موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٩ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢١

لا تَستطيعونَ أن تَعبدوا رَبّين

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الأب فارس سرياني، كاهن رعيّة سيدة الورديّة - الكرك

الأب فارس سرياني، كاهن رعيّة سيدة الورديّة - الكرك

 

لا صالِحَ إلّا اللهُ وحدَه! إذا كان لا صالح إلّا الله فَقط، فَهَل هذا يَعني أن لا صالِحينَ بينَ بَني البشر؟ وأنَّ قُدْرَتَنا على الصّلاحِ وَفُرَصَنا فيه مَعدومة، ومحاولاتِنا مَصيرُها الفشل؟! لا صالِحَ إلّا اللهُ وحدَه، بِصِفتِه الصّلاح الْمطلق والكامل غير الْمنقوص. وفي الوقتِ عَينِه، كلُّ مُؤمنٍ في سَعيِهِ نحوَ الصّلاح، يَستمِدُّ صَلاحَهُ من الله، مَصدرِ كلِّ ما هو صالح. ولكنَّ سَعيَنا نحوَ الصّلاح، يظلُّ غيرَ مُكتَمِلٍ، لأنّنا مُتَسربِلون في الضّعف، وعرضةٌ للسّقوطِ الْمُستَمرِّ في الخطأِ، الّذي يُنافي جَوهرَ الصّلاح! فإذا كان "البارُّ يَسقُطُ سَبعَ مرّاتٍ وَيَنهَض" (أمثال 16:24)، كما يذكرُ الكتاب، فَكم بالأحرى نحنُ الّذينَ لا نزالُ نَسعى جاهدين، للوصولِ نحوَ درجةٍ مَقبولة على الأقل مِنَ البَرارةِ والنّقاوة؟!

 

هذا الغَنيّ، كانَ إنسانًا يَسعى نحوَ الصّلاح. ولكنّه اصِطدمَ بعائِقِ غِناه الْمُتَأتّي من أَمْلاكِه، عِندما وُضِعَ أمام اختبارٍ صعب، يُحَتِّمُ عليه اختيارًا مصيريًّا وقَرارًا جذريًّا. فإذا ما أردتَ بلوغَ الصّلاح، وَوِرثةَ الحياةِ الأبدية، عَليكَ أن تُضحّي في سبيلِ رِبحِها وَلأجلِ بلوغِها. وهذا ما أوصلَ صَديقَنا الغَني إلى طريقٍ مَسدود، منذ الّلقاءِ الأوّلِ مع المسيح، لأنّه لم يَعتَد التّضحيةَ بمالِه وأملاكِه، وَمصدرِ أَمانِه واستقرارِه، "فانصرف حزينًا لأنّه كانَ ذا مالٍ كثير" (متّى 22:19).

 

صاحبُ المالِ مهموم. وأيضًا مَن لا يملِكُ المالَ مهمومٌ ومُضطَرِب. فَالْمال يعني اِستقرارًا وأمان، يعني سلطةً وقوةّ، يعني قُدرةً إذْ يوفّر لكَ كثيرًا من الملذّات، ويحقِّقُ جَمًّا من الرّغبات. ونحن نَسعى لأجلِ الحصولِ على هَذهِ القوّة، ونريدُ دومًا الاسْتِزادَةَ منها، ونركنُ إليها. لذلك صعبٌ جِدًّا أن نُضَحّيَ بأسباب قوّتِنا، معتمدينَ فَقط على "الله". وَهَكذا يُمكِنُنا أن نفهمَ ردّةَ فِعلِ هذا الغَني، لأنّها ستكون ردّةُ فعلِنا الطّبيعيّة. وأيضًا نَستطيع أن ندرِكَ كلامَ يسوع، بِأنْ لا إنسانَ يستطيعُ أن ينصرِفَ لِخدمةِ رّبّين اِثنين، فإمّا الله، وإمّا غِناكَ ومُلحقاته! (لوقا 13:16).

 

تقولُ القِصّة أنّ كاهِنًا ذَهَبَ إلى فُلانٍ، يَدْعوه لحضورِ صلاةِ الأحد والاشتراكِ في القدّاسِ الإلهي. وكانَ هذا الأخير صاحبَ دُكّانٍ يعتاشُ مِنها. فجاءَ رَدُّهُ على دعوةِ الكاهن: وهل رَبُّكَّ الّذي سَأُصلّي إليه، يُعوِّضُني عن القِرشِ الّذي سَيضيعُ مِنّي في هذهِ السّاعة، عِندما أُغلِق دُكّاني؟!

 

وَقِس على هذا المثال أمثلةً كثيرة وَواقعيّة، من صميمِ حياتِنا اليوميّة، تُبيّن لَنا كَم أنَّ حُبَّ المال والتَّعلّقَ بِه، مُسَيطِرٌ على الأغلبيّة، حتّى بَينَ الْمُصَلّين. وكيفَ أنّ اللهَ هو في قَاعِ اهتماماتِ كثيرين. فالعبادةُ لَن تُنْزِلَ عَليهم دراهمًا ولا أرغفةً من السّماء، كَما يَعتَقِدون، لذلِك لا فائدةَ ولا طائِلَ منها، بالنّسبةِ إليهم!

 

جَلستُ مع شخصٍ سَيّدةٍ لها ابنةٌ تَعملُ في مَكانٍ يَدْخُلُه أموالٌ كثيرة. وَحَدّثَتني كَيف أنَّ ابْنَتَها وَصَلَت لِدرجة، فَقدَت فيها الإحساسَ بالمال، لكثرةِ ما تَعامَلَت فيه قِيمَةً وكَمًّا، وأنّها صَارَت مجرّدَ أوراقٍ تَلمِسُها وأرقامٍ تَعُدّها! ولكن، مَن مِنّا لا يرغبُ بأن يكونَ صاحبَ أوراقٍ أكثر، محاوِلًا دومًا جَنيَ أرقامٍ أَعلى وأعلى؟ والأسوءُ والأبشع، عندما يَدّعي أَحَدُهم بِأنّه لا يملِك، ويريدُ النّيلَ أو الاستحواذَ أو حتّى المشاركة، في حصّة الفقيرِ الّذي فِعًلا لا يملِك. هو الطّمع!

 

لذلك إيّانا أن نلومَ أو نَنتقِدَ أو نحكمَ على هذا الرّجل في الإنجيل، مُدَّعين أنّه رفضَ يسوع، وَازْدَرى النّصيبَ الأفضل. فنحنُ جميعًا سَنتّخِذُ، أو على الأقل سنكون مُؤهّلينَ ومُعرّضينَ لاتّخاذِ نَفسِ تَصرّفِه وردّةِ فِعلِه. فالْمالُ وإن كان خادِمًا جَيّدًا، إلّا أنّه يظلُّ سَيّدًا ظالِمًا. فَسُدْ عليه خير لك مِن أن يسودَ عَليك. اسْتعبِده خير لكَ مِن أن يَستعبِدَك. وَظِّفهُ خيرٌ لكَ مِن أن يُوظّفَك، وأحيانًا بِطُرقٍ غيرِ مشروعة، وَلِكَسبٍ حَرام.

 

بعدَ انتهاءِ مَلحمةِ الحبّ، بفشلٍ ذريع، كونها كانت مِن طرفِ المسيحِ فقط كما يَبدو. نَرى مشهدَ بُطرس يُخاطِبُ المسيحَ قائِلًا: "هَا قَد تَرَكنا نَحنُ كلَّ شيءٍ وَتَبِعناك"، وفي بشارةِ متّى يقول أيضًا: "فَمَاذا يكونُ مَصيرُنا؟" (متّى 27:19). من كلامِ بطرس هذا نَستنتِج أوّلًا أنَّهُ يَبحثُ عن ضَماناتٍ. فَهو في مَوقِفِه هذا، تمامًا كالرّجلِ الغَني، إن لم يَكُن أسوء! فَمَع أنّه تَركَ كلَّ شيء كَما يَدّعي، إلّا أنّه يُطالِبُ بتعويضاتٍ تَفوقُ الّذي تَرَكَه، كَمَثَلِ الرّجلِ صاحبِ الغِلالِ الوفيرة، الّذي هَدمَ أهراءَه ومَخازِنَهُ، فقط لكي يَبنيَ أكبرَ منها (راجِع لوقا 16:12-21). فَبُطرس هنا لا يزالُ مُتعلّقًا بكلّ شيء، ويتعاملُ مع المسيحِ بعقلية (الْمُستَثمر الرّأسمالي). فينظرُ إلى المسيحِ طامِعًا به، كاستثمار يَدرُّ عَليه أرباحًا أكبر. أمّا الاستنتاجُ الثّاني، وهو الأسوء في نظري، أنَّ كلامَهُ هذا يحملُ شيئًا من (الْمُعايرة)! فَكَأنَّ بطرس بِشكلٍ مُبطّن يُعيّر المسيح و(يُحمِّلُهُ جميله)! فأنا تركت مِن أجلكَ كلَّ شيء يا يَسوع، فَاحفَظ ذلِك جيّدًا ولا تَنسى!

 

من أسوءِ أَنواع الْمُعطيين والْمانِحين، هو ذاكَ الّذي يحاولُ أن يُملي الشّروط، مُنْتَهِجًا سياسةَ (لَيّ الذّراع). تَراه يُعطي ويتبرّع أو حتّى يدعو لِوَليمة، ولكنّه عَطاءٌ مَشروط! فَعَينُه على فَائدةٍ مُعيّنةٍ تَصبُّ في صَالِحِه. فالحذرُ والْيَقظةُ والقراءةُ بين الأسطر، أَمرٌ واجبٌ وبِشدّة، قبلَ أن تأخذَ العطايا وتَقبلَ الهِبات، خصوصًا عندما تكونُ في مَوقعِ مَسؤوليّةٍ وسلطةٍ وخِدمةٍ عامّة.

 

فالعطاءُ الّذي قَد يُقَيّدُكَ، خيرٌ لكَ أن تَرفضَهُ وتُبْقيه عندَ صاحِبِه، على أن تصبحَ عبدًا لَه. والعطاءُ الّذي سَيُثقِلُ كاهِلَك، وَسَيُتعبُ قَلبَك، ويَضغطُ على صدركَ، خيرٌ لكَ أن تَرُدَّهُ لِصَاحِبه مُضاعِفًا، أو أن تمتنِعَ عن قبولِه مِن البداية، فَعافيةُ قلبِكَ وراحةُ بالِكَ أَهم. وإن كان أحدُهم سيُعطيكَ مَا يَكفي لِبِناء كنيسة أو مدرسة، ولكنّه سيُحمّلك (جمائل) تكسر ظهركَ وَتَحني هامَتَكَ إلى الأرض، فَأعطِه فائدة على ما سَيُقدّم 9.5%، وَأَبقِ ظهركَ منصوبًا ورأسَك مرفوعًا. فَمن نظرَ إليكَ بعينٍ أُنْظر إليهِ باثْنَتَين.

 

نحن كَعرب نَتغنّى بالكرمِ والسّخاء والجود وإكرامِ الضّيف وتقديم الطّعام، خصوصًا للكاهن. ولكن مع كلِّ أَسف، لا نُقرُّ بأنَّ مُعظَمُها عَطايا مَربوطة ومرصودة ومؤجّلَة إلى أنْ يَحينَ الوقت، وغير مجّانية، بل قَد تُسبّب حرجًا يومًا لِمَن يَقبَلها.

 

لِذلِكَ، صَدَقت العربُ لِمّا قالِت: كل شيء قرضة ودين، حتّى الدّمعة في العين! فَمَيّز وَفَكّر قبل القبولِ والأخذ. فَإن كُنتَ سَتَأخذ فَقَدّم شَيئًا في مقابلِ ما أَخذت. وإن كنتَ ستأخذ فَخُذ لهدفٍ عام، لا لهدف شخصي. فالْحُرّيةُ تاجٌ على رؤوسِ الأحرار، وأجْنِحةٌ بها نُحلّق صوب العِلاء.