الرُّوحِيَّةِ، إِذْ يَسْتَرِدُّ نَفْسَهُ مِنَ الْمَوْتِ الرُّوحِيِّ. أَمَّا عِبَارَةُ "كَانَ ضَالًّا فَوُجِدَ"، فَتُشِيرُ إِلَى حَالَةِ الْخَطِيئَةِ، وَهِيَ الِابْتِعَادُ عَنِ الْبَيْتِ الأَبَوِيِّ، حَيْثُ يَفْقِدُ الإِنْسَانُ هُوِيَّتَهُ كَابْنٍ، وَيَصِيرُ كَأَجِيرٍ، فَيَلْقَى مُعَامَلَةً أَسْوَأَ مِنَ الَّتِي تُعَامَلُ بِهَا الْحَيَوَانَاتُ، وَيَخْسَرُ كَرَامَتَهُ، وَلَا يَهْتَمُّ بِهِ أَحَدٌ. فَهِيَ حَالَةُ عُزْلَةٍ، وَضَيَاعٍ، وَمَوْتٍ. أَمَّا عِبَارَةُ "يَتَنَعَّمُونَ"، فَتُشِيرُ إِلَى الْمُشَارَكَةِ فِي الْفَرَحِ الْعَظِيمِ، وَهِيَ صُورَةٌ لِبَسَاطَةِ الْحَيَاةِ فِي الْقَرْيَةِ، حَيْثُ الْفَرَحُ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَائِدَةِ وَالْوَلِيمَةِ. وَمِنْ هٰذَا الْمَنْطَلَقِ، لَا يَجُوزُ أَنْ نَحْكُمَ عَلَى أَحَدٍ، مَا دَامَ لا يَزَالُ فِي طَرِيقِ الْجِهَادِ، فَـاللهُ يَنْتَظِرُ الرُّجُوعَ، وَيَفْرَحُ بِالْعَوْدَةِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ مَيْتًا يُمْكِنُ أَنْ يَحْيَا، وَكُلُّ ضَالٍّ يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ. تَخْتِمُ هذِهِ الآيَةُ المَثَلَ بِنَغْمَةٍ فَرِحَةٍ وَلَاهُوتِيَّةٍ عَذْبَةٍ، كَاشِفَةً عَنْ عُمْقِ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي لَا تَسْتَرِدُّ الإِنْسَانَ التَّائِبَ كَعَبْدٍ، بَلْ تَسْتَقْبِلُهُ كَابْنٍ حَيٍّ مَحْبُوبٍ. وَفِي ضِيَائِهَا يَلُوحُ الفَرَحُ السَّمَاوِيُّ الحَقِيقِيُّ، وَتَتَنَاغَمُ فِيهَا صُوَرُ الخَرُوفِ الضَّالِّ وَالدِّرْهَمِ المَفْقُودِ، فِي رَبْطٍ فَنِّيٍّ وَرُوحِيٍّ يُضِيءُ بَدَايَةَ الفَصْلِ وَيَتَوَّجُ خِتَامَهُ."

 

25 وكانَ ابنُه الأَكبَرُ في الحَقْل، فلمَّا رَجَعَ واقترَبَ مِنَ الدَّار، سَمِعَ غِناءً ورَقْصاً.

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "ابْنُهُ الأَكْبَرُ" إِلَى الفَرِّيسِيِّينَ، الَّذِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ التَّقْوَى وَيَلْتَزِمُونَ بِالشَّرِيعَةِ ظَاهِرًا، وَلَكِنْ لَمْ تَكُنْ قُلُوبُهُمْ مَمْلُوءَةً بِالْمَحَبَّةِ. كَمَا يُمَثِّلُ هَؤُلَاءِ النَّاسَ الْمُتَدَيِّنِينَ شَكْلِيًّا، الَّذِينَ بَقُوا فِي "بَيْتِ الآبِ" (أَي فِي الإِيمَانِ)، لَكِنْ دُونَ أَنْ يَعِيشُوا فَرَحَ الْمَحَبَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ. وَيَرْمُزُ الِابْنُ الأَكْبَرُ أَيْضًا إِلَى شَعْبِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ (اليَهُودِ)، الَّذِينَ نَالُوا الْمَوَاعِيدَ الإِلٰهِيَّةَ أَوَّلًا، وَتَسَلَّمُوا النَّامُوسَ وَالأَنْبِيَاءَ، وَلِذٰلِكَ يُعْتَبَرُونَ "الْبِكْرَ" فِي مَعْرِفَةِ اللهِ. أَمَّا الِابْنُ الأَصْغَرُ، فَيُمَثِّلُ الْجُبَاةَ وَالْخُطَاةَ الَّذِينَ كَانُوا مَرْفُوضِينَ اجْتِمَاعِيًّا وَدِينِيًّا، وَيُمَثِّلُ أَيْضًا الْأُمَمَ الْوَثَنِيَّةَ (غَيْرَ الْيَهُودِ)، الَّذِينَ عَاشُوا فِي الْخَطِيئَةِ وَالرَّجَاسَاتِ الْوَثَنِيَّةِ. وَأَمَّا عِبَارَةُ "سَمِعَ غِنَاءً وَرَقْصًا"، فَتَشِيرُ إِلَى الْفَرَحِ الْعَظِيمِ فِي بَيْتِ الآبِ بِعَوْدَةِ الِابْنِ الضَّالِّ وَتَوْبَتِهِ، وَهِيَ صُورَةٌ رَمْزِيَّةٌ عَنْ فَرَحِ اللهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالتَّوْبَةِ، وَفَرَحِ السَّمَاءِ بِكُلِّ خَاطِئٍ يَتُوبُ.

 

26 فدَعا أَحَدَ الخَدَمِ واستَخبَرَ ما عَسَى أَن يَكونَ ذلك.

 

تُشِيرُ هٰذِهِ الآيَةُ إِلَى شِرَاسَةِ أَخْلَاقِ الِابْنِ الأَكْبَرِ، إِذْ لَمْ يَدْخُلْ فَوْرًا لِيُشَارِكَ أَبَاهُ وَأَخَاهُ الأَصْغَرَ وَالْمَدْعُوِّينَ فَرَحَهُمْ، بَلْ أَرْسَلَ يَسْتَخْبِرُ عَنْ سَبَبِ ذٰلِكَ الْفَرَحِ، كَأَنَّهُ يَرَى أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَهْلِ الْبَيْتِ أَنْ يُقِيمُوا مِثْلَ هٰذَا الْفَرَحِ فِي غِيَابِهِ. فَالِابْنُ الأَكْبَرُ لَمْ يَكُنْ غَاضِبًا فَقَط، بَلْ كَانَ أَيْضًا مَتَمَحْوِرًا حَوْلَ ذَاتِهِ، يَرَى نَفْسَهُ مَرْكَزًا يَجِبُ أَلَّا يَتِمَّ شَيْءٌ بِدُونِهِ، وَكَأَنَّ الْفَرَحَ وَالْمَغْفِرَةَ حَقٌّ لَهُ وَحْدَهُ.

 

27 فقالَ له: قَدِمَ أَخوكَ فذَبَحَ أَبوكَ العِجْلَ المُسَمَّن لِأَنَّه لَقِيَه سالِماً.

 

تُشِيرُ هٰذِهِ الآيَةُ أَيْضًا إِلَى إمكانية أَخَيهُ الأَكْبَرَ بالمشاركة بالفرح مَعَهُمْ إِذَا عَلِمَ السَّبَبَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أُقِيمَ هٰذَا الْفَرَحُ، وَفَهِمَ أَنَّ مَا حَدَثَ هُوَ تَجَلٍّ لمَحبَّة أبيه وغفرانه. فَفِي ذٰلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى إِمْكَانِ تَغَيُّرِ قَلْبِ الْمُتَدَيِّنِ الْغَاضِبِ، إِذَا تَفَهَّمَ عُمْقَ مَقَاصِدِ اللهِ وَعَدْلِهِ الْمَقْرُونِ بِالرَّحْمَةِ.

 

28 فغَضِبَ وأَبى أَن يَدخُل. فَخَرَجَ إِلَيه أَبوهُ يَسأَلُه أَن يَدخُل

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "غَضِبَ وَأَبَى أَنْ يَدْخُلَ" إِلَى غَيْرَةِ الأَخِ الأَكْبَرِ، وَعَدَمِ مَحَبَّتِهِ لأَخِيهِ، وَتَذَمُّرِهِ بسبب مَحَبَّةِ الأَبِ لِلابْنِ الأَصْغَرِ. فَهُوَ لاَ يَسْتَطِيعُ بِسُهُولَةٍ أَنْ يَتَقَبَّلَ أَخَاهُ الْعَائِدَ إِلَى بَيْتِ الآبِ، بَلْ يَقِفُ مَوْقِفَ النَّاقِدِ لأَبِيهِ عَلَى سَعَةِ قَلْبِهِ وَرَحْمَتِهِ. إِنَّهُ مَوْقِفٌ يُمَاثِلُ تَذَمُّرَ الفِرِّيسِيِّينَ وَالْكَتَبَةِ عَلَى السَّيِّدِ الْمَسِيحِ، لأَنَّهُ قَبِلَ الْخَاطِئِينَ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْخَلاَصِ. وَيُعَلِّقُ الْقِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوسَ قَائِلًا: "إِنَّهُ أَحَدُ الَّذِينَ لاَ يُبْصِرُونَ الْخَشَبَةَ الَّتِي فِي أَعْيُنِهِمْ، بَيْنَمَا يَنْتَقِدُونَ الْقَذَى الَّذِي فِي أَعْيُنِ الآخَرِينَ. إِنَّهُ يَغْضَبُ، لأَنَّ غَيْرَهُ يَنَالُ غُفْرَانًا وَنِعْمَةً!" فَهُوَ لاَ يَعِيشُ حَيَاتَهُ كَعَلاَقَةِ حُبٍّ بُنُوِيٍّ، وَلاَ يُدْرِكُ أَنَّ مَصْدَرَ كُلِّ مَا يَنَالُهُ هُوَ ذٰلِكَ الْحُبُّ. إِنَّهُ كَمَنْ لاَ يَمْلِكُ شَيْئًا، لأَنَّهُ فَقَدَ شُعُورَهُ بِجَمَالِ الْمَسْكَنِ الْوَالِدِيِّ، وَالسَّعَادَةِ الْكَامِنَةِ فِيهِ. وَتُظْهِرُ غَيْرَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ قَلْبَ أَبِيهِ وَلَا مَقْصِدَ الرَّحْمَةِ. وَيَلْمَحُ غَضَبُهُ إِلَى مَوْقِفِ الشَّعْبِ الْيَهُودِيِّ فِي مُقَاوَمَةِ خَلاَصِ الْأُمَمِ، الَّذِينَ إِلَى لا يزالون الى الْيَوْمِ يَغَارُونَ مِنَ الْكَنِيسَةِ وَيُقَاوِمُونَهَا. وَأَمَّا عِبَارَةُ "أَبَى أَنْ يَدْخُلَ"، فَتُشِيرُ إِلَى وُقُوفِ الِابْنِ الأَكْبَرِ عَلَى الْبَابِ، رَافِضًا الدُّخُولَ إِلَى بَيْتٍ فِيهِ أَخُوهُ، مُفَضِّلأ البَقَاءُ خَارِجَهُ. وَبِهٰذَا صَارَ كَالْعَبْدِ، "لأَنَّ الْخَادِمَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ" (يُوحَنَّا 15: 15).  وَأَمَّا عِبَارَةُ "فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُوهُ"، فَتُشِيرُ إِلَى خروج الآب َفِي اللَّحْظَةِ الأَخِيرَةِ، مَرَّةً أُخْرَى. لَيْسَ هَذِهِ الْمَرَّةَ إِلَى الابْنِ الضَّالِّ، بَلْ إِلَى الابْنِ الأَكْبَرِ، الَّذِي وَقَفَ خَارِجَ الفَرَحِ، مُتَحَجِّرَ الْقَلْبِ، رَافِضًا أَنْ يَدْخُلَ. خُرُوجُ الآبِ هُنَا لَيْسَ خُرُوجَ العَتَاب، بَلْ خُرُوجُ الضَّرَاعَةِ وَالدَّعْوَةِ، يَتَوَسَّلُ إِلَى ابْنِهِ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِرُوحِ البُنُوَّةِ وَالأُخُوَّةِ، لأَنَّهُمَا هُمَا حَقِيقَةُ الوَلِيمَةِ، وَجَوْهَرُ فَرَحِ الآبِ. الوَلِيمَةُ لَيْسَتْ طَعَامًا، بَلْ تَجَمُّعَ الأَبْنَاءِ حَوْلَ قَلْبِ أَبِيهِم، الوَلِيمَةُ هِيَ الْبَقَاءُ مَعَ الآبِ، فِي بَيْتِهِ، وَفِي مَحَبَّتِهِ، وَفِي وَحْدَةِ الإِخْوَةِ؟ هكذا يَرْغَبُ الآبُ السَّمَاوِيُّ أَنْ يَدْخُلَ الْكَتَبَةُ وَالْفِرِّيسِيُّونَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ، كَمَا دَخَلَ الْجُبَاةُ وَالْخُطَاةُ، لِأَنَّهُ لَا يُسَرُّ بِهَلَاكِ أَحَدٍ، بَلْ بِأَنْ يَرْجِعَ الْخَاطِئُ وَيَحْيَا. هكذا، لَدَيْنا بَيْتٌ جَميلٌ، واسِعُ الرِّحابِ، يَفْتَحُ لَنا الآبُ السَّماوِيُّ أبوابَهُ مِن خِلالِ ابْنِهِ يَسوعَ المَسيحِ. يُنادي بِحُبٍّ، ويَدْعونا بِلُطْفٍ، ويَرْجُو مِنَّا، بِحَنانٍ، أَنْ نَدْخُلَ ذاكَ البَيْتَ المُنيرَ. فَهَل نَقْبَلُ، نَحْنُ أَيْضًا، أَنْ نَدْخُلَ هذِهِ الوَلِيمَة، وَأَنْ نَتَخَلَّى عَنْ كِبْرِيَاءِ الأَكْبَرِ، وَتَذَمُّرِ الأَصْغَرِ، لِنَصِيرَ جَمِيعًا أَبْنَاءً فِي فَرَحِ الآب

 

29 فأَجابَ أَباه: ها إِنِّي أَخدُمُكَ مُنذُ سِنينَ طِوال، وما عَصَيتُ لَكَ أَمراً قَطّ، فما أَعطَيتَني جَدْياً واحِداً لأَتَنعَّمَ به مع أَصدِقائي.

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "هَا إِنِّي أَخْدُمُكَ مُنْذُ سِنِينَ طِوَالٍ" إِلَى الِابْنِ الأَكْبَرِ الَّذِي يَعْمَلُ لِصَالِحِ أَبِيهِ وَيُطِيعُ كُلَّ تَعْلِيمَاتِهِ. إِنَّهُ لاَ يَعِيشُ إِلَّا بِحَسَبِ عَدَالَةِ الْقَانُونِ، وَلاَ يَطْلُبُ الرَّحْمَةَ، بَلْ يُطَالِبُ بِالْحَقِّ وَالْجَزَاءِ. هُوَ نَمُوذَجٌ لِلْمُؤْمِنِ الَّذِي يَسْلُكُ فِي الْوَصَايَا، لَكِنَّهُ يُمَارِسُهَا بِرُوحِ الْعَبْدِ لاَ الْابْنِ، وَيَفْعَلُ ذٰلِكَ طَلَبًا لِلْمُكَافَأَةِ لاَ مَحَبَّةً لِلآبِ. وَيُذَكِّرُنَا هٰذَا الْجَوَابُ بِصَلَاةِ الْفَرِّيسِيِّ فِي الْهَيْكَلِ (لُوقَا 18: 10 -12)، إِذْ يُمَثِّلُ كَلَامَ إِنْسَانٍ يُدَّعِي الْبِرَّ الذَّاتِيَّ، وَيَرَى نَفْسَهُ فَوْقَ الآخَرِينَ. وَأَمَّا عِبَارَةُ "مَا عَصَيْتُ لَكَ أَمْرًا قَطُّ"، فَتُشِيرُ إِلَى طَاعَةٍ مُلْتَزِمَةٍ، ظَاهِرُهَا الْخُضُوعُ، وَلٰكِنَّ دَاخِلَهَا مَمْلُوءٌ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى النَّفْسِ وَالِادِّعَاءِ بِالْكَمَالِ. فَهُوَ يَتَّبِعُ الْوَصَايَا كَعَبْدٍ، لاَ كَابْنٍ يُحِبُّ، وَيَطْلُبُ الأُجْرَةَ لاَ الْقُرْبَ. وَهٰذَا يُطَابِقُ مَا كَانَ الْفِرِّيسِيُّونَ يَعْتَقِدُونَهُ، إِذْ "كَانُوا مُتَيَقِّنِينَ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ، وَيَحْتَقِرُونَ سَائِرَ النَّاسِ" (لُوقَا 18: 9). فَفِي تَذَمُّرِ الِابْنِ الأَكْبَرِ، نَرَى صُورَةَ مَشْكِلَةِ إِسْرَائِيلَ مَعَ الأُمَمِ، فَلَمَّا اكْتَشَفَ أَنَّ الْوَثَنِيِّينَ (الِابْنَ الأَصْغَرَ) مَدْعُوُّونَ لِلدُّخُولِ فِي فَرَحِ الْآبِ، دُونَ أَنْ يَخْضَعُوا لِلشَّرِيعَةِ، امْتَلَأَ مَرَارَةً. وَلَكِنَّ مِحْنَةَ أَخِيهِ الْأَصْغَرِ كَشَفَتْ حَقِيقَةَ قَلْبِهِ: إِنَّهُ صَالِحٌ فِي مَظْهَرِهِ، وَلٰكِنَّهُ يَحْتَقِرُ أَخَاهُ. وَبِهٰذَا يُشْبِهُ الْفَرِّيسِيَّ الَّذِي بَرَّرَ نَفْسَهُ فِي صَلاَتِهِ الْمُمْتَلِئَةِ غُرُورًا، حِينَ قَالَ: "اللَّهُمَّ، شُكْرًا لَكَ لأَنِّي لَسْتُ كَسَائِرِ النَّاسِ... وَلاَ مِثْلَ هٰذَا الْجَابِي" (لُوقَا 18: 11). وَبِقَسْوَةٍ، اتَّهَمَ أَخَاهُ أَنَّهُ بَدَّدَ مِيرَاثَهُ مَعَ الزُّنَاةِ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَتَأَدَّبَ فِي أَلْفَاظِهِ، لأَنَّ الرَّبَّ يَسُوعَ جَاءَ مِنْ أَجْلِ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ، وَكَمَا أَعْلَنَ: "مَا جِئْتُ لأُدْعُوَ الأَبْرَارَ، بَلِ الْخَاطِئِينَ إِلَى التَّوْبَةِ" (لُوقَا 5: 32). وَأَمَّا عِبَارَةُ "مَا أَعْطَيْتَنِي جَدْيًا وَاحِدًا"، فَتُشِيرُ إِلَى تَرْكِيزِهِ عَلَى حُقُوقِهِ وَامْتِيَازَاتِهِ. فَهُوَ الِابْنُ، وَمَعَ ذٰلِكَ يَتَخَاصَمُ مَعَ أَبِيهِ عَلَى "جَدْيٍ"، وَيُنْكِرُ فَضْلَ أَبِيهِ. إِنَّ كَلَامَهُ يَكْشِفُ أَنَّهُ غَيْرُ سَعِيدٍ فِي الْبَيْتِ، فَحَتَّى الشَّيْءُ الْهَزِيلُ (جَدْيٌ) يَشْكُو عَدَمَ حُصُولِهِ عَلَيْهِ، بَيْنَمَا أُعْطِيَ أَخُوهُ "عِجْلًا مُسَمَّنًا". هُوَ يُمَثِّلُ نَمُوذَجَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَلْتَزِمُ بِالشَّرِيعَةِ مُكْرَهًا، كَمَا قِيلَ عَنْهُ: "مُكْرَهٌ أَخُوكَ لاَ بَطَلٌ"، يَعِيشُ مَعَ اللهِ كَخَائِفٍ مِنْ عِقَابٍ، لاَ كَابْنٍ فِي حِضْنِ أَبٍ. فَهُوَ يُسَبِّحُ بِشَفَتَيْهِ، وَقَلْبُهُ بَعِيدٌ عَنْهُ. يُتَمِّمُ جَمِيعَ الْوَصَايَا، وَلٰكِنْ دُونَ مَحَبَّةٍ؛ يَنْتَقِدُ أَبَاهُ عَلَى حُبِّهِ، وَيُغْلِقُ قَلْبَهُ نَحْوَ أَخِيهِ، فَيَفْقِدُ سَلَامَهُ الْدَّاخِلِيَّ وَفَرَحَهُ، لِيَعِيشَ بِقَلْبٍ مُنَاقِضٍ لِقَلْبِ أَبِيهِ. وَمِنْ هُنَا نَتَسَاءَلُ: أَيُّ نَفْعٍ لِإِيمَانٍ لَيْسَ فِيهِ مَحَبَّةٌ؟ وَيُعَلِّقُ الأَبُ قَيْصَرِيُّوس قَائِلًا: "الْمَسِيحُ بِالنِّسْبَةِ لَنَا هُوَ حَمَلٌ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلْيَهُودِ هُوَ جَدْيٌ، لأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَهُ خَاطِئًا، لاَ بَارًّا".

 

30 ولمَّا قَدِمَ ابنُكَ هذا الَّذي أَكَلَ مالَكَ مع البَغايا ذَبَحتَ له العِجْلَ المُسَمَّن!

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "ابْنُكَ هٰذَا" إِلَى صِيغَةِ تَحْقِيرٍ وَازْدِرَاءٍ، إِذْ لَمْ يُرِدِ الِابْنُ الأَكْبَرُ أَنْ يَعْتَرِفَ بِأَخِيهِ، بَلْ نَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ، كَمَنْ يَتَبَرَّأُ مِنْهُ، فَقَالَ: "هٰذَا ابْنُكَ"، لاَ "أَخِي". َبِذٰلِكَ أَظْهَرَ إِهَانَتَهُ لأَبِيهِ، وَتَمَرُّدَهُ عَلَى إِرَادَتِهِ، وَمَحَبَّتَهُ الشَّدِيدَةَ لِذَاتِهِ. فَأَيُّ نَفْعٍ لإِيمَانٍ يَجْعَلُ الإِنْسَانَ يَقُولُ: "هٰذَا لَيْسَ أَخِي، بَلِ ابْنُكَ"، وَيَتَبَرَّأُ مِنِ الْمَغْفِرَةِ؟! إِنَّهُ نَفْسُ مَوْقِفِ الْفِرِّيسِيِّينَ حِينَ احْتَقَرُوا الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةَ، وَعَدُّوهُمْ غَيْرَ مُسْتَحِقِّينَ لِرَحْمَةِ اللهِ. وَيُعَلِّقُ الْبَابَا بِنْدِكْتُس السَّادِسَ عَشَرَ عَلَى هٰذِهِ الصُّورَةِ قَائِلًا: "مَعَ صُورَةِ هَذَيْنِ الأَخَوَيْنِ، يَنْدَرِجُ هٰذَا النَّصُّ فِي قَلْبِ سِلْسِلَةٍ كِتَابِيَّةٍ طَوِيلَةٍ، تَبْدَأُ مَعَ قِصَّةِ قَابِيلَ وَهَابِيلَ، وَتَتَكَرَّرُ مَعَ إِسْحَاقَ وَإِسْمَاعِيلَ، وَمَعَ يَعْقُوبَ وَعِيسُو".  وَأَمَّا عِبَارَةُ "أَكَلَ مَالَكَ"، فَتُشِيرُ إِلَى سَبَبِ الْخَسَارَةِ الْعُظْمَى، وَلٰكِنَّ الأَبَ -مَعَ عِلْمِهِ بِمَا فَعَلَ ابْنُهُ الأَصْغَرُ -غَفَرَ لَهُ، لأَنَّهُ تَابَ وَرَجَعَ. فَكَانَ عَلَى أَخِيهِ الأَكْبَرِ أَنْ يَصْنَعَ الْمِثْلَ. وَأَمَّا عِبَارَةُ "الْبَغَايَا"، فَفِي الأَصْلِ الْيُونَانِيِّ: πόρνη، وَمَعْنَاهَا "الْمُمَارَسَةُ الإِبَاحِيَّةُ"، وَهِيَ تُشِيرُ إِلَى الزِّنَا. وَهُنَا يَتَكَلَّمُ الأَخُ الأَكْبَرُ عَنْ أَخِيهِ بِاحْتِقَارٍ، لِيُقَبِّحَ صُورَتَهُ فِي عَيْنَيْ أَبِيهِ، بَدَلَ أَنْ يَفْرَحَ بِتَوْبَتِهِ. وَفِي الْمَعْنَى الرَّمْزِيِّ، يُشِيرُ الزِّنَا إِلَى خِيَانَةِ اللهِ وَالِابْتِعَادِ عَنْهُ، وَبِذٰلِكَ يُفْهَمُ أَنَّ الِابْنَ الأَصْغَرَ صَارَ فِي الْعَالَمِ الْوَثَنِيِّ، بَعِيدًا عَنِ الْحَقِّ. وَأَمَّا عِبَارَةُ "ذَبَحْتَ لَهُ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ"، فَتُظْهِرُ كَيْفَ أَنَّهُ نَسَبَ كُلَّ فِعْلِ الْفَرَحِ وَالذَّبِيحَةِ إِلَى بَهْجَةِ أَخِيهِ، وَكَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لِلْبَيْتِ كُلِّهِ. وَالْحَقُّ أَنَّ "الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ" قَدْ ذُبِحَ لِكُلِّ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَكَانَتِ الْوَلِيمَةُ تَعْبِيرًا عَنِ الْفَرَحِ الْعَامِّ. وَمِنْ خِلَالِ كَلَامِهِ، يَتَّهِمُ الآبن الأكبر أَبَاهُ بِالْمُحَابَاةِ، قائلا: "مَا أَعْطَيْتَنِي جَدْيًا"، فِي حِينَ أَنَّ "ذَبَحَت للابن الأصغر الْعِجْلَ".  فَهُوَ يَشْعُرُ بِالظُّلْمِ، وَكَأَنَّهُ مَسْلُوبُ الْحَقِّ، مَعَ أَنَّهُ الْوَارِثُ الْأَوَّلُ، وَكُلُّ مَا لِلآبِ هُوَ لَهُ. وَلٰكِنَّهُ يُبَالِغُ فِي تَعْظِيمِ الْفَارِقِ، وَيُفَضِّلُ أَنْ يَتَخَاصَمَ عَلَى "جَدْيٍ" -وَهُوَ شَيْءٌ هَزِيلٌ -فِي مُقَابِلِ فَرَحِ رُجُوعِ أَخِيهِ.

 

31 فقالَ له: يا بُنَيَّ، أَنتَ مَعي دائماً أبداً، وجَميعُ ما هو لي فهُو لَك

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "بُنَيَّ" إِلَى صِيغَةِ التَّصْغِيرِ، وَهِيَ تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا لَطَافَةً وَتَحَبُّبًا. فَالأَبُ – عَلَى الرَّغْمِ مِنْ غَضَبِ الِابْنِ الأَكْبَرِ وَقَسْوَتِهِ – يُجَاوِبُهُ بِاللِّينِ وَالرِّقَّةِ، دَاعِيًا إِيَّاهُ "بُنَيَّ"، مَعَ أَنَّ الِابْنَ لَمْ يَدْعُهُ "يَا أَبِي". وَبِذٰلِكَ أَظْهَرَ الأَبُ حِلْمَهُ وَلُطْفَهُ، وَحَاوَلَ أَنْ يُطْفِئَ نَارَ غَيْظِهِ وَغَيْرَتِهِ، دُونَ أَنْ يُوَجِّهَ لَهُ لَوْمًا أَوْ عِتَابًا. وَأَمَّا عِبَارَةُ "أَنْتَ"، فَتَحْمِلُ فِي طيّاَتها ضَمِيرَ تَوْكِيدٍ، تُظْهِرُ أَنَّ الأَبَ يُؤَكِّدُ لِابْنِهِ مَكَانَتَهُ وَدَوَامَ حُضُورِهِ وَقُرْبِهِ. وَعِبَارَةُ "مَعِي دَائِمًا أَبَدًا"، تُوَضِّحُ لِمَاذَا لَمْ تُقَمْ وَلِيمَةٌ لِلِابْنِ الأَكْبَرِ؛ لأَنَّهُ لَمْ يَغِبْ قَطُّ، وَلَمْ يَكُنْ فِي خَطَرِ الْهَلَاكِ كَأَخِيهِ، فَلَمْ تَكُنْ هُنَاكَ حَاجَةٌ لِفَرَحٍ خَاصٍّ بِعَوْدَتِهِ. وَيُمَثِّلُ هٰذَا الْوَضْعُ مَوْقِفَ الشَّعْبِ الْيَهُودِيِّ تُجَاهَ اللهِ، فَهُمْ كَانُوا دَائِمِي الْحُضُورِ فِي بَيْتِ اللهِ، أَمَّا الشُّعُوبُ الْوَثَنِيَّةُ، فَقَدْ كَانُوا بَعِيدِينَ، وَلٰكِنَّهُمْ فِي الأَصْلِ مِنْ بَيْتِ اللهِ، وَرُجُوعُهُم إِلَيْهِ هُوَ عَوْدَةٌ إِلَى أَصْلِهِم. وَفِي ذٰلِكَ تَحْقِيقٌ لِكَلَامِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "جَاءَ وَبَشَّرَكُم بِالسَّلاَمِ أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ أَبَاعِيدَ، وَبَشَّرَ بِالسَّلاَمِ الَّذِينَ كَانُوا أَقَارِبَ" (أَفَسُس 2: 17). إِنَّهَا دَعْوَةٌ لِلْمُصَالَحَةِ الَّتِي تَتَجَاوَزُ الْخَطَايَا وَتَنْفَتِحُ عَلَى الْحُبِّ وَالْمَغْفِرَةِ. وَأَمَّا عِبَارَةُ "جَمِيعُ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ"، فَتُؤَكِّدُ أَنَّ كُلَّ مَا يَمْلِكُهُ الآبُ هُوَ فِي مُتَنَاوَلِ الِابْنِ، لاَ بِمُقَابِلِ أَعْمَالِهِ، بَلْ بِمَنْزِلَتِهِ كَابْنٍ وَارِثٍ، فَهُوَ يَمْتَلِكُ بِالنِّعْمَةِ، لاَ بِالْجُهْدِ وَالِاسْتِحْقَاقِ. وَهٰذِهِ الْعَلاَقَةُ الْأَبَوِيَّةُ تَجْعَلُنَا نَنْفَتِحُ عَلَى أَخِينَا، وَنُشَارِكُهُ الْفَرَحَ وَالذَّبِيحَةَ الإِلٰهِيَّةَ. وَمِنْ هٰذَا الْمَنْطَلَقِ، دَعَا الآبُ الِابْنَ الأَكْبَرَ لِمَغْفِرَةِ أَخِيهِ، وَلِلدُّخُولِ فِي فَرَحِ عَوْدَتِهِ. فَهُوَ يُذَكِّرُهُ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخَافَ مِنْ رُجُوعِ أَخِيهِ، فَالإِرْثُ مَضْمُونٌ، وَلاَ قِسْمَةَ أُخْرَى، وَلَيْسَ هُنَاكَ خُسْرَانٌ فِي الْمَحَبَّةِ. وَبِالمِثْلِ، لاَ يَحِقُّ لِلْفِرِّيسِيِّينَ وَالْكَتَبَةِ أَنْ يَتَذَمَّرُوا، فَقَبُولُ اللهِ لِلْخَاطِئِينَ لَمْ يَكُنْ عَلَى حِسَابِهِم، وَلَمْ يَنْتَقِصْ مِنْ مَا وَعَدَهُمْ اللهُ. فَهُمْ لَهُمُ الشَّرِيعَةُ وَالأَنْبِيَاءُ وَالْمَرَاسِيمُ، وَكُلُّ وَسَائِلِ النِّعْمَةِ مُبَاحَةٌ لَهُمْ، إِنْ أَرَادُوا أَنْ يَسْتَعْمِلُوهَا. وَيُعَلِّقُ الأَبُ قَيْصَرِيُّوس قَائِلًا: "إِنَّ عِبَادَةَ اللهِ الْوَاحِدِ، وَكِتَابَاتِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، وَالأَنْبِيَاءَ، هِيَ أُمُورٌ تَخُصُّ اللهَ، وَقَدْ بَقِيَتْ مَعَ الْيَهُودِ عَلَى الدَّوَامِ".

 

32 ولكِن قد وَجَبَ أَن نَتَنعَّمَ ونَفرَح، لِأَنَّ أَخاكَ هذا كانَ مَيتاً فعاش، وكانَ ضالاًّ فوُجِد.

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "أَخَاكَ" إِلَى تَوْبِيخٍ لَطِيفٍ صَادِرٍ مِنَ الآبِ لِابْنِهِ الأَكْبَرِ، الَّذِي احْتَقَرَ أَخَاهُ الأَصْغَرَ، وَكَأَنَّهُ نَسِيَ الرَّابِطَةَ الأُخُوِيَّةَ الَّتِي تَبْقَى مَا بَقِيَتِ الرَّابِطَةُ الأُبُوِيَّةُ. وَفِي حِينِ أَنَّ الِابْنَ الأَكْبَرَ لَمْ يَعْتَرِفْ بِأَخِيهِ، بَلْ قَالَ لأَبِيهِ: "ابْنُكَ"، جَاءَ رَدُّ الآبِ فِي غَايَةِ اللُّطْفِ وَالْوَدَاعَةِ، فَقَالَ لَهُ: "أَخَاكَ". إِنَّهُ تَذْكِيرٌ رَقِيقٌ بِأَنَّ الْأَخُوَّةَ حَقِيقَةٌ أَصِيلَةٌ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي فَرَحِ الْوَلِيمَةِ، لأَنَّ مَنْ عَادَ هُوَ أَخُوهُ، وليس رجلٌ غَرِيبٌ. فَالْجُبَاةُ وَالْخُطَاةُ هُمْ أَيْضًا إِخْوَةٌ لِلْفِرِّيسِيِّينَ وَالْكَتَبَةِ، لأَنَّهُمْ جَمِيعًا مِنْ نَسْلِ آدَمَ، وَقَرَابَتُهُمْ تَتَعَزَّزُ بِأَنَّهُمْ جَمِيعًا أَبْنَاءُ يَعْقُوبَ. وَعَلَيْهِ، كَانَ يَجِبُ أَنْ يَفْرَحُوا لِخَيْرِهِمْ، وَيَحْزَنُوا عَلَى خَطَايَاهُمْ، لاَ أَنْ يَحْتَقِرُوهُمْ. وَأَمَّا عِبَارَةُ "هٰذَا كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالًّا فَوُجِدَ"، فَهِيَ إِعَادَةٌ لِمَا جَاءَ فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ (لُوقَا 15: 24)، وَتُشَكِّلُ خَاتِمَةَ الْمَشْهَدِ الثَّانِي فِي هٰذَا الْمَثَلِ.  وَهِيَ – فِي الْوَاقِعِ – جَوَابُ السَّيِّدِ الْمَسِيحِ عَلَى تَذَمُّرِ الْفِرِّيسِيِّينَ، الَّذِينَ رَأَوْهُ يَسْتَقْبِلُ الْخُطَاةَ وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ. أمَّا العِبَارَةُ: "وكانَ ضالًّا فوُجِد"، فَتُشَكِّلُ خَيْطًا ذَهَبِيًّا يَرْبِطُ بَيْنَ الأَمْثَالِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي يَسْرِدُهَا الرَّبُّ يَسُوعُ فِي  مَثَلُ الْخَرُوفِ الضَّالِّ (لوقا 15: 4–7)، وَالدِّرْهَمِ الْمَفْقُودِ (لوقا 15: 8–10)، وَالِابْنِ الضَّالِّ (لوقا 15: 11–32)، هذِهِ العِبَارَةُ لا تَظْهَرُ عَرَضًا، بَلْ تَتَكَرَّرُ ثَمَانِيَ مَرَّاتٍ عَلَى التَّوَالِي فِي هذَا الفَصْلِ، لِتُصْبِحَ كَـ نَغْمَةٍ سَمَاوِيَّةٍ تُرَدِّدُهَا قُلُوبُ المَلاَئِكَةِ، كُلَّمَا يَعُودُ أَحَدُ الضَّالِّينَ إِلَى بَيْتِ الآب. إنَّهُ فَصْلُ الفَرَحِ الإِلَهِيِّ، فَرَحِ الرَّاعِي بِخَرُوفِهِ، وَفَرَحِ المَرْأَةِ بِدِرْهَمِهَا، وَفَرَحِ الآبِ بِابْنِهِ الرَّاجِعِ.  وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ، تُعلِنُ العِبَارَةُ نَفْسَهَا: "ضالٌّ فوُجِد"... لِتُذَكِّرَنَا أَنَّهُ مَهْمَا ابْتَعَدْنَا، فَـعَيْنُ الآبِ عَلَيْنَا، وَقَلْبُهُ يَنْتَظِرُ.  وَيَلْفِتُ الاِنْتِبَاهَ أَنَّ الْمَثَلَ لاَ يُخْبِرُنَا مَاذَا فَعَلَ الِابْنُ الأَكْبَرُ فِي النِّهَايَةِ. فَهَلْ دَخَلَ إِلَى الْبَيْتِ؟ أَمْ بَقِيَ فِي الْخَارِجِ؟ إِنَّهُ سُكُوتٌ قَصْدِيٌّ، لِيَتْرُكَ الْجَوَابَ مَفْتُوحًا أَمَامَ كُلِّ مُسْتَمِعٍ. فَهذِهِ القَضِيَّةُ هِيَ ذَاتُهَا، الَّتِي يُعَانِي مِنْهَا عَالَمُنَا الْمُنْقَسِمُ الْيَوْم، فِي الحُرُوبِ، وَالْمَجَاعَاتِ، وَالْكُرْهِ، وَتَفَكُّكِ الأُسَرِ وَالشُّعُوبِ. فَالدَّعْوَةُ هُنَا هِيَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ: أَنْ يُحِبَّ الآخَرَ كَمَا هُوَ، وَأَنْ يَقْبَلَهُ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ مَاضِيهِ. وَهٰذَا يَتَطَلَّبُ أَمْرَيْنِ: أَوَّلًا، قُبُولَ الآخَرِ كَأَخٍ؛ وَثَانِيًا، اكْتِشَافَ "الأَبِ" لِنُصْبِحَ "أَبْنَاءً" حَقِيقِيِّينَ، وَفِي نَفْسِ الْوَقْتِ "إِخْوَةً" لِمَنْ هُمْ مَعَنَا.  وَبِذٰلِكَ نَفْهَمُ أَنَّ الْخَلاَصَ لاَ يَكْتَمِلُ بِدُونِ الْمَحَبَّةِ، وَلاَ مَعْنَى لِلْبُنُوَّةِ إِنْ لَمْ تَتَجَلَّ فِي الْأُخُوَّةِ. فِي هذِهِ الآيَةِ، يَتَجَلَّى قَلْبُ الآبِ الإِلَهِيِّ بِكُلِّ حَنَانِهِ وَتَعْقِيدِ عَلاقَاتِهِ مَعَ أَبْنَائِهِ، حَامِلًا دَعْوَةً صَامِتَةً لِكُلٍّ مِنَّا: أَنْ نَكُونَ إِخْوَةً حَقِيقِيِّينَ فِي الْمَحَبَّةِ وَالقَبُولِ، لا أَبْنَاءً فَقَط فِي الاِنْتِمَاءِ.  لا يَزَالُ صَوْتُ الآبِ يَهْمِسُ إِلَيْنَا إِلَى يَوْمِنَا هذَا...يَدْعُونَا إِلَى الفَرَحِ الحَقِيقِيِّ، إِلَى المُعِيَّةِ، إِلَى الفَرَحِ بِـ الْبَقَاءِ مَعًا، وَبِـ عَوْدَةِ إِخْوَتِنَا مَتَى أَخْطَأُوا إِلَيْنَا. إِنَّهُ يَدْعُونَا لِنَمْنَحَ الغُفْرَانَ، وَلِنُدْرِكَ عُمْقَ حُبِّ الآبِ الحَقِيقِيِّ، الَّذِي لَمْ يُعْطِنَا أَخَوَةً لِنَتَنَافَسَ، بَلْ لِنَفْرَحَ وَنَتَأَلَّمَ مَعًا، وَلِنَسِيرَ كَكَنِيسَةٍ مُتَّحِدَة، نَحْتَفِي بِكُلِّ رَجُوع، وَنَبْكِي عَلَى كُلِّ فِرَاق. فَلَا نَفْرَحْ بِمَا هُوَ خَارِجُ البَيْتِ الأَبَوِيِّ، بَلْ نَفْرَحْ بِحُضُورِ الآبِ، وَبِالْمَحَبَّةِ الَّتِي جَمَعَتْنَا، فَهُنَاكَ فَقَط... يَكُونُ الْمَلَكُوتُ.

 

 

ثانِيًا: تَطْبِيقَاتُ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ (لُوقَا 15: 1–3، 11–32)

 

بَعْدَ دِرَاسَةِ وَقَائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ (لُوقَا 15: 1–3، 11–32)، نَسْتَنْتِجُ أَنَّهُ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ رَحْمَةِ اللهِ لِلْخَاطِئِينَ.
فَالأَبُ يُمَثِّلُ اللهَ، الآبَ السَّمَاوِيَّ؛ أَمَّا ابْنَاهُ، فَيُمَثِّلُ الأَصْغَرُ الْعَشَّارِينَ وَالْخَاطِئِينَ وَشُعُوبَ الْأُمَمِ، وَالِابْنُ الأَكْبَرُ يُمَثِّلُ الْفِرِّيسِيِّينَ وَالْكَتَبَةَ وَالْيَهُودَ.

 

يَنْقَسِمُ الْمَثَلُ إِلَى قِسْمَيْنِ: القِسْمُ الأَوَّلُ: يَصِفُ رَحْمَةَ اللهِ لِلِابْنِ الأَصْغَرِ (لُوقَا 15: 11–23أ).  القِسْمُ الثَّانِي: يَصِفُ رَحْمَةَ اللهِ لِلِابْنِ الأَكْبَرِ (لُوقَا 15: 24ب–32). وَالْقِسْمَانِ مُرْتَبِطَانِ ارْتِبَاطًا وَثِيقًا بِشَخْصِ "الآبِ"، وَهُوَ الشَّخْصُ الرَّئِيسِيُّ فِي الْمَثَلِ، مِنْ خِلَالِ مَوْقِفِهِ الرَّحِيمِ، وَدَعْوَتِهِ إِلَى مُقَاسَمَةِ فَرَحِهِ بِعَوْدَةِ أَبْنَائِهِ الْخَاطِئِينَ.

 

1) رَحْمَةُ الآبِ لِلِابْنِ الأَصْغَرِ (لُوقَا 15: 11–24)

 

يَتَنَاوَلُ الْقِسْمُ الأَوَّلُ قِصَّةَ الِابْنِ الضَّالِّ، وَمَوْقِفَ الآبِ مِنْهُ. فَقَدْ قَسَّمَ الآبُ مِيرَاثَهُ بَيْنَ ابْنَيْهِ عِنْدَ طَلَبِ الِابْنِ الأَصْغَرِ، فَاحْتَرَمَ اسْتِقْلَالِيَّةَ ابْنِهِ وَحُرِّيَّتَهُ، وَسَمَحَ لَهُ بِالسَّفَرِ، عَلَى أَمَلِ أَنْ يُقَدِّرَ مَحَبَّةَ أَبِيهِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ ذٰلِكَ يُؤْلِمُهُ.

 

مَوْقِفُ الِابْنِ الأَصْغَرِ مِنْ أَبِيهِ

 

تَرَكَ الِابْنُ الأَصْغَرُ بَيْتَ أَبِيهِ وَسَافَرَ إِلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ، وَانْغَمَسَ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْفُجُورِ، وَعَاشَ عِيشَةَ تَحَلُّلٍ وَتَحَرُّرٍ مِنْ كُلِّ رِبَاطٍ، وَمِنْ كُلِّ مَا يُعْتَبَرُ مُحَرَّمًا، فَأَطْلَقَ الْعِنَانَ لِأَهْوَائِهِ، وَاسْتَبَاحَ كُلَّ لَذَّةٍ حَرَامٍ فِي غُرْبَةٍ قَاتِلَةٍ، إِذْ بَدَتِ الْخَطِيئَةُ لَهُ مُغْرِيَةً، مُسْتَحَبَّةً، جَذَّابَةً. فَضَاعَ بِدَافِعِ الأَنَانِيَّةِ (لُوقَا 15: 12)، وَبَدَّدَ كُلَّ مِيرَاثِهِ، وَأَنْفَقَ أَمْوَالَهُ، وَانْقَطَعَتْ مَوَارِدُهُ بَعِيدًا عَنْ أَبِيهِ. وَبَلَغَ الْحَالَةَ الْقُصْوَى مِنَ الذُّلِّ وَالشَّقَاءِ وَالْفَقْرِ وَالْحِرْمَانِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ سِوَى الْهَلَاكِ.

 

إِنَّ الْمُشْكِلَةَ تَكْمُنُ فِي الْمَسَرَّاتِ الشِّرِّيرَةِ التي لاَ تَدُومُ طَوِيلًا، فَهِيَ نَعِيمٌ اصْطِنَاعِيٌّ، وَيَبْقَى الْفَمُ مُرًّا.  وَهٰذِهِ هِيَ الْخَطِيئَةُ الْكُبْرَى الَّتِي تَخْدَعُهُ. فَبَيْنَمَا كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ سَعِيدٌ، وَجَدَ نَفْسَهُ فِي الْوَاقِعِ وَحِيدًا، حَزِينًا، مَتْرُوكًا مِنَ الْجَمِيعِ. وَعِوَضًا عَنْ أَنْ يَكُونَ ابْنًا، أَصْبَحَ عَبْدًا، وَاكْتَشَفَ حَقِيقَةَ شُرُورِهِ: جُوعَهُ، فَقْرَهُ، وَعُزْلَتَهُ. حِينَئِذٍ، تَذَكَّرَ أَبَاهُ، وَطِيبَتَهُ، وَكَرَمَهُ. وَلٰكِنَّ الْخَطِيئَةَ جَعَلَتْهُ يَنْظُرُ إِلَى أَبِيهِ كَـ"سَيِّدٍ"، وَإِلَى نَفْسِهِ كَـ"أَجِيرٍ"، فَقَالَ لَهُ: "لَسْتُ أَهْلًا بَعْدَ ذٰلِكَ لِأَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا، فَاجْعَلْنِي كَأَحَدِ أُجَرَائِكَ" (لُوقَا 15: 19).

 

إِنَّ الرُّجُوعَ إِلَى النَّفْسِ هُوَ نُقْطَةُ التَّحَوُّلِ، حَيْثُ يَبْدَأُ الإِنْسَانُ يُفَكِّرُ فِي حَالَتِهِ أَيَّامَ كَانَ مَعَ اللهِ، وَمَا آلَ إِلَيْهِ حاله وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْهُ. فَنَدِمَ قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَ الْقَرَارَ الْحَاسِمَ، وَالْخَطْوَةَ الصَّادِقَةَ لِلتَّخَلُّصِ مِنَ الشُّرُورِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى أَبِيهِ. وَكَانَ أَوَّلُ طَرِيقِ الرُّجُوعِ أَنْ رَأَى ضَلاَلَهُ، وَعَرَفَ أَخْطَاءَهُ، وَأَقَرَّ لِأَبِيهِ أَنَّهُ أَخْطَأَ. وَكُلُّ رُجُوعٍ عَنِ الْخَطِيئَةِ، هُوَ رُجُوعٌ إِلَى الْحَيَاةِ.

 

رَدُّة فِعْلِ الآبِ مِنِ ابْنِهِ الأَصْغَرِ

 

بَعْدَ أَنْ عَاشَ الِابْنُ الضَّالُّ فِي بَيْتِ أَبِيهِ، مُسْتَمْتِعًا بِمَحَبَّتِهِ، وَأُبُوَّتِهِ، وَطَيِّبَاتِهِ، وَالشَّبَعِ فِي بَيْتِهِ، اخْتَارَ أَنْ يَتْرُكَ حِضْنَ أَبِيهِ وَيَبْتَعِدَ. وَلَمْ يُحَاوِرْهُ أَبُوهُ فِي سِيرَتِهِ، فَمَا الْجَدِيدُ الَّذِي سَيَقُولُهُ الِابْنُ؟ فَهُوَ يَعْرِفُ كُلَّ شَيْءٍ: تَّجَارِبَ، وَالضِّيْقَاتِ، وَالْمَجَاعَةَ، وَالأَكْلَ مَعَ الْخَنَازِيرِ. إِنَّهُ يُقَارِنُ بَيْنَ حَالِهِ بَعِيدًا عَنْ أَبِيهِ، وَبَيْنَ حَالِهِ فِي بَيْتِ أَبِيهِ، َيَشْتَاقُ إِلَى الرُّجُوعِ.

 

إِنَّ مَا "أَحْزَنَ" الآبَ، هُوَ سَفَرُ ابْنِهِ، وَرَغْبَتُهُ فِي أَلَّا يَكُونَ ابْنًا بَعِيدًا، وَأَلَّا يُتِيحَ لِأَبِيهِ أَنْ يُحِبَّهُ حُبًّا إِيجَابِيًّا. َقَدْ "أَهَانَ" ابْنُهُ أَبَاهُ بِحِرْمَانِهِ مِنْ وُجُودِهِ كَابْنٍ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ "يُعَوِّضَ" هٰذِهِ الإِهَانَةَ، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِعَوْدَتِهِ، وَقَبُولِهِ مِنْ جَدِيدٍ فِي أَنْ يُعَامَلَ كَـابْنٍ؟ وَلِذٰلِكَ، يُبْرِزُ الْمَثَلُ فَرَحَ الآبِ خُصُوصًا. فَالْفَرَحُ يَرْتَبِطُ بِالْخَلاَصِ وَحُضُورِ اللهِ، وَهُوَ ثَمَرَةُ الْخَلاَصِ (مَزْمُور 51: 14)، عَلَى عَكْسِ الْحُزْنِ الَّذِي يُعَدُّ ثَمَرَةَ الْخَطِيئَةِ الَّتِي تُفْصِلُ بَيْنَ اللهِ وَالإِنْسَانِ. فَخَارِجَ هٰذَا الرُّجُوعِ، لاَ يُمْكِنُ تَصَوُّرُ أَيِّ صَفْحٍ مِنْ قِبَلِ الآبِ. لَمْ يُجْبِرِ الآبُ ابْنَهُ عَلَى الرُّجُوعِ، بَلِ انْتَظَرَهُ بِصَبْرٍ، حَتَّى عَادَ إِلَى رُشْدِهِ. فَلَوْ أُعِيدَ بِشَيْءٍ مِنَ الْقُوَّةِ، لَمْ يَكُنْ لِيَجْدِيَ نَفْعًا، إِذَا ظَلَّ الْقَلْبُ بَعِيدًا.

 

إِنَّ الِابْنَ الَّذِي اخْتَارَ أَنْ يَضِلَّ، يَجِبْ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَيْضًا مَنْ يَخْتَارُ أَنْ يَعُودَ. لَمْ يُلْزِمِ الآبُ ابْنَهُ بِالرُّجُوعِ، بَلْ عَامَلَهُ كَإِنْسَانٍ لَهُ إِرَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَأَعْطَاهُ فُرْصَةً لِلرُّجُوعِ. وَإِذْ رَآهُ مِنْ بَعِيدٍ، انْطَلَقَ نَحْوَهُ يُرَكْضُ مُسْرِعًا، لاَ لِيُعَاتِبَهُ أَوْ يُوَبِّخَهُ، بَلْ لِيَضُمَّهُ إِلَى عُنُقِهِ وَيُقَبِّلَهُ. إِنَّهُ يُنْصِتُ لِاعْتِرَافِ ابْنِهِ الْخَاطِئِ، وَلٰكِنَّهُ لاَ يَدَعُهُ يُكْمِلُ، فَلاَ يَتْرُكُهُ يَقُولُ: "اجْعَلْنِي كَأَحَدِ أُجَرَائِكَ"، بَلْ يَطْلُبُ لَهُ ثَوْبَ الِابْنِ وَخَاتَمَهُ، مُكَرِّمًا إِيَّاهُ فِي بَيْتِهِ!

 

إِذَا كَانَ الِابْنُ الأَصْغَرُ قَدْ نَسِيَ أَبَاهُ فِي الْغُرْبَةِ، وَفَتَرَتْ مَحَبَّتُهُ لَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقْتُلَ مَحَبَّةَ أَبِيهِ لَهُ. وَلَمْ يَحْكُمْ الآبُ عَلَى ابْنِهِ، وَلَمْ يُلِمْهُ، وَلَمْ يُعَنِّفْهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَخْطَاءَهُ كَيْ لاَ يُحَطِّمَ شَرَفَهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَيَّ شَيْءٍ مِنَ الْمَاضِي، بَلْ عَامَلَهُ بِمَحَبَّةٍ، مَهْمَا كَانَ سَبَبُ ضَيَاعِهِ، وَأَرَادَ لَهُ أَنْ يَبْدَأَ حَيَاةً جَدِيدَةً. وَفِي النِّهَايَةِ، عَبَّرَ الآبُ عَنْ فَرَحِهِ بِالْعُثُورِ عَلَى ابْنِهِ الْمَفْقُودِ، وَأَقَامَ وَلِيمَةً، لِأَنَّ الِابْنَ الَّذِي كَانَ ضَالًّا قَدْ وُجِدَ، وَالَّذِي كَانَ مَيِّتًا قَدْ عَادَ إِلَى الْحَيَاةِ. فَهَلْ هُنَاكَ عِيدٌ أَجْمَلُ مِنْ اخْتِبَارِ رَحْمَةِ الآبِ غَيْرِ الْمَحْدُودَةِ؟

 

الْعِبْرَةُ الأوَلى: روحُ الإنْجيل وتعاليمُ الرَّحمة الإلهية

 

يَكْشِفُ الْمَثَلُ أُبُوَّةَ اللهِ الآبِ، وَقَلْبَهُ الأَبَوِيَّ، وَعَاطِفَتَهُ نَحْوَ عَالَمِ الْخَاطِئِينَ، وَيُبَيِّنُ الرَّبُّ يَسُوعُ رَحْمَةَ اللهِ الَّتِي تَفُوقُ كُلَّ إِدْرَاكٍ. فَلِكُلِّ إِنْسَانٍ عِندَ اللهِ مَنْزِلَةٌ، وَهُوَ يُحِبُّهُ، لاَ لِجَدَارَتِهِ أَوِ اسْتِحْقَاقِهِ، بَلْ يُحِبُّهُ لِذَاتِهِ. وَمَحَبَّتُهُ "تَعْذِرُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَتَحَمَّلُ كُلَّ شَيْءٍ" (1 قُورِنْتُس 13: 7).

 

يُعَلِّمُنَا الرَّبُّ مِنْ خِلَالِ هٰذَا الْمَثَلِ أَنَّ اللهَ هُوَ الآبُ (مَزْمُور 103: 13)، أَبٌ يَصْفَحُ وَيَرْحَمُ (إِشَعْيَاء 55: 7؛ دَانِيال 9: 9). فَالرَّحْمَةُ هِيَ صِفَةٌ خَاصَّةٌ بِاللهِ (مَزْمُور 78: 38): "اللهُ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ"، وَهُوَ الْلَقَبُ الأَوَّلُ الَّذِي يُعْلِنُهُ اللهُ عَنْ نَفْسِهِ (الخُرُوج 34: 6)، وَالَّذِي يُقِرُّ بِهِ الأَنْبِيَاءُ، وَخُصُوصًا النَّبِيُّ يُوئِيل (2: 13). قَدْ أَعْلَنَ اللهُ لِمُوسَى هٰذِهِ الْحَقِيقَةَ، فَقَالَ: "إِلَهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ الأَنَاةِ، كَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَالْوَفَاءِ، يَحْفَظُ الرَّحْمَةَ لأُلُوفٍ، وَيَحْتَمِلُ الإِثْمَ وَالْمَعْصِيَةَ وَالْخَطِيئَةَ"(الخُرُوج 34: 6–7).

 

سَتُشَدِّدُ النُّبُوَّاتُ اللاحِقَةُ أَكْثَرَ عَلَى أَنَاةِ الآبِ وَمَحَبَّتِهِ الرَّحِيمَةِ، فَـ"الرَّبُّ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، طَوِيلُ الأَنَاةِ، كَثِيرُ الرَّحْمَةِ... لاَ عَلَى حَسَبِ خَطَايَانَا عَامَلَنَا، وَلاَ عَلَى حَسَبِ آثَامِنَا كَافَأَنَا" (مَزْمُور 103: 8–10). وَلَكِنْ، لاَ يَجُوزُ أَنْ نَظُنَّ أَنَّ صَفْحَ اللهِ لَا يَتَطَلَّبُ رُجُوعًا مِنَ الْخَاطِئِ، كَمَا وَرَدَ فِي مَثَلِ الِابْنِ الضَّالِّ (لُوقَا 15: 11–13). فَكُلُّ خَاطِئٍ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَّكِلَ عَلَى رَحْمَةِ اللهِ الْمُذْهِلَةِ، غَيْرِ الْمَحْدُودَةِ، كَمَا جَاءَ فِي سِفْرِ الْمَزَامِير: "ارْحَمْنِي يَا اللهُ بِحَسَبِ رَحْمَتِكَ، وَبِكَثْرَةِ رَأْفَتِكَ امْحُ مَعَاصِيَّ" (مَزْمُور 51: 3).

 

وَهٰذِهِ الرَّحْمَةُ لَيْسَتْ دَعْوَةً لِلاِسْتِرْخَاءِ فِي الْخَطِيئَةِ، بَلْ لِلتَّوْبَةِ. كَمَا يُعَلِّمُنَا يَشُوعُ بْنُ سِيرَاخَ: "لاَ تَكُنْ وَاثِقًا مِنْ نَيْلِ الْغُفْرَانِ حَتَّى تَزِيدَ خَطِيئَةً عَلَى خَطِيئَةٍ. وَلاَ تَقُلْ: رَحْمَتُهُ عَظِيمَةٌ فَيَغْفِرُ كَثْرَةَ خَطَايَايَ، فَإِنَّ عِنْدَهُ الشَّفَقَةَ وَالْغَضَبَ، وَسُخْطُهُ يَحِلُّ عَلَى الْخَاطِئِينَ... لاَ تُؤَخِّرِ التَّوْبَةَ إِلَى الرَّبِّ" (سِيرَاخ 5: 4–7). إِنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ يُقَدِّمُ الْخَاطِئَ كَـمَدْيُونٍ، وَاللهُ يُبَرِّئُهُ بِالصَّفْحِ، كَمَا فِي شَفَاعَةِ مُوسَى: "اغْفِرْ إِثْمَ هٰذَا الشَّعْبِ بِحَسَبِ عَظِيمِ رَحْمَتِكَ" (عَدَد 14: 19). وَهٰذَا الْغُفْرَانُ فَعَّالٌ إِلَى دَرَجَةٍ أَنَّ اللهَ لاَ يَعُودُ يَنْظُرُ إِلَى الْخَطِيئَةِ، كَأَنَّهُ قَدْ نَبَذَهَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ: "نَبَذْتَ جَمِيعَ خَطَايَايَ وَرَاءَ ظَهْرِكَ" (إِشَعْيَا 38: 17). وَصِدْقً وِليَام شكسبير بقوله المشهور: اللهُ يَنْسَى، وَالإِنْسَانُ يَغْفِرُ".

 

لكِنَّ الرَّحْمَةَ الإِلٰهِيَّةَ لَيْسَتْ ضَعْفًا، بَلْ هي دَعْوَةٌ إِلَى التَّوْبَةِ: "تُوبُوا عَنْ طُرُقِكُمُ السَّيِّئَةِ" (2 مُلُوك 17: 13). فَـ"الرَّبُّ رَؤُوفٌ، رَحِيمٌ، طَوِيلُ الأَنَاةِ، كَثِيرُ الرَّحْمَةِ" (مَزْمُور 103: 8). وَيَفْهَمُ إِسْرَائِيلُ تَدْرِيجِيًّا أَنَّهُ لَيْسَ وَحْدَهُ مَنْ يَجْنِي ثِمَارَ الرَّحْمَةِ، بَلِ الأُمَمُ أَيْضًا هُمْ مَوْضِعُ مَحَبَّةِ اللهِ، كَمَا تُذَكِّرُنَا قِصَّةُ يُونَانَ، أَنَّ بَابَ الرَّحْمَةِ الإِلٰهِيَّةِ مَفْتُوحٌ أَمَامَ كُلِّ أُمَّةٍ تَتَّقِي اللهَ وَتَتُوبُ إِلَيْهِ. وَلَيْسَ مُسْتَغْرَبًا أَنْ يَدْعُو بُولُسُ الرَّسُولُ الْمَسِيحِيِّينَ لِكَيْ "يَلْبَسُوا الأَحْشَاءَ الرَّحِيمَةَ"، أَحْشَاءَ اللهِ وَابْنِهِ، فَقَالَ: "وَأَنْتُمْ الَّذِينَ اخْتَارَهُمُ اللهُ، فَقَدَّسَهُمْ وَأَحَبَّهُمْ، الْبَسُوا عَوَاطِفَ الْحَنَانِ وَاللُّطْفِ وَالتَّوَاضُعِ وَالْوَدَاعَةِ وَالصَّبْرِ" (قُولُسِّي 3: 12). فَـأَبْنَاءُ اللهِ جَمِيعُهُمْ مَدْعُوُّونَ لِيَقْتَدُوا بِأَبِيهِمُ السَّمَاوِيِّ: "كُونُوا رُحَمَاءَ، كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ رَحِيمٌ" (لُوقَا 6: 36)، وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ قَلْبٌ مِثْلَ قَلْبِهِ، مُمْتَلِئٌ بِالشَّفَقَةِ وَالْحَنَانِ نَحْوَ الْقَرِيبِ. "قَدْ وَجَبَ أَنْ نَتَنَعَّمَ وَنَفْرَحَ، لأَنَّ أَخَاكَ هٰذَا كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالًّا فَوُجِدَ" (لُوقَا 15: 31).

 

هَذِهِ هِيَ الدَّعْوَةُ لِلْمَحَبَّةِ الشَّامِلَةِ، الَّتِي لَيْسَتْ عَاطِفَةً فَحَسْب، بَلْ مَوْقِفًا إِيجَابِيًّا (لُوقَا 10: 33)، عَلَى نَحْوِ الْـمَثَلِ الْأَعْلَى: السَّامِرِيِّ الصَّالِحِ. وَعَلَى هٰذَا النَّحْوِ فَقَط، يَنْدَمِجُونَ فِي حَرَكَةِ الرَّحْمَةِ الإِلٰهِيَّةِ، الَّتِي تَأْتِيهِمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ الآبِ، وَابْنِهِ يَسُوعَ الْـمَسِيحِ، بِفَضْلِ رُوحِ الْـمَحَبَّةِ (فِيلِبِّي 2: 1). وَهُوَ يَرْفَعُهُمْ نَحْوَ السَّعَادَةِ الَّتِي لاَ نِهَايَةَ لَهَا، بِالتَّفَوُّقِ عَلَى الْخَطِيئَةِ وَالْمَوْتِ. إِنَّ مَحَبَّةَ اللهِ تَنْتَظِرُنَا عَلَى الدَّوَامِ، وَيَبْحَثُ اللهُ عَنَّا، وَيُعْطِينَا فُرَصًا لِنَسْتَجِيبَ لَهُ وَنَعُودَ إِلَيْهِ، مَهْمَا كَانَ سَبَبُ ضَيَاعِنَا. كَمَا لَمْ يَتْرُكِ الرَّبُّ إِلَهُنا شَعْبَهُ فِي الْمَاضِي (يَشُوع 5: 9-12)، هَكَذَا لَمْ يَتْرُكْنَا نَحْنُ أَبْنَاءَهُ فِي الحَاضِرِ، رَغْمَ قَسَاوَةِ قُلُوبِنَا، وَتَذَمُّرِنَا، وَإِعْلَانِ الحُرُوبِ فِيمَا بَيْنَ شُعُوبِنَا، وَتَفَكُّكِ أُخُوَّتِنَا. إِنَّهُ إِلَهٌ أَمِينٌ، لا يُخْلِفُ وَعْدَه، يَسِيرُ مَعَنَا فِي البَرِّيَّةِ، كَمَا سَارَ مَعَ آبَائِنَا، يُقِيمُ عَهْدَهُ مَعَ كُلِّ قَلْبٍ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَيَمْسَحُ عَنَّا عَارَ اليَأْسِ وَالضَّيَاعِ. فَهَلْ نَثِقُ بِحُضُورِهِ بَيْنَنَا، حَتَّى فِي أَشَدِّ لَحَظَاتِ ضَعْفِنَا وَتَفَرُّقِنَا؟ هَلْ نَسْمَحُ لِهَذِهِ الأُمَانَةِ الإِلَهِيَّةِ أَنْ تُعِيدَ لِقُلُوبِنَا نَبْضَ الرَّجَاءِ وَوَحْدَةَ الإِخْوَةِ؟  فِي هذَا السِّيَاقِ، يَصْدَحُ صَوْتُ القِدِّيسِ فرنْسِيس الأَسِّيزِي، الَّذِي لَمَّا اكْتَشَفَ نِعْمَةَ الأُخُوَّةِ، تَهَلَّلَ قَلْبُهُ وَهَتَفَ فَرَحًا: "الرَّبُّ أَعْطَانِي إِخْوَةً!"

 

 

2) رَحْمَةُ الآبِ لِلِابْنِ الأَكْبَر (لوقَا 15: 25–32)

 

يَتَنَاوَلُ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْمَثَلِ مَوْقِفَ الِابْنِ الأَكْبَرِ وَمَوْقِفَ الآبِ مِنْهُ. وَلَيْسَتْ شَخْصِيَّةُ الِابْنِ الأَكْبَرِ أَقَلَّ أَهَمِّيَّةً مِنْ شَخْصِيَّةِ الِابْنِ الأَصْغَرِ، إِلَى دَرَجَةٍ جَعَلَتِ الْكَارْدِينَال يُوزِف رَاتْزِنْغَر (البَابَا بِنْدِكْتُس السَّادِسَ عَشَرَ) يَقْتَرِحُ تَسْمِيَةَ الْمَثَلِ: "مَثَلُ الأَخَوَيْنِ"، فِي رِيَاضَةٍ رُوحِيَّةٍ بِالْفَاتِيكَانِ، سَنَةَ 1983. يُمَثِّلُ الِابْنُ الأَكْبَرُ رُوحَ الْفِرِّيسِيِّينَ وَالْكَتَبَةِ، فِي تَذَمُّرِهِمْ عَلَى الرَّبِّ يَسُوعَ، وَيَكْشِفُ الْمَثَلُ عَنْ مَوْقِفِ اللهِ الرَّحِيمِ مِنْهُمْ أَيْضًا.

 

مَوْقِفُ الِابْنِ الأَكْبَرِ مِنْ أَبِيهِ

 

كَانَ هٰذَا الِابْنُ مُطِيعًا، مُلْتَزِمًا، يُلَبِّي جَمِيعَ رَغَبَاتِ أَبِيهِ، وَلاَ يَعْصِيهِ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ. إِنَّهُ نَمُوذَجُ الْمُتَمَسِّكِ بِشَرِيعَةِ الرَّبِّ، يُطَبِّقُ وَصَايَاهُ بِدِقَّةٍ، وَلَكِنَّ مِحْنَةَ أَخِيهِ الأَصْغَرِ كَشَفَتْ حَقِيقَةَ إِيمَانِهِ وَطَبِيعَتِهِ الْبَاطِنَةِ. إِنَّهُ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَلْتَزِمُ بِالشَّرِيعَةِ مُرْغَمًا، لاَ يَرْتَاحُ فِي كَنَفِ أَبِيهِ السَّمَاوِيِّ، بَلْ يَخْشَى بَطْشَهُ أَوْ عِقَابَهُ. فَشَرِيعَتُهُ لاَ تَزَالُ مَكْتُوبَةً عَلَى لَوْحِ حَجَرٍ، لاَ فِي قَلْبِهِ. يُسَبِّحُ الرَّبَّ بِشَفَتَيْهِ، وَلَكِنَّ قَلْبَهُ بَعِيدٌ عَنْهُ، كَمَا قِيلَ: "هٰذَا الشَّعْبُ يُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَبَعِيدٌ مِنِّي" (مَرْقُس 7: 6).

 

يُتَمِّمُ جَمِيعَ الْوَصَايَا وَالْوَاجِبَاتِ: يَصُومُ وَيُصَلِّي، وَيَمْتَنِعُ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَكِنَّهُ يَفْعَلُ ذٰلِكَ بِدُونِ مَحَبَّةٍ، وَيَسْكُنُ فِي بَيْتِ أَبِيهِ بِالْجَسَدِ، لاَ بِالرُّوحِ وَلاَ بِالْقَلْبِ. وَيُظْهِرُ حِوَارُهُ مَعَ أَبِيهِ تَذَمُّرَهُ وَغِيَابَ الْفَرَحِ، أَنَّهُ لَيْسَ سَعِيدًا، إِذْ يَقُولُ: "فَمَا أَعْطَيْتَنِي جَدْيًا وَاحِدًا لأَتَنَعَّمَ بِهِ مَعَ أَصْدِقَائِي" (لُوقَا 15: 29). فَهُوَ يَشْعُرُ بِالْبِرِّ الذَّاتِيِّ، وَيَخْضَعُ لأَبِيهِ، لَكِنْ فِي أَنَانِيَّةٍ وَاسْتِغْلاَلٍ. قَامَ بِوَاجِبِهِ، لَكِنَّهُ كَانَ يَنْتَظِرُ الْجَزَاءَ وَالشُّكْرَ. وَبِذٰلِكَ، يُشْبِهُ أَخَاهُ الصَّغِيرَ فِي فَقْدِ السَّلاَمِ الدَّاخِلِيِّ، وَالشُّعُورِ أَنَّ الْحَيَاةَ فِي ظِلِّ الآبِ نِيرٌ، وَالْفَارِقُ الْوَحِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكِ الْبَيْتَ، وَلَكِنَّهُ بَقِيَ بِدُونِ مَحَبَّةٍ.

 

رَفْضَ الابن الأكبر الْمُصَالَحَةِ فِي حِوَارِهِ مَعَ أَبِيهِ، فهو لاَ يَقُولُ أَبَدًا: "أَخِي"، بَلْ يَقُولُ: "ابْنُكَ هٰذَا"، كَأَنَّهُ يَقُولُ: "هٰذَا لَيْسَ أَخِي... أَنَا أَتَبَرَّأُ مِنْهُ". وَأَلَحَّ عَلَى ذِكْرِ ذُنُوبِ أَخِيهِ الْقَبِيحَةِ، وَرَفَضَ أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ، أَوْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ، تَحْتَ تَأْثِيرِ حِقْدِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَرَغْبَتِهِ فِي الِانْتِقَامِ. وَفِي الْمُقَابِلِ، يَأْتِي رَدُّ الآبِ بِكُلِّ لُطْفٍ وَوَدَاعَةٍ، فَيُذَكِّرُهُ قَائِلًا: "هُوَ أَخُوكَ". إِنَّ رَحْمَةَ الآبِ لِأَخِيهِ الأَصْغَرِ وَفَرَحَهُ بِعَوْدَتِهِ، كَانَتْ سَبَبَ عَثْرَةٍ لَهُ، لأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ فَهْمِ هٰذِهِ الرَّحْمَةِ (لُوقَا 15: 28).

 

مَنَعَتْ كِبْرِيَاءُ الِابْنِ الأَكْبَرِ مُصَالَحَةِ مع أَبِيه، لأنَّه َكَانَ يَعْتَبِرُهُ سَيِّدًا، لاَ أَبًا، وَكَانَ يَرَى نَفْسَهُ خَادِمًا، لاَ ابْنًا، وَيَتَذَمَّرُ لأَنَّهُ لَمْ يَغِبْ قَطُّ، وَلٰكِنْ قَلْبُهُ خَالٍ مِنَ الْمَحَبَّةِ. فَهُوَ مُرْتَبِطٌ بِعَطَايَا الآبِ، لاَ بِشَخْصِ الآبِ نَفْسِهِ، وَلِذٰلِكَ صَعُبَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ. وَالْغَرِيبُ أَنَّ الإِنْجِيلَ لاَ يُخْبِرُنَا إِنْ كَانَ الِابْنُ الأَكْبَرُ قَدْ سَمِعَ كَلِمَةَ أَبِيهِ، أَمْ بَقِيَ فِي خَارِجِ الْبَيْتِ. وَرُبَّمَا كَانَ هٰذَا الصَّمْتُ الْخِتَامِيُّ هُوَ الدَّعْوَةُ الْمُوَجَّهَةُ إِلَيْنَا نَحْنُ، لِنُجِيبَ بِأَعْمَالِنَا: هَلْ نَدْخُلُ فِي فَرَحِ أَبِينَا الرَّحِيمِ؟

 

اللهُ يَعْتَرِفُ بِنَا كَأَبْنَاء، وَنَحْنُ لا نَزَالُ فِي حَاجَةٍ لِنَتَعَرَّفَ، بِعُمْقٍ، عَلَى هذِهِ الأُبُوَّةِ الْفَيَّاضَة، لِنَتَعَلَّمَ كَيْفَ نَعْتَرِفَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ كَإِخْوَة. إنَّهُ لا يَكْفِي أَنْ نُدْعَى أَبْنَاءَ الله، بَلْ نَحْتَاجُ أَنْ نَسِيرَ فِي طَرِيقِ البُنُوَّةِ الحَقِيقِيَّة، طَرِيقِ الثِّقَةِ، وَالانْفِتَاحِ، وَالمَحَبَّةِ الصَّادِقَة. وَكَمَا يَفْتَحُ الآبُ ذِرَاعَيْهِ لَنَا كُلَّ يَوْم، يَدْعُونَا لِنَفْتَحَ قُلُوبَنَا لِبَعْضِنَا، فَنَرَى فِي وَجْهِ أَخِينَا، صُورَةَ اللهِ نَفْسِهِ. فَهَلْ نَجْرُؤُ عَلَى أَنْ نَحْيَا كَإِخْوَةٍ، وَنُبَادِرَ بِالْمَحَبَّةِ كَمَا بَادَرَنَا الآبُ بِالْحَنَانِ؟

 

رَدُّة فِعْلِ الآبِ مِنِ ابْنِهِ الأَكْبَرِ

 

نَجِدُ فِي خِتَامِ الْمَثَلِ تَنَاقُضًا بَارِزًا بَيْنَ رَدِّ فِعْلِ الآبِ وَمَوْقِفِ ابْنِهِ الأَكْبَرِ. فَقَدْ كَانَ الآبُ فَرِحًا، وَقَدْ غَفَرَ لِابْنِهِ الأَصْغَرِ مَا فَعَلَهُ، بَيْنَمَا كَانَ الِابْنُ الأَكْبَرُ يَشْعُرُ بِالْمَرَارَةِ، وَالِامْتِعَاضِ، وَبِالْغَضَبِ مِنْ قُبُولِ أَخِيهِ الْخَاطِئِ فِي الْبَيْتِ.

 

وَلَمْ يَرْضَ الِابْنُ الأَكْبَرُ أَنْ يُسَامِحَ، بَلْ كَانَ حَزِينًا، فِي حِينَ كَانَ أَبُوهُ غَفُورًا وَفَرِحًا بِعَوْدَةِ ابْنِهِ. وَالْفَارِقُ بَيْنَ الْفَرَحِ وَالْحُزْنِ هُوَ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى الْغُفْرَانِ. وَلِذٰلِكَ، فَعِنْدَمَا رَفَضَ الأَخُ الأَكْبَرُ أَنْ يَغْفِرَ لِأَخِيهِ، فَقَدْ أَضَاعَ فُرْصَةَ اخْتِبَارِ الْفَرَحِ، وَالْمُشَارَكَةِ فِي سُرُورِ الْآخَرِينَ.

 

الْخِتَامُ وَالدَّعْوَةُ الْمُوَجَّهَةُ إِلَى الْقَارِئِ

 

يَخْتِمُ الْمَثَلُ بِـ جَوَابٍ عَلَى السُّؤَالِ الَّذِي يَبْتَدِئُ بِهِ الْفَصْلُ: "هٰذَا الرَّجُلُ يَسْتَقْبِلُ الْخَاطِئِينَ وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ!" (لُوقَا 15: 1–2). فَيُلْقِي ضَوْءًا عَلَى الْعِبْرَةِ الْأَسَاسِيَّةِ فِي الْمَثَلِ: إِنَّهُ دَعْوَةٌ إِلَى الْفِرِّيسِيِّينَ لِلدُّخُولِ فِي فَرَحِ اللهِ، وَلِـتَوْسِيعِ قُلُوبِهِمْ لِتُصْبِحَ عَلَى سَعَةِ قَلْبِ اللهِ فِي اسْتِقْبَالِ الْخَاطِئِينَ الْعَائِدِينَ إِلَيْهِ.

 

وَهُنَاكَ دَعْوَةٌ أَيْضًا لِـلْمَسِيحِيِّينَ الآتِينَ مِنَ الْعَالَمِ الْيَهُودِيِّ وَالَّذِينَ يُمَثِّلُهُمُ الأَخُ الأَكْبَرُ لِكَيْ يَتَقَبَّلُوا الْمَسِيحِيِّينَ الآتِينَ مِنَ الْعَالَمِ الْوَثَنِيِّ، وَالَّذِينَ يُمَثِّلُهُمُ الأَخُ الأَصْغَرُ. فَالدَّعْوَةُ لنا أن نغفر كما غفر الآب ، لاَ كَالِابْنِ الأَكْبَرِ الذي رفْضِ الغفران، لِكَيْ نَدْخُلَ فِي فَرَحِ اللهِ، وَنُصْبِحَ شُرَكَاءَ فِي عَمَلِ الرَّحْمَةِ.

 

الْعِبْرَةُ الثَّانِيَةُ: وَجْهٌ آخَر مِنْ وُجُوهِ الرَّحْمَةِ الإِلٰهِيَّةِ

 

أَظْهَرَ الرَّبُّ يَسُوعُ – مِنْ خِلَالِ مَثَلِ الِابْنِ الضَّالِّ – وَجْهًا آخَرَ مِنْ وُجُوهِ الرَّحْمَةِ الإِلٰهِيَّةِ، فَكَشَفَ أَنَّ اللهَ الآبَ هُوَ إِلٰهُ الْغُفْرَانِ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: "الرَّبُّ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ الأَنَاةِ، كَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَالْوَفَاءِ، وَلَكِنَّهُ لاَ يَتْرُكُ دُونَ عِقَابٍ شَيْئًا، فَيُعَاتِبُ إِثْمَ الآبَاءِ فِي الْبَنِينَ، وَفِي بَنِي الْبَنِينَ، إِلَى الْجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ" (الخُرُوج 34: 6–9).

 

لَكِنَّ قَلْبَ اللهِ لَيْسَ كَقَلْبِ الإِنْسَانِ، فَالإِلٰهُ الْقُدُّوسُ لاَ يُسَرُّ بِهَلاَكِ أَحَدٍ، كَمَا جَاءَ فِي نُبُوءَةِ هُوشَع: "كَيْفَ أَجْعَلُكَ يَا أَفْرَايِمُ كَعَدَمَةَ؟... قَلْبِي يَنْقَلِبُ فِيَّ... لاَ أُجْرِي حُمُوَّ غَضَبِي" (هُوشَع 11: 8–9). إِنَّ اللهَ لاَ يُرِيدُ مَوْتَ الْمُنَافِقِ، بَلْ تَوْبَتَهُ، كَمَا جَاءَ فِي نُبُوءَةِ حِزْقِيَال: "أَلَعَلَّ هَوَايَ فِي مَوْتِ الشِّرِّيرِ؟ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبّ. أَلَيْسَ فِي أَنْ يَتُوبَ عَنْ طُرُقِهِ فَيَحْيَا؟" (حِزْقِيَال 18: 23). وَلِكَيْ يُغْدِقَ عَلَيْهِ غُفْرَانَهُ، يُذَكِّرُنَا اللهُ – عَلَى لِسَانِ إِشَعْيَاء بِأَنَّ طُرُقَهُ تَفُوقُ طُرُقَنَا: "إِنَّ أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ، وَلاَ طُرُقُكُمْ طُرُقِي، يَقُولُ الرَّبّ. كَمَا تَعْلُو السَّمَاوَاتُ عَنِ الأَرْضِ، كَذَلِكَ طُرُقِي تَعْلُو عَنْ طُرُقِكُمْ، وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ" (إِشَعْيَاء 55: 7–9).

 

الرَّبُّ يَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ يَعْتَرِفُ. إِنَّ مَا يُغْمِرُ صَلَوَاتِ الْمَزَامِيرِ بِالثِّقَةِ هُوَ أَنَّ اللهَ يَصْفَحُ عَنِ الْخَاطِئِ الَّذِي يَعْتَرِفُ بِخَطَايَاهُ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْمَزْمُورِ: "أَبَحْتُكَ خَطِيئَتِي، وَمَا كَتَمْتُ إِثْمِي. قُلْتُ: أَعْتَرِفُ لِلرَّبِّ بِمَعَاصِيَّ، وَأَنْتَ رَفَعْتَ وِزْرَ خَطِيئَتِي" (مَزْمُور 32: 5). فَهُوَ رَحِيمٌ، يَغْفِرُ الإِثْمَ وَلاَ يُهْلِكُ (مَزْمُور 78: 38)، بَلْ يَخْلُقُ فِي الْإِنْسَانِ قَلْبًا نَقِيًّا، وَيُجَدِّدُ رُوحًا مُسْتَقِيمَةً فِيهِ، وَيَمْلَأُ قَلْبَهُ الْمُنْسَحِقَ وَالْمُتَوَاضِعَ بِالْبَهْجَةِ (مَزْمُور 51: 10–14). إِنَّهُ الآبُ الَّذِي يَرْأَفُ بِجَمِيعِ أَبْنَائِهِ (مَزْمُور 103: 3)، وَإِلٰهُ الرَّحْمَةِ (دَانِيال 9: 9)، وَهُوَ يُقَدِّمُ غُفْرَانَهُ لِـجَمِيعِ النَّاسِ (يُونَان 3: 10). وَيَتَغَاضَى عَنْ خَطَايَا الْبَشَرِ لِيَتُوبُوا، كَمَا قِيلَ فِي سِفْرِ الْحِكْمَةِ: "تَرْحَمُ جَمِيعَ النَّاسِ، لأَنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَتَتَغَاضَى عَنْ خَطَايَا النَّاسِ لِكَيْ يَتُوبُوا" (حِكْمَة 11: 23).

 

بِشَارَةُ الرَّحْمَةِ وَفَرَحُ اللهِ: قَدَّمَ يَسُوعُ بِشَارَةَ الرَّحْمَةِ الإِلٰهِيَّةِ لِلْخُطَاةِ الَّذِينَ حَرَمَهُمُ الْفِرِّيسِيُّونَ الْمُتَزَمِّتُونَ مِنَ الْمَلَكُوتِ. فَـقَلْبُ اللهِ يَفْرَحُ بِالْخَاطِئِ التَّائِبِ، لاَ بِمَنْ يَحْسِبُ نَفْسَهُ بَارًّا. وَشَبَّهَ الرَّبُّ هَؤُلاَءِ التَّائِبِينَ بِـ الْخَرُوفِ الضَّالِّ (لُوقَا 15: 1–7)، وَالدِّرْهَمِ الْمَفْقُودِ (لُوقَا 15: 8–10)، وَالَّذَيْنِ عَادَا إِلَى صَاحِبِهِمَا فَكَانَ الْفَرَحُ عَظِيمًا. فَهُوَ يَتَرَقَّبُ عَوْدَةَ ابْنِهِ الضَّالِّ بِشَوْقٍ جَزِيلٍ، وَإِذْ يَرَاهُ مِنْ بَعِيدٍ، تَتَحَرَّكُ أَحْشَاؤُهُ وَيَرْكُضُ لِيَحْتَضِنَهُ (لُوقَا 15: 20).

 

الدَّعْوَةُ إِلَى الْكُلِّ. لَقَدِ انْتَظَرَ اللهُ طَوِيلًا، وَلاَ يَزَالُ يَنْتَظِرُ بِصَبْرٍ شَعْبَهُ الَّذِي لاَ يَرْجِعُ، وَهُمْ كَـشَجَرَةِ تِينٍ لاَ تُثْمِرُ (لُوقَا 13: 6–9). إِنَّهُ "أَبُو الْمَرَاحِمِ" كَمَا يُسَمِّيهِ بُولُسُ الرَّسُولُ (2 قُورِنْتُس 1: 3)، وَهُوَ "رَحْمَانٌ رَحِيمٌ" (يَعْقُوب 5: 11). وَإِذْ تَجَاهَلَ الْيَهُودُ هٰذِهِ الرَّحْمَةَ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَنَالُونَ الْبِرَّ بِأَعْمَالِهِمْ وَحِفْظِهِمْ لِلشَّرِيعَةِ، يُذَكِّرُهُم بُولُسُ بِأَنَّهُمْ هُمْ أَيْضًا خُطَاةٌ، وَيَحْتَاجُونَ إِلَى الرَّحْمَةِ عَنْ طَرِيقِ التَّبْرِيرِ بِالإِيمَانِ. وَفِي الْمُقَابِلِ، فَـالْوَثَنِيُّونَ الَّذِينَ لَمْ يَنَالُوا مَوَاعِيدَ مِنَ اللهِ – بَدَؤُوا يُجْتَذَبُونَ إِلَى مَجَالِ الرَّحْمَةِ الإِلٰهِيَّةِ. فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْتَرِفَ الْجَمِيعُ أَنَّهُمْ خُطَاةٌ، لِيَنْعَمُوا كُلُّهُمْ بِرَحْمَةِ اللهِ، كَمَا قَالَ بُولُسُ الرَّسُولُ: "لأَنَّ اللهَ أَغْلَقَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ فِي الْعِصْيَانِ، لِيَرْحَمَهُمْ جَمِيعًا" (رُومَة 11: 32). وَأَنْتَ، هَلْ تَقْبَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَلاصُ لِلْجَمِيعِ؟ كَمْ مِنَ الْمَسِيحِيِّينَ تَثُورُ ثَائِرَتُهُمْ حِينَ يَسْمَعُونَ أَنَّ خَلاَصَ الْـمَسِيحِ سَيُعْطَى لِلْجَمِيعِ مَسِيحِيِّينَ وَغَيْرِ مَسِيحِيِّينَ! فَمِنَ السَّهْلِ أَنْ نَغْتَاظَ حِينَ يَغْفِرُ اللهُ لِلآخَرِينَ، لِكَوْنِنَا نَرَاهُمْ خُطَاةً أَدْنَى مِنَّا، وَلَكِنَّ الْحَقَّ هُوَ أَنَّ الرَّحْمَةَ لاَ تُقَاسُ بِالِاسْتِحْقَاقِ، بَلْ تُهْدَى بِالْمَحَبَّةِ.

 

 

الْخُلاَصَةُ

 

كَتَبَ البَشِيرُ لُوقَا إِنْجِيلَهُ لِلأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ، وَانْفَرَدَ بِذِكْرِ ثَلاَثَةِ أَمْثَالٍ قَالَهَا السَّيِّدُ الْمَسِيحُ لِيُؤَكِّدَ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ أَجْلِ الْخُطَاةِ، وَأَنَّهُ يُحِبُّهُمْ: مَثَلُ الْخَرُوفِ الضَّالِّ (لُوقَا 15: 4–7)، وَالدِّرْهَمِ الْمَفْقُودِ (لُوقَا 15: 8–10)، وَالِابْنِ الضَّالِّ (لُوقَا 15: 11–32)، فِي حِينِ اكْتَفَى الْقِدِّيسُ مَتَّى بِذِكْرِ مَثَلِ الْخَرُوفِ الضَّالِّ فَقَط (مَتَّى 18: 12–14).

 

رِسَالَةُ الْمَثَلِ فِي إِنْجِيلِ الْيَوْمِ حَوْلَ مَثَلِ الِابْنِ الضَّالِّ، نَرَى أَنَّ اللهَ يَطْلُبُ الْخَاطِئِينَ، وَيَبْحَثُ عَنِ الْمَفْقُودِينَ، وَيَفْتَحُ أَحْضَانَهُ لِكُلِّ ضَالٍّ يَرْتَدُّ إِلَيْهِ. وَيُقَدِّمُ لَنَا فِي هٰذَا الْمَثَلِ أُبُوَّتَهُ وَشَوْقَهُ الإِلٰهِيَّ نَحْوَ الإِنْسَانِ، وَيَكْشِفُ فَرَحَهُ بِعَوْدَةِ النَّفْسِ لِلشَّرِكَةِ مَعَهُ. وَيَتَمَحْوَرُ الْمَثَلُ حَوْلَ ثَلاَثِ شَخْصِيَّاتٍ: الأَبِ، وَابْنَيْهِ. فَـالرَّجُلُ يُمَثِّلُ اللهَ الآبَ، وَالأُبُوَّةُ هِيَ أَقْرَبُ وَصْفٍ لِصِفَاتِ اللهِ.

 

الِابْنُ الأَصْغَرُ: رِحْلَةُ السُّقُوطِ وَالتَّوْبَةِ. الِابْنُ الأَصْغَرُ نَدِمَ عَلَى مَاضِيهِ، وَاعْتَرَفَ أَمَامَ وَالِدِهِ، وَقَصَدَ أَنْ يَبْقَى فِي بَيْتِ أَبِيهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَهُوَ يُمَثِّلُ أَوَّلاً: الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةَ، وَفِي الْمَعْنَى الرَّمْزِيِّ: الأُمَمَ الَّذِينَ تَرَكُوا اللهَ فِي الْبِدَايَةِ، وَعَاشُوا فِي النَّجَاسَةِ، وَبَدَّدُوا عَطَايَا اللهِ، كَـكَرَامَتِهِمْ وَمَوَاهِبِهِمْ، فِي عِبَادَةِ الأَوْثَانِ وَالشَّهَوَاتِ، وَلَكِنَّهُمْ فِي النِّهَايَةِ عَادُوا.

 

الِابْنُ الأَكْبَرُ: غِيَابُ الْمَحَبَّةِ. يمثل الِابْنُ الأَكْبَرُ، أَوَّلاً الْفِرِّيسِيِّينَ وَالْكَتَبَةَ الْمُتَكَبِّرِينَ، الرَّافِضِينَ لِدُخُولِ بُيُوتِ الْخُطَاةِ، وَقُبُولِ الرَّبِّ لَهُمْ. وَيُشِيرُ أَيْضًا إِلَى الْيَهُودِ، الَّذِينَ كَانُوا بَكْرًا فِي مَعْرِفَةِ اللهِ، لَكِنَّهُمْ بِسَبَبِ حَسَدِهِمْ وَغِيَابِ الْمَحَبَّةِ، وَقَفُوا خَارِجَ الْبَيْتِ، وَنَقَدُوا مَحَبَّةَ اللهِ لِلْأُمَمِ. وَيُشِيرُ أَيْضًا إِلَى كُلِّ مَنْ عَاشَ فِي بَيْتِ اللهِ ظَاهِرًا، لَكِنَّهُ يَرْتَبِطُ بِالْمَادِّيَّاتِ، وَيَغْضَبُ عِنْدَمَا تَتَأَثَّرُ. فَهٰذَا الإِنْسَانُ مُرْتَبِطٌ بِعَطَايَا اللهِ، لاَ بِاللهِ نَفْسِهِ، وَهُوَ مُرْتَبِطٌ شَكْلاً، لاَ حُبًّا. وَتَدْفَعُنَا شَخْصِيَّةُ الِابْنِ الأَكْبَرِ إِلَى فَحْصِ الضَّمِيرِ، لأَنَّنَا قَدْ نَكُونُ فِي الْبَيْتِ، وَلَكِنْ قُلُوبُنَا فِي الْخَارِجِ.

 

عِبْرَةُ النِّهَايَةِ: يُعَلِّمُنَا إِنْجِيلُ الْيَوْمِ أَلاَّ نَحْكُمَ عَلَى أَحَدٍ فِي مُنْتَصَفِ الطَّرِيقِ. فَالِابْنُ الضَّالُّ لَمْ تَكُنْ نِهَايَتُهُ مَعَ الْخَنَازِيرِ، بَلْ عَودته إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ. بَيْنَمَا الِابْنُ الأَكْبَرُ تَذَمَّرَ، بَعْدَ أَنْ كَانَ يُظْهِرُ الطَّاعَةَ الْكَامِلَةَ. وَلِذٰلِكَ يَقُولُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "اعْتَبِرُوا بِمَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ سِيرَتُهُمْ" (العِبْرَانِيِّينَ 13: 7). فَـالْعِبْرَةُ بِالنِّهَايَةِ، وَلِذٰلِكَ عَلَيْنَا أَلاَّ نُدِينَ أَحَدًا، فَـاللهُ وَحْدَهُ يَعْلَمُ الْقُلُوبَ وَنِهَايَاتِ الطُّرُقِ.

 

فِي النِّهَايَةِ، إِنَّ قِصَّةَ الِابْنِ الضَّالِّ هِيَ قِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا. فَكُلُّ إِنْسَانٍ أَمَامَ اللهِ هُوَ ابْنٌ ضَالٌّ، وَالرَّبُّ يَتَصَرَّفُ كَأَبٍ مَعَ الْجَمِيعِ. فَأَحْيَانًا نَكُونُ فِي مَكَانِ الِابْنِ الأَصْغَرِ، نُطَالِبُ بِالِاسْتِقْلاَلِ، وَنَعِيشُ بِحَسَبِ أَهْوَائِنَا، وَنَبْتَعِدُ عَنْ اللهِ. وَالرَّبُّ لاَ يَمْنَعُنَا، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ لاَ تَفْرِضُ شَيْئًا. فَهُوَ لاَ يَنْتَهِكُ حُرِّيَّتَنَا، وَلاَ يَنْتَقِمُ أَبَدًا. نَحْنُ مَنْ يَرْفُضُ، وَنَحْنُ مَنْ يُغْلِقُ الْبَابَ. فَلْنُعِدْ قِرَاءَةَ الْـمَثَلِ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، فَنَكْتَشِفَ فِيهِ رَحْمَةَ اللهِ الْوَاسِعَةَ الَّتِي تَفُوقُ كُلَّ إِدْرَاكٍ. في صَمتِ القلب، نَقِفُ أمامَ وَجهٍ أَبَوِيٍّ فَريدٍ...وجهٌ يَكشِفُ لَنا عَن أَعماقِ مَحبَّةٍ لا تُوصَف، ويَجعلُنا نَسأَلُ: مَنْ نَكونُ لَدى هذا الآب؟ وَما مَعنى أَنْ نَكونَ أَبْناءً لَهُ؟ إنها أُبُوَّةٌ تُنيرُ هُوِيَّتَنا، وتَكشِفُ لَنا وَجهَنا الحقيقي، وتَجعلُنا نُدرِكُ أَنَّنا، في عَينَيه، أَعَزُّ مِنَ الذَّهَبِ المُصفّى. لكن، لا تَقِفُ أُبُوَّةُ اللهِ عندَنا فقط، بل تَمتدُّ لِتَصيرَ جِسْرًا بَيْنَنا وَبَيْنَ إخْوَتِنا، تُعلِّمُنا أَنْ نَعيشَ لا كأَفرادٍ مُتَنافِسِينَ، بل كَإِخْوَةٍ مُتَّحِدِينَ، يُحِبُّ بَعضُنا بَعضًا كَما أَحَبَّنا الآب. فَهَل نَسمَحُ لِهذِهِ الأُبُوَّةِ الإِلَهِيَّةِ أَنْ تُعيدَ صِياغَةَ قُلُوبِنا، فَنَصيرَ أَكْثَرَ بُنُوَّةً لِلَّه، وَأَكْثَرَ أُخُوَّةً لِمَن حَوْلَنا؟

 

قَضِيَّتنا الَّتِي يُعَانِي مِنْهَا عَالَمُنَا الْمُنْقَسِمُ الْيَوْم، فِي الحُرُوبِ، وَالْمَجَاعَاتِ، وَالْكُرْهِ، وَتَفَكُّكِ الأُسَرِ وَالشُّعُوبِ هي ُ فُقْدَانُ رُوحِ الأُخُوَّةِ، وَتَغْرِيبُ قَلْبِ الآبِ الَّذِي يَنْتَظِرُ أَنْ يَرَى أَبْنَاءَهُ مُجْتَمِعِينَ عَلَى مَائِدَتِهِ، لا فِي صُفُوفِ الْقِتَالِ، وَلَا عَلَى طَاوِلَاتِ الْمَصَالِحِ الْمُزَيَّفَةِ، بَلْ فِي حَضْرَةِ الْمَحَبَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالْحَقِّ. العَالَمُ الْيَوْمَ لا يَحْتَاجُ إِلَى حُلُولٍ سِيَاسِيَّةٍ فَقَط، بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى قُلُوبٍ تَعُودُ إِلَى الآبِ، وَإِلَى إِخْوَةٍ يَعِيشُونَ رُوحَ الْمَعِيَّةِ وَالْمَسْؤُولِيَّةِ.

 

 

دُعاء


نَسْأَلُكَ، أَيُّهَا الآبُ السَّمَاوِيُّ، أَنْ تُرَحِّبَ بِرَحْمَتِكَ الإِلٰهِيَّةِ بِكُلِّ الأَبْنَاءِ الَّذِينَ يَعُودُونَ إِلَيْكَ بِرُوحِ التَّوْبَةِ؛ صَارِخِينَ: "أَبَتِ، إِنِّي خَطِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَإِلَيْكَ، وَلَسْتُ أَهْلًا أَنْ أُدْعَى لَكَ ٱبْنًا!" وَأَنْ تُلْبِسَهُمْ ثِيَابَ ٱلْخَلَاصِ، كَيْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ تَذَوُّقِ ٱلْفَرَحِ فِي عَشَاءِ ٱلْحَمَلِ ٱلْفِصْحِيِّ. آمِينَ.