موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
عيد القربان المُقدس (ج)
مُقدّمة
قراءاتنا الكتابيّة فيما بين العهدّين، الّتي نتوقف أمامها إسبوعيًا هي بمثابة بذور إلهيّة ينثرها الرّبّ في حياتنا وقلوبنا ليدخل بـملكوته في حياتنا الأرضيّة. لذا مدعوين بشكل خاص في هذا الأسبوع الّذي تحتفل به الكنيسة بسرّ القربان الـمقدّس أنّ نرفع نظرنا للرّبّ الّذي يرغب وبشدة أنّ يحمل لنا ملكوته في عالمنا الأرضيّ. ففي النص بالعهد الأوّل سنتوقف أمام إبرام قبل تغيير إسمه من قِبل الرّبّ بسفر التكوين (14: 18-20) حيث نناقش لقائه بالكاهن والـملك ملكيصادق. وبالعهد الثاني في حضور يسوع ذروة العهد الإلهيّ نعيش حدث هام حيث يشارك تلاميذه الّذين لا يفهمون بعد قوّة معلمهم الإلهيّة الـملكوت من خلال حدث إشباع الجموع الّذي يعطي يسوع الخبز والسمك بعد بركتهم ليشبعهم وليستبق سرّ ملكوته أمام تلاميذه (لو 9: 11-17). نهدف من خلال هذا الـمقال أنّ تتجدد علاقتنا بالرّبّ سواء بكلمته أم بجسده الّذي يشاركنا به ليُدخلنا من هنا والآن في حياته وهي الـملكوت الأبدي.
1. الرمز الإستباقيّ للـملكوت (تك 14: 18-20)
بحسب فكر كاتب سفر التكويّن الّذي يكشف عن ما هو غير مرئي، أي ما هو إلهيّ بين الإنسان والرّب. فقد كشف الله من خلال ملكيصادق، صورة إستبّاقيّة عن يسوع الكاهن، لصديقه أبرام الّذي بدء مسيرة خاصة مع بشريبتنا من خلاله بالوعود الثلاث (راج تك 12: 1- 3). تتدرج علاقة الرّبّ بأبرام فيكشف له عن الجديد من خلال رسوله وهو ملكيصادق. الّذي نعرفه من خلال وصف كاتب العظة إلى العبرانييّن بالعهد الثاني والقائل عنه: «فإِنَّ مَلكيصادَقَ هذا هو مَلِكُ شَليم [أورشليم، مدينة السّلام] وكاهِنُ اللهِ العَلِيّ، خَرَجَ لِمُلاقاةِ إِبراهيمَ عِندَ رُجوعِه، بَعدَما كَسَرَ الـمُلوكَ، وبارَكَه، ولَه أَدَّى إِبراهيمُ العُشْرَ مِن كُلِّ شَيء. وتَفسيرُ اسمِه أَوَّلا مَلِكُ البِرّ، ثُمَّ مَلِكُ شَليم، أَي مَلِكُ السَّلام. ولَيسَ لَه أَبٌ ولا أُمٌّ ولا نَسَب، ولَيسَ لأَيَّامِه بِداية ولا لِحَياتِه نِهايَة، وهو على مِثالِ ابنِ الله ... ويَبْقى كاهِنًا أَبَدَ الدُّهور» (عب 7: 1- 3).
مليكصادق، شخصيّة غامضة لم نعرف له أصل بشري ولكنه صار أداة ليكشف الرّبّ عن وجهه لأبرام في بدء علاقته به. تحمل رمزيّة ملكيصادق الـملك والكاهن صور رجل السّلام الّذي أتى من قِبل الرّبّ كما يروي عنه كاتب سفر التكوين قائلاً: «أَخرَجَ مَلْكيصادَق، مَلِكُ شَليم، خُبزًا وخَمْراً، لأَنَّه كانَ كاهِنًا ِللهِ العَلِيّ. وبارَكَ أَبْرامَ وقال: "على أَبْرامَ بَرَكَةُ اللهِ العَلِيّ خالِقِ السَّمَواتِ والأَرض وتبارَكَ اللهُ العَلِيّ الَّذي أَسلَمَ أَعداءَكَ إِلى يَدَيكَ". وأَعْطاه أَبْرامُ العُشْرَ مِن كُلِّ شَيء» (تك 14: 18- 20). بركة ملكيصادق للرّبّ ولأبرام بعد تقديمه خبزاً وخمراً علامة على بدء إنفتاح السماء على الأرض وقبول قلب بشريّ، قلب أبرام الّذي يمثلنا جميعًا، للكاهن والـملك مليصادق وهو الصورة الّتي إستبقت رسالة وملكوت يسوع على الأرض، كما سنرى حدث التبشير الفعليّ بالـملكوت من خلال يسوع بحسب لوقا لاحقًا.
2. إنسان الـملكوت (لو 9: 11- 17)
يرد لفظ "الـملكوت" كثيراً بحسب الروايّة اللوقاويّة لهدف يتدرج به الإنجيليّ ليكشف لنا كقراء قلب رسالة يسوع وجوهرها، مما يؤكد لّاهوتيًا أهميّته من وجه نظر الإنجيلي. أوّل مرة نقرأ هذا اللفظ حينما وضعه الإنجيليّ على لسان يسوع في أوّل يوم له برسالته التبشيريّة علّانيّة حيث يقول يسوع: «يَجِبُ عَلَّي أَنَّ أُبَشِّرَ سائرَ الـمُدُنِ أَيضاً بِمَلَكوتِ الله، فإِنِّي لِهذا أُرسِلْت» (لو 4: 42). إذن قلب رسالة يسوع التبشيريّة الّتي أُرسل لها من قبل الآب هي الـملكوت. فهذا هو دور يسوع الجوهري الّذي يعلنه صراحة لوقا منذ بدء دخول يسوع تاريخنا البشري الّا وهو التبشير بالـملكوت. هذا هو الخيط الذهبي الّذي يتدرج به الإنجيليّ ليحمل لنا بشارة الـملكوت الّتي وصلت لذروتها في حضور يسوع الّذي كشف عن ملكوت الله بحياته وأعلن إستمراريته بعد إتمّام سرّه الفصحيّ.
نقرأ بنهاية الإنجيل نص ينفرد به لوقا فقط حيث يُشدد على لفظ الـملكوت حيث يضع على لسان الـمُجرم الـمصلوب بجوار يسوع والقائل: «أُذكُرْني يا يسوع إِذا ما جئتَ في مَلَكوتِكَ» (لو 23: 42). إذن هناك مَن قبل بشارة الـملكوت كالمجرم، حيث عرف هويّة يسوع الحقّة. ثمّ يكشف أخيراً الإنجيلي عن هويّة رجل وهو يوسف الرامي الّذي قبل يسوع في قبره حيث كان من رؤساء الـمجمع إلّا إنه كان يتميز بإنتظار الـملكوت (راج لو 24: 50-51). والخطوة الّـتي دفعته ليتقدم للسلطات لأخذ جسد يسوع ودفنه بأكرام في مقبره الخاص يدل على إنه بالرغم من دوره الأساسي بالـمجمع اليهودي إلّا إنّه تلمس في شخص يسوع إنسان الـملكوت.
3. أبواب الـملكوت (لو 9: 13)
في هذه الـمناسبة الكنسيّة وهي إحتفالنا ككنيسة بسرّ القربان الـمقدس، نقرأ بحسب الليتورجيّة هذا النص الّذي أعطاه متخصصيّ الكتاب الـمقدس عنوانًا منذ القدم "تكثير الخبز". بالرغم من عدم وجود لفظ "تكثير" بالنص ولكن كعنوان أُعطي وإستمر في التداول سواء شفويًا ام كتابيًا بالتفاسير الـمختلفة لـما تمّ بالفعل بحضور يسوع وبركته الإكثار لإطعام آلاف من الجمع.
يفتتح الإنجيلي هذا النص قائلاً: «لـمَّا رَجَعَ الرُّسُل أَخبَروا يسوعَ بِكُلِّ ما عَمِلوا، فمَضى بِهِم واعتَزَلَ وإِيَّاهم عندَ مَدينَةٍ يُقالُ لَها بَيتَ صَيدَا، لكِنَّ الجُموعَ عَلِموا بِالأَمْرِ فتَبِعوه، فاستَقبَلَهم وكَلَّمَهُم على مَلَكوتِ الله، وأَبرأَ الَّذينَ يَحتاجون إِلى الشِّفاء» (لو 9: 10- 11). مما يكشف بالنص السابق لنصنا حيث روى الإنجيلي حدث إرسال يسوع تلاميذه ليبشروا بالـملكوت (راج لو 9: 1- 6). من جديد يستقبل يسوع تلاميذه في مكان مُنعزل ليشاركهم بثمرة حوارهم الّذي كشف عن إنفتاحهم وقبولهم لرسالة يسوع الّتي حمل فيها الـملكوت، وها هو يستمر فاتحًا ومُشرعًا أمامهم وأمام الجمع، أبواب الـملكوت قبل إتمّام سرّه الفصحي. يفتح الإنجيلي مجالاً جديداً أمامنا حيث يكشف عن كلام وأفعال يسوع بالشفاء، هذا هو الـملكوت الّذي يفتح أبوابه أمام من يقبل رسالة يسوع.
أمام طلب التلاميذ غند غروب الشمس بصرف يسوع كمعلّم الجموع، إلّا أنّ يسوع يفادئهم بطلب غريب قائلاً: «أَعطوهُم أَنتُم ما يَأكُلون» (لو 9: 13). وهنا بدأ التلاميذ مثلنا في تقديم الأعذار والحجج بسبب فقرهم وعدم إمكانيتهم الـماديّة. قد فتح أبواب الـملكوت أمامهم ورأوا يسوع يقوم بأعمال إعجازيّة من شفاءات لـمَن هو في إحتياج، ولكن عدم فهم التلاميذ وعدم وعيّهم بحقيقة معلمهم أغلقت أذهانهم عن اللجوء إليه وطلبهم ليتدخل بقدرته الفائقة الطبيعة، فكيف لهم أنّ يقودوا آخرين ليعرفوا طّريق الـملكوت!
التلاميذ فقراء ليس ماديًا ولكن علائقيًا أيضًا إذ يجهلوا، كحالنا، يسوع رجل الـملكوت. وبالرغم من ذلك نجحوا في تقديم ما لديهم له قائلين: «لا يَزيدُ ما عِندَنا على خَمسَةِ أَرغِفَةٍ وسَمَكَتَيْن» (لو 9: 13). مدعويّن بتقديم القليل الّذي لدينا دون أن نخشى هل يكفي أم لا، فيكفي تقديمه للرّبّ ومشاركتنا به.
4. الملكوت على الأرض (تك 14: 18- 20؛ لو 9: 11- 17)
على منوال أبرام الّذي قدم العشور لكاهي العليّ ملكيصادق، تأتي مبادرة التلاميذ بتقديم ما لديهم للرّبّ حيث نحن أمام عدد كبير من الجمع بقدّر بـخَمسَةِ آلافِ رَجُل. وهنا يأتي الـملكوت على الأرض، بتدخل يسوع، لا يمطر الله الـمّنّ من سمائه (راج خر 16) بل أرسل إبنه مبشراً ومُعطيًا الـملكوت حيث: «قالَ لِتَلاميذِه: "أَقعِدوهُم فِئَةً فِئَةً، في كُلِّ واحِدةٍ مِنها نَحوُ الخَمسين". ففَعلوا فَأَقعَدوهُم جَميعاً. فأَخَذَ الأَرغِفَةَ الخَمسَةَ والسَّمَكَتَيْن، ورَفَعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماء، ثُمَّ بارَكَها وكَسَرَها وجَعلَ يُناوِلُها تَلاميذَه لِيُقَدِّموها لِلْجَمع» (لو 9: 14- 16). هذا هو جوهر إحتفالنا بسرّ القربان، التدخل الإلهيّ مستمر بالرغم من فقرنا أم قلة ما لدينا. الـملكوت الّذي ننعم به في سرّ القربان هو لا يعتمد علينا فهو عطيّة ونعمة من يد الرّبّ. البركة الّتي إستبقها مليصادق تجسدت في تبريك يسوع للخبز والسمك، فتمّ إكثاره ببركة إلهيّة. مدعويّن لقبول هذا الـملكوت الّذتي يتجسد في حضور يسوع الحيّ في سرّ القربان والّذي من خلاله يُدخلنا في ملكوته ونحن لازلنا بعد على الأرض.
يختتم الإنجيل هذا الحدث مشيراً بالشبع بل والكثرة قائلاً: «فأَكَلوا كُلُّهم حتَّى شَبعوا، ورُفِعَ ما فَضَلَ عَنهُمُ: اثنَتا عَشْرَةَ قُفَّةً مِنَ الكِسَر» (لو 9: 17). في حضور الرّبّ، هناك الشبع والشفاء والغفران... الخ. هذا هو ملكوتنا الحقيقي أنّ نتمتع بعلاقتنا بالرّبّ ندرك فيها أنّ حضوره هو الغنى الّذي لا يوصف وهو الـملكوت الـمُتجسد من أجلنا ليفتحنا على حياة الله الآب. مدعويّن أنّ نُمارس أسرارنا الكنسيّة بوعيّ ونهتم بأنّ يسوع، إنسان الـملكوت، لازال يحمل الـملكوت من خلال جسده الـمُقدس في سرّ القربان الّذي نحتفل به في هذا الأسبوع.
الخلّاصة
تطرقنا سفر التكوين بالعهد الأوّل (تك 14: 18-20) حيث ناقشنا حوار أبرام مع مليصادق الّذي بالرغم من غموض شخصيته إلّا إنّه كشف عن الـملكوت وعن دور يسوع بشكل إستباقي. الـملكوت على الأرض (لو 9: 11-17) هو قبولنا كبشريين التدخل الإلهي في تاريخنا البشري حيث نعيش حياتنا الأرضيّة وندرك عظمة وقوّة الله الّذي يكشف عن ملكوته في ابنه الّذي يقدم في كلّ ذبيحة إلهيّة سرّ حبه ويفتحنا على الـملكوت، فنعيش الـملكوت ونحن على الأرض. في كل مرة نتناول من سرّ القربان، ننفتح حقيقة على الـملكوت ويهمس يسوع من جديد في آذاننا قائلاً: «أَنتُم أُعطيتُم أَن تَعرِفوا أَسرارَ مَلكوتِ الله» (لو 8: 10).