موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٥ يونيو / حزيران ٢٠٢١

كَما أنا أَحبَبتُكم

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الأحد السادس بعد الفصح (الإنجيل يو 15: 9-15)

الأحد السادس بعد الفصح (الإنجيل يو 15: 9-15)

 

الإخوةُ والأخواتُ الأحبّاء في المسيح يسوع. نُكمِلُ في هذا الأحد، الحديثَ عن تلكَ الفكرةَ الّتي بَدَأناها الأسبوعَ الماضي: "أَحِبّوا بعضُكم بعضًا!". هَل نَستطيعُ أَن نحبَّ جميعَ النّاسِ بِنَفس الْمِقدَار والطّريقة؟ وَنحن نَعلم أنَّ الآباءَ والأمّهاتِ أحيانًا كثيرة في بيوتٍ كثيرة، لا يكادونَ يحبّون أولادَهم، من الصُّلبِ والرّحم الواحد، بنفس المقدارِ وبذاتِ الطّريقة، فَيزرعون حسدًا وعداوةً بين الإخوة، تدوم وتدوم؟

 

فَكيفَ لنا نحنُ الْمُختَلِفين في مَنابِتِنا وَأُصولِنا وتَربيَتِنا وعوائِلنا، وَأَخلاقِنا وعَقليّاتِنا وشَخصيّاتِنا، وطُرقِ تَفكرينا واختلاف رُؤانا ومَناهِجنا، أن نُحبَّ بعضُنا بعضًا؟ ذلك صعبٌ للغاية! خصوصًا عندما تَصطَدِمُ الرّؤى، وتَختلِف طُرق التّفكير، وَتَتولّد النّزاعات. فالمحبّة الصّادِقة تحتاج إلى جهدٍ كبير لِكَي تُبنَى، أمّا الخصومةُ فَبرميلٌ من البارود وبحرٌ من البنزين، تُشعِلها أَدنى شرارة!

 

مع كلّ أسف، نحن شعوبٌ ترَبّت على إيجاد الفُروق لا القواسم الْمشتركة! شعوب تتغذّى على إشعالِ الصِّراعات وإذكاءِ الخصومات فَيما بينَها. صراعاتُ القبائل على مناطقِ النّفوذ، صراعاتُ الإخوة على حِصص الْميراث، صراعات العائلات على الزّعامةِ والصّدارةِ الاجتماعية، دون أن نَنسى الصّراعات القائمة على أساسٍ ديني ومَذهبي، وآَخرها ما تَفَضّلت به "مشكورة" أمانة عمّان الكُبرى! والّذي ينمُّ عن فكرٍ دَميمٍ شَنيع متغلغِل في الْمِخاخَ والْمَفاصِل، يحاول خُبراءُ التّجميل تجميلَه، لَكن دونَ جَدوى، فَسُرعان ما يَظهر قُبحُهُ، وتُفضَحُ عَورتُه أمامَ الملأ!

 

المحبّة في عَالَمِنا هي مِثاليّاتٌ مِيتافيزيقيّة، من عالم ما وراء الطّبيعة. أَمّا الواقع السّائِد فَتَجِدُه خَليطًا من الكَراهيةِ والأحقادِ الدَّفينة والظّاهرة، والبُغضِ والحسد، والخصومةِ والْمَقت، والظّلمِ والافتراء، والعداوةِ وهَضم الحقوق، والخداعِ والْمَكر، دونَ أن نَنسَى المجاملات الصَّفراء!

 

المحبّةُ الصّادقة هي تِلك القادرة على العَطاء والبَذل والتّضحية، بمجّانية وحرّية دون انتظار مقابل. لذلك، وَجَبَ التّمييزُ بين المحبة، وبين الواجِب والمنفعة والمصلحة المتبادلة، فَهَذِه أصبَحت تجارة ومُقايضةً لا محبّة، وهنا تنطبق الأمثال الشّعبيّة القائِلة: (حِكِّ لي تَ أَحكّ لك) و(كل شيء قُرضة ودين، حتّى الدّمعة في العين). المحبّةُ الصّادقة هي تِلكَ القَادِرة على صُنع المعروفِ حتّى في غيرِ أَهلِه! وحتّى لو لَم تَلقَى منهم سِوى الإجحاف ونُكران الجميل، أو تَبخيسًا لقيمةِ العمل، أو مُقابلةً للمحبة بشرٍّ وسوء ظَن!

 

بكلّ صراحة، ما يجمعُ السّوادَ الأعظمَ من النّاس، ليسَ المحبّة الّتي يُنادي بها المسيح، إنّما مجموعة علاقاتٍ إنسانيّة، قائمة على ظروف ومواقِف. فإذا ما كانت الظّروف جيّدة والرّغباتُ مُلَبّاة، والرّياحُ تجري لصالحِ الفَريقين، كانت العَلاقات طَيّبة وَودّية. وإذا ما تَبدّلت الْمواقف، وصارت الرّياحُ مُخالفة لِفريقٍ من الفَريقَين، عِندَما تختلِف الرّؤى ووجهات النّظر، حينَها تَقوم الصّراعات وتَتلاشَى العَلاقاتُ الطّيبة، لِيَغدو الكريم لئيمًا، والْمَدح يُصبِحُ ذمًّا، والمصافحةُ تُمسي قَدحًا وتشويهًا، وَلِتَحُلَّ مكانَ الْمَودّة، أحقادٌ وضغائن عَلنيّة وباطنيّة، وهمزٌ ولَمزٌ، في السّرِ أكثر منه في العَلن!

 

المحبة أَصبَحت في كثيرٍ من الظروف نِسبيّة، فَهي تَختلف باختلاف الأشخاص، وباختلافِ أساليبِهم وردّات فعلِهم، وباختلاف الأبوابِ الّتي يدخلون منها! المحبّة قَضيّة مُتَأَرجِحة، أحيانًا تصعد وأُخرى تهبط، وتارَة إلى اليمين وتارة إلى الشّمال. اليوم قد تكون محبوبًا عند فئة، وَغَدًا قد تصبح مكروهًا لَديها ومن ألدّ أَعدائِها. فما يحكُمنا اليوم هي النّسبيّةُ والظّروف، وليسَ الْمَبادِئُ والْقِيَم، مع كلّ أسف!

 

بالرّغم من هذهِ الصّورة القاتِمة والبَشِعة، مع أنّها واقعية دونَ تكحيل وبِلا تجميل، يَبقى المسيح مِقياسنا في المحبّة. فنحن نُحبُّ بعضُنا بعضًا "كَما هو أَحبَبَنا". وَمَحَبّتُه لنا عظيمة جدًّا، لا يَكفيها وصفٌ، ولا يُحيطها إدراك! محبّته عادِلَة دون تمييز. محبّته مجّانية دون مقابل. محبّته حرّة دون قيود وبلا فوائِد. محبّته معطاءَة حتّى أقصى حدودِ التّضحيةِ وبذلِ الذّات في سبيل الأحبّة أَجمَعين. محبّته لا غطرسة فيها ولا فَوقيّة ولا كبرياء، فنحن أحبّة لا عبيد. محبّتُه تَعني فرح وسلام، والأهم هي رسالة لأن نَنْطَلِق وَنثمِر، فنحن أغصانٌ في هذه الكرمة، ودعوتُنا أن نثمر ثمار الكرمة، الّتي هي خيرٌ وَصَلاحٌ للجميع، حتّى لِمَن أساءَ واعتدى

 

"كونوا كالحيّاتِ حاذِقين، وكالحمامِ ساذجين" (متّى 16:10). مِن ثمار المحبّة أن تَغفر! نَعم، اِغفر مَرّات ومرّات اِغفر، ولكن اِحذَر وكُن يَقِظًا وَفَطِنًا! لأنَّ الغُفران ليس حماقة، ولا طِيبة مُفرطة عن غَباوة. كلّا، الغُفران قوّة، والقوّة مع الحكمة مَوهبة من مواهب الرّوح القدس. لذلك، اِنطلاقًا من المحبة نحن نَغفر لِلْمُخطِئين، ولا نُبادِل أَحدًا شرًّا بِشَر، ولا نُبادل الفعل بردّة فعل أقسى، ولكَن ليسَ من الحكمةِ ولا من الفِطنَة، أَن تُلدغَ من نَفس الجُحر، وبذات الطّريقة، مرّة تُلو الأخرى.

 

ولنا في المسيح أكبر مثال، فَهُوَ عندما تَعرَّضَ لِلَطْمَةِ الظُّلمِ من ذاك الحَرسي الجبان، الّذي بَغى واعتدى، سأله: "لِماذا تَضرِبُني؟" بِأَيّ حَقٍّ تَلطِمُني، وَلأيِّ إِساءَة تمدُّ يَدَكَ عليَّ؟! هذا الْمَوقف من الرّب، يُعلِّمُنا بأنَّ المحبّة تبقى موجودة للجميع، وبأنّ المغفرة تُمنَح لِلْمُعتَدين والْمُسيئين القول والفعل، وَسط أقسى الظّروف وَأَبشعِ المواقف، مَع قَليٍل من الخُطواتِ الدّفاعيّة غير العَنيفة ولا المؤذيَة، وبما يَضمَنُ كَرامة جميعِ الأطراف.