موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١١ مارس / آذار ٢٠٢٣

قُوموا، لا تَخافوا

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
﴿قُوموا، لا تَخافوا﴾ (متّى 7:17)

﴿قُوموا، لا تَخافوا﴾ (متّى 7:17)

 

عظة الأحد الثّاني مِن زمن الصّوم

 

﴿هَذا هو ابْني الحَبيب، الّذي عَنهُ رَضيت، فَلَهُ اسْمَعوا﴾ (متّى 5:17). جَميعُنا نَبْحَثُ عن الرِّضَى: رِضَى الله، رِضَى الوَالِدَين، الرِّضَى الزّوجِي والعِائِلي، الرِّضَى الاجتِمَاعي والحَياتي، الرِّضَى الْمَعيشي وَالوَظيفي... أَشْكَالٌ عَديدَةٌ لِلرِّضى، وجَميعُهَا تَسْعَى لِبُلوغِ مَشَاعرِ السَّلامِ والاستِقرارِ والسَّعادَة. وَفي نَفسِ الوَقت، نَعلَمُ جَيِّدًا أَنْ مَهْمَا حَصَلنَا عَلَى تِلْكَ الْمشاعِر، إلّا أَنَّها تَبْقَى مُهَدَّدَةً بالضَّيَاع، تحتَ وَطْأَةِ الظُّروفِ، وَمَا يُصيبُنَا مِنْ مُختَلَفِ الضِّيقَاتِ وَالشَّدَائِد.

 

أَيضًا الرِّضَى ثمَرَةُ اليَقين بِأَنَّنَا قَدْ أَحسَنَا الاختيَار، وَانْتَقينَا الأنسَبَ لِحياتِنا. فَعَلى سَبيلِ الْمِثَال، يَسألُ الكاهِنُ مَنْ نَوَيَا إقامَةَ عَهدِ الزّواج، عَن الرِّضَى الْمُتبادَلِ بَينَهُما، بَعيدًا عَنْ كُلِّ إِكرَاهٍ وَإجبَار. فانْعِدَامُ الرِّضَى سَبَبٌ لِمَرارَةِ الحياةِ وَتَعَاسَةِ صَاحِبِهَا، وَإِمْرارِ كُلِّ مَنْ ارتَبَطَ بِه، أَو وَقَعَ ضِمنَ نِطَاقِ إِدَارَتِه وَإطارِ مَسؤولِيَّتِه.

 

﴿هَذا هو ابْني الحَبيب، الّذي عَنهُ رَضيت، فَلَهُ اسْمَعوا﴾. فَالرِّضَى وَالْمَحَبَّةُ فَضِيلَتَانِ مُتَلازِمَتان. لأنَّ الْمَحبَّةَ طَريقٌ لِلرِّضَى، وَالرِّضَى تَعبيرٌ عَن الْمَحَبَّة. فَمَا أَو مَن يُحبُّه قَلبي وَيَقبَلُهُ عَقلي، تَرضَى بِهِ نَفسي. وَمَنْ أَو مَا لا أُطيقُه، كَيفَ لي أَنْ أَرضَى بِه؟! وَمِن هُنا، عَدَمُ الرِّضى يُصيِّرُ الحياةَ جَحيمًا، يَقودُ لِلخُصوماتِ وَالنِّزاعَات، وسيادَةِ مَشَاعِرِ الجَفَافِ وَالجَفاء!

 

﴿هَذا هو ابْني الحَبيب، الّذي عَنهُ رَضيت، فَلَهُ اسْمَعوا﴾. الْمَسيحُ مَوضوعُ رِضَى، لأنَّهُ جَاءَ مُتَمِّمًا لِلْمَشيئَةِ الإلهيَّة. فَكلِمَةُ الله، هوَ الصّورَةُ الإنْسَانِيَّةُ لِلإرادَةِ الإلهيّة، الْمُتَمَثِّلَة في خَلاصِ جَميعِ النّاس. وَالْمَسيحُ لَمَّا خَاطَبَ تَلاميذَهُ عِندَ بِئرِ يَعقوب، قَال: ﴿طَعَامي أن أعمَلَ بِمَشيئَةِ الّذي أرسَلَني، وأنْ أُتِمَّ عَمَلَهُ﴾ (يوحنّا 34:4). فَكَلِمَة الله الَّذي صارَ بشرًا، هوَ مَشيئةُ اللهِ الّتي تَجَسَّدَت في شَخصِ يَسوعَ الإنْسان، حَامِلِ الطّبيعةِ الإلهيّة، وَالَّذي في شَخصِهِ تَحقَّقَتْ إِرادَةُ اللهِ الخَلاصِيّة.

 

﴿هَذا هو ابْني الحَبيب، الّذي عَنهُ رَضيت، فَلَهُ اسْمَعوا﴾. هَل مَا قِيلَ في الْمَسيحِ اليوم، ينطَبِقُ عَلَينَا نحنُ أيضًا؟ أَلَسنَا نُدْعَى أَبناء الله، فَهَلْ نحنُ موضوعُ رِضَاه؟ لا شَكَّ في أَنَّنَا أَحِبَّةُ الله. وَلَكنَّ الشّكَّ يكمُنُ في مِقدَارِ عَيشِ كُلٍّ مِنّا، أبناءً وَبَنَاتٍ، يَعمَلون بِما يُرضي أَباهم الَّذي في السّموات! لأنَّ كَثيرًا مِنْ أَعمَالِ أَبناء الله، هيَ أَعمالٌ تُغضِبُ وَجهَ الله، وَتُخالِفُ إِرَادَتَهُ. فَشَتَّانَ بَينَ أَبناءِ الطّاعَةِ والرِّضى، وَأَبناءِ العِصيانِ والْمَعصِيَة.

 

إذا كَانَ اللهُ في حَدَثِ التّجليّ، يَسأَلُنا أنْ نَسمَعَ لِلْمسيح، فَذلِكَ لأنَّ الْمسيحَ هو كَلمِةُ اللهِ الأزليّة، الّذي بِهِ كَلَّمَنَا اللهُ وَعَلَّمَنا، وَوَهَبنا الخلاصَ وَأَرشَدَنا إليه. كَمَا يَقولُ صَاحِبُ الرّسالةِ إلى العبرانيّين: ﴿إنَّ اللهَ بَعدَمَا كلَّمَ الآباءَ قديمًا بالأنبياءِ مرّاتٍ كَثيرَةً بوجوهٍ كَثيرَةٍ، كلَّمَنا في آخرِ الأيّامِ هَذهِ بابنٍ، هو شُعاعُ مَجِدِهِ وَصورَةُ جوهَرِهِ﴾ (عبر 1:1-3). فَهل نَسمَعُ صَوتَه، وَنعمَلُ مَشيئَتَهُ؟ أَمْ أنَّ آَذَانَنَا مَسْدُودَةٌ، وقُلوبَنَا قَاسِيَة؟ يَقولُ صَاحِبُ الْمزامير: ﴿اليومَ إذا سَمِعتُمْ صوتَهُ، فلا تُقسّوا قلوبَكم﴾ (مز 7:94). وَكَم هِيَ القُلوبُ القَاسِيَة الصَّلبَة، الّتي إذا لانَ الفولاذُ هيَ لا تَلين؟! تَحفَظُ ولا تَنْسَى، تَخزُنُ ولا تُفرِّغ؟! يَا خَوفي أن يَجِدَ الكثيرونَ أَنْفُسَهم، يتطَبِقُ عَليهم وَصَفُ أشعيا النّبيّ: ﴿هذا الشّعبُ يَتَقرَّبُ إليَّ بِفَمِهِ، وَيُكرِمُني بِشَفَتيِه، وَقلبُهُ بَعيدٌ مِنِّي﴾ (أش 13:29).

 

يَا أَحبَّة، قَبلَ أَنْ يَتَسنّى لَنَا التَّجليّ يومًا مَع الْمَسيحِ في مَجدِه، عَلَينا أَنْ نجتازَ أَطوارَ الحياةِ، بَما تحمِلُ لِنَا مِن ضِيقَاتٍ وَآلامٍ وَصعوباتٍ وَشَدائِد. فَالْمَسيحُ قَبلَ أَنْ يَدخُلَ في مَجدِه، اجتَازَ دَربَ الآلامِ الشَّائِكَة. في الوَقتِ عَينِه، سَمَح الرّبُّ لِثَلاثَةٍ مِن تَلاميذِهِ، أَنْ يُعايِنوا شيئًا مِن مجدِهِ العَظيم، وَسيلَةً لِتَقويَتِهم وَتَحصينِهِم قَبلَ سَاعةِ الآلامِ الرَّهيبَة. وَكَذلِكَ الأمر، فَاللهُ يُعطينَا وَسائِلَ وَنِعمًا وَتَعزياتٍ، تُقَوّينَا وَتُشَدِّدُنا، لِئَلّا نُحبَطَ وَنَيأسَ وَنحزنَ، كَمَن لا رَجَاءَ لَهم.

 

وَحَتّى ذلِكَ الحين، تَبقَى حَياتُنَا مجموعَةً مِن التَّجَليّاتِ وَمِنَ الانْتِكَاسَات! أَحيانًا نَصعَدُ قِمّةَ الجَبَل، وَأَحيانًا نهوي إلى قَعرِ الوَادي! بينَ صُعودٍ وبينَ هُبوط، بَينَ مَجدٍ وَبَينَ هَوان، بَينَ عَزيمةٍ وَبَينَ تَراخي، بينَ فرحٍ وبينَ حُزن. فَعِنَدَ التَّجلّي نُسبِّحُ وَنَحمَدُ الله، وَعِندَ الانتِكاسَةِ نَعتَصِمُ وَنَتَمسَّكُ بالله. ذاكِرينَ وَاثِقين بِكَلامَ الْمسيح دَومًا: ﴿قُوموا، لا تَخافوا﴾ (متّى 7:17)