موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٨ يوليو / تموز ٢٠٢٥

"الأُذن الثالثة!" بين كاتبي سفر التكويّن والإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (تك 18: 1- 10؛ لو 10: 38- 42)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (تك 18: 1- 10؛ لو 10: 38- 42)

 

الأحد السادس عشر (ج)

 

مُقدّمة

 

هل نسمع لذاوتنا حينما نتحاور مع الآخر؟ هل نصغي للآخر حينما يتكلم؟ الأُذن ليست فقط حاسة للسمع السطحيّ، بل هناك أُذن ثالثة تتطلب الإنتباه وهذا ما يدعونا إليه شخصيتيّن كتابيتيّن، رجل بالعهد الأوّل وهو إبراهيم (تك 18: 1- 10)، في حوار خاص بينه وبين ثلاث رجال يبثون رسالة الآخر العظيم وهو الرّبّ، ويفاجئنا إبراهيم  بتشابك حاستيّ النظر بالسمع مما يساعده على إكتشاف الجديد لحياته وهذا ما سنتعرف عليه بمقالنا هذا. على هذا الـمنوال يقدم لنا لوقا الإنجيليّ (10: 38- 42) إمرأة نجحت في تترك كلّ شيء وتتوقف لتنصّت أي تسمع يسوع فقط وهي مريم أخت مرثا ولعازر، وأيضًا يكشف لنا يسوع الجديد من خلال سلوك مريم. نهدف من خلال هذا الـمقال أنّ نتعلم فن التحرر من ضعف السّمع الروحيّ من خلال تنشيط حاسة السمع الروحي من خلال عضو ليس بجسدي ولكنه باطني عميق، الأُذن الثالثة، يساعدنا على إكتشاف الجديد مما يريده الرّبّ لحياتنا. الأُذن الثالثة، هو تعبيري الخاص الّذي أستخدمه اليّوم كإستعارة لنفهم على ضوئها سبب إصغاء إبراهيم ومرتا ومريم في حضورهم أمام الرّبّ.

 

 

1. عين إبراهيم (تك 18: 1- 10)

 

يفتتح كاتب سفر التكوين هذا الإصحاح بمبادرة إلهيّة في ترأيّ الرّبّ لإبراهيم ليكشف عن شئ جديد بمخططه له قائلاً: «وتَراءى الرَّبُّ لَه [إبراهيم] عِندَ بَلُّوطِ مَمْرا، وهو جالِسٌ بِبابِ الخَيمَة، عِندَ إحتِدادِ النَّهار» (تك 18: 1). هذا الظهور الإلهيّ، نعلمه نحن، بحسب سرد الكاتب، وإبراهيم لا يعلم أنّ الرّبّ يرغب في أنّ يحاوره. يُشّدد الكاتب أنّ الرّبّ إختار وقت غريب وهو "عند إحتداد النّهار" أي ساعة الذروة للشمس الحارقة! في عادة الشعوب الأوّلى الّتي كانت تعيش في الخيم كانوا يبحثون عن مكان يهدي من حرارة الشمس، وهو مدخل باب الخيمة، الـمكان الّذي إختاره إبراهيم للجلوس ليخفف عن ذاته شدة الحرّ.

 

في هذا الوقت بالتحديد يرغب الرّبّ في التواصل مع إبراهيم من خلال ثلاث رجال ونفاجأ بعين إبراهيم الّتي تلمح الغرباء في ساعة النهار الساخنة إذ يروي الكاتب: «فرفَعَ عَينَيه ونَظَر، فإِذا ثَلاثَةُ رِجالٍ واقِفونَ بِالقُربِ مِنه. فلَمَّا رَآهُم، بادرَ إِلى لِقائِهم مِن بابِ الخَيمَة وسَجَدَ إِلى الأَرض. وقال: ((سَيِّدي، إِن نِلتُ حُظْوَةً في عَينَيكَ، فلا تَجُزْ عن عَبدِكَ، فيُقَدَّمَ لكم قَليلٌ مِنَ الماء فتَغسِلونَ أرجُلَكم وتَستَريحونَ تَحتَ الشَّجَرة، وأُقدِّمَ كِسرَةَ خُبْزٍ فتُسنِدونَ بِها قُلوبَكم ثُمَّ تَمْضونَ بَعدَ ذلك، فإِنَّكم لِذلِك جُزتُم بِعَبدِكم". قالوا: "اِفعَلْ كَما قُلتَ"» (تك 18: 2-5). هذا الإستقبال الحار، بدون موعد وبدون إستئذان، حيث يذهب إبراهيم ليدعوهم ليقيموا لديّه! هذا النوع من الإستقبال والّذي نفتقده في يومنا هذا حيث الخوف من الغريب يسود علينا بل والحالة الإقتصاديّة لا تسمح حتى باستقبال الأقرباء والأصدقاء.

 

يقوم إبراهيم بواجب الضيافة بالكامل، ونعلم هدف الله من خلال هذا اللقاء وهو تأكيد بل إقتراب ما وعده منذ لقاءه الأوّل بإبراهيم (راج تك 12: 1- 3). إلهنا أمين في وعوده إذ يكشف لإبراهيم على لسان هؤلاء الرجال الثلاث، صورة الثالوث، مخططه قائلاً: «سأَعودُ إِلَيكَ في مِثْلِ هذا الوَقْت، وَيكونُ لِسارةَ اِمرَأَتِكَ اَبنٌ» (تك 18: 10).  من خلال عين إبراهيم نجح في تنشيط أُذنه الباطنيّة من خلال ضيافته للغرباء، إذ يتدخل الرّبّ بحسب توقيته ليحقق ما وعد به بعد مررور ثلاث عشر عامًا على ولادة إسماعيل (راج تك 17: 1ت). لازال لإبراهيم القدرة على الإصغاء بالرغم من إنتظاره لوعد الرّبّ وتقدمه بالعمر هو وسارة إمرأته. الإصغاء للرّبّ هو نعمة تجعلنا نحيا في حضوره بالرغم من إنتظارنا لتحقيق ما وعد به الرّبّ. أُذن إبراهيم الثالثة الباطنيّة تنشطت من خلال نظرة عينه، حيث إلتقي بالرّبّ وسمع بأذنيه الجسديتيّن إتمام مخطط الرّبّ الّذي سيتم في خلال عام من الآن.  هذا هو رجائنا في الرّبّ الّذي يعدنا ويحقق وعده في وقته الـمناسب وليس بحسب توقيتنا.

 

 

2. مرتا إمرأة العمل (لو 10: 38- 42)

 

بحسب ما رأيناه في إبراهيم الّذي ترك عينه وأذنيه ليكتشف تدخل الله في حياته بتنشيط أذانه الخارجيّة والباطنيّة معًا. هكذا نجد يسوع الّذي يسعى لراحة بعد مسيرة طويلة من السيّر واللقاءات مع التلاميذ ومُعلميّ الشريعة والشفاءات الكثيرة. يختار يسوع أسرة صديقة ليطرق على بابها ليرتاح لديها قليلًا فيروي لوقا قائلاً: «وبَينَما هُم [يسوع وتلاميذه] سائرون، دَخَلَ [يسوع] قَريَةً [بيت عنيا] فَأَضافَتهُ امَرَأَةٌ اسمُها مَرتا. [...] وكانَت مَرتا مَشغولَةً بِأُمورٍ كَثيرَةٍ مِنَ الخِدمَة، فأَقبلَت وقالت: "يا ربّ، أَما تُبالي أَنَّ أُختي تَرَكَتني أَخدُمُ وَحْدي؟ فمُرها أَن تُساعِدَني"» (لو 10: 38- 40). تأتي مبادرة يسوع بإختيار بيت لعازر صديقه حيث أراد أنّ يلتقي بأصدقاء القلب ليتحاور معهم. وبالفعل دخل وها هي الأخت الكبرى تستقبله وهي إمرأة يهوديّة تعلمت من إبراهيم فن الإستقبال والضيافة وبدأت بالـمطبخ حيث هو الـمكان الّذي يمكنها أنّ تؤكد من خلاله كرم الضيافة بتحضير الطعام. ووجدت ذاتها بمفردها تهتم بأشغال كثيرة هدفها هي إكرام يسوع الضيف. إذ ركزت في حوارها مع يسوع عن تقصير أختها الصغرى مريم في مساعدتها. نقرأ في هذا الجزء وصف للإنجيلي عن هذا اللقاء وصوت مرتا فقط الّتي تعترف بربوبيّة يسوع إلّا إنّها تشكو أختها. نقطة ضعف مرتا بالرغم من كرمها في إستقبال يسوع هي الـمبالغة بالإنشغال بخدمته أكثر من استقباله بالبقاء معه! مرثا تتكلم فقط، فلم نسمع صوت يسوع بل صوتها! ولكن بقدر ما يفاجئنا لوقا بسلوك مريم أختها يفاجئنا بما سيجيب يسوع على سؤال مرتا.

 

 

3. صمت مريم (لو 10: 38- 42)

 

يُشدد الإنجيلي في وصفه لهذا اللقاء بأنّ الأخت الكبرى هي الّتي قامت بفتح الباب وباستقبال يسوع حيث: «كانَ لَها أُختٌ تُدعى مَريم، جَلَسَت عِندَ قَدَمَي الرَّبِّ تَستَمِعُ إِلى كَلامِه [...] فأَجابَها الرَبُّ: ((مَرتا، مَرتا، إِنَّكِ في هَمٍّ وارتِباكٍ بِأُمورٍ كَثيرَة، مع أَنَّ الحاجَةَ إِلى أَمرٍ واحِد. فَقدِ اختارَت مَريمُ النَّصيبَ الأّفضَل، ولَن يُنزَعَ مِنها» (لو 10: 39. 41- 42). يشدد لوقا على سلوك مريم ولم يكشف عن تلفظها ببنت شفة! بناء على سؤال مرتا ليسوع يُفجر الكاتب صعوبة مرتا في الإصغاء، فهي مثلنا جميعًا، ويمدح مريم في صمتها مؤكداً أنّه لا إحتياج للإنشغال بكثير من الـمهام لأن إحتياجنا الجوهري كبشر هو الإصغاء حينما نكون في حضور الرّبّ. كيف نسمع ما لم نصمت؟ الأفواه الّتي تتكلم لا تعطي مجال للأُذن حتى تصغي.

 

هكذا مريم في وضع التلميذ، عند أقدام الـمعلم الّذي يستقبل حضوره، كلامه، حواره، ... نجحت في إستقبال يسوع حقيقة لأنّه بصمت فمها، قامت بتنشيط الأُذن الثالثة بقلبها وجسدها. تدعونا مريم وهي الأخت الصُغرى أنّ نبحث عن مكاننا بجوار يسوع ونستقبله بالإصغاء لما يود أنّ يكشفه ليّ ولك. ومن جديد الأذن الباطنيّة تعطي الأولويّة لصوت الرّبّ فتنجح بعدم الإصغاء لأصوات كثيرة حولها بل بتركيز ومجهود معًا تصغي للرّبّ. لا نعلم ماذا كان يقول يسوع بينما كانت مريم جالسة تحت أقدامه غارقة في الإصغاء، ولكن نعلم إنّه حينما يتكلم يسوع دائما يحمل رسائل حبّ وتعزيّة تكشف عن علاقة حميمة تعطي حياة وتتطلب السمع الحقيقي.

 

 

4.   الأُذن الثالثة وضُعف سمعنا (تك 18: 1- 10؛ لو 10: 38- 42)

 

بناء على تدخلات وحوار الرّبّ من خلال زيارة الرجال الثلاثة لإبراهيم (تك 18: 1- 10)، ويسوع في لقائه بمرتا ومريم نكتسف (أنا وأنت) ضُعف سمعنا الروحيّ. سواء إبراهيم الرجل ومرتا ومريم الـمرأتيّن يمثلان عالمنا البشري، حيث يأتي الرّبّ في وقته قد يكون ذروة النهار أم يطرق على بابنا فجأة، فهل يجدنا على إستعداد لإستقباله؟ للإصغاء له بقلب يحبه ويفضله دون أن يبالي بمسئوليات أخرى؟

 

السمع الروحيّ هو دور أساسي للأُذن الثالثة الباطنيّة الّتي قد نتهرب منها لأنهّا تكشف حقيقتنا في عدم قدرتنا على الأصغاء. في كلّ مرة يرغب الرّبّ في أنّ يلتقي بنا ويحاورنا يحررنا من ضعف السمع الروحيّ الّذي يسلب منا أجمل الأوقات وهي اللقاء بالله. قد يأتينا اليّوم الرّبّ في شدة حرارة الجو في أشخاص حولنا، أو مَن يطرق على بابنا لنصغي له، أو مَن يتصل بنا تليفونيًا، ... فلننتبه فالرّبّ يرغب في أنّ يحاورنا ويلتقي بنا، فهل نحن مستعدين أنّ نستقبله كإبراهيم بالحوار معه، كمرتا بتحضير الضروري له دون الـمبالغة في الـمشغوليات، كمريم الّتي وجدت مكان يُنشط سماع أُذنها الباطنيّة. لنتحرر ونعالج ضُعف سمعنا الروحيّ لئلا نفقده بالكامل فتصير خسارتنا أكبر!    

 

 

الخلّاصة

 

في ختام مقالنا هذا الّذي كشف عن قدرتنا البشريّة في تنشيط السمع الروحيّ من خلال إبراهيم (تك 18: 1- 10)، ومرتا ومريم بحسب لوقا (10: 38- 42) الّذين كشفوا لنا بدورهم البشري كيف لنا من خلال الأُذن الثالثة الباطنيّة أنّ نتمكن من الإصغاء الحقيقي للرّبّ الّذي لازال يُبارد في الكشف عن مخططه ومشاركتنا حبه.

 

قليلاً ما نختتم مقالاتنا بقصة ما والهدف أنّ هذا الحوار لضُعاف السمع الّذين تعافوا بعد استخدمهم سماعة الأُذن وهو حوار حقيقي، حيث وجه شخص على موقع Reddit سؤاله لهم قائلاً: "ماهو الشيء الّذي ظننتم إنّه يصدر صوتاً ولكن إكتشفتوا حقيقة إنّه بلا صوت والعكس؟" وقد كانت إجاباتهم التاليّة:

إستغربت من أنّ سقوط المطر يُصدر صوتاً بينما يسقط الثلج بلا صوت.

- تفاجأت عندما إكتشفت أنّ لكلّ شخص صوت مختلف!

‏ إكتشفت أنّ الآيس كريم لا يُصدر صوتاً أثناء ذوبانه.

‏أكتشتت خرير الماء لأوّل مرّة لمّ أُصدّق أنّ للماء صوت نقي هكذا، حتى هذه اللحظة أستمتع بسماعه.

- لم أكن أعلم أنّ تقليب الورق يُصدر صوتاً.

‏كنت أعتقد أن الشّمس عندما تُشرق تُصدر زئيراً، مثل ماكينة تتحرّك بسرعة لكن أكتشفت تشرق بصمت!

‏ عندما حصلت على سماعة الأصم لأول مرة كنت في طريق خروجي من المستشفى كنت أنظر للخلف لأرى من الّذي يقوم بالمشي ورائي أخبرتني أّمي أنّ ذلك هو صوت خطواتي أنا.

 

هكذا أنا وأنت اليّوم، قد لا نحتاج لسماعة أُذن لأن أُذننا الجسديّة تعمل بكفاءة ولكننا نحتاج لتنشيط سماعنا الروحيّ! فلنطلب نعمة الأُذن الباطنيّة الثالثة حتى نصغي حقيقة لصوت الرّبّ الّذي يبادر يوميًا للقائنا. دُمتم في تنشيط القلب والسمع الروحيّ والجسديّ.