موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٤ سبتمبر / أيلول ٢٠٢١

كم كان قاسيًا موتُ الصّليب

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
عيدُ اِرتفاعِ الصّليب

عيدُ اِرتفاعِ الصّليب

 

 صليبُ يسوعَ المسيح! نُقطةٌ محوريّةٌ عَليها يرتكِزُ إيمانُنا المسيحي. وَمع أَنّه أَداةُ عذابٍ مُريعَة، إلّا أَنّنا نُعلّقه على مَداخِلِ بيوتِنا وجُدرانِها، وَنضَعُه على مكاتِبِنَا. نصيغُه من أثمنِ المعادِن، ونَلبسُه حولَ أَعناقِنا مُفتخرين، طَلبًا لِلنّعمةِ والحماية. وفي كنائِسنا، يَتَبَوّأ صدرَ المكان عالِيًا بعظَمة وَمَهابة، وإليه تَتّجِهُ الأنظارُ ونحوَه ترتفِعُ القلوب.

 

ولكن، أَلَم نَتَساءَل يومًا: لِماذا الصّليب؟ أَلم يَجد الله وسيلةً أُخرى أَلطَف، أو على الأقل أَخفّ فظاعةً، بها يُخلّص البشر؟ فَلِماذا اختارَ أَبشعَ الأدواتِ وأشنعَ العذاباتِ طريقًا لخلاصِنا؟!

 

الصّليبُ كانَ أداةً وَحشيّة لِتعذيب النّاس، قبل إعدامِهم وموتِهم! ليس ذلكَ فَحسب، بل أنّ الصّلب كانَ رسالةً خَطَّها الْمُعدِمُ وكَتبَها بأحرفٍ من دمِ الْمعدَم، تقول: إيّاك والعبثُ مع السّلطة الحاكِمة، وإلّا انتهى بكَ الْمَطافُ مثلَ هذا الشّخص، الْمُعلّق على الصّليب!

 

ولكن، يبقى السّؤال: لماذا الصّليب؟ ما هي دلالتُه؟ كانَ بإمكانِ المسيح أن يختارَ طريقةً أُخرى لخلاصِ العالم! وإنْ كانَ لا بدَّ من الْمَوت، فَقَد كان بإمكانِه أيضًا أن يختارَ طُرُقًا أخرى يموتُ فيها، أقلّ إيلامًا وإهانة! ولكنّه اختارَ الصّلب، واحد من أقسى طُرق التّعذيبِ الْمُفضِيَة إلى الموت في التّاريخ!

 

يسوعُ بَذلَ حياتَه طواعية: "فما مِن أحدٍ يَنتَزِعَها منه، بل هو الّذي يبذلها برضاه" (يوحنّا 18:10). وفي الوقتِ عينه، بَذل حياتَه لأجلِنا، ليسَ فقط بأبشعِ طُرقِ الموت، والّتي تَستغرِقُ عدّة أيّام، حتّى يموت صاحبُها، إنّما أيضًا بأكثرِها إذلالًا عَلني وفاضِح، فيسوعُ على الصّليب كانَ عُرضةً للاحتقارِ العام! العذابُ كانَ مُزدَوَجًا: عذابٌ جَسدي وعذابٌ معنويٌّ ونَفسي. وعليهِ يَتَمنّى الْمَصلوبُ الْموتَ في أسرعِ وقت، خيرٌ لَهُ من كلِّ هذا العذاب، الّذي لا يُحتَمَلُ!

 

السُّم، حبلُ المشنقة، قطع الرّأس، وصولًا إلى حجراتِ الغاز والصّعقِ الكهربائي...إلخ، وسائل استخدمها الإنسان لِتُعَجّل في موتِ الضَحية، وَفي لحظاتٍ لا تتجاوز دقائِق من الشّعورِ بالألم. أمّا الصّليب فكان عكسَ ذلك تمامًا! فالموتُ على الصّليب صُمِّمَ ليكونَ مؤلِمًا بِشَكل فَظيع! تَخيّل معي مساميرَ ضخمَة تنغَرِسُ في جسمِكَ، فَتُمزِّقُ أَنسِجَتَهُ وَتُحَطّمُ عِظامَه! وَبأكبر قدرٍ من العذابِ البَطيء الّذي يمكن إلحاقَهُ بالضَّحيّة! وبِحسبِ الْمؤرّخين فإنّ أسرعَ عَمَليّة صلبٍ استغرقَت ثلاثينَ ساعة، وَأَبطَأَها أَخَذَ ثلاثة أسابيع.

 

هناك عذابٌ آخر يختبِرُه المصلوب، ألا وهو عذابُ التّنفّس! فالْمَصلوبُ يَجمعُ أنفاسَهُ بصعوبةٍ بالِغةٍ. فالجزءُ العُلويّ من أجسادِ المصلوبين، يضغطُ بكلِّ ثِقَلِه على الحجابِ الحاجز حيث الرّئة، فيجعلُ مِن كلِّ نَفَسٍ يأخذُه المصلوب أَمرًا شاقًّا جِدًّا. فِيبقى أمامَهُ خيارانِ اْثنان: إمّا أن يرفعَ جسدَهُ لأعلى محاولًا تخفيفَ كميّة الضّغط لتسهيلِ عمليّةِ التّنفّس، وهذا ما لَن يَقدِر على القيام به لِمُدَدٍ طويلة، نَظرًا إلى المجهود العَضليّ الكبير الّذي يحتاجه المصلوب لِرفع لإسنادِ نفسه لأعلى. وإمّا الاستسلامُ للأسفل، إلى أن يختنِقَ بِبُطءٍ حتّى الموت.

 

ثمَّ أنّ الصّالِبين لا يكتفونَ فقط بالعذاب الجسدي! إنّما يزيدون عليه الإذلالَ والاحتقارَ العام! فالرّومان استخدموا الصّلبَ وسيلةَ بها يُظهِرون سيطَرتَهم التّامّة وَقَبضتَهم الْفولاذيّة على الشّعب الّذي يَقعُ تحتَ حُكمِهم! كانوا يُجَرِّدونَ الضَّحيةَ من ثِيابِه كلّها، جاعِلينَ من موتِه حَدثًا يُشاهِدهُ الجميع. ولِفظاعةِ هذهِ الطّريقةِ الْمُميتة، وحفاظًا على كرامتِهم، فَقد كان يُمنَعُ صَلب الْمواطِنين الرّومان. وهو ما يُفسّر عدم صلبِ الرّسول بولس، كونه كان حامِلًا للجنسيّة الرّومانيّة (أعمال 27:22).

 

هل يُمْكِنُكم الآن تخيّل مقدارَ العذابِ وكمّيةَ الألم الّذي يشعرُ به المصلوب؟! مهما تَخيّلنا فلن نصِل إلى النّتيجة الحقيقيّة لهذا العمل الفظيع!

 

يا أحبّة، لقد اختارَ المسيحُ الكليُّ القدرة، أن يموتَ هذهِ الْميتة الشّنيعةِ والرّهيبةِ، والأكثر إيلامًا وإهانة! لِمَاذا؟ هل لِيُرينا شرَّ الخطيئة وفَظاعتَها، وبشاعَتها وشناعَتها، الّتي تفوقُ الصّلبَ نفسه؟ إنَّ الهدفَ الّذي أرادَهُ يسوع من وراءِ هذا الاختيار، هو أنّ بؤسَ الصّليبِ الْمُطلَق، صارَ جزءًا من رسالتِه، وهو ما أَفضى إلى انتصار! ليسَ ذلك فحسب، بل إنّ الصّليبَ قد أصبحَ مِعيارَ (غربلة)، بِه يَفصل المسيح بينَ التّلميذِ الحقيقيِّ الأمين، وبينَ أشباهِ التّلاميذِ الْماكرين، الّذين ينهزِمون أمامَ أَدنى شِدّة وأقلِّ صعوبة! "مَن أرادَ أن يَتبَعني، فَلْيَزهَدْ في نفسِه، ويحمِلْ صَليبَه وَيتبَعني" (متّى 24:16).

 

رسالةُ الصليبِ قَد تَبدو غَباءً وهباء، ضعفًا وكُفرًا، ولكنّها: "عندَ الّذينَ يسلكونَ سبيلَ الخلاصِ، أيْ عِندَنا، فهيَ قُدرةُ الله" (1قورنتوس 18:1). لِذلِك: "نبشِّرُ بمسيحٍ مَصلوب، عِثارٍ لليهود وحماقةٍ لِلوَثَنيّن. وأمّا لِلمدعويّن، فهو قُدرةُ الله وحِكمةُ الله" (1قورنتوس 23:1-24). أن يتألمّ المسيح، كَانَ أَمرًا مُعيبًا، لا يمكنُ مُجرّد تَصوُّرِه عندَ اليهود، فهم يَنتظرون المسيح كَمَلِك جبّارٍ ظافِر، يُحطّمُ أعداءَ أُمَّتِهم ويجلس على عرشِ الْملك في القدس. فكيف إذًا يكون المسيح مصلوبًا؟ لا يُعقَل ذلك بتاتًا! لِذلك صارَ الصّليبُ حجرَ عثرةٍ أَمامَ أُمّةِ اليهودِ، وسَببًا لعدمِ إيمانِهم!

 

أمّا في الثّقافة اليونانيّة، فقد كانَت فكرة (صلب مَلِك) ضربًا من الجنون. لِذلِك رأوا فيها حماقةً! فالفكرُ الوثني آنذاك كان يُقدّسُ المتعةَ الحسّيةَ الّتي يَجنيها المرء من الأشياء، بالإضافة إلى السّعيّ المحمومِ وراءَ الثّروة والسّلطة والّلذة. فالحاكمُ يعيش حياةَ بذخ ورفاهيّة مُفرِطة، أمّا المسيح، ملك اليهود كما كُتب في علّة الحكم، فقد مات مُهانًا، مُجرَّدًا من كلِّ شيء! فالصّليب كان عثارًا لليهودِ وحماقةً لغير اليهود. ولكنّه لنا يظلُّ قدرةَ الله وحكمتَه، الّذي يفوق ويُحطّمُ، كلَّ قدرة وحكمة دُنيويّة!

 

يا أحبّة، الصليب بحدّ ذاتِه اختبار. اللهُ في الصّليب أَظهرَ جانِب الضّعف للنّاس فجَحدوا. وأظهرَ لهم العبثيّة فَكَفروا وابتَعدوا! الصّليب الّذي نحمِلُه في حياتِنا الإنسانيّة هو اختبارٌ يتفاوتُ في درجةِ صعوبتِه، وقَد يقود إلى ارتِداداتٍ وخيمة أحيانًا! ألا تشعر بالظّلمِ عندما تُصيبكَ شدّة؟ ألا تصرخينَ إلى الله لِماذا أنا الّتي أتألّم وأتعذّب جرّاءَ وضعٍ صحيّ أو نَفسي أو اجتماعي؟

 

أمام الصّليب الّذي يُلقى عَلينا، سهل أن نتّخذَ موقفَ اليهودِ أو اليونانيّين تعبيرًا عن رفضِنا له، فَنشعر بعبثيّة ما أصابَنا، وعدم العدالة، وغياب الفهم، وانعدامِ المنطق فيما يحصل معنا. والأصعب عندما نشعرُ بالضّعف والعُزلة والتّخلي من الجميع، وعندما نشعر أنفُسَنا مُجرّدينَ عُراةً من كلِّ حولٍ وقوّة ومعونة، حتّى من الله نفسه: "إلهي، إلهي: لماذا تَركتَني"! (مزمور 2:22).

 

لذلك الآن دَعونا مَعًا نعود من حيث بدأنا، فَنَقول: الصّليبُ جميل طَالما بقي هناكَ بعيدًا مُعلَّقًا على الحائط وفوقَ الجدار. ولكنّه واقعٌ ثقيل مُؤلِمُ، مرفوضٌ لا يُطاقُ ولا يُحتَمَل لكثيرين، عندما يُلقَى فوقَ أكتافِنا، ويصبِح جاثِمًا على صدورِنا، رازِحًا فوقَ قلوبِنا وعقولِنا، وأجسادُنا مُعلّقة عَليه، نحملُه ويحمِلُنا!

 

عندَ ساعةِ الصّليبِ شَدِّدنا يا رب، عندَ ساعةِ الألمِ والعذابِ قَوّنا يا رب، أعطِنا الصّبرَ والاحتمال، هَبنا العزاءَ والسّلوان، اِبعث إلينا بِمَن يسنِدُ قَلبَنا، ويشحذُ هِمَّتَنا للصّمودِ، كما كانَ لكَ القيروانيّ في طريق الجُلجُلة!