موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٢ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢١

ما هو الإسم الحقيقي للرّبّ "الله" أم "الآب"؟ ولـماذا؟

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
د. سميرة يوسف سيداروس، باحثة في لاهوت الكتاب المقدس

د. سميرة يوسف سيداروس، باحثة في لاهوت الكتاب المقدس

 

سلسلة قراءات كتابية بين العهدين (لو 11: 1- 4؛ يون 4: 1- 11)

 

 

مقدّمة

 

أيها القُراءّ الأحَبِاءْ، إستكمالاً للسلسلة الكتابيّة، التي بدأنا في قرائتها معًا من خلال نصيّين متوازييّن، ذو مضمون واحد مِن كِلا العهدّين. بهدف التأمل في كلمة الله باحثيّن عن "سِرّه الإلهيّ" أدعوكم إنّ نعود إلى الوراء قليلاً للنظر للرّبّ وللتعرف على إسمه الحقيقي من خلال نظرة يُونَان النبي من جانب ونظرة يسوع "الإبن البكر" (راج رو 8: 29) من الجانب الآخر، فكليهما يُصليّا ويلتجأ للرّبّ. من خلال الـمنهجيّة التي إتبعناها معكم بالمقال الأول سنستمر في هذا المقال الكتابي الـمُنطلق من مقطع إنجيلي بحسب لوقا (11: 1- 4) ثمَّ نعود بالتدريج لقراءة المقطع من نبؤة يُونَان (4: 1- 11). اليوم سنُناقش ردِّين لفعلين يتظاهران بانهما مختلفان إلا أنهما في الواقع يجمعان بينهما نقطة حاسمة تُنير فكرنّا اليوم كمسيحيين باحثين عن رسالة كتابية جديدة تقوي علاقتنا بالرّبّ وتُنعش قلوبنا بالإيمان. في مقالنا اليوم، سنناقش نص "الأبانا" بحسب لاهوت لوقا الإنجيلي وبعض الآيات التي تختتم سفر يُونَان وهو من الأسفار النبوية الصغيرة. نَصَّان يبدوان في ظاهرهم إنهما متناقضان، إلا إننا سنبحث معًا اليوم عن بعض الإستنارات التي يضيفها النص على الآخر بقرائتنا المتوازّية حتى نكتشف الجديد معًا عن "سِرَّ الله" في كلمته. تعتمد قراءتنا الجديدة على نصين: الأول مأخوذ من الإنجيل بحسب لوقا والثانيّ من نبؤّة يُونَان، مما يعني إن نأخذ في الإعتبار الفارق الزمنيّ والفكريّ بينهما. سنناقش في هذين النصيّن قضية النظرة للرّبّ مِن قِبل الإنسان واللقب الذي يناله مِن شخصيين. مع الأخذ في الإعتبار أن لوقا يضع كلمات "الأبَانَّا" على لسان يسوع، إبن الله. فلا يمكننا مقارنته بشخص يونان بالعهد الأول لقرادته كابن الله وإبن الإنسان معًا. هل هو "الله" فقط أم هناك الجديد الذي سيكشفه لنا المسيح في علاقته بالله وأدعوك بالنهاية، أيها القارئ الفاضل، أن تفتح المجال لذاتك لتتعرّف أنت أيضًا من خلال هذين النصين على "نظرة وجهك الخاص" الّتي تتفحص بها الله حينما تتواصل معه، وأمامك حريّة القرار هل توّد أن تستمر في أن نظرتك واللقب الذي تعطيه للرّبَّ؟ قرارك يدعوك لتكتشفت الجديد عن الرّبّ وعن ذاتك أيضًا.

 

1. نظرة يسوع للرّبّ (11: 1- 4)

 

يسوع هو إبن الله الذي تجسدَّ فصار أيضًا إبن الإنسان. يتجذّر أصلنَّا البشريّ في علاقتنا بالله لأنناخرجنا منه، منذ الخلق، للعالم البشري. تساؤلنا اليوم هو ما هي ملامح علاقة الإنسان بالله؟ هذا بالتأكيد إذا كانت هناك علاقة؟ بمعنى هل التواصل مع الرّبّ لكلاً منّا له وجه مُحدد أم نكتفيّ بعلاقة بسيطة كخالق ومخلوقه الّتي تحدّ الكثير من فِكرة علاقة الله كآب بأبنائه البشر. يُنيرنا اللاّهوت اللوقاويّ بكلماته القليلة التي يضعها على لسان يسوع في صلاته "الأبانا"، كاشفًا عن "وجه" و"نظرة" و"لقّب" يتميزوا بفرادّة يسوع الإبن في علاقته بالآب. وليس هذا فقط بل أرادّ أن يهبه كـ "آب" لكلاً منا نحن البشريين ولا يكتفي به لذاته.

 

نحن كشرقيين، منذ نعومة أظافرنا صلاتنا اليومية الوحيدة سواء بالمنزل أم بالذبيحة الإلهية وبلقاءات التعليم المسيحي التي نتلوها ونُردِّدها هي صلاة "الأبانّا" الواردّة بحسب إنجيل متى (6: 9- 15). إلا أن إختزال لوقا في تقديم "صلاة الأبانّا" نجح في أن يقدم لنا "وجه يسوع الإبن" في علاقته الحميمة وأيضًا "لَقَّبَ" إلهه بـ"الآب" فأعلن لتلاميذه إستجابة لطلبهم: «إِذا صَلَّيتُم فَقولوا: أَيُّها الآب لِيُقَدَّسِ اسمُكَ لِيأتِ مَلَكوتُكَ. أُرزُقْنا خُبزَنا كَفافَ يَومِنا وأَعْفِنا مِن خَطايانا فإِنَّنا نُعْفي نَحنُ أَيضاً كُلَّ مَن لنا عليه ولا تَترُكْنا نَتَعرَّضُ لِلَّتجرِبَة» (11: 2- 4).

 

بهذه الكلمات إستهل يسوع صيغة بسيطة للتواصل بالله مُرتكواً على تلقيبه بـ "الآب"، فهو لا يضع صلاة صغيرة في أيدينا لنتلوها عدة مرات في اليوم لمجرد أن نشعر بأننا مسيحيين كاملين ولا ينقصنا شئ. على العكس هذه الكلمات القليلة تفتح لنا مجالاً مُتميزاً إذ تجعلنا ندخل في صلاته الخاصة أي في علاقته الحميمة مع الآب. بهذه الطريقة، يسوع وهو الذي أصبح أخًا لنا ببشريته، فهو وهبنّا ذات الوجه العلائقي مع أبيه من خلال إنسجامه في حوار البنويّ. وبالتالي منحنا كتلاميذ له إمكانية أن نختبر أنفسنا ونخلق مساحة لنشعر بحقيقتنا كأبناء أمام الآب. هذه المساحة تسمح لنا باستقبال خبرة يسوع البنويّة التي نقلها لنا، فنصبح أبناء للآب. بل تجعل حياتنا العملية هذه العلاقة البنويّة مُتجسدة حينما نحيا كاخوة. الأخويّة هي بمثابة المكان الذي يشعر فيه كل فرد بأنه مديون غُفِرَ له ويصبح بدوره "حلقة وصل" فيصير كلاً منَّا "إنسان غفران". غلى الصعيد العمليّ يمكننا أن نكتشف ذواتنا، إذا كان لفظيّ "الله" أو "رب" لازالوا سائدين فقط في صلاتنا، فهذا خطر. لأنه دليل على أن صلاتنا لم تساعدنا للدخول بعد في جوهر صلاة يسوع البنويّة الذي كشف لنا وجه "الآب" بحياته وأفعاله وصلاته قائلاً: «أَيُّها الآب» (11: 1).

 

 

2. هروب يُونَان (4 :1- 11)

   

في المقطع الّذي إستعنَّا به، من العهد القديم  وهو في نهاية سفر يُونَان (4: 1- 11)، سنرتكز مُسبقًا على بعض اللمحات الجوهرية لنكتشف بعض جوانب الرواية التي لم يعلنها مباشرة كاتب النبؤة منذ بداية سرده. كاتب السفر يخبرنا بسبب قرار يُونَان وسبب هروبه إلى ترشيش. لقدّ هَرِبَّ، مُخالفًا لكلمة الرّبّ. فقال يُونَان في صلاته: «إِنِّي عَلِمتُ أَنَّكَ إِلهٌ رَؤُوفٌ رَحيمٌ طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الرَّحمَةِ ونادمٌ على الشَّرّ» (يون 4: 2). هنا يقتبس "النبي الـمُتردد" أحد النصوص التي نعتبرها على مستوى اللاهوت الكتابي إنها مؤسِسَّة لإيمان بني إسرائيل والتي تتجذر في سفر الخروج: «الرّبّ الرّبّ! إِلهٌ رَحيمٌ ورَؤُوف، طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الَرَّحمَة والوَفاء، يَحفَظُ الَرَّحمةَ لأُلوَف، وَيحتَمِلُ الإثمَ والمَعصِيَةَ والخَطيئَة، ولكنَّه لا يَتُركُ دونَ عِقابٍ شَيئاً، فيُعاتِبُ إِثْمَ الآباءِ في البَنينَ وفي بَني البَنينَ إِلى الجيلِ الثَّالِثِ والرَّابِع» (34: 6 – 7). بالفعل هروب يُونَان من أمام وجه الرّبّ في البداية، لم يكن هو الحل لأنه أدرك بنهاية رسالته أن هناك ثورة عارمة من الغضب تكمن بداخله والسبب إنه كان على دراية مسبقة بحسقية الله وهي الرحمة والغفران. كان يُونَان يفضّل إلهًا ينتقم مِمَن يعصونه فيقضيّ على نينوى وشعبها، فهو عدو منذ القِدم لإسرائيل التاريخي الذي تسبب في ترحيل الشعب بالماضي.

 

 

3. التدّخل الإلهيّ التعليميّ (يون 4: 7- 11)

  

بينما كان يُونَان جالسَّا، مُعتقداً أن شعب نينوى سينال عقابه من الرّبّ وظنَّ للحظات إنه سيشاهد بعض اللقطات التي تثير فيه الإستمتاع لرؤيته مشهد تدمير نينوى مع علمه بأنّ الرّبّ هو "الله رحيم"، لكنه يأمل أن تتحقق التهديدات التي وجهها هو نفسه لأهل نينوى حاملاً إسم الرّبّ (راج يون 3: 4-7). وبينما يُونَان مُنغمس في فكره، إذ يتدخل الرّبّ في نهاية الرواية ويقوم بتلقينه درسًا عمليَّا. إذ "أنبت" نبتة من الخروع لينال من قلب يُونَان. بعد أن نمَّت الخروعة، فرشت بظلالها ووجد فيها يُونَان مصدر لراحته إذ قامت هذه النبتة أيضًا بحمايته من حرارة الشمس. وبينما هو يتنعم بظلالها إلا أنه بعد وقت قصير أرسل الله، الذي أنمى النبتة في لمح البصر، دودة لقضم نبتة الخروع فتقوم بتدميرها وتجعلها تجف لوقتها. وفي هذه اللحظة ضربت حرارة الشمس يُونَان وقامت الرياح القوية وإشتدت العاصفة، وإذ نسمع صوته الآن يئن بالشكوى بسبب فقدانه ظلال نبتة الخروع. شكواه لم تكن عادية بل تمادى فيها حتى إنه صرخ "طالبًا الموت".

 

يروي كاتب السفر لاحقًا، سبب هذا الدرس التعليمي الذي لوقته يتدخل الله بعد أنّ طلب يُونَان الموت، مشيرًا الرّبّ إلى صغره ومحدوديته المنغلقة على ذاته قائلاً: «لقَد أَشفَقتَ أَنتَ على الخِروَعَةِ الَّتي لم تَتعَبْ فيها ولِم تُرَبِّها، والَّتي نَبَتَت بنتَ لَيلَة، ثُمَّ هَلَكَت بِنت لَيلَة، أَفَلا أُشفِقُ أًنا على نينَوى المَدينةِ العَظيمةِ الَّتي فيها أَكثَرُ مِنِ آثنَتَي عَشرَةَ رِبْوةً مِن أُناسٍ لا يَعرِفونَ يَمينَهم من شِمالِهم، ما عدا بَهائِمَ كَثيرة؟» (4: 10-11). لقّد عبَّرَ الله ليُونَان عن صِغّر قلبه البشري الذي هو إشارة لقلبنا أيضًا. غالبًا ما نكون "رحماء" أكثر على أشياءنا الصغيرة، ونقلق أكثر عند فقداننا وسائل الراحة الهامشية، ولا نهتم بأساسيّات الحياة الجوهريّة لأُناس بمجتمعنا. حينما نفكر في أنفسنا نجد إنه بالفعل تناسبنا رحمة الله جيدًا، فهي الثوب الملائم لنا، عندما نعتقد أنها موجهة إلينا فقط، بينما هس معدومة عندما يتعلق الأمر بالآخرين، الذين قد نعتبرهم مذنبين. ينطلق الله مِن مِقياس رحمته، حتى سكان نينوى هم مخلوقاته: فقدّ "لوثَّ يَدَيِه" بطين الأرض حينما خلقهم. بينما يشعر يُونَان بالشفقة على نبتة الخروع التي لم يفعل شيئًا من أجلها بل أنماها الرّبّ لتلقينه درسًا أخويًا وهو: أن ينفتح على الآخلاين في علاقته بشعب نينوى. ويأتي تساؤل الرّبّ لكلاً منا: عظيمة هي شفقة يُونَان على نبته الخروع، أفلا ينبغي أن يشفق على شعب نينوى وكل آخر، عمل يديه؟

 

مدعويين الآن لننظر نظرة قوية لوجه الله الذي هَرِبَّ من أمامه يُونَان في بداية النبؤة (راج 4: 2). فقد تبين له إنه إله "غير مريح"، ولكن علينا أن نتعلم من الدرس الذي تلقنّه يُونَان لنكون متفتحين قبلاً لنتفحص صِغر يُونَان الذي يحوي صغرنا حتى نتعلم من الخبرة التي سمح الرّبّ لنا أن نعيشها وهي كيف ندخل في نظرته الشفوقة للإنسان الآخر ونتردى رحمته الأبوية لذواتنا وللآخرين فنصير أبناء حقيقيين للآب الإلهيّ.

 

 

الخلاَّصة

 

من خلال بحثنا في هَذيّن النصيّن وبتركيزنا في التمادي في إكتشاف "سر الله" في كليهما. نتلمس أن النتيجة واحدة والسبب أن الـمُدونين في كلا العهديّن كشفا لنا عن نفس وجه الله الذي كشفه لنا يسوع في صلاة الآب. إلا أن لقبه صار أكثر قربًا فصار إلهًنا هو أبينا أيضَا. وهذا ما أردنا التركيز عليه سواء السرد الروائي لنبؤة يُونَان أم المونولوج الواضح في "صلاة الأبانا" بحسب كلمات لوقا. مدعوييّن أن ننفتح لنعيّ نقطة ضعفنا حتى أمام هذا الإله "الآب" حتى وأن حاولنا الهروب منه الذي يشير إلى سمتين تحملان ضعفنا البشري: الأوّلى هي اللانضج، في بنوتنا فنلجأ للهروب منه غير مدركين أنّ نعمة شفقته الأبوية مُتاحة للجميع، فكلنا أبناء للرّبّ. والثانية هي اللأخوية، فنطلب الشفقة على ذواتنا دون أن نهتم أن تصل للآخرين. نعم علينا الإعتراف بأن "صلاة الأبانا" هي صلاة مُتّطَلبة وجادة إذ تُحملنّا مسئولية بنوتنا تجاه الله وأخويتنا تجاه القريب. عندما نطلب من الله أن يتقدس اسمه وأن يأتي ملكوته، فإننا نُلزم أنفسنا أيضًا بالدخول في مِنطِقه الإلهي مُتخلييّن عن منطقنا البشري. وعندما نطلب من الله أن يغفر لنا ذنوبنا، في الواقع نحن أيضًا علينا أن نغفر لجميع المدينين لنا.

 

يُختتم سفر يُونَان بـ"نهاية مفتوحة". ماذا سيفعل يُونَان؟ هل سيبقى منغلقًا في استيائه أم ينفتح على رحمة الله؟ لا نعلم، هذه القضية ذات "نهاية مفتوحة" يريد الكاتب يُشركنا كقراء مؤمنين، لنكتب نهاية تليق بنا كأبناء لله الآب وكأخوة لمَن يحيطوننا. هكذا مع يسوع "الـمُتمم للعهد الأول"، كشف أن الله إستمر في عمله الخلاصيّ بالرغم من قساوة قلب يُونَان لدرجة إنه ضرب مثلاً لمعاصريه ليس متمركزاً على يُونَان بقدّر ما يرتكز على "توبة شعب نينوى" بفضل مسيرة رحمة الله الـمُتحليّة بالصبر مع يُونَان فيقول: «فكما كانَ يُونَان آيةً لأَهلِ نِينَوى، فكذلِكَ يَكونُ ابنُ الإِنسانِ آيَةً لِهذا الجيل. [...] أهل نينَوى [...] تابوا بإِنذارِ يُونَان، وههُنا أَعظمُ مِن يُونَان» (لو 11: 30. 32).

 

إكتشفنا معًا اليوم، أن الرّبّ هو بالفعل "إلهنا الرحيم" ولكن الجديد الذي يحمله يسوع ليكشف عن وجه الله هو الأبوُّة القريبة من كلاً مِنَّا. نحن أبناء أحرار أمام إلهنا، يمكننا أن نهرب منه مثل يُونَان وأيضًا يمكننا أنّ نُغير منطقنا فندعوه "أبًا" مع يسوع، مرتكزين على أن نكون: «على مِثالِ صُورَةِ ابنِه لِيَكونَ هذا بِكْراً لإِخَوةٍ كَثيرين» (رو 8: 29). وبالنهاية بنوتنا هي التي تكشف لنا عن إن اسم الله الحقيقي كـ "آب" وهويته الرحيمة من جيل إلى جيل. علينا أن نُراجع قليلاً سلوكنا نحو الله- الآب فيصير: سلوك الأبناء، وسلوكنا نحو الآخرين فيسوده روح الإخوة فنتمتع بأخوية تنتمي لأبوة إلهية لا حدود لها.