موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٧ يوليو / تموز ٢٠٢٥

"أين مَوضِع رجاءُ الرّبّ؟" بين كاتبي التنثيّة والإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (تث 30: 10- 14؛ لو 10: 25- 37)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (تث 30: 10- 14؛ لو 10: 25- 37)

 

الأحد الخامس عشر (ج)

 

مُقدّمة

 

في هذا العام اليوبيلي الـمكرس لموضوع الرجاء قد نتساءل قائلين أين موضع رجائنا؟ كثيرة هي العظات والرياضات والدراسات عن موضوع الرجاء بالكتاب الـمقدس ساعيّين لتجديد رجائنا بالرّبّ. ولكن الجديد الّذي يحملاه نصي العهدين هو إجابة عن تساؤل جديد جال بخاطري وهو "أين موضع رجاء الرّبّ؟" لذا إخترناه كعنوان أيضًا للبحث بين كلمات كاتب سفر التنثيّة (30: 10-14) بالعهد الأوّل والنص اللُوقاويّ بالعهد الثاني (10: 25-37) حيث تأتينا كلمات كلّا الكاتبيّن بإجابات تؤكد بدء وضع رجاء الله في تاريخنا البشريّ كبذرة، منذ الخلق بالـماضي وإستمرت في النمو حتى وصلت هذه البذرة لذروتها في عصر يسوع ولازالت حتى الآن تستمر في النمو.  نهدف من خلال مقالنا هذا الإصغاء لوصيّة موسى الّذي عاس الرجاء في علاقته بالله ويتركه كميراث لنا، كما سنناقش لاحقًا. وأيضًا فسح الـمجال ليسوع الّذي يكشف عن وجه السامريّ الّذي وضع الله رجائه فيه نموذج لنا.

 

 

1. وصيّة موسى (تث 30: 10- 14)

 

يستمر كاتب سفر التثني|ة في إعلان موسى لخطاباته الـمُطولة لبني إسرائيل حيث يترك ميراثه ووصيته الروحيّة الّتي نالها من خلال علاقة الله به وبالشّعب منذ أنّ دعاه (راج خر 3: 1-6). في هذه الآيات القليلة الّتي نسمع صوت موسى يُجلل في تعليمه لشّعبه مُسلمًا إياه ما إعلنه الله له من رجائه بشعبه وبالبشريّة معًا قائلاً بصيغة مفتوحة وحرّة مُستخدمًا أداة الشّرط إذا: «إِذا سَمِعتَ لِصَوتِ الرَّبِّ إِلهِكَ حافِظًا وَصاياه وفَرائِضَه الـمَكْتوبةَ في سِفْرِ هذه الشَّريعة، عِندَما تَرجِعُ إِلى الرَّبِّ إِلهِكَ مِن كُلِّ قَلبكَ ومِن كُلِّ نَفسِكَ» (تث 30: 10). هذه الصيغة تنتمي لحريّة الإنسان ولتبعيّه مخطط الله الحرّ وبدون إجبار الّذي يعطي وصاياه ويمنح رجالاً ونساءً ليرشدوا الشعب ولكن النقطة الفاصلة هي إختيار التواصل في العلاقة بالله بحريّة مِن جانب مَن ينتمي حقيقة للرّبّ (أنا وأنت). مما تتطلب هذه العلاقة العودة أي التوبة للرّبّ من كلّ القلب والنفس. هذا هو القرار الإختياري الّذي يكشفه موسى من خلال خبرته مع الرّبّ، فهو قد حاول أنّ يتلمس الأعذار حينما دعاه الرّبّ (راج خر 6-10). وفي النهاية أدرك أنّ هناك مخطط من الّذي دعاه له شخصيًا وللشّعب معًا.

 

من خلال خبرة موسى الذاتيّة يكشف صراحة لبني إسرائيل عن وصيته قائلاً: «إِنَّ هَذه الوَصِيَّةَ الَّتي أَنا آمُرُكَ بِها اليَومَ لَيسَت فَوقَ طاقَتِكَ ولا بَعيدةً مِنكلا هيَ في السَّماءِ فتَقول: مَن يَصعَدُ لَنا إِلى السَّماء فيَتَناوَلُها لَنا ويُسمِعُنا إِيَّاها فنَعمَلَ بِها؟ ولا هيَ عَبرَ البَحرِ فتَقول: مَن يَعبُرُ لَنا البَحرَ فيَتَنَاوَلُها لَنا ويُسمِعُنا إِيَّاها فنَعمَلَ بِها؟» (تث 30: 11- 13). يكشف موسى أنّ لا وجود للحجج والأعذار البشريّة لأنّ كلّ الوصايا الإلهيّة الآن تتلخص في وصيّة موسى كأب روحيّ وهي كشفه عن جوهرها وهو أيضًا ختام لهذا النص: «الكَلِمَةُ قَريبَةٌ مِنكَ جِدًّا، في فَمِكَ وفي قَلبِكَ لتعمَلَ بِها» (تث 30: 14). نعم دابار من الجذر العبريّ هي الكلمة الّتي يتواصل الله بها معنا ليضع بذرة رجائه فينا فنكون مع بني إسرائيل موضع رجاء الله. مدعوين بألّا نُخيّب هذا الرجاء الإلهيّ حينما نحفظ بالعمل وبالحياة ونترك الكلمة الإلهيّة تقودنا لتجدد رجاءنا في الرّبّ ويتجدد رجائه فينا.

 

 

2. يسوع هو رجاء الآب ( لو 10: 25-27)

 

بناء على كلمات موسى الّتي كشف بها عن رجاء الله من خلال تواصله بالكلمة بالعهد الأوّل. نستمر لنسمع صوت يسوع الّذي يُنمي هذا رجاء الله الآب فينا كما يحيّ هو بذاته هذا الرجاء من خلال تعليمه بمثل السامري الجميل. نعلم كما يعلن كاتب العبرانيّين بأنّ الله تكلم بالماضي من خلال البطاركة والأنبياء والكهنة ... إلخ، وفي نهاية الأزمنة كلمنا في ابنه يسوع  (راج عب 1: 1-4). هذا راعى الرّبّ بذرة الرجاء الّتي إلقاها في تاريخنا البشري واليّوم في ابنه يرويّ هذه البذرة الّتي ستطرح ثماراً خلاصيّة فينا. يكشف يسوع من خلال تعليمه عن رجاء الله فينا ولنا من خلال مثل أعطاه ليجيب على أحد علماء الشريعة، يُعتبر تلميذ موسى، مُتسائلاً: «يا مُعَلِّم، ماذا أَعملُ لِأَرِثَ الحيَاةَ الأَبَدِيَّة؟» (لو 10: 25). سؤال غريب، كيف يفهم مُعلّم الشريعة الحياة الأبديّة! هل قطعة أرض أم منزل أم ...! كلا الحياة الأبديّة لا تُمتلك بل تُعطى بمجانيّة وهي بالفعل ميراث حبّ من الآب لأبنائه بناء على قبولهم كلمته في حياتهم وقلوبهم كما أشار موسى بالنص السابق. أمام عدم الفهم، يتحاور يسوع متسائلاً عن معرفته عما هو مكتوب ويجيب الـمعلم بجدارة قائلاً: «أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ، وكُلِّ نَفسِكَ، وكُلِّ قُوَّتِكَ، وكُلِّ ذِهِنكَ وأَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ» (لو 10: 27). ويستمر الـمعلّم في جداله متسائلاً عن هويّة القريب!

 

بصبر وتأني، يكشف يسوع عن رجاء الله في هذا الـمعلّم ذو الفكر الـمُتجبس فهو حافظًا فقط للشريعة وغير مُدرك لجوهرها، ككثيريّن منا متدينيّن نردد الآيات دون فهم. وهنا يكشف يسوع بحنان الأخ الكبير عن وجه الله الآب الّذي لازال يضع رجائه في هذا الـمعلّم البعيد عن جوهر ما يعلّمه دون رفضه مًعطيًا مثلاً تعليميًا ليساعد معلّم الشريعة في لمس بذرة الرجاء الّتي أُلقيت بالشريعة والّتي تجد ذُروتها في يسوع - كلمة الله - الّذي يحاوره. وهنا يرافق يسوع كلّاً منا ليجدد رجاء الله بقلوبنا من خلال تعليمه وكلمته الـمُحييّة.

 

 

3. السامريّ موضع رجاء الرّبّ؟ (لو 10: 30-37)

 

من خلال هذا العنوان الثانوي لـمثالنا موضع رجاء الرّبّ سيطرح يسوع في تعليمه مثل السامري الشهير بالصالح. يبدأ يسوع، وهو الـمعلّم الفريد ليس فقط للشريعة بل لحياة الله، في نزع كلّ ما يخنق كلمة الله بداخلنا مُحاوراً قلوبنا من خلال أحداث الحياة اليّوميّة الّتي تتميز بالعداوة كما كان بعصره بين اليهود والسامريّين. كحالنا المعاصر مُجيبًا: كانَ رَجُلٌ نازِلاً مِن أُورَشَليم إِلى أَريحا، فوقَعَ بِأَيدي اللُّصوص. فعَرَّوهُ وانهالوا علَيهِ بِالضَّرْب. ثمَّ مَضَوا وقد تَركوهُ بَينَ حَيٍّ ومَيْت. فاتَّفَقَ أَنَّ كاهِناً كانَ نازِلاً في ذلكَ الطَّريق، فرآهُ فمَالَ عَنه ومَضى. وكَذلِكَ وصلَ لاوِيٌّ إِلى المَكان، فَرآهُ فمَالَ عَنهُ ومَضى.

 

ووَصَلَ إِلَيه سَامِرِيٌّ مُسافِر ورَآهُ فأَشفَقَ علَيه، فدَنا منه وضَمَدَ جِراحَه، وصَبَّ علَيها زَيتاً وخَمراً، ثُمَّ حَمَلَه على دابَّتِه وذَهَبَ بِه إِلى فُندُقٍ واعتَنى بِأَمرِه. وفي الغَدِ أَخرَجَ دينارَيْن، ودَفَعهما إِلى صاحِبِ الفُندُقِ وقال: "اِعتَنِ بِأَمرِه، ومَهْما أَنفَقتَ زيادةً على ذلك، أُؤَدِّيهِ أَنا إِليكَ عِندَ عَودَتي".

 

يفاجئنا لوقا بهذا السرد الّذي يروي حياتنا اليّوم بين الحروب والنزاعات بين بلاد مختلفة، مشيراً إلى أنّ رجال الدين الكاهن واللاويّ (شماسًا بلغتنا الطقسيّة اليّوم) عًبرا بطّريقهما وكأنهما لم يروا شيئًا. إلّا أن هناك رجل غريب وهو سامريًا وضع الله رجائه فيه، فتوقف عن مسيرة سفره وتعطّل في الوقت وفي الـمال وقدم ما لديّه ليعاون مَن في ضيق وشِّدة. والغريب أنّ الجريح يهوديًا أي عدواً له.

 

يأتي هذا السامريّ، تاركًا الخلافات والنزاعات بين الأسباط ويعيش علاقة تتميز بالرجاء حيث أنّ رجاء إله الشريعة فيه جعلته يشفق ويشعر بمشاعر الرحمة الّتي تُميز أفعاله وقوله الوحيد مع صاحب الفندق. هذا السامريّ هو نموذج ليّ ولك لنتبادل رجاء الله بيننا ونُجدد رجائه فينا بالقول والعمل في علاقتنا اليوميّة. لنتحرر من مخاوفنا ونقترب بصدق لنسمع صوت الرّبّ الّذي يجدد رجائه فيّ وفيك.

 

4. أين موضع رجاء الرّبّ؟ (تث 30: 19- 14؛ لو 10: 25-37)

 

تأتي الكلمات الختاميّة لتعليم يسوع مع معلّم الشريعة، وهو يمثلنا في فقدان رجاءنا، ليساعدنا على إستنباط الإجابة الّتي يحتاجها هذا الـمعلم قائلاً: «"فمَن كانَ في رأيِكَ، مِن هؤلاءِ الثَّلاثَة، قَريبَ الَّذي وَقَعَ بِأَيدي اللُّصوص؟" فقال: "الَّذي عَامَلَهُ بِالرَّحمَة". فقالَ لَه يَسوع: "اِذْهَبْ فاعمَلْ أَنتَ أَيضاً مِثْلَ ذلك"» (لو 10: 36-37). بعد توصل الـمتسائل للإجابة الّتي يبحث عنها من ذاته نكتشف إنّه وضع قدمه على طّريق الرجاء ومعه مدعويّين لننعش رجائنا بالرّبّ ولنجدد ذواتنا لنكون موضع رجاء الرّبّ مطيعيّن بحريّة لكلمة يسوع -إنسان الرجاء- الّذي هو أيضًا ثمرة رجاء الله في تاريخنا البشري. لنذهب ونعمل أعمال تليق برحمة وبرجاء الله فينا. فلنبحث عن الكلمة بحسب نص سفر التثنيّة الّتي يوجهها لنا الرّبّ اليوم من خلال كلا النصيّن لنضع أقدامنا على طريق الرجاء فنصير كنساء وكرجال موضع رجاء الرّبّ في مجتماعاتنا، حتى لو سرنا عكس التيار.

 

 

الخلّاصة

 

موضوع الرجاء، في الكتاب الـمقدس له الكثير من الأهميّة، مدعوين على ضوء كلمات موسى بحسب سفر التثنيّة (3: 10- 14) ويسوع بحسب لوقا (10: 25- 37) أنّ يعطي كلاً منا إجابة خاصة عن مضمون مقالنا "هل أنا موضع رجاء الرّبّ؟" دون أن نخشى إغفالنا وإهمالنا وتقصيرنا. مدعويّن فقط أنّ نوجه نظرنا على عنصريّن: "الكلمة الكتابيّة" و "يسوع" حيث أنّ الكلمة الرّبّ قريبة فهي بداخلنا وتحتاج أنّ نعطيها وجهًا عمليًا بعلاقتنا. والتواصل والإصغاء لتعاليم يسوع فهو الّذي ضمدّ جراحنا بآلامه فصار سامريًا مُجدداً رجاء الله فينا وفي حياتنا الهشّة. دُمتم بحياتكم لتكونوا موضع رجاء الله الأمين دونّ أنّ نُخيّبه.