موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٧ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٢

"قسّاوة الرقبة" بين كاتبي سفر الخروج والإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (خر 32: 7- 14؛ لو 15: 1- 32)

سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (خر 32: 7- 14؛ لو 15: 1- 32)

 

مقدّمة

 

القراء الأفاضل، كثيراً ما نتضايق من معاندة بعض الأبناء أو الإخوة ونصفه بالرأس العنيدة أو العنيد الطبع. هكذا في لّاهوت الكتاب المقدس، نتعامل نحن البشري بذات المنطق مع الله. ونسمع كثيراً تعبير «هذا الشعب قاسي الرقبة» موجه من الله لنبي ما أو ملك ما. في مقالنا هذا سنتناقش من خلال نصين متوازيين، يحملا ذات المضمون، يحمل كلاً منهما فكر يكتمل مع الآخر ويخاطب عصرنا الحالي. وفي ذات الوقت نحن أمام شخصيتين لهما ثِقلهما بالعهد الأوّل موسى (خر 32: 7- 14) والثاني بحسب لوقا هو يسوع المعلم الّذي من خلال ديناميكية الأمثال يطلق تعليم فريد يفسر بعمق ما قام به موسى بالماضي (15: 1- 32). نكتشف بنص سفر الخروج شخصية "موسى" الوسيط والشفيع الّذي يتحاور مع الله حينما يقسي الشعب، قلبه وأذنيه، عن جهل ما يسمعه من الله. أما بالعهد الثاني نلتقي مباشرة بيسوع المعلم الّذي يكشف عن وجه الآب لأخوته المُهمشين والمرفوضين من الفئة المتدينة بعصره حينما يستمروا في قساوة القلب. نهدف من خلال هذا المقال توضيح قساوة القلب أو الرقبة ليس سلوك شعب بني إسرائيل أو المعاصر ليسوع فقط، بل هو سلوكنا اليوم حينما لا نستجيب ونرفض السماع للصوت الإلهي سواء عن جهلنا لله أو بإرادتنا. لذا مدعوين أن ندخل في منطق الصوت الإلهي لتذوب قساوة القلب والرقبة والعِند ولتحل المرونة والطاعة للصوت الإلهي.

 

 

1. الخيانة البشرية (خر 32: 7- 10)

 

بعد أن أتمّ الرّبّ رسالته التحريريّة لأجل خير الشعب بقيادة موسى بالخروج من حالة العبودية، نسمع الصوت الإلهي يعلن خيانة الشعب لموسى بعد حوار مُطول معه إذ يأمره قائلاً: «هَلُمَّ انزِلْ، فقَد فَسَدَ شَعبُكَ الَّذي أَصعَدتَه مِن أَرضِ مِصْر [...] وصَنَعوا لأَنفُسِهم عِجْلاً مَسْبوكاً، فسَجَدوا لَه وذَبَحوا لَه وقالوا: هذِه آلِهَتُكَ، يا إِسْرائيلُ، الَّتي أَصعَدَتكَ مِن أَرضِ مِصْر [...] فإِذا هو شَعْبٌ قاسي الرِّقاب» (خر 32: 7- 10).  يتكرر هذا التعبير مِراراً «شَعْبٌ قاسي الرِّقاب». ومن هنا نتلمس أن صفة "قاسي الرَّقبة" هي صفة تُطلق على الشخصية العنيدة الّتي تدير رأسها بقساوة أمام أولئك الّذين يرشدونهم للخير، رافضين الاستماع لهم، رفضًا تامًا (راج خر 33: 3، 5؛ 34: 9). هذا التعبير وُصفَّ به كثيراً بني إسرائيل الّذين تمّ دعوتهم للسماع والطاعة لصوت الرّبّ القائل: «اِسمَعْ يا إِسْرائيل» (تث 6: 4) وتكشف عن قسّاوة قلب الإنسان.

 

يتكلم الله في الكتاب المقدس مع الإنسان بلغة بشرية مفهومة؛ فلصوته قدرة إلهية إلا أنّ الإنسان لا يريد يصغي له، أو قد يخشى فِهمه. ومن هنا أرسل الرّبّ بطاركة وقضاة وملوك وأنبياء ليحملوا رسالته بالعهد الأوّل. لذا نسمع على لسان موسى هذا التعبير مما يدل على عدم اهتمام الشعب. إن قسّاوة إسرائيل هي التمرد والتقصير لما يسمعه من رسائل إلهية بواسطة موسى.

 

 

2. الوساطة البشرية (خر 32: 11- 14)

 

من خلال إعلان الرّبّ لحقيقة الشعب وقسّاوة شعبه تجاهه يأتي التدخل البشري من خلال موسى القائل: «يا ربّ، لِمَ يَضطَرِمُ غَضَبُكَ على شَعبِكَ الَّذي أَخرَجتَه مِن أَرضِ مِصرَ بِقُوَّةٍ عَظيمةٍ وَيدٍ قَديرة؟ [...] اِرجِعْ عَنِ اضطِرامِ غَضَبِكَ واعدِلْ عنِ الإِساءَةِ إِلى شَعبِكَ. واذكُرْ إِبْراهيمَ وإِسْحقَ وإِسْرائيل عَبيدَكَ الَّذينَ أَقسَمتَ لَهم بِنَفسِكَ وقُلتَ لَهم: إِنِّي أُكَثِّرُ نَسلَكُم كنُجومِ السمَّاء، وكُلُّ الأَرضِ الَّتي تَكَلَّمتُ علَيها سأُعْطيها لِنَسلِكُم فيَرِثونَها لِلأَبَد» (خر 32: 11- 13). يعلم موسى بحقيقة الشعب وبما يحمله في قلبه. وتذكره بقول الرب للبطاركة بأنّه إله ينتمي للشعب ويطلب الغفران وعدم تذَّكر إساءة الشعب الّتي تتضح في قسّاوة رقبته. ويفاجئنا كاتب سفر الخروج برد فعل إلهي حينما يُدّون: «فعَدَلَ الرَّبُّ عنِ الإِساءَةِ الَّتي قالَ إِنَّه يُنزِلُها بِشَعبِه» (خر 32: 14). تدّخل موسى لصالح الشعب جعل الرّبّ يتذكر طاعة البطاركة ويغفر قسّاوة قلب ورقبة شعبه. هذا ما يّذكرنا به لوقا على لسان يسوع بردّ فعل قوي أمام معاصريه ذويّ القلب المتحجر والرقبة القاسية.

 

 

3. تمهيّد جوهري (لو 15: 1)

 

يصف لوقا وضع معاصري يسوع كتمهيد للتعليم من خلال الأمثال قائلاً: «كانَ الجُباةُ والخاطِئونَ يَدنونَ مِنه [يسوع] جَميعاً لِيَستَمِعوا إِلَيه. فكانَ الفِرِّيسِيُّونَ والكَتَبَةُ يَتَذَمَّرونَ فيَقولون: "هذا الرَّجُلُ يَستَقبِلُ الخاطِئينَ ويَأكُلُ مَعَهم!"» (لو 15: 1-2). نحن أمام فئة متدينة خارجيًا إذ تعاني من تذمر وقساوة بالقلب والرأس، إذ يرفضوا قبول يسوع لفئات مهملة منهم. وفي هذا الوقت نصغي لصوت يسوع الإلهي بتعليمه الشهير من خلال ثلاث أمثال شهيرة تكشف عما هو مفقود وموجود. الفكر الجديد، الّذي يحمله هذا التعليم هو أنّ الله يهتم بالضائع ويشعر بفرح عظيم في العثور على ما هو ضائع (الخروف، الدرهم، الابن). علاوة على ذلك، يواجه يسوع الابن، الانتقادات بكونه يُناهض المفقودين من خلال مثله عن الآب الرحيم الّذي يواجه غضب ابنه الأكبر بالحب والسلام دون أن يعتذر.

 

في هذا التمهيد اللُوقاوي يواجه يسوع انتقادات متكررة، من قساة الرقاب، لدرجة الافتراء. هكذا في يومنا المعاصر، في كل مرة تعيد الكنيسة صورة الله-الآب الحقيقية الذي يبحث عن المفقودين، ينشأ انزعاج المتدينين ظاهريًا، حينما يهتم الله بفقدان ابن واحد. مثليّ الخروف الضال، من الرجل الراعي، ثم العملة المفقودة من المرأة ربّة المنزل، يجمعا عامل يشترك مع سر الله الذي يهتم حتى بشخص واحد مفقود، قد يكون تافه ولا قيمة له أمام الفئة الدينية. هذا التمهيد يكشف صورة الحب الإلهي الفائض والغير مفهوم حتى من رجال الدين. قدّ تصل أخلاقنا المسيحية إلى مستويات عنيدة وقاسية للغاية بالحكم على الآخرين لأننا لمّ نفهم بعد إننا غير قادرين على إدراك كرامة الإنسان المطلقة كما يراه الله الآب. لذا فإن الشخصيات التي تلعب دورًا أساسيًّا في مقدمة تعليم يسوع بالأمثال هي ثلاثة: يسوع، الخطأة وجباة الضرائب، الفريسيون والكتبة.

 

 

4. تعليم يسوع (4- 32)

 

بعد توضيح التمهيد اللُوقاوي لتعليم يسوع الّتي وصفت سياق أمثال يسوع التعليميّة. السياق هو سياق خدمته الذي يرحب فيه بجباة الضرائب والخطأة الذين يذهبون إليه لسماع كلمته. سلوك يسوع هذا أثار تذمر الفريسيين والكتبة. والآن أدعوكم لقراءة متأنية لأمثال يسوع الثلاث والّتي دائمًا تحوي تدخُل ثلاث شخصيات بالمشهد. في المثّل الأول لدينا راعي وخروف وأصدقاء وجيران. في الثاني: امرأة، عملة معدنية، أصدقاء وجيران؛ في الثالث لدينا أب وابن أصغر وابن أكبر. بالطبع، المثّل الذي يجمع بين الثلاث أمثلة، ولكن حتى في المثلين الأولين يمكننا أن نلمح نمط إلهي مُتميز وهو ما يشير لمهمة يسوع باعتبارها تفويضًا لجمع شعب الله المشتت. تمثل الشخصيات الثلاث - خاصة في المثل الثالث - في الواقع يسوع، والخطأة (العشارين) بالإضافة إلى الفريسيين والكتبة. يمثل الأصدقاء المقربون والابن الأكبر والجيران، والكتبة والفريسيون هم أولئك الذين دائمًا مع الله: «يا بُنَيَّ، أَنتَ مَعي دائماً أبداً» (لو 15: 31). أما بالنسبة للخروف الضال والعملة المفقودة والابن المفقود يمثلون المذنبين وجباة الضرائب. هذه الصورة مهمة للغاية في إعادة بناء رسالة الأمثال الثلاثة.

 

ثم يأتي التعبير اللُوقاوي مُعلنًا: «فضرَبَ [يسوع] لَهم هذا المَثَلَ» (لو 15: 3). هناك جانب آخر مهم يتعلق بالتناقض الذي نلاحظه بين هذا التعبير وتطور النص الذي نجد فيه بدلاً من ذلك ليس مثل واحد بل ثلاث. يمكن تفسيرها بأنها إعلان عن حقيقة أن الأمثال الثلاث تروي المثل الوحيد لقصة الله مع البشرية، وتتجه نحو ما ضاع. في الأساس، يعلن يسوع مع الأمثال الثلاثة حقيقة واحدة وهي إنه يعلن أن هناك وحدة واستمرارية في خطة الله تأتي للتحرر من قسّاوة الرقبة والقلب البشريين. سلوك الله الآب هو سلوك الآب الّذي لم يتعب عبر التاريخ من البحث عن رجل وامرأة بجنة عدن بعد، وعن شعبه في أرض العبودية، قساة الرأس والقلب. وهكذا حتى يومنا هذا لمّ ولن يتوقف عن البحث عنّا نحن الأشرار لنعود إليه بكل قلوبنا. هكذا يمكن قراءة هذه الأمثال الثلاثة كمثل واحد يروي "قلب الله" أمام قساوتنا البشرية. من الضروريّ الإقتناع بأنّ قلب الله الآن يتجلى في يسوع الناصري.

 

تكشف هذه الأمثال الثلاث بالإضافة إلى ظهور الشخصيات الثلاث المتواجدة في كل منهم نمط مشترك بينهما: لدى لرجل مئة خروف؛ لدى المرأة عشر عملات وللأب لديه إبنان. وفي مرحلة أخرى تتم إضافة تفاصيل مركزية إلى هذه المواقف الأولية وهي فقدان شيء ما. الراعي يفقد خروف، والمرأة درهم، والأب ابنه الصغير. ثم يؤكد أن ما كان موجودًا وقد ضاع الآن. بالإضافة إلى عنصر ثالث وهو جهد الراعي والمرأة والأب لاستعادة ما تمّ فقدانه. في العنصر الأخير الّذي ينتظر فيه الآب بصبر ابنه ويركض للقائه، تعبير عن سلوك الله تجاه البعيدين عنه لقساوتهم. والعنصر الأخير الّذي يميز الأمثال الثلاثة الّذي يوحد تاريخ الله مع البشرية هو الفرح. يفرح الله (الراعي، المرأة، الآب) عندما يجد ما فقده. وهنا ينبغي الاحتفال. يتطور هذا العنصر بالشخصية الثالثة المتمثلة في: الأصدقاء، الجيران، الأخ الأكبر. هؤلاء مدعوون للدخول في فرح الراعي والمرأة والأب. حتى الفريسيون والكتبة بالرغم من قساوة قلوبهم ورقابهم، مدعوون أيضًا للدخول في فرح العثور على المفقودين. نعم فرح الله لا يستثني أحدًا، بل يترجى الجميع للدخول والتخلي عن القساوة بالمرونة راجيًا تجاوبهم مع دعوته.

 

 

الخلَّاصة

 

في هذا المقال، قد استعنّا بحوار الله مع موسى عن شعبه قاسي الرقبة (خر 32: 7- 14) وبتعليم يسوع للكتبة والفريسيين، من خلال الأمثال الّتي نطق بها بحسب نص لو 15: 1- 32. موضوع هذا المقال يلمس حياتنا وقلوبنا ورقابنا العنيدة والقاسية. ففي هذا المقال تعرفنا على حب إلهي يتجاوز حقيقتنا البشرية أمام قساوة البشر من الشعب ومن الفئة المتدينة في عصر يسوع وهم الناقدين لرسالته وخدمته وطريقته في التصرف تجاه جباة الضرائب والخطأة. الغفران والفرح هو الأسلوب الّذي يُجسد وجه الله الغير مرئي أمام قساوة البشري سواء بالماضي أو اليوم. أما بالنسبة لنص سفر الخروج بالعهد الأوّل، والّذي يشير لشفاعة موسى عند الرّبّ لأجل مَن استسلموا لقساوة رقابهم، إذ يُظهر النص صورة موسى الوسيط الذي يطلب من الله الغفران والرحمة لشعبه العنيد. ووجه الله الذي يتوب عن الشر مستبدلاً برحمته الإلهية القساوة البشرية. يُظهر التوازي بين فقرة الإنجيل ومقطع الخروج أنّ وجه إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب هو نفسه الذي جاء يسوع ليكشف عنه. دُمتم أيها القراء الأفاضل مكتشفين مؤمنين للرحمة الإلهية الّتي تتجسد في حياتنا الشخصية يوماً بعد يوم بالرغم من عِناد قلوبنا وقساوة رقبتا.