موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٣٠ أغسطس / آب ٢٠٢٤

"لا للإزدواجيّة" بين كاتبّي سفر التثنيّة والإنجيل الثاني

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (تث 4: 1- 8؛ مر 7: 1-23)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (تث 4: 1- 8؛ مر 7: 1-23)

 

الأحد الثاني والعشرون من الزمن العادي (ب)

 

مُقدّمة

 

في سلسلتنا الكتابيّة بهذا المقال الإسبوعيّ، والّذي يحمل الجديد لحياتنا ولإيماننا. نسعى كمؤمنين اليّوم أنّ نحيا ما نصليّه. وقد نجد بعض الصعوبات. لكن على ضوء نصيّ هذا الأسبوع سواء  من خلال كلمات كاتب سفر التثنيّة بالعهد الأوّل من خلال بعض آيات من خطاب موسى الأوّل (تث 4: 1- 8) الّذي يهدف إلى التوقف ليس فقط اليّوم بل الآن. فهي دعوة مُلّحة لنحيا ما نسمعه هذا من جانب العهد الأوّل. أما بالنسبة لكلمات يسوع بحسب إنجيل مرقس (7: 1- 23) فهي ستؤكد بشكل فعّال ما يدعو إليه موسى وهو إعلان موقفنا كبشر من الرياء وإنفصام الحياة عن الصلاة. كل هذا يدعونا للتوصل لهدف مقالنا وهو قول لا للإزدواجيّة سواء الّتي قد نقع فيها عن جهل أم بوعي دون إتخاذ موقف. لذا تأتي من جديد هذه الكلمات على مسامعنا لتحفزنا ولتبثّ فينا قرار اللإزدواجيّة على ضوء ما سنتعمق فيه بالنصيّن.  

 

 

1. السمع قبل الطاعة (تث 4: 1- 8)

 

يعرض علينا كاتب سفر التثنيّة، وهو آخر كتب الشريعة، أهميّة الإصغاء، كمحطة جوهريّة في العلاقات بدلاً من الدخول في جدالات عقيمة. لذا هناك زمن الكثير من أفعال والّتي يليقها موسى على الشعب بصيغة الأمر بالنص، حيث يأمر موسى بالسمع الجيد وبتكرار ما نسمعه من كلمات إلهيّة دون إضافة أو حذف لأنه سيصير ميراثه الّذي يسلّمه لبني إسرائيل فيقول:

 

الآن يا إِسْرائيل، اِسمعِ الفَرائِضَ والأَحْكامَ الَّتي أُعَلِّمُكم إِيَّاها لِتَعمَلوا بِها، لِكَي تَحيَوا وتَدخُلوا وتَرِثوا الأَرضَ الَّتي يُعطيكمُ الرَّبَّ إِلهُ آبائِكم إِيَّاها. لا تَزيدوا كَلِمةً على ما آمُرُكم بِه ولا تَنقصوا مِنه، حافِظينَ وَصايا الرَّبِّ إِلهِكمُ الَّتي أَنا أُوصيكُم بِها [...] وأَمَّا أَنتُمُ الـمُتَعَلِّقونَ بالرَّبِّ إِلهِكم [...] إِنِّيَ قد عَلَّمتُكم فرائِضَ وأَحْكامًا كما أَمَرَني الرَّبّ إِلهي، لِتَعمَلوا بِها في وَسَطِ الأَرضِ الَّتي أَنتُم داخِلونَ إِلَيها لِتَرِثوها. فاحفَظوها واعمَلوا بِها، فإِنَّها حِكمَتُكم وفَهمُكم [...]. لأَنَّه أَيَّةُ أُمَّةٍ عَظيمةٍ لَها آِلهة قَريبةٌ مِنها كالرَّبِّ إِلهِنا في كُلِّ ما نَدْعوه؟ وأيَّةُ أُمَّةٍ عَظيمةٍ لَها فَرائِضُ وأَحْكام بارَّةٌ ككُلِّ هذه الشَّريعةِ الَّتي أَضَعُها اليَّومَ أَمامَكم؟ (تث 4: 1- 8).

 

توصيات موسى للشعب من خلال لفظ البدء "الآن" ولفظ "اليّوم" كختام لهذا الجزء يقدموا لنا هدف الكاتب في رغبة موسى في تسليّم من تسلّمه من الله. تلك الآيات لا تتعلق بترك موسى ميراثه من أراضي وأموال بل يسلّم  الشعب كنزه وهو نعمة التواصل بالله من خلال السمع. وفعل يسمع Shama’ من العبريّ لا يشير فقط للسمع الجسدي من خلال عضو الأُذن جسديًا بل الآن واليّوم مدعوين للدخول بعمق في معنى لفظ يسمع مه الأصل العبري وهو ما يشير لطاعة ما يتم سماعه من كلمات إلهيّة. فالكلمة الإلهيّة لا تقارن بالكلمة البشريّة بسبب ثقلها ومكانتها وقوتها. لذا يؤكد بأنّ السّمع لكلمات الرّبّ من خلال كلمات الشريعة، هو فعل ضروري لأنّ مَن يستطيع تطبيق ما يسمعه في حياته يتمكن من أنّ يحيا حياة مُوحدة بين ما تعلنه شفتيه مع ما يحمله قلبه، أي الوحدة واللإنقسام بين ما يتم سماعه وما يتم معايشته، كما سنرى في كلمات يسوع بحسب مرقس.

 

 

2. الـمُواجهة (مر 7: 1- 8)

 

على ضوء كلمات كاتب سفر التثنيّة يضع يسوع سلسلة من التناقضات الشهيرة في خطابه هذا بحسب مرقس الإنجيلي (مر 7: 1ت) وهم الشفاه والقلب، الظاهر والباطن، الخارج والداخل، وصية الله وتقاليد البشر، ... إلخ. إذ نقرأ قول يسوع في حدث مُعاش يقول: «اجتَمَعَ لَدَيه [يسوع] الفِرِّيسِيُّونَ وبَعضُ الكَتَبَةِ الآتينَ مِن أُورَشَليم،  فرَأَوا بعضَ تَلاميذِهِ يَتناوَلونَ الطَّعامَ بِأَيدٍ نَجِسَة، أَيْ غَيرِ مَغْسولة [...] إِنَّكم تُهمِلونَ وصِيَّةَ الله وتَتمَسَّكونَ بِسُنَّةِ البَشَر» (مر 7: 1- 8). قد تبدو هذه الكلمات الّتي وضعها الإنجيليّ على لسان يسوع للوهلة الأوّلى إدانة لما هو سطحيّ ولا يتطابق بما هو في صالح القلّب أي العالم الداخليّ. في واقع الأمر، نختبر جميعنا أنّ حياتنا ليست مجرد حياة داخليّة، بل إنّ علاقتنا مع الآخرين ما هي إلّا إنعكاس لما نعيشه في علاقة حيّة مع الله. إذ ليس لنا حياة ولن تتحقّق حقيقة حياتنا دون أنّ يظهر بالخارج ما يتجسد بالخارخ في علاقتنا البشريّة وعلاقتنا بالإشياء أيّ الخيرات الماديّة.

 

تحمل كلمات يسوع معنى خاص لنا كمؤمنين اليّوم. فإذا قرأنا النص الإنجيليّ هذا بعناية، نفهم أنّ يسوع لا يديّن أحد ولا يشير بأصبعه إدانة منه، كاشفًا عن أهميّة أي بُعد عن آخر من أبعاد الحياة. ففي الواقع، يسوع لا يفصل وجود الإنسان المؤمن إلى قسمين خارجيّ وداخليّ، أو روحيّ وماديّ. لمّ تعرف الكتب المقدسة والثقافة اليهوديّة في زمن يسوع هذه الثنائيات المتناقضة. لذا يدعونا يسوع كسامعيه اليّوم إلى مقاومة وتغلّب على كلّ إنقسام وكلّ إزدواج يجعل الإنسان مُنقسم على ذاته من خلال مواجهة الذات. هذه المواجهة تتم بناء على كلمة الله وليس بناء على كلمات البشر.

 

 

3. لا للإزدواجيّة (مر 7: 14- 15. 21-23)

 

إقتباس الإنجيلي مرقس من نبؤة اشعيا واضعًا إياها على لسان يسوع مُؤكداً في قوله: «هذا الشَّعبُ يُكَرِمُني بِشَفَتَيه وأَمَّا قَلبُه فبَعيدٌ مِنِّي. إِنَّهم بالباطلِ يَعبُدونَني فلَيسَ ما يُعَلِّمونَ مِنَ المذاهِب سِوى أَحكامٍ بَشَرِيُّة» (مر 7: 6- 7؛ راج اش 29: 13). هذا القول يجعلنا نفهم معنى الإزدواجيّة الداخليّة حقًا وهو ما يجعلنا منقسميّن القلب. في الواقع، تمجيدنا الله بالشفتيّن ما هو إلّا نشاط سطحيّ وخارجي، لذا يدعونا الإنجيليّ إلى ضرورة توحيد شفاهنا بما يحمله قلبنا. لذا الدينونة الحقّة هي حينما يحكم الإنسان مستقبلاً على ذاته حينما يفصل بين بُعديّ حياته الإنسانيّة الّتي يشير إليهما كعضويّن من جسده وهما القلب الّذي بحسب الفكر اليهوديّ هو مكان الإصغاء والقرار؛ والشفاه الّلاتان تصيرن مكانًا للتواصل وللصلاة. وفي هذا الوقت بالتحديد نسمع صوت يسوع داعيًا إيانا للإصغاء قائلاً: «أَصغوا إِليَّ كُلُّكُم وافهَموا: ما مِن شَيءٍ خارجٍ عنِ الإِنسان إِذا دخَلَ الإِنسانَ يُنَجِّسُه. ولكِن ما يَخرُجُ مِنَ الإِنسان هو الَّذي يُنَجِّسُ الإِنسان". [...] والزِّنى والطَّمَعُ والخُبثُ والمَكْرُ والفُجورُ والحَسَدُ والشَّتْمُ والكِبرِياءُ والغَباوة. جَميعُ هذِه المُنكَراتِ تَخرُجُ مِن باطِنِ الإِنسانِ فتُنَجِّسُه"» (مر 7: 14- 23). ومن هنا تأتي دعوة يسوع لنا اليّوم بالإستقامة إذ لا يتعلق خطاب يسوع في هذا النص المرقسيّ بالإزدراءً لكل ما هو خارجي في الحياة البشريّة والجسديّة، بل كلمات يسوع تحمل دعوة قويّة للحفاظ على سلامة ووحدة الشخص البشري دون إنقسامه. ينظر يسوع إلى كلّا منا كمؤمنين سائرين بشكل يتميز بإستقامة القلب مع ما تعلنه الشفاه. هذه هي الطريقة الكتابيّة للتفكير في الإنسان من الناحية الأنتروبولوجيّة. فالإنسان لا يتكون من أعضاء منفصله (جسد ونفس، داخلي وخارجي)، بل هو في كينونته وحدة متكاملة ومؤلفة ليصير إنسانًا.

 

يشير لفظ المرائيّين بهذا للنص إلى تفسير جديد، حيث يدعو يسوع محاوريّه الـمُرائيين، بسبب إنقسام باطنهم عن خارجهم إلى التحرر من هذا الإنقسام بل السعي لتوحيد باطنبه بخارجه. والحقيقة أنّ الـمُرائي هو الّذي يرتدي القناع الّذي يتناسب مع المكان أو الوضع أو الشخصيات الّتي يتواصل معها. فهو الشخص الّذي يعاني من إنقسام فيما بين باطنه وخارجه، أي بين ما يشعر به وما يفعله وما يعتقده أو يفكر فيه.

 

 

4. إنهزام الريّاء (مر 7:  1- 23)

 

يقدم لنا يسوع، من خلال هذا الخطاب التحذيري اليّوم، تفسيرين للتغلّب على خطر الرياء والإنقسام. مدعويّن، قبل كل شيء، بحسب التفسير الأوّل: أنّ يعلو نظرنا حول الإنتباه إلى الله وسماع قوله ليّ ولك. إنّ ما يُوحد حياة الإنسان وينقذه من الإنقسام هو أن نكون حُراس على كلمة الله كنعمة لا ينبغي التلّاعب بها أو إستغلالها لينهزم ريائنا البشري، بل يجب الإهتمام بكلمة الله والإستعداد بقبولها دائمًا من جديد. مدعويّن لنصير حُراس الكلمة الإلهيّة. هذا يعني وقبل كلّ شيء إنّه لا يتوجب علينا نسيانها، إنّها كلمة اللههذا الكلمة هي الّتي تأتي منه وتجعلنا نصير مثله ونتحول إليه. إذا نسينا الله، أو تناسينا وإذا إستبعدناه من أُفق حياتنا بجهل أو بوعي، يصبح إيماننا مجرد تنفيذ لمبادئ قد تفقد معناها.

 

بحسب التفسير الثاني يدعونا يسوع إلى الإنتباه بالإنسان. علينا أنّ ننتبه إلى قلوب النساء والرجال مِن حولنا، لأنّه مِن هذا الإنتباه، الّذي هو بمثابة المكان الّذي تُسمع فيه الكلمة ويتم إتخاذ القرارات، يخرج منه كلّ إنقسام ممكن.

 

إذن الإنتباه والإهتمام بالله وبالإنسان معًا مِن قِبلنا كمؤمنين اليّوم، يجعلنا نرتكز على حفظ وصايا الله وقلب الإنسان في ذات الوقت. هذا هو ما يعنيه يسوع بحفاظنا على رّوح الوحدة بين حياتنا الخارجيّة والداخليّة. يصيران هذين التفسيرين وسيلة تُنقذنا من الوقوع في فخ رذيلتي الإنقسام والرياء. من خلال هذا الوصف نجد أنّ رأيّ يسوع يقدم لنا معنى حقيقي عن التقليد مما يشير بأنّ كلامه لا يناقض التقليد الّإ إنّه يحفظ التقليد من الرياء الّذي هو ثمرة حياة الإنسان الـمُنقسم. كلمات يسوع تُحذر من تلك التقاليد الّتي هي ثمرة الرياء والإنقسام، لأنّها لا تعير أي إهتما سواء بالله أم بالإنسان. إلّا أنّ التقليد الحقيقي هو الّذي يعرف كيف يحافظ على هذا الإهتمام والإنتباه المزدوج؛ إنّه ليس شيئًا ثابتًا يأتي من الماضي، بل هو شيء حيّ يتجدد دائمًا من خلال الإنتباه لله وللإنسان في ذات الوقت.

 

 

الخلّاصة

 

بين السمع ومعايشة ما يتم سماعه هناك فراغ كبير، وهذا ما ألحّ عليه سواء كاتب سفر التثنيّة (4: 1- 8) ويسوع بحسب مرقس (7: 1- 23). لا للإزدواجيّة هو قراري وقرارك، متى إستمعنا الآن واليّوم لقول يسوع الّذي يحررنا مما هو مزدوج ومما هو مُرائي. مدعويّن للإستماع ليس بالأذن الخارجيّة بل بالأذن الباطنيّة الّتي تكشف ريائنا وفي ذات الوقت تحررنا لنحيا ما نسمعه. دُمتم في التحلّي برّوح الوحدة ولنقل ونعيش لا للإزدواجيّة سواء بالباطن أم بالخارج.