موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٤ يونيو / حزيران ٢٠٢٥

"فقير القلب" بين كاتبي سفر الـمزامير والإنجيل الأوّل

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (مز 33 "34"؛ مت 16: 13- 19)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (مز 33 "34"؛ مت 16: 13- 19)

 

عيد بطرس وبولس (ج)

 

مُقدّمة

 

في احتفالنا بذكرى القديسيّن بطرس وبولس، هامتيّ الرسل، نسعى ككنيسة إلى إعادة إكتشاف هويتنا باستمرار كتلاميذ للرّبّ. يمكننا دائمًا أنّ نتعلم من هذيّن الرسوليّن الأمانة للإنجيل وإكتشاف سرّ الله الّذي نضع أمامه عقباتنا الصغيرة أو الكبيرة بوضعها أمامه نتلمس تقدّم وإنتشار الكلمة في العالم أجمع. في قراءاتنا بهذا الـمقال لن نتحدث مباشرة عن دعوة هذيّن الرسوليّن، ولكن سنأخذ في الإعتبار دورهم الأساسي كنقطة إنطلاق لفهم نص العهد الثّاني الّذي يفاجئنا الرّبّ بتسلّيم رسالته التبشيريّة لأحد تلاميذه وهو الّذي يكشف عن فقر قلبه الحقيقي (مت 16: 13- 19). سنتوقف أمام قوة الله الـساميّة والّتي يكشف عنها بوجه محدد لبطرس. أما بالنسبة لقراءتنا من العهد الأوّل سنتعمق في أحد الـمزامير (33) والّذي يشير فيه إلى صلاة البشريّ الّذي إكشف سرّ الله الـمُعلن في كلماته واضعًا أمام أعيننا خبرته الّتي سيؤكد فيها بقرب الرّبّ والإلحاح على تسبيحه من جانبنا. نهدف بالإقتراب من الرّبّ بقلب فارغ من كلّ ما هو مزيف ولا يكشف حقيقة الرّبّ وسنتمكن فقط حينما يكون لدينا قلب فقير مثل كاتب الـمزمور وبطرس في إعلانه حقيقة الرّبّ كما سنرى بعناصر هذا الـمقال. 

 

 

1. قوّة صلاة البائس (مز 34: 1- 10)

 

يفتتح كاتب الـمزمور بتسبيحه وإفتخاره بالرّبّ قائلاً: «أُبارِكُ الرَّبَّ في كُلِّ حين وتَسبحَتُه في فمي على الدَّوام. بِالَّربِّ تَفتَخرُ نَفسي لِيَسمَع الوُضعَاءُ ويَفرَحوا» (مز 34: 2- 3).  وبهذا التسبيح يدعو الجماعة الّتي يصلي معها ويدعونا أيضًا لتعظيم الرّبّ بثقة لا توصف قائلاً: «عَظمُّوا الرَّبَّ معي تَعظيماً ولنُشِدْ باْسمِه جَميعاً. إِلتمَستُ الرَّبَّ فأجابَني ومِن جَميعِ أهْوالي أَنقَذَني» (مز 34: 4- 5). ثقة الـمُصلي في الرّبّ تكشف عن قوة علاقته به وفي كلمات صلاته الّتي تنبع من قلبه الفقير حيث يجد فقط في الرّبّ كلّ إجاباته ونجاته. سمّة الكاتب الخاصة هي إلتماس الرّبّ أي الحوار مع الرّبّ فيسمع إجاباته حينما يسأله. وهذا يكشف عن قلبه الفقير الّذي  يجد غناه فقط في الرّبّ الّذي يلجأ إليه في كلّ الأوقات. لذا بصيغة الأمر يتوجه بندائه إلينا مُترجيًا إيانا بقوله: «تأَمَّلوا فيه تُشرقْ ِجباهُكم ولا تَخْزَ وُجوهُكم. دَعا بائِسٌ والرَّبُّ سَمِعَه ومِن جَميعِ مَضايِقهِ خَلَّصَه. يُعَسكِرُ مَلاكُ الرَّبً حَولَ مُتَّقيه ويُنَجيهمذوقوا واْنظروا ما أَطيَبَ الرَّبَّ طوبى لِلرَّجُلِ الـمُعتَصِمِ بِه» (مز 34: 6- 7). يبث الـمرنم خبرته العلائقيّة بالرّبّ وينصحنا بتذوق الرّبّ بالعلاقة معه من خلال القلب الفارغ من الإنغلاق ومنفتح على الرّبّ بكلّ ما يعيشه من تسبيح وتحديات حياته. فقط صاحب القلب الفقير يتمكن من إلتماس الرّبّ وإكتشاف وجهه مُعسكراً ومقيمًا معنا.

 

 

2. تساؤل الـمعلم الـمُزدوج (مت 16: 13- 15)

 

بناء على القلب الفقير الّذي تأملناه في كلمات كاتب سفر الـمزامير سنتوقف أمام حوار خاص ينفرد به متّى الإنجيلي، بجوار قيصريّة فيلبس، حيث يكشف لنا عن أراء التلاميذ فيما يسمعونه من الناس عن هويّة ابن الإنسان ليكشف لهم هويته الإلهيّة. تساؤل يسوع الـمباشر القائل: «مَنِ ابنُ الإِنسانِ في قَولِ النَّاس؟» (مت 16: 13). وأمام إجابات عديدة منها الـمعمدان، وارميا ... إلخ، يوجه يسوع تسأوله الثاني قائلاً: «ومَن أَنا في قَولِكم أَنتُم؟» (مت 16: 15). هنا بالتحديد بعد أنّ سمع يسوع إجاباتهم يوجه تساؤله الثاني لهم فقط. وهنا جماعة التلاميذ تُماثلنا إذ يوجه يسوع تساؤله ليّ ولك اليّوم. مَن أنا بالنسبة لك؟ هل نعرف هويّة الرّب الحقيقيّة أم الّتي نعتقدها؟

 

هذا التساءل ينتظر إجابة، مدعوين بقلب الفقير أنّ ننظر للرّبّ في حقيقته وفي تجليّه البهي في حياتنا خاصة وقت اليأس والشّدة، إذ يكشف لكلّاً منا عن وجهه الأبويّ.

 

 

3. فقر قلب التلميذ (مت 16: 16)

 

وهنا تأتي إجابة أحد التلاميذ والّتي تكشف عن فقر قلبه. وهذه هي الصفة الّتي تميّز به بطرس الـمُتحمس كعادته ولكنه يعلّم حقيقة معلّمه ليس لـمعجزاته بل لأنّه يعلن بكلماته ما يحمله قلبه بناء على علاقته الخاصة وخبرته. وضع متى الإنجيليّ الإجابة الّتي تكشف عن سرّ يسوع ابن الإنسان بسرده: «فأَجابَ سِمعانُ بُطرس: "أَنتَ الـمسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ"» (ما 16: 16). "أنت الـمسيح" هو الوجه الـمسيّانيّ الّذي يرغب متّى الإنجيلي في لّاهوته أن يشدد عليه للجماعة الّتي كتب لها إنجيله وهي من أصل يهودي ولنا كمؤمنيّن. هذا اللقب هو الّذي يكشف عن مقدرة بطرس الإنسان، من خلال فقر قلبه أنّ يكتشف حقيقة هويّة ابن الإنسان الإلهيّة. إحتفالنا بعيد الرسل يضع في قلبه ليس براعة التلميذ الّذي أجاب إجابة صحيحة بقدر ما أخرج ما بقلبه من حقيقة عن سرّ الله الـمُتجلي في الـمسيح.

 

يسوع هو الـمسيح أي الممسوح من الله الآب لخلاص العالم. يسوع هو ابن الله الحيّ والّذي يتسأل أثناء حياته الأرضية عن معرفة معاصره عن هويته الحقيقيّة. تفجير بطرس هوية ابن الإنسان في لقبيّن الـمسيح وابن الله الحيّ الّذي سيعلنه متّى صراحة في  روايته لقيامة الـمسيح. مما يؤكد بأنّ إجابة بطرس ليس لإمتحانه بقدر ما كشف عن قلبه الـمغمور بمعرفة الرّبّ في حقيقته بالرغم من ضعفاته. 

 

يكتشف الـمرء صاحب القلب الفقير هويته الله في حقيقتها لأنّه لا يوجد أعباء بقلبه تمنعه إذ يضع كلّ شيء أمام الرّبّ والرّبّ يكشف عن ذاته لـمَن يتمكن من إفراغ قلبه ليمتلأ حقيقة بهويّة وبألقاب الرّبّ.

 

 

4. أنت الصّخر! (مت 16: 17- 19) 

 

هذا الحوار الّذي أبدع فيه الكشف الإلهي على لسان بطرس ليكشف لنا عن سرّ ابن الإنسان الإلهي والّذي من خلاله يفاجئنا يسوع بمنحه سلطاناً خاصّاً لبطرس إذ يقول له: «طوبى لَكَ يا سِمعانَ بْنَ يونا، فلَيسَ اللَّحمُ والدَّمُ كشَفا لكَ هذا، بل أَبي الَّذي في السَّمَوات» (مت 16: 17). هذا الكشف الّذي توّصل إليه بطرس ذو القلب الفقير ليس لأنه تعلّم على يدي يسوع الـمعلّم فقط بل لأنّه ترك قلبه ليملأه الله بحقيقية ابنه. هكذا حينما نفرغ ذاواتنا نكتشف حقيقة الله، فقر قلوبنا هو الباب الّذي يمكننا أنّ نطرقه بشكل يومي لإفراغ قلوبنا أمام الرّبّ وفي هذا الوقت يكشف الرّبّ عن هويته لأنه يجد قلبًا يقبل كشفه الإلهيّ.

 

لم ينتهي يسوع بعد التطويب الّذي وجهه لبطرس بل إستمر في حديثه موكلاً إليه رسالة قائلاً: «وأَنا أَقولُ لكَ: "أَنتَ صَخرٌ وعلى الصَّخرِ هذا سَأَبني كَنيسَتي، فَلَن يَقوى عليها سُلْطانُ الموت. وسأُعطيكَ مَفاتيحَ مَلَكوتِ السَّمَوات. فما رَبَطتَهُ في الأَرضِ رُبِطَ في السَّمَوات. وما حَلَلتَه في الأَرضِ حُلَّ في السَّمَوات"» (مت 16: 18- 19). الصّخر أي الأساس تحت الأرض الّذي لا يُرى، إذ يضع الرّبّ أساس عروسه الكنيسة على مَن نجح في إفراغ ذاته وكشف عن فقر قلبه تجاه الرّبّ. بطرس اليوم مثل ونموذج لكلّ مؤمن حيث أنّه يعلمنا كيف نرى الرّبّ في حقيقته وليس كما نتخيله أو كما نرغبه. الرّبّ هو الـممسوح لخلاصنا، وهو ابن الله الحيّ. من الألقاب الّقوية في اللّاهوت الـمتاويّ والّتي تكشف عن ترك الـمجال للإعلان الإلهيّ لـمَن يحمل قلب فقير بشريًا ولكنه غنيّ روحيًا لأنّه يغتني بما يكشفه له الرّبّ وبحقيقته.

 

 

الـخلّاصة

 

 تعمقنا في  مقالنا هذا من خلال قلبيّن فقيريّن، الأول قلب كاتب الـمزمور (33 "34")، الّذي يدعونا لتسبيح الرب والتأمل في قوّته لأنه إختبر نعمته إذا دعانا بالتذوق وبالنظر للرّبّ الّذي يرافق مؤمنينه خاصة ذوي القلب الّذيّن يلتجئون بثقة إليه. وعلى هذا الـمنوال تعمقنا بحسب اللّاهوت الـمتاويّ (16: 13- 19) في شخصيّة بطرس وقلبه الفقير الّذي نجح، من خلال خبرته مع يسوع ابن الإنسان، أنّ يعلن صراحة هويتّه الإلهيّة. الـمسيح وابن الله الحيّ هذيّن اللقبيّن الّذيّن أعلنا عن قُرب الإنسان صاحب القلب الفقير من حقيقة الرّبّ. هكذا يكشف الرّبّ عن سرّه الإلهيّ لـمَن يترك ذاته لقيادة الرّبّ ويمتليء منه. مدعوين نحن كمؤمنيّن أنّ نتوقف عن الفكر البشري. بقدر ما ننظر للرّبّ في حقيقته الفريدة وفي سرّه الإلهيّ  سنتمكن مثل بطرس من التمتع بقلب فقير بشريًا وغني بالعلاقة مع الرّبّ. دُمتم في علاقة حيّة بالرّبّ وبسرّه الإلهي.