موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٥ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٢

قيامة الموتى والزواج بعد الموت

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد الثاني والثلاثون من السنة: قِيامَة الموتى والزواجُ بعدَ الموتِ (لوقا 20: 27-38)

الأحد الثاني والثلاثون من السنة: قِيامَة الموتى والزواجُ بعدَ الموتِ (لوقا 20: 27-38)

 

النص الإنجيلي (لوقا 20: 27-38)

 

27 ودَنا بَعضُ الصَّدُّوقيِّين، وهُمُ الَّذينَ يَقولونَ بِأَنَّه لا قِيامَة، فسأَلوه: 28 ((يا مُعَلِّم، إِن مُوسى كَتَبَ علَينا: إِذا ماتَ لأمرئ أَخٌ لَه امرَأَةٌ ولَيسَ له ولَد، فَلْيَأخُذْ أَخوهُ المَرْأةَ ويُقِمْ نَسْلاً لِأَخيه. 29 وكانَ هُناكَ سَّبعَةُ إِخوَة، فأَخَذَ الأوَّلُ امْرأَةً ثُمَّ ماتَ ولَيسَ له ولَد. 30 فأَخذَها الثَّاني 31 ثُمَّ الثَّالِث، وهكذا أَخذَها السَّبعَةُ ومَاتوا ولَم يُخَلِّفوا نَسْلاً. 32 وآخِرَ الأَمْرِ ماتَتِ المَرأَةُ أَيضاً. 33 فَهذِهِ المَرأَةُ في القِيامَة لأَيِّهم تَكونُ زَوجَة، لِأَنَّ السَّبعَةُ اتَّخَذوها امَرأَةً))؟ 34 فقالَ لَهم يسوع: ((إِنَّ الرِّجالَ مِن أَبناءِ هذهِ الدُّنْيا يَتَزَوَّجون والنِّساءَ يُزَوَّجْنَ. 35 أَمَّا الَّذينَ وُجِدوا أَهْلاً لأَن يَكونَ لَهم نَصيبٌ في الآخِرَةِ والقِيامَة مِن بَينِ الأَموات، فَلا الرِّجالُ مِنهُم يَتَزوَّجون، ولا النِّساءُ يُزَوَّجنَ. 36 فلا يُمكِنُ بَعدَ ذلك أَن يَموتوا، لِأَنَّهُم أَمثالُ المَلائِكَة، وهُم أبناءُ اللهِ لِكَونِهِم أَبناءَ القِيامَة. 37 وأَمَّا أَنَّ الأَمواتَ يَقومون، فقَد أشارَ مُوسى نَفْسُه ذلك في الكَلامِ على العُلَّيقَة، إِذ دعا الرَّبَّ إِلهَ إبراهيم وإِلهَ إِسحق وإِله يَعقوب. 38 فما كانَ إلهَ أَموات، بل إِلهُ أَحياء، فهُم جَميعاً عِندَه أَحْياء))

 

 

مقدمة

 

يتناول إنجيل الأحد (لوقا 20: 27-38) قِيامَة الموتى التي يُنكرها الصِّدُّوقيون، ويؤمن بها الفِرِّيسيُّون. أمَّا سيدنا يسوع المسيح فيؤكد عقيدة قِيامَة الموتى التي هي موضوع إيماننا وأساس رجائنا؛ وهي حل لمشاكل الحياة، لا سيَّما وانَّ عقليّة زماننا تحملنا على رفضها، والبعض وأنَّ هناك لا زال مَن يفقدون معنى الحياة الحقّة فيستمرون في سلب حياتهم وحياة الآخرين. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 20: 27-38)

 

27 ودَنا بَعضُ الصَّدُّوقيِّين، وهُمُ الَّذينَ يَقولونَ بِأَنَّه لا قِيامَة، فسأَلوه:

 

تشير عبارة " الصَّدُّوقيِّين" إلى حزب ديني كهنوتي أرستقراطي (أعمال الرسل 5: 17)، وهم لا يؤمنون بالقيامة ويعترفون بالكتب الخمسة الأوّلى فقط، أيّ الشريعة، ككتب مقدسة ومُلَّهمة. واسمهم مشتق من اللفظ العبري צָדוֹק "صادوق" أي بار؛ الذي هو مؤسِّسهم، ربما يكون صادوق هو الذي عاش عهد داود وسليمان، وفي عائلته حُفظت رئاسة الكهنوت حتى عصر المكابيين، أو هو صادوق آخر عاش حوالي سنة 300ق.م. حسب رأي البعض. واحتل الصَّدُّوقيِّون" مركز القيادة في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد في العصرين الفارسي واليوناني. وأحبوا الثقافة اليونانية واهتموا بالسياسة أكثر من الدين. وكانت قوة الصِّدُّوقيين في العصر الروماني تكمن في السنهدريم والعائلات الثرية فضلاً عن ولائهم للسلطات الرومانية ويستفردون بالمناصب الكهنوتية العليا مثل منصب عظيم الكهنة، فمثلاً الصدوقي قيافا، الذي حكم على يسوع، وكانوا يمثلون الفئـة الأكبــر من رجال الدين اليهود، كما كانوا مسؤولين عن حراسة الهيكل وعن تنظيم العبادة فيه أيضاً. وعارضوا حزب الفريسيين كما يقول المؤرخ يوسيفوس فلافيوس، ولم يقبلوا بالتقاليد الشفهية (سُنّة الشيوخ)، خلاف الفريسيين الذين حسبوا أنفسهم حراسًا لتقليد الشيوخ؛ ويتمتعون بتقدير الشعب، ويؤمنون بالقيامة، ويعترفون أيضًا بكتب الأنبياء والكتب الحكمية بالإضافة لكتب الشريعة، ورغمًا عن أنَّهم في خصام مع الصَّدُّوقيِّين، لكنهم اتَّفقوا معهم في العداء للرب يسوع. أمَّا عبارة " وهُمُ الَّذينَ يَقولونَ بِأَنَّه لا قِيامَة " فتشير إلى الصَّدُّوقيِّين الذين يُنكرون القِيامَة والخلود والآخرة والملائكة والجزاء، لانَّ الأسفار الخمسة الأولى (التوراة) التي يتمسكون بها لا تتكلم مباشرة عن قِيامَة الموتى (أعمال الرسل 23: 8) ولأنَّ فكرة القِيامَة من بين الأموات، لم تظهر في الكتاب المقدس كله إلا قبل مجيء يسوع بقليل نحو 130 ق. م.  كما نرى مثلاً في سفر المكابيين (2 مكابيين 7: 9-11. 23. 29)، وكذلك تظهر بدايات فكرة القِيامَة في سفر دانيال (12: 1-3) في القرن الثاني أيضاً قبل المسيح. وبعبارة أخرى، أنكر الصَّدُّوقيّون قيامة الموتى، لأنَّهم أنكروا خلود النفس (أعمال الرسل 23: 8). ومِثْل اعتقاد الصَّدُّوقيِّين في ذلك كان اعتقاد الفلاسفة الأبيقوريين الذين خاطبهم بولس الرسول في أثنيا (أعمال الرسل 17: 18).  ولهذه الأسباب اصطدموا بكلمات السيد المسيح في هذا الشأن إذ كان يتحدث عن الملكوت السماوي وأنه ملكوت أبدي. ويعلق القدّيس الفيلسوف النابلسي يوستينس الشهيد "يقول كلّ مَن هو في الخطيئة أنّه لا قيامة للجسد، وأنّه يستحيل أن يستعيد الجسد نزاهته الكاملة بعد أن يتحلّل ويتحوّل إلى غبار. كم هو أعمى كلّ مَن اعتمد على عقله وحده! ولِجَعْلِنا نؤمن أنّ الجسد يقوم كاملاً عند القيامة. فإن المسيح شفى على الأرض إعاقات الجسد وأعاد للجسد نزاهته، فكم بالحري عند القيامة، كي يقوم الجسد بلا عيب، سليمًا وكاملاً "(دراسو حول القيامة). أمَّا عبارة " فسأَلوه " فتشير إلى سؤال ليس استفساريًّا، بل هو سؤال للإحراج لتشويه سلطة يسوع في التعليم، والسخرية من سلطة يسوع التعليمة (لوقا 20: 1-8).

 

28 يا مُعَلِّم، إِن مُوسى كَتَبَ علَينا: إِذا ماتَ لأمرئ أَخٌ لَه امرَأَةٌ ولَيسَ له ولَد، فَلْيَأخُذْ أَخوهُ المَرأَةُ ويُقِمْ نَسْلاً لِأَخيه.

 

تشير عبارة "إِن مُوسى كَتَبَ علَينا" إلى شريعة موسى التي تهدف هنا لعدم انقراض العائلة بل حفظ اسم الإنسان ونسبته بين أمته إن مات بلا نسل. أمَّا عبارة " فَلْيَأخُذْ أَخوهُ المَرأَةُ ويُقِمْ نَسْلاً لِأَخيه" فتشير إلى بند من الشريعة الوارد ذكره في سفر تثنية الاشتراع "إِذا أَقامَ أَخَوانِ معًا، ثُمَّ ماتَ أَحَدُهما ولَيسَ لَه اَبنٌ، فلا تَصِرِ امرَأَةُ المَيتِ خارِج، لِرَجُل غَريب، بل أَخو رَجُلِها يَدخُلُ علَيها ويتًّخِذُها اَمرَأَةً لَه، وهو يَقومُ نَحوَها بواجِبِه كأَخي الرَّجُل" (ثنية الاشتراع 25: 5-6). والأبن الأول الذي سيولد سيحمل اسم الأخ الراحل ويعتبر وارثه وأبنه، ومثال ذلك في راعوت (فصل 4). هكذا لن يُمحى اسمه من نسب إسرائيل.  ويهدف هذه البند من القانون تخليد اسم العائلة وتأمين وارث للمتوفى، لانَّ الابن الأول من هذا الزوج يعتبر ابنا للمتوفي (تثنية الاشتراع 25: 5-6)، ويهدف هذا القانون أيضا حماية المَرأَةُ التي تُركت وحيدة، إذ لم يكن هناك في ذلك العصر سبيل للمعيشة. وكانت هذه العادة معروفة أيضا عند الحثيين والأشوريين، وفقدت أهميتها منذ أن استطاعت البنات الحصول على حقوقهنَّ من الميراث كما ورد في الكتاب " قَد أَمِرَ سَيِّدُنا مِن قِبَلِ الرَّبِّ بِأَن يُعْطِيَ ميراثَ صلُفْحادَ أَخينا لِبَناتِه " (عدد 36: 2). لكن زواج السلفة أي تأخذ المَرأَةُ التي مات زوجها، سلفها أي شقيق زوجها فكان محرّماً في سفر الأحبار "أَيُّ رَجُلٍ اتَّخَذَ زَوجَةَ أَخيه، ارتَكَبَ نَجاسةً، فقَد كَشَفَ عَورَةَ أَخيه، فلْيَموتا عَقيمَين" (أحبار 20: 21). لكن شريعة الله هذه لم تُمنح لضمان تربية أبناء لآباء الأرض بحسب تفسير يسوع، إنَّما ليجعلنا مستحقِّين لأنْ نكون "أبناء الله" بفضل قيامته كما تنبأ دنيال النبي "كثيرٌ مِنَ الرَّاقِدينَ في أَرضِ التُّرابِ يَستَيقِظون" (دانيال 12: 2).

 

29 وكانَ هُناكَ سَّبعَةُ إِخوَة، فأَخَذَ الأوَّلُ امْرأَةً ثُمَّ ماتَ ولَيسَ له ولَد. 30فأَخذَها الثَّاني 31ثُمَّ الثَّالِث، وهكذا أَخذَها السَّبعَةُ ومَاتوا ولَم يُخَلِّفوا نَسْلاً. 32وآخِرَ الأَمْرِ ماتَتِ المَرأَةُ أَيضاً. 33فَهذِهِ المَرأَةُ في القِيامَة لأَيِّهم تَكونُ زَوجَة، لِأَنَّ السَّبعَةُ اتَّخَذوها امَرأَةً؟

 

تشير عبارة" كانَ هُناكَ سَّبعَةُ إِخوَة، فأَخَذَ الأوَّلُ امْرأَةً ثُمَّ ماتَ ولَيسَ له ولَد. فأَخذَها الثَّاني ثُمَّ الثَّالِث، وهكذا أَخذَها السَّبعَةُ ومَاتوا ولَم يُخَلِّفوا نَسْلاً. وآخِرَ الأَمْرِ ماتَتِ المَرأَةُ أَيضاً" إلى رواية وهمية ومثل خيالي ولا يمكن لأي شريعة أن تعطي جواباً عليه. وهكذا يظنون أنهم بهذه الحجة سيُثبِّتوا عدم صحة قِيامَة الأموات. لا شك أنه بسبب عدم الإيمان بالقِيامَة لدى اليهود في زمن تثنية الاشتراع، كان من الضروري، بحسب قانون زواج الأرملة من شقيق زوجها، الذي ينوه إليه الصَّدُّوقيِّون، أن يُعطى سلالة للأخ المتوفي بدون أبناء. إنه نوع من مقاومة الحياة ضد الموت.  ولكن يبدو سؤالهم ليسوع هو استفزاز واستخفاف بموضوع القِيامَة خاصة بسَّبعَةُ الأخوة مع أمهم في عهد المكابيين الذين قتلوا وكلُّهم املأ أن مَلِك الكون سيُقيمهم لحياة ابديه (2 مكابيين 7: 9). نادوا بقِيامَة الأجساد. فالقِيامَة بالنسبة لهم لا معنى لها، وليست حلًا لمشاكل الحياة. أمَّا عبارة "سَّبعَةُ " فتشير إلى الإنسان الذي ارتبط بالزمن أو بمحبة العالم الذي يُرمز له برقم 7 إشارة أيام الأسبوع السَّبعَةُ خاصة أن ديانة الصَّدُّوقيِّين تتمحور، حرفيّاً، على شكل أرضيّ للسماء. وتكرَّر عدد سَّبعَةُ 77 مرة في الكتاب المقدس. أمَّا عبارة " لأَيِّهم تَكونُ " فتشير إلى معنى "لأيِّهم تصبح" كما ورد في اللفظة اليونانية γνεται؛ وقد توخى الصِّدُّوقيون أن يفحموا يسوع معتبرين أنه لن يجدَ جوابا. يستهدف سؤالهم السخرية من سلطة يسوع ومن تعاليمه وذلك بإثباتهم أنّ القِيامَة ليست ممكنة بل إنها أمر مُسْتهجن. لذلك لا يجدي نفعًا محاولات الإنسان للتغلب على الموت عن طريق القِيامَة التي هي وهم وخيال. سلم الصَّدُّوقيِّون بالخلق، وأنكروا القيامة.  ومنن هذا المنطلق، إن عدم المعرفة بالكتاب المقدس وعدم الإيمان هما علتا ضلالات كثيرة.

 

34 فقالَ لَهم يسوع: إِنَّ الرِّجالَ مِن أَبناءِ هذهِ الدُّنْيا يَتَزَوَّجون والنِّساءَ يُزَوَّجْنَ.

تشير عبارة " أَبناءِ هذهِ الدُّنْيا " سكان الأرض على وجه العموم بغض النظر عن كونهم أخيارًا أو أشرارًا. أمَّا عبارة " يَتَزَوَّجون والنِّساءَ يُزَوَّجْنَ " فتشير إلى شريعة الزواج في هذا العالم فقط، لان الناس يموتون. ومن هذا المنطلق يلزم أن يُولد غيرهم ليأخذوا أماكنهم بخلاف العالم الآخر، عالم الأرواح حيث لا موت فيه، وبالتالي لا حاجة الزواج.

 

35 أَمَّا الَّذينَ وُجِدوا أَهْلاً لأَن يَكونَ لَهم نَصيبٌ في الآخِرَةِ والقِيامَة مِن بَينِ الأَموات، فَلا الرِّجالُ مِنهُم يَتَزوَّجون، ولا النِّساءُ يُزَوَّجنَ.

 

تشير عبارة "أمَّا الَّذينَ وُجِدوا أَهْلاً لأَن يَكونَ لَهم نَصيبٌ في الآخِرَةِ " إلى الذين حُسبوا أهلا للحصول على الآخرة (أي السماء)، وهم الأبرار الذين ينالون الحياة الأبدية في السماء، ويكونون كالملائكة؛ ويوضّح لوقا الإنجيلي على أن القبول في العالم الآتي نعمة بقوله: " اسهَروا مُواظِبينَ على الصَّلاة، لكي توجَدوا أَهْلاً لِلنَّجاةِ مِن جَميعِ هذه الأُمورِ التي ستَحدُث، ولِلثَّباتِ لَدى ابنِ الإِنْسان" (لوقا 21: 36). أمَّا عبارة " القِيامَة مِن بَينِ الأَموات " فتشير إلى بلوغ حياة جديدة تكون القِيامَة مدخلاً إليها كما جاء في تعليم يسوع" الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: تَأتي ساعةٌ -وقد حَضَرَتِ الآن -فيها يَسمَعُ الأَمواتُ صَوتَ ابنِ الله والَّذينَ يَسمعَونَه يَحيَوْن"(يوحنا 5: 29) وهذه الحياة أشار إليها بولس الرسول بقوله "لَعَلي أَبلُغُ القِيامَة مِن بَينِ الأَموات " (فيلبي 3: 11)؛ والمقصود هنا حياة القداسة والسعادة التي يدخل إليها المختارون بواسطة القِيامَة حين تتَّحد أرواحهم مع أجسادهم، وتكون تلك الأجساد على صورة جسد المسيح المُمجَّد كما جاء في تعليم بولس الرسول "الَّذي سيُغَيِّرُ هَيئَةَ جَسَدِنا الحَقير فيَجعَلُه على صُورةِ جَسَدِه المَجيد بما لَه مِن قُدرَةٍ يُخضِعُ بِها لِنَفْسِه كُلَّ شيَء" (فيلبي 3: 21). أمَّا قِيامَة الأشرار فقيامتهم للدينونة أي الموت الثاني (رؤيا 20: 6)؛ أمَّا عبارة " فَلا الرِّجالُ مِنهُم يَتَزوَّجون، ولا النِّساءُ يُزَوَّجنَ" فتشير إلى النسبة بين الزوج والزوجة المتعلقة في هذه الدنيا فقط وليس في السماء. ولأنَّه لا موت في السماء (رؤيا 21: 4) فلا حاجة إلى الولادة، لأنَّ قوانين عالم القِيامَة تختلف جذريًّا عن قوانين عالمنا الأرضي. ففي عالم السماء يوجد ثقافة أخرى، ومفهوم آخر للحياة وللوجود. كما نستشف من مقارنة السيد المسيح بين أبناء هذا الدهر وبين الحياة في الدهر الآتي معلنًا أننا في هذا الدهر نرتبط بأعمال جسدية مؤقتة مثل الزواج، لكن في الدهر الآتي تُبطل هذه الأعمال الجسدية لممارسة حياة أخرى علي مستوى روحي ملائكي. في عالم الله هذا، يسقط الجنس وتسقط كلّ المُتَع الجسدية التي نعرفها في حياتنا الأرضيّة، ويتَّحد المؤمنون مع الله في سعادة تامةٍ في القِيامَة، وبالتالي ليس هناك علاقات زوجية للإنجاب، إذ لا يوجد موت! ولأنَّهم يصيرون كالملائكة الذين لا عمل لهم سوى خدمة الله وتمجيده. في السماء لا نحتاج للزواج لإنجاب الأطفال بدلًا من الذين يموتون. يعلق العلامة ترتليانوس "لا يعني أن الإنسان يفقد كيانه كإنسان أو يخسر جسده، فكما يُسمح للملائكة أن تظهر على شكل بشر دون أن يفقدوا طبيعتهم الملائكية هكذا نصير نحن كملائكة الله دون فقدان لجسدنا البشري، وإنما لا تكون له متطلبات زمنية، بل يحمل طبيعة جديدة تليق بالحياة السماوية".

 

36 فلا يُمكِنُ بَعدَ ذلك أَن يَموتوا، لِأَنَّهُم أَمثالُ المَلائِكَة، وهُم أبناءُ اللهِ لِكَونِهِم أَبناءَ القِيامَة.

 

تشير عبارة " فلا يُمكِنُ بَعدَ ذلك أَن يَموتوا " الله الذي قضى بنفي الموت من السماء كما جاء في رؤية يوحنا الرسول “لِلمَوتِ لن يَبْقى وُجودٌ بَعدَ الآن، ولا لِلحُزنِ ولا لِلصُّراخِ ولا لِلأَلَمِ لن يَبْقى وُجودٌ بَعدَ الآَن، لأَنَّ العالَمَ القَديمَ قد زال"(رؤية 21: 4). وبما أن الله أزليّ، تكون علاقته مع أبنائه أزليّة، وبالتالي لا يوجد موت في السماء. أمَّا عبارة " لِأَنَّهُم أَمثالُ المَلائِكَة" فتشير إلى المختارين بعد الموت الذين يُصبحون على مثال الملائكة غير خاضعين للموت، وغير محتاجين للزواج، وأنهم ليسوا عرضة لنوع من الجوع أو العطش أو الوجع أو النوم أو الشهوات الجسدية، لأنه سيكون لهم جسداً غير فاسد ومُمجَّداً (1 قورنتس 15: 44).  وما سيكون مُهمًا في الحياة الأبدية هو أن يكونوا أبناء وبنات لله. وهنا لا يحطُّ يسوع من قيمة الزواج (متى 19: 3-9)، بل حصر الاهتمام على خدمة الله وتسبيحه "أَقولُ لكم إِنَّ ملائكتَهم في السَّمَواتِ يُشاهِدونَ أَبَداً وَجهَ أَبي الَّذي في السَّمَوات" (متى 18: 10)، أمَّا عبارة " أبناءُ اللهِ " فتشير إلى إيماننا في يسوع بالقِيامَة الذي هو ليس نتاج نقاشات فلسفية، بل نابع من كوننا أبناء الله بفضل قيامتنا. إذ قيامتنا تحوِّلنا صورة المسيح كما جاء في تعليم يوحنا الرسول" نَحنُ مُنذُ الآنَ أَبناءُ الله ولَم يُظهَرْ حتَّى الآن ما سَنَصيرُ إِليه. نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا نُصبِحُ عِندَ ظُهورِه أَشباهَه لأَنَّنا سَنَراه كما هو " (1يوحنا 3: 2).  وحين كان المختارون على الأرض كانوا أبناء البشرعرضةً للموت، ولمَّا بلغوا السماء صاروا أبناء الله الخالدون كما يُرنِّم صاحب المزامير " أَمَّا أَنا فبِالبِرِّ أُشاهِدُ وَجهَكَ وعِندَ اليَقظَةِ أَشبعُ مِن صورَتكَ" (مزمور 17: 15).  أمَّا عبارة " أَبناءَ القِيامَة " فتشير إلى ورثة العالم الجديد والحياة في الآخرة كما صرَّح يسوع "بَعدَ قَليلٍ لَن يَراني العالَم. أَمَّا أَنتُم فسَتَرونَني لِأَنِّي حَيٌّ ولأنَّكُم أَنتُم أَيضاً سَتَحيَون" (يوحنا 14: 19) ويؤكِّد بولس الرسول هذه الحقيقة بقوله "أَمَّا ونَحنُ نُؤمِنُ بِأَنَّ يَسوعَ قد ماتَ ثُمَّ قام، فكَذلِك سيَنقُلُ اللهُ بِيَسوعَ ومعَه أُولَئِك الَّذينَ ماتوا" (1 تسالونيقي 4: 14). عندئذ نأخذ في يوم القِيامَة أجسادًا ليست عرضة للموت كما صرّح بولس الرسول "يَكونُ زَرْعُ الجِسْمِ بِفَساد والقِيامَة بِغَيرِ فَساد. يَكونُ زَرْعُ الجِسْمِ بِهَوان والقِيامَة بِمَجْد. يَكونُ زَرْعُ الجِسْمِ بضُعْف والقِيامَة بِقُوَّة. يُزرَع جِسْمٌ بَشَرِيٌّ فيَقومُ جِسْمًا رُوحِيًّا (1 قورنتس 15: 42-44). لكن الناس الذين كانوا متزوِّجين على الأرض سيحتفظون بعلاقات شخصية روحية مختلفة تمامًا عن علاقاتهم مع الآخرين. وكذلك الأصدقاء وكذلك الأمومة والأبوَّة والبنوَّة. فإن كل ما كان عميقًا في حياتنا الإنسانية وفي حياتنا الحالية سيبقى إلى الأبد. هكذا مثلاً مريم العذراء ستبقى للأبد أم المسيح. الأزواج والأصدقاء والأحباء سيلتقون في الحياة الأبدية، لكنَّهم سيلتقون لكي يعيشوا بشكل كامل حُب الله في الأبدية. فنحن نعيش من حياة الله نفسها. لن يعيد الله لنا نفس الحياة التي نعيشها اليوم، أي الحياة الزائلة والمحدودة، لكنها ستكون حياتنا اشتراكًا في حياة المسيح القائم، أي شركة كاملة ونهائية مع الله الحيّ.  وفي هذا الصدد قال يسوع لمرتا " أَنا القِيامَة والحَياة مَن آمَنَ بي، وَإن ماتَ، فسَيَحْيا وكُلُّ مَن يَحْيا ويُؤمِنُ بي لن يَموتَ أَبَداً" (يوحنا 11: 25 26). ويُعلق القديس أوغسطينوس " آمن أنك وإن مت فستحيا، فإن لم تؤمن بذلك فإنك وإن عشت تموت".

 

37 وأَمَّا أَنَّ الأَمواتَ يَقومون، فقَد أشارَ مُوسى نَفْسُه ذلك في الكَلامِ على العُلَّيقَة، إِذ دعا الرَّبَّ إِلهَ إبراهيم وإِلهَ إِسحق وإِله يَعقوب.

 

تشير عبارة " الرَّبَّ إِلهَ إبراهيم وإِلهَ إِسحق وإِله يَعقوب" إلى إجابة يسوع للصَّدُّوقيِّين من سفر الشريعة الّذي يؤمنون به. فيكشف في تعليمه ما أَوحي الله للنبي مُوسى "أَنا إِلهُ أَبيكَ، إِلهُ إِبْراهيم وإِلهُ إِسحق وإِلهُ يَعْقوب" (خروج 3: 6) حيث دلَّ على الله الذي هو إله الأحياء، لا إله الأموات. هو ذات الاسم الّذي يُمثل الرباط الذي أقامه مع إسرائيل ومع البشرية. ويكشف يسوع عن على وجه إله حيّ، إله حي يخلق ويختار أُناس أحياء. إنَّه قطع مع شعبه ومع الإنسانية رباطا قويا لدرجة أنّ لا شيء يمكن أن يٌفقد. هو إله أباءنا فهو إله البشر في الماضي وفي الحاضر. فإذا كان إبراهيم واسحق ويعقوب هم أحياء اليوم، فليس لكونهم أنجبوا أبناء وبنات، بل لكونهم ولدوا من الله. إن أصل الإنسان هو في الله، وأن البشر هم أبناء الله. إننا نؤمن بأنهم بالقرب من الله، في يد الله كما يقول سفر الحكمة "أَمَّا نُفوسُ الأَبْرارِ فهي بِيَدِ الله" (الحكمة 3: 1). فلا شيء مستحيل على الله.  وقد برهن يسوع أن الذين ماتوا في هذا العالم أحياء في عالم آخر، ولذلك يستطيعون أن يرجعوا إلى الأجساد ويقوموا.  هل نعرف الكتاب المقدس وقوته على تغيير حياتنا بل ولادتنا ثانية كما جاء في تعليم بطرس الرسول "إِنَّكم ولِدتُم وِلادةً ثانِيَة، لا مِن زَرْعٍ فاسِد، بل مِن زَرْعٍ غَيرِ فاسِد، مِن كَلِمَةِ اللهِ الحَيَّةِ الباقِيَة"(1 بطرس 1: 23). فالقِيامَة لا تستند على فكرة قد تكون موجودة لدى الإنسان، إنَّما على الإيمان بسلطة الله على الموت، بأنه قادرٌ على أن يقيم الموتى.

 

38 فما كانَ إلهَ أَموات، بل إِلهُ أَحياء، فهُم جَميعاً عِندَه أَحْياء.

 

تشير عبارة "فما كانَ إلهَ أَموات" إلى الله الذي هو ليس إلهٌ مجرد أسماء أولئك الآباء بل إله أشخاصهم، وليس إله مجرّد تراب ورماد، بل إله أرواح تحيا. وليس إله الأموات بل أله أحياء. هذا يعني أن الموت لا علاقة له به. كل ما هو موت ليس ملكًا لله. فلا يمكن أن يكون الموت أبدًا هو الكلمة الأخيرة، لأننا لله! أمَّا عبارة "إِلهُ أَحياء" فتشير إلى الذين هم موتى عند أهل الأرض أحياء عند الله.  لا يمكن محو أيّ اسم من أبناء البشر مِن قلب الله. ويدعونا يسوع التركيز ليس فقط على اسم الله بل "إله الأحياء". لذلك بدلاً من التركيز على الأسماء البشرية، علينا أنّ نضع اسم الله الحي في مركز حياتنا. لا نضع أسماءنا ونهمل جوهرية قدرته الإلهية على قيامتنا من بين الأموات، فهو إله الأحياء.  يهتم الله بالأحياء، خلافاً لراي الصِّدُّوقيين الذين يستغلون المرأة لإنجابهم وإعطاء الرجال اسم! ويتهكمون على مسالة قِيامَة الأموات. وقد استند يسوع على سفر الخروج فأظهر الله نفسه لمُوسى إله الآباء، الإله الذي يُسيّر تاريخ الأحياء فقال" أَنا إِلهُ أَبيكَ، إِلهُ إِبْراهيم وإِلهُ إِسحق وإِلهُ يَعْقوب" (الخروج 3: 6)؛ أمَّا عبارة "هُم جَميعاً عِندَه أَحْياء" في الأصل اليوناني πντες γρ ατ ζσιν (معناها لان الجميع يحيون له) فتشير إلى ما يصحُّ على إبراهيم على واسحق ويعقوب، يصح على الموتى، لأنهم لا يزالون أحياء عند الله. ويوضّح يسوع هنا أن نفس الإنسان تبقى حيَّة بعد انفصالها عن الجسد، لانَّ العهد الذي ابرمه الله مع إبراهيم، تمَّ تجديده مع يسوع نفسه الذي عاش القيامة، وكشف سر القيامة، لأنه هو القيامة.  ومن هذا المنطلق، إنَّ الجميع عند الله أحياء سواء كانوا في الجسد أم لا، وعلى الأرض أو في عالم آخر. وفي هذا الصدد قال الأخ الأخير من الإخوة المكابيين السَّبعَةُ حينما أشرف على الموت لأحد قاتله: " خَيرٌ أَن يَموتَ الإِنسانُ بِأَيدي النَّاس ويَرجُوَ أَن يُقيمَه الله، فلكَ أَنتَ لن تَكونَ قِيامَةٌ لِلحَياة"(المكابيين 7: 14). هؤلاء الشباب السَّبعَةُ سُلبت منهم حياتهم البشرية إلا أنهم أدركوا معنى الحياة الأبدية وهم لازالوا على الأرض بسبب إيمانهم بإله الحياة. ويعلق بطريرك أنطاكية القدّيس أنَسطاس الأنطاكي " بما أنّ ربّ الأموات هذا حيّ، فإنّ الأموات لم يعودوا أمواتًا بل أحياء؛ فالحياة تسود فيهم كي يعيشوا بدون خوف من الموت. وكما " أَنّ المسيح، بَعدَما أُقيمَ مِن بَينِ الأَموات، لن يَموتَ بعدَ ذلِك ولن يَكونَ لِلمَوتِ علَيه مِن سُلطان" (رومة 6: 9)، هكذا هم أيضًا لن يروا الموت بعد أن أقيموا وحُرّروا من حالتهم الفانية. سوف يشاركون في قيامة المسيح كما شارك هو في موتنا"(العظة رقم 5 عن قيامة المسيح).

 

 

ثانياً: تطبيق النص الإنجيلي (لوقا 20: 27-38)

 

انطلاقا من الملاحظات الوجيزة حول وقائع النص الإنجيلي (لوقا 20: 27-38) نستنتج انه يتمحور حول قِيامَة الموتى، ومن هنا نتساءل ما معنى قِيامَة الموتى؟ وما موقف الصِّدُّوقيين وموقف يسوع المسيح من قِيامَة الموتى؟

 

1) ما معنى قِيامَة الموتى وكيف ومتى تتمُّ؟

 

ا) معنى قِيامَة الموتى

 

يعرض إنجيل لوقا في الفصل العشرين عدة مجادلات بين يسوع والكتبة والفريسيين الصَّدُّوقيِّين في مكان الهيكل. واليوم يدور النقاش مع الصَّدُّوقيِّين في موضوع قِيامَة الموتى. لا يُدين يسوع الصِدُّوقيين، لكنه يركِّز على خطورة وأهمية الموضوع الذي هو أبعد مِن أن يكون مجرد موضوع نقاش لاهوتي بين جماعتي الصَّدُّوقيِّين والفِرِّيسيين حيث في الحقيقة أنَّ القِيامَة توجِّهنا إلى معنى وهدف حياتنا وكل أحداثها.

 

ليست قِيامَة الموتى حسب ما وصفه الفيلسوف سقراط لتلاميذه قبل موته من أنَّ نفسه ستحيا خيرَ حياةٍ وأكمَلها بعد موته، ولا بمعنى ما يتركه راحلٌ من ذكرٍ لا ينفكّ يعمل في ذويه عمله الرّاهن فيما بعد، بل يقوم الموتى بلحمهم وعظامهم. فتلك الحياة التي هدمها الموت وقوَّض أركانها، قد انبعثت ولا شكّ حيّة على شكل جديد كما ورد في الكتاب المقدس.

 

الإنسان معرّض للموت، حسب مفهوم الكتاب المقدس، حيث أنَّ عند الموت تصير النفس سجينة الجحيم (مثوى الأموات)، بينما يتحلَّل الجسد في القبر. إلا أنَّ ذلك لن يكون إلا حالة عابرة، حيث يُبعث الإنسان بعدها حيًا بنعمة الله. ويشرح كتاب التعليم المسيحي قِيامَة الموتى أو قِيامَة الجسد بقوله "في الموت، الذي هو انفصال النفس والجسد، يسقط جسد الإنسان في الفساد، فيما تذهب نفسه لملاقاة الله، على إنَّها تبقى في انتظار اتحادها من جديد بجسدها المُمجَّد. فالله، في قدرته الكليَّة، سوف يُعيد الحياة غير الفاسدة لأجسادنا مُوحِّداً إيَّاها بنفوسنا، بفضل قِيامَة يسوع" (رقم 997). يقوم الجميع، كلٌّ بجسده الخاص الذي له الآن" (مجمع اللاتران الرابع فصل 1، في الإيمان الكاثوليكي، 801).

 

لفظة "الجسد" تعني الإنسان من حيث وضعه الضعيف والمائت كما جاء في تعليم صاحب المزامير "يَتَلوى قَلْبي في باطِني وأَهْوالُ المَوتِ تَتَساقَطُ علَيَّ " (مزمور 55: 5)؛ وأمَّا "قِيامَة الجسد" فتعني انه بعد الموت لن يكون فقط حياة للنفس الخالدة، ولكن حتى "أجسادنا المائتة" ستعود إليها الحياة كما جاء في رؤيا دانيال النبي "كثيرٌ مِنَ الرَّاقِدينَ في أَرضِ التُّرابِ يَستَيقِظون، بَعضهم لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة، وبَعضُهم لِلعارِ والرَّذلِ الأَبَدِيّ."(دانيال 12: 2). والحياة الجديدة لا تشبه حياة العالم الحاضر، لكن حياة ذات طبيعة مُتجلِّية " يُضيءُ العُقَلاءُ كضِياء الجَلَد، والَّذينَ جَعَلوا كَثيراً مِنَ النَّاسِ أَبْراراً كالكَواكِبِ أَبَدَ الدُّهور" (دانيال 12: 3). ويوضّح بولس الرسول هذه الحقيقة بقوله "فإِذا كانَ الرُّوحُ الَّذي أَقامَ يسوعَ مِن بَينِ الأَمواتِ حالاًّ فيكُم، فالَّذي أَقامَ يسوعَ المسيحَ مِن بَينِ الأَموات يُحْيي أَيضًا أَجسادَكُمُ الفانِيةَ بِرُوحِه الحالِّ فيكُم" (رومة 11:8)؛ ومن هذا المطلق، فإن الجميع يقوم، كلٌّ بجسده الخاص الذي كان له قبل موته.

 

وقد كشف الله قِيامَة الموتى لشعبه تدريجيا، حيث أنَّ الرجاء بقِيامَة الموتى في الجسد قد ثبت كنتيجة ضمنية للإيمان بالله الذي خلق الإنسان بكامله جسداً ونفساً، وحفظ بأمانة العهد مع إبراهيم ونسله كما ترنّم صاحب المزامير "فانَّ الرَّبَّ صالِحٌ وللأبدِ رَحمَتُه وجيلٍ فجيل أَمانَتُه" (مزمور 100: 5). فالله الذي يخلق، هو أيضا يُقيم (2 مكابى 7: 9)؛ والله هو أمين للعهد للأبد "لا أَقطعُ عنه رَحمَتي ولا أَخونُ أَمانتي"(مزمور 89: 34). وفي هذه النظرة المزدوجة تمَّ التعبير عن الإيمان بالقِيامَة. وقد اعترف الشهداء المكابيون بالقِيامَة في وسط مضايقهم، فقال أحدهم للملك " إنّ مَلِكَ العالَم، إِذا مُتْنا في سَبيلِ شَرائِعِه، سيُقيمُنا لِحَياةٍ أَبَدِيَّة" (2مكابي 7: 9)، وقال آخر للملك لَمَّا أَشرَفَ على المَوتِ " خَيرٌ أَن يَموتَ الإِنسانُ بِأَيدي النَّاس ويَرجُوَ أَن يُقيمَه الله" (2مكابيين 7: 14).

 

ب) كيف تتمّ قِيامَة الموتى أو الأجساد؟

 

يتحوَّل الجسد إلى جسد مُمجَّد على صورة جسد المسيح المُمجَّد كما جاء في تعليم بولس الرسول: "الَّذي سيُغَيِّرُ هَيئَةَ جَسَدِنا الحَقير فيَجعَلُه على صُورةِ جَسَدِه المَجيد "جسد روحاني" فلا بُدَّ لِهذا الكائِنِ الفاسِدِ أَن يَلبَسَ ما لَيسَ بِفاسِد، ولِهذا الكائِنِ الفاني أَن يَلبَسَ الخُلود"(1 قورنتس 15: 35) بما لَه مِن قُدرَةٍ يُخضِعُ بِها لِنَفْسِه كُلَّ شيَء" (فيلبي 3: 21)، فيتحول الجسد إلى "جسد روحاني "كما يُبيّن بولس الرسول "يُزرَع جِسْمٌ بَشَرِيٌّ فيَقومُ جِسْمًا رُوحِيًّا" (1 قورنتس 44:15). وهذا الأمر "يتخطَّى تصورنا وتفكيرنا. ولا يمكن الوصول إليه إلاّ بالإيمان" (التعليم المسيحي رقم 1000). وقِيامَة الأموات هذه مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمجيء الثاني للمسيح " لأَنَّ الرَّبَّ نَفْسَه، عِندَ إِعْلانِ الأَمْر، عِندَ انطِلاقِ صَوتِ رَئيسِ المَلائِكة والنَّفْخِ في بُوقِ الله، سيَنزِلُ مِنَ السَّماء فيَقومُ أَوَّلاً الَّذينَ ماتوا في المسيح" (1 تسالونيقي 4: 16).

 

ج) متى تتمُّ قِيامَة الأجساد؟

 

"أؤمن بقِيامَة الجسد"، يصل اعترافنا بالله الآب والابن والروح القدس قمته في إعلان قِيامَة الأموات في نهاية الأزمنة. وقد صرّح يسوع المسيح أنَّ قِيامَة الأجساد تتم بوجه نهائي "في اليوم الأخير" أَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" (يوحنا 40:6)؛ وذلك "في نهاية العالم" يوم المجيء الثاني لربِّنا يسوع المسيح كما يؤكده بولس الرسول "لأَنَّ الرَّبَّ نَفْسَه، عِندَ إِعْلانِ الأَمْر، عِندَ انطِلاقِ صَوتِ رَئيسِ المَلائِكة والنَّفْخِ في بُوقِ الله، سيَنزِلُ مِنَ السَّماء فيَقومُ أَوَّلاً الَّذينَ ماتوا في المسيح" (1تسالونيكي 4: 16). ويعلن قانون الإيمان المسيحي عن قِيامَة الموتى في نهاية الأزمنة "نؤمن إيمانا ثابتا، انه كما أنَّ المسيح قام حقا من بين الأموات، وانه يحيا على الدوام، كذلك الصديقون من بعد موتهم سيحيون على الدوام مع المسيح القائم، وانه سيقيمهم في اليوم الأخير" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 988).

 

الاعتقاد بقِيامَة الموتى هو أحد عناصر الإيمان المسيحي الأساسية منذ بدايته. وهنا يسال بولس أهل قورنتس " فكَيفَ يَقولُ بَعضُكُم إِنَّه لا قِيامَة لِلأَموات؟ فإِن لم يَكُنْ لِلأَمواتِ مِن قِيامَة، فإِنَّ المسيحَ لم يَقُمْ أَيضًا. وإِن كانَ المسيحُ لم يَقُمْ، فتَبشيرُنا باطِلٌ وإِيمانُكُم أَيضًا باطِل... كَلاَّ! إِنَّ المسيحَ قد قامَ مِن بَينِ الأَموات وهو بِكرُ الَّذينَ ماتوا" (1قورنتس 15: 12-14، 20).

 

لم يلقَ الإيمان المسيحي مجابهة على آية نقطة كما لقي على قِيامَة الجسد. فمنذ البدء اصطدام الإيمان بالقِيامَة بكثير من عدم التفهم والمقاومة، منهم، الصِّدُّوقيون (متى 22: 23، أعمال الرسل 23: 8)، والوثنيون (أعمال الرسل 17: 32) وبعض المسيحيين من عهد الرسل (1قورنتس 15) والغنوسيون والمانويون، وفي العصور الوسطى الكاتاريّون، وحديثًا المادية والراسيوناليّة وغيرهم.

 

من المقبول بنوع عام أنَّ تستمر حياة الشخص بعد الموت بشكل روحي، ولكن كيف السبيل الإيمان بان هذا الجسد المائت، وموته ظاهر للعيان بكل وضوح، يقدر أن يقوم الحياة الأبدية؟ ومن هنا نجد اعتراض الصِّدُّوقيين على المسيح، هؤلاء الذين لا يعترفون بقِيامَة الموتى "الصَّدُّوقِيِّينَ يَقولونَ بأَنَّه لا قِيامَة ولا مَلاكَ ولا روح، وأَمَّا الفِرِّيسِيُّونَ، فيُقِرُّون بِها جَميعًا" (أعمال الرسل 23: 8).

 

2) ما هو موقف الصِّدُّوقيين من قِيامَة الموتى؟

 

إن "الصِّدُّوقيين "هم الذين ينتمون إلى طبقات الكهنوت العليا، لم يتقبلوا عقيدة القِيامَة، التي ظهرت قبل ذلك بقرنين في نبوءة دانيال (دانيال 12: 2 -3). أمَّا يسوع فإنه يقبلها شأن الفريسيين (أعمال الرسل 23: 8). وبعد أنْ فشل الفريسيون والهيرودسيون في اصطياد الرب يسوع بسؤالهم عن موضوع الجزية (لوقا 2: 20-26) تقدم الصِّدُّوقيون ليجربوه. فطرحوا عليه سؤالا عن قِيامَة الأجساد والحياة بعد الموت علما انهم لم يؤمنوا بالقِيامَة بها. فسؤالهم عقائدي أكثر منه أخلاقي أو سياسي؛ وهدفهم إحراج يسوع وإيقاعه في الخطأ، لكي يثبتوا أنَّ القِيامَة لا معنى لها. وهكذا انطلقوا من مبدا في الشريعة الموسوية التي تجيز للأرملة التي ليس لها بنون أن تتزوّج من سلفها الذي لم يتزوج (ثنية الاشتراع 25: 5-6). وجاءوه بحادثة وهمية، تزوَّجت فيها امرأة من سَّبعَةُ رجال إخوة. فسألوا لأيَّ رجلٍ تكون بعد القِيامَة؟

 

النتيجة بالنسبة لهم هي أنَّ القِيامَة أمر مستحيل، لانَّهم لا يؤمنون بقِيامَة الجسد ولا يقبلون عودة الجسد بعد انحلاله، بل يظنُّون أنَّ النفس تموت مع الجسد ولا تقوم. وبالتالي سألوا يسوع ليضعوه في موضع سخرية واستهزاء. وسؤالهم يفسد رجاء العالم كله في المسيحية "فإِن لم يَكُنْ لِلأَمواتِ مِن قِيامَة، فإِنَّ المسيحَ لم يَقُمْ أَيضًا" (1قورنتس 13-14).

 

3)  ما هو موقف السيد المسيح من قِيامَة الموتى؟

 

جاء جواب يسوع لتقويم واقف الصّدُّوقيين والتأكيد لهم على الإيمان بالقِيامَة من خلال أجابته من التوراة، كتابات مُوسى، المصدر الذي يحترمونه. فحاول أن يُجيب على اعتراضاتهم حول كيفية قِيامَة الأجساد، وحقيقة القِيامَة.

 

ا) الاعتراض الأول على كيفية القِيامَة

 

اعترض الصِّدُّوقيون على كيفية الزواج في الآخرة كي يجعلوا فكرة القِيامَة تبدو سخيفة وبالتالي كيف تكون قِيامَة؟ سألوا يسوع "فَهذِهِ المَرأَةُ في القِيامَة لأَيِّهم تَكونُ زَوجَة، لِأَنَّ السَّبعَةُ اتَّخَذوها امَرأَةً؟" (لوقا 20: 33). أجابهم يسوع " أَنتُم في ضَلالٍ لأَنَّكُم لا تَعرِفونَ الكُتُبَ ولا قُدرَةَ الله" (متى: 22: 29). إنَّ الأهم هو معرفة قوة الله، لا معرفة كيفية الزواج في الآخرة. إنَّ الزواج من الناحية الجسدية أي الناحية التي تتعلق بها شريعة الزواج من زوجة الأخ بعد موته، جائز فقط في هذا العالم حيث يتسلط فيه الموت فيصبح بقاء الجنس ضرورة حتمية.

 

يوضّح يسوع في الوقت نفسه للفريسين الذين يؤمنون بالقِيامَة بعكس الصِّدُّوقيين ولكنهم يفسرون حياة الإنسان بعد الموت وكأنها مجرد استكمال للحياة الأرضية. ويؤكِّد يسوع أنَّ هنالك تغيّر جذري يتم في القِيامَة. الحياة بعد الموت لها قوانين غير قوانين الحياة على الأرض، لذا فهي لا تخضع لقوانين هذه الحياة ولا تسري عليها تلك القوانين. في العالم الأرضي يتزوّج فيه الناس، وأمَّا العالم الآخر لا يتزوجون فيه، العالم الأرضي يموت فيه الناس، والعالم الآخر لا يموتون فيه، وبالتالي لا يحتاجون إلى إنجاب كائنات جديدة. الناس في العالم الآخر يكونون أشبه بالملائكة في القِيامَة: لا موت ولا زواج، لأنهم أبناء القِيامَة " لِأَنَّهُم أَمثالُ المَلائِكَة، وهُم أبناءُ اللهِ لِكَونِهِم أَبناءَ القِيامَة" (لوقا 20: 36). ولذلك في القِيامَة يخرج الناس عن حدود البشر، وعن شروط الأرض. إذ يتضمن الرجاء المسيحي تجديداً كاملا للشخص، ويفترض في الوقت نفسه تغييرا كلياً للجسد، الذي صار روحانيّا، وغير قابل للفساد وخالداً كما جاء في تعليم بولس الرسول "يُزرَع جِسْمٌ بَشَرِيٌّ فيَقومُ جِسْمًا رُوحِيًّا...فلا بُدَّ لِهذا الكائِنِ الفاسِدِ أَن يَلبَسَ ما لَيسَ بِفاسِد، ولِهذا الكائِنِ الفاني أَن يَلبَسَ الخُلود" (1 قورنتس 15: 35-53).

 

نستنتج مما سبق أنَّ الحياة في القِيامَة هي امتداد هذه الحياة، لكن مع أجساد مُمجدّة على مثال جسد يسوع القائم من الموت. إذ أنَّ قصّة لقاءات المسيح مع تلاميذه بعد قيامته تعطي نوعا ما فكرة عمّا يحدث بالقِيامَة، فهي تمنحنا جسداً مُمجَّداً لا يخضع لقوانين الطّبيعة المعروفة، ولا يرتبط لا بمكان ولا بزمان. ويتنقّل بجسده دون مانع أو حاجز. فهو يدخل في البيوت المغلقة كالرّيح يهب من كل صوب ولا نعرف عنه متى يأتي وأين يذهب، فمثلا بينما يسوع القائم من بين الأموات يقاسم تلميذي عمّاوس كسر الخبز، يختفي عن الأبصار. وبكلمة موجزة في القِيامَة يصبح الموت عبور من حياة لها نهاية حياة أخرى ممجدة لن تنتهي أبداً حيث ينتقل المؤمن من مقرّ أرضيّ مقرّ ابديّ حيث الحياة والسعادة والمجد مع المسيح وفي المسيح.

 

ب) الاعتراض الثاني على حقيقة القِيامَة

 

ينطلق يسوع من الكتاب المقدس للردَّ على اعترض الصِّدُّوقيين. وكان يمكن للسيِّد المسيح أن يؤكّد لهم القِيامَة من كتابات الأنبياء (هوشع 13: 14، حزقيال 37: 1-؛14 أشعيا 36: 19، مز مور 104: 29)، ولكنه أراد أن يستند سفر التكوين الذي يؤمن به الصِّدُّوقيون. وقد استند يسوع لإثبات حقيقة قِيامَة الموتى على كلام الله لمُوسى النبي، وعلى قدرة الله، وعلى المنطق وعلى ربط الإيمان بقِيامَة الموتى بشخصه القائم من بين الأموات.

 

الحجة الأولى: كلام الله لمُوسى النبي

 

استند يسوع لإثبات حقيقة قِيامَة الموتى على كلام الله لمُوسى النبي، المصدر الّذي يحترمونه الصدّوقيّون.  إن كان الإله الّذي يؤمن به الصِّدُّوقيون هو إله العهد، العهد مع إبراهيم ومع اسحق ومع يعقوب، كما ورد في التوراة عن كلام الله لمُوسى النبي "إِذهَبْ وأجمَعْ شُيوخَ إِسْرائيلَ وقُلْ لَهم: "الرَّبُّ إِلهُ آبائِكُم تراءَى لي-إِلهُ إِبْراهيمَ وإِسحقَ ويَعْقوب" (خروج 3: 6) فلا يمكن لأيّ شيء، ولا حتّى الموت، أن يعيق العهد دائم. وإذا صحّ أنَّ الله جعل من نفسه صديقا للآباء، فصداقته للأبد، لان عبارة " إِلهُ إِبْراهيمَ وإِسحقَ ويَعْقوب" تشير اختيار الله وأمانته لمختاريه، ولا يستطيع الموت أن يضع حداً لاختيار الله وأمانته من ناحية، ومن ناحية أخرى من حيث أنَّ الله هو إله أحياء لا إله أموات، فلا بُد أن هؤلاء أحياء عنده، وإن كانوا أحياء، فلا بدَّ أنّ القِيامَة موجودةٌ وحقيقيّة. ومن هذا المنطلق، الحياة الأخرى متضمنة في كتابات مُوسى التي اقتبسوا منها "أنا إِلهُ أَبيكَ، إِلهُ إِبْراهيم وإِلهُ إِسحق وإِلهُ يَعْقوب" (خروج 3: 6).

نستنتج مما سبق أنَّ الحجة الأولى قائمة على اختبار الشركة مع الله. "إِذ دعا الرَّبَّ إِلهَ إبراهيم وإِلهَ إِسحق وإِله يَعقوب" فهذا دليل على القِيامَة والحياة الأبدية التي يستمتع بها كل المؤمنين به. ولذلك فانَّ أمواتنا أحياء، يحيون بالله، ولكي نقبل هذه العقيدة يجب أولاً الإيمان بالله، الإيمان بانه تعالى هو الذي أرادنا وأعطانا الحياة، ولا يرغب في أن يجد نفسه يوما أمام جثثٍ وقبورٍ. الربُّ هو إلهٌ حيٌّ لناس أحياء. فكيف سيتحقق هذا على ارض الواقع؟ هنالك كثير من العجائب لم يُفسرها العقل.

 

الحجة الثانية: قدرة الله

 

استند يسوع لإثبات حقيقة قِيامَة الموتى أيضا على قدرة الله. صرّح يسوع " أَنتُم في ضَلالٍ لأَنَّكُم لا تَعرِفونَ الكُتُبَ ولا قُدرَةَ الله " (متى 22: 29). فالصِّدُّوقيون لا يجهلون الكتب المقدسة فحسب، ولكنهم أيضا لا يعرفون قوة الله، فالسماء أبعد من إدراكنا وتخيلنا كما قال بولس الرسول "ما لم تَرَهُ عَيْنٌ ولا سَمِعَت بِه أُذُنٌ ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَر، ذلكً ما أَعدَّه اللهُ لِلَّذينَ يُحِبُّونَه" (1 قورنتس 2: 9). وتتجلى قدرة الله بصفة خاصة في القِيامَة "وجُعِلَ ابنَ اللهِ في القُدرَةِ، بِحَسَبِ روحِ القَداسة، بِقِيامتِه مِن بَينِ الأَموات، أَلا وهو يسوعُ المسيحُ ربّنا" (رومة 1: 4)؛ وفي موضع آخر يقول بولس الرسول " فالَّذي أَقامَ يسوعَ المسيحَ مِن بَينِ الأَموات يُحْيي أَيضًا أَجسادَكُمُ الفانِيةَ بِرُوحِه الحالِّ فيكُم "(رومة 8: 11). فعلى الناس إذن أن يؤمنوا بالقِيامَة، وان يسلكوا سلوك أبناء الله، سلوك أبناء القِيامَة.

 

الحجة الثالثة: نظام الله الجديد

 

استند يسوع أخيرا لإثبات حقيقة قِيامَة الموتى على المنطق. الحياة الأبديّة هي حياة فائقة على مستوى ملائكي؛ "َأمَّا الَّذينَ وُجِدوا أَهْلاً لأَن يَكونَ لَهم نَصيبٌ في الآخِرَةِ والقِيامَة مِن بَينِ الأَموات، فَلا الرِّجالُ مِنهُم يَتَزوَّجون، ولا النِّساءُ يُزَوَّجنَ" (لوقا 20: 35). لا تعني هذه الكلمات أنَّ الإنسان لن يعرف شريكته في السماء بل يعني أنَّ نظام الله الجديد لن يكون امتدادا لهذه الحياة، فلن تتطبق عليه نفس القواعد الجسدية والطبيعية. فلا تقوم الحياة الآخرة على مفاهيم أرضيّة، ولا يرتبط فيها الأعضاء بارتباطات جسديّة؛ ففي القِيامَة يُبطل الزواج، ويُصبح الناس كملائكة الربّ. إن علاقاتنا في هذه الحياة محدودة بالزمن والموت والخطيئة وأمَّا الحياة الآتية فلا تُقاس ولا تُفهم بحسب قوانين الحياة الحاضرة. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "في الحياة الأبديّة نمارس حياة ملائكيَّة فلا يوجد زواج. أنه ليس لأنهم لا يتزوَّجون هم ملائكة، وإنما لأنهم ملائكة فهم لا يتزوَّجون". فإن غايتنا أن ننعم بالحياة الملائكيّة.

 

عند القِيامَة يصبح المؤمنون "أَمثالُ المَلائِكَة فلا يُمكِنُ بَعدَ ذلك أَن يَموتوا، لِأَنَّهُم أَمثالُ المَلائِكَة، وهُم أبناءُ اللهِ لِكَونِهِم أَبناءَ القِيامَة (لوقا 20: 36) لا تحتاج أجسادنا شبع مادي بصورة أو بأخرى، إذ تحمل طبيعة جديدة تليق بالسماء، فلا تأكل ولا تشرب ولا تمارس علاقات زوجية، فالملائكة لا يتناسلون. ويُعلق العلامة ترتليانوس "في حديث الرب هنا عن عدم الزواج في الدهر الآتي لا يعني أن الإنسان يفقد كيانه كإنسان أو يخسر جسده، فكما يُسمح للملائكة أن تظهر على شكل بشر دون أن يفقدوا طبيعتهم الملائكية هكذا نصير نحن كملائكة الله دون فقدان لجسدنا البشري، وإنَّما لا تكون له متطلبات زمنية، بل يحمل طبيعة جديدة تليق بالحياة السماوية".

 

كشف يسوع هنا أحد جوانب غاية الزواج ألا وهو الإنجاب، ففي هذا العالم توجد حاجة للزواج من أجل بقاء الجنس البشري، لكن في السماء بما انه لا يوجد موت، فلا حاجة للإنجاب. ويعلق القديس أوغسطينوس "عندما نصير مساويين لملائكة الله سنراه وجهًا لوجه كما يرونه هم". كذلك نحن في العالم نحتاج الزواج بسبب موت الجسد، لكننا عندما نصير كالملائكة لا تدخل إلينا الخطيّة ولا نسقط تحت الموت، فلا حاجة زواجٍ لإنجاب أجيال تالية عِوضاً من الجيل القائم. ويُعلق القديس أمبروسيوس الأسقف " كانَت قِيامَة الموتى، لتُهزَمَ الخطيئةُ بالموتِ، وتُصبِحَ الطبيعةُ بالقِيامَة خالدة".

 

الحجة الرابعة: قيامة يسوع المسيح

 

يعلِّمنا الإيمان المسيحي "أنّ الموت الجسدي لم يكن الإنسانُ ليخضع له لولا الخطيئة، وأنّ هذا الموت سيُغلَب عندما يعيدُ المخلِّصُ الرحوم والكلّي القدرة إلى الإنسان الخلاص الذي خسره بخطيئته. إنّ هذا الانتصار قد حقّقه المسيحُ بقيامته مُحرّرًا الإنسان من الموت بموته "(“فرح ورجاء"، دستور رعائي في الكنيسة في عالم اليوم، العدد 18).  ويُعلق القدّيس أنَسطاس بطريرك أنطاكية "فقَد ماتَ المَسيحُ وعادَ إِلى الحَياة لِيَكونَ رَبَّ الأَمواتِ والأَحْياء" (رومة 14: 9). لكن "ما كانَ الله إلهَ أَموات، بل إِلهُ أَحياء" (لوقا 20: 38). لذا، بما أنّ ربّ الأموات هذا حيّ، فإنّ الأموات لم يعودوا أمواتًا بل أحياء؛ وكما "أَنّ المسيح، بَعدَما أُقيمَ مِن بَينِ الأَموات، لن يَموتَ بعدَ ذلِك ولن يَكونَ لِلمَوتِ علَيه مِن سُلطان" (رومة 6: 9)، هكذا هم أيضًا لن يروا الموت بعد أن أقيموا وحُرِّروا من حالتهم الفانية، وسوف يشاركون في قيامة المسيح كما شارك هو في موتنا"(العظة رقم 5 عن قيامة المسيح).

 

إن الإثبات المطلق على القِيامَة هو الربّ يسوع وانتصاره على الموت حين قام من القبر. واستند يسوع لإثبات حقيقة قِيامَة الموتى على ربط الإيمان بشخصه أذ قبل أن يُقيم يسوع لعازر من الموت هتف " أَنا القِيامَة والحَياة مَن آمَنَ بي، وَإن ماتَ، فسَيَحْيا وكُلُّ مَن يَحْيا ويُؤمِنُ بي لن يَموتَ أَبَداً. أَتُؤمِنينَ بِهذا؟ " (يوحنا 11: 25-26). يعلق القدّيس أوغسطينوس " ما معنى هذا الكلام؟ "مَن آمَنَ بي، وإنْ ماتَ مثل لِعازَر، فسَيَحْيا" لأنّ الله ليس إله أمواتٍ، بل إله أحياء. آمِنْ إذًا، وإنْ مُتَّ، فسَتَحْيَ! لكن إنْ لم تؤمِنْ، حتّى لو كنتَ حيًّا، فأنتَ في الحقيقة مَيت. من أين يأتي موت النّفس؟ من فقدان الإيمان. ومن أين يأتي موت الجسد؟ من فقدان النّفس. إذًا فالإيمان هو نَفسُ النّفس" (عظات عن إنجيل القدّيس يوحنّا).  يسوع نفسه هو الذي سيُقيم في اليوم الأخير الذين امنوا به " الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: تَأتي ساعةٌ -وقد حَضَرَتِ الآن -فيها يَسمَعُ الأَمواتُ صَوتَ ابنِ الله والَّذينَ يَسمعَونَه يَحيَوْن" (يوحنا 5: 25).

 

يُقيم يسوع الذين أكلوا جسده وشربوا دمه "مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير"(يوحنا 6: 54). وقد أعطى علامة وعربونا بإعادة الحياة لبعض الموتى كإحياء ابنة يائيرس، رئيس المجمع (مرقس 5: 21-43) وإحياء ابن أرملة نائين، (لوقا 7: 11-17) وإحياء لعازر (يوحنا 11: 45) مشيرا بذاك قيامته الخاصة، مع أنَّ هذه ستكون من نوع أخر. لأنه إن كان الموتى لا يقومون، فلا يكون المسيح قد قام "فإِن لم يَكُنْ لِلأَمواتِ مِن قِيامَة، فإِنَّ المسيحَ لم يَقُمْ أَيضًا. وإِن كانَ المسيحُ لم يَقُمْ، فتَبشيرُنا باطِلٌ وإِيمانُكُم أَيضًا باطِل" (1قورنتس 13-14).

 

يعلن قانون إيمان الرسل "نترجى قِيامَة الموتى"، ويعمم هذه القِيامَة "سيقوم جميع الموتى بأجسادهم في اليوم الأخير عند المجيء الثاني للرب يسوع الذي صرَّح "مَشيَئةُ الَّذي أَرسَلَني أَلاَّ أُهلِكَ أَحَداً مِن جَميعِ ما أَعْطانيه بل أُقيمُه في اليَومِ الأَخير. فمَشيئةُ أَبي هيَ أَنَّ كُلَّ مَن رأَى الِابنَ وآمَنَ بِه كانَت له الحياةُ الأَبَدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" (يوحنا 6: 39-40). وسيقوم الموتى بالجسد عينه الذي كانوا يلبسونه على الأرض. وأجساد الأبرار ستتغيَّر وتتمجّد على مثال جسد المسيح القائم من الموت" الَّذي سيُغَيِّرُ هَيئَةَ جَسَدِنا الحَقير فيَجعَلُه على صُورةِ جَسَدِه المَجيد بما لَه مِن قُدرَةٍ يُخضِعُ بِها لِنَفْسِه كُلَّ شيَء" (فيلبي 3: 21). أمَّا أجساد الأشرار خالدة بغير فساد، لكن لن تكون ممجّدة. عدم الفساد لا بدَّ منه لعقاب الجسد الأبدي في جهنم "إِذا كانت عينُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ، فَاقْلَعْها وأَلقِها عنكَ، فَلأَن تَدخُلَ الحياةَ وأَنتَ أَعَور خَيرٌ لكَ مِن أَن يكونَ لكَ عَينان وتُلقى في جَهَنَّمِ النَّار" (متى 18: 9).

 

نستنتج مما سبق أن الإيمان بالقِيامَة يمنح الإنسان إمكانية عيش حياة مختلفة، تمكنه من أن يبقى بعيدًا عن الخوف من الموت، لأن كل من يثق بالآب سيبقى حيًا، ولا يمكن أن يموت كما اكَّد يسوع "فلا يُمكِنُ بَعدَ ذلك أَن يَموتوا، لِأَنَّهُم أَمثالُ المَلائِكَة، وهُم أبناءُ اللهِ لِكَونِهِم أَبناءَ القِيامَة" (لوقا 20: 36)، وليس عليه أن يقلق لاستمرارية حياته لأنه يستطيع منذ الآن أن يتذوق حياة لا تعرف الموت كما صرَّح يسوع لمرتا " أَنا القِيامَة والحَياة مَن آمَنَ بي، وَإن ماتَ، فسَيَحْيا" يوحنا 11: 25). فمن يثق بيسوع ويضع حياته بين يديه لا يمكن أن يموت بعد ذلك، لأنَّ العلاقة مع الله من خلال يسوع هي ضمانة قيامتنا بعد الموت الأرضي. ومن هنا لا تنتهي حياة المؤمن مع الزمن، لأنّ هدفها هو الأبديّة. ويختبر المؤمن بهجة الخلاص في العالم الحاضر، ولكنّه يتمتّع بالخلاص الكامل من جميع الوجوه في السماء. فهناك حياة أبديّة، التي يدخل فيها الإنسان منتصراً على الموت بالقِيامَة.

 

كشف الروح القدس الحياة التي يرغب في أن يُشركنا فيها على امتداد الأبديّة كما جاء في تعليم بولس الرسول "ما لم تَرَهُ عَيْنٌ ولا سَمِعَت بِه أُذُنٌ ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَر، ذلكً ما أَعدَّه اللهُ لِلَّذينَ يُحِبُّونَهفلَنا كَشَفَه اللهُ بِالرُّوح، لأَنَّ الرُّوحَ يَفحَصُ عن كُلِّ شَيء حتَّى عن أَعماقِ الله" (1 قورنتس 2: 9-10).  هل نحن نؤمن حقاً بالقِيامَة؟ وهل إيماننا بالقِيامَة هذا يُؤثر أو يُسيِّر ويقود طريقة عيشنا في هذه الأرض، وبعد موتنا في الحياة الأبدية؟  يقول القديس بولس: وإِذا لم يَكُنِ المسيحُ قد قام، فإِيمانُكم باطِل ولا تَزالونَ بِخَطاياكم، ونَحنُ أَحقُّ جَميعِ النَّاسِ بِأَن يُرْثى لَهم" (1 قورنتس 15: 19).

 

 

الخلاصة

 

في الأيام السابقة للآلام يسوع وموته، يتردَّد يسوع إلى الهيكل للتعليم، فيحاول قادة الشعب خاصة الفريسيون والصدوقيون إحراجه كي يفقد سلطته في التعليم " لِأَنَّ الشَّعبَ كُلَّه كانَ مولَعاً بِالاستِماعِ إِلَيه" (لوقا 19: 48). فسأله الصدوقيون حول موضوع " قيامة الموتى" بهدف السخرية والاستخفاف من تعاليمه. فيجيبه يسوع عن جوهر القيامة وحقيقتها ردًا على سؤاله: إذا كان الاله الذي يؤمنون به هو إله العهد، فإن هذا الاله لا يمكن أن يترك الإنسان تحت رحمة الموت والفناء. وإذا كان العهد الذي قطعه مع ابرأهم تم تجديده في شخصه، فلا يمكن الموت أن يعيق هذه الحياة.

 

يسوع بنفسه اختبر الموت والحياة وأصبح بكر الأموات.  يعلن قانون الرسل، قانون الإيمان الذي نتلوه في قداس كل الأحد "نترجى قِيامَة الموتى"، ويُعمم هذه القِيامَة بانه سيقوم جميع الموتى بأجسادهم في اليوم الأخير عند المجيء الثاني للرب يسوع (يوحنا 6: 39-40)، وسيقوم الموتى بالجسد عينه الذي كانوا يلبسونه على الأرض. وأجساد الأبرار ستتغيَّر وتتمجّد على مثال جسد المسيح القائم من الموت (فيلبي 3: 21)؛ وهذا الجسد هو جسد بعيد عن الوجع والألم كما جاء رؤية يوحنا " وسيَمسَحُ كُلَّ دَمعَةٍ مِن عُيونِهم. ولِلمَوتِ لن يَبْقى وُجودٌ بَعدَ الآن، ولا لِلحُزنِ ولا لِلصُّراخِ ولا لِلأَلَمِ لن يَبْقى وُجودٌ بَعدَ الآَن، لأَنَّ العالَمَ القَديمَ قد زال " (رؤيا 21: 4) وهو جسد روحاني " "يُزرَع جِسْمٌ بَشَرِيٌّ فيَقومُ جِسْمًا رُوحِيًّا" (1 قورنتس 44:15).  

 

وهذا الجسد هو جسد منير" الصِّدِّيقونَ يُشِعُّونَ حِينَئذٍ كالشَّمْسِ في مَلَكوتِ أَبيهِم." (متى 13: 43)؛ أمَّا أجساد الأشرار خالدة بغير فساد، لكن لن تكون ممجّدة. عدم الفساد لا بدَّ منه لعقاب الجسد الأبدي في جهنم "وإِذا كانت عينُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ، فَاقْلَعْها وأَلقِها عنكَ، فَلأَن تَدخُلَ الحياةَ وأَنتَ أَعَور خَيرٌ لكَ مِن أَن يكونَ لكَ عَينان وتُلقى في جَهَنَّمِ النَّار"(متى 18: 8-9).

 

 

الدعاء

 

أيها الآب السماوي، انزع من قلوبنا كلَّ شك حول قِيامَة الموتى وافتح عيوننا لا على الزمن الحاضر فقط بل بما سوف يأتي أيضا، لا على ما هو مرئيّ فقط، بل على ما هو غير مرئيّ أيضا، امنحنا إيماناً في القِيامَة في اليوم الأخير لنتحضّر على ملاقاتك، ولنثبت على رجاء القِيامَة السعيدة فننعم مع جميع موتانا المؤمنين بالحياة الأبدية في ملكوتك السماوي. آمين