موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٣٠ مايو / أيار ٢٠٢٤

عيد جسد الرب وَدمِه الأقدَسَين، 2024

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
عيد جسد الرب وَدمِه الأقدَسَين

عيد جسد الرب وَدمِه الأقدَسَين

 

﴿لَقَدْ دُمِّرَ شَعْبي لِعَدَمِ الْمَعرِفَة﴾ (هوشَع 6:4)

 

أَيُّها الأحِبَّاءُ في الْمَسيحِ يَسوع. ونَحنُ نحتَفِلُ بِعِيدِ جَسَدِ الرَّبِّ وَدمِهِ الثَّمينَين، وجَرَّاءَ مَا لَحِقَ بهذَا السَّرِّ الأَعظَمِ مِنْ استِهتَارٍ واستِخفَاف، فَرَضَتهُ جَائِحَةُ كورونا، ومَا تَرتَّبَ عَلَيها مِنْ قَرَارَاتٍ "غَيرِ مَنْطِقيّة" ومُمَارَسَاتٍ تَخُصُّ طَريقَةَ الْمُناوَلَة، والحَمدُ للهِ أَنَّنا هُنَا في رَعيّةِ سَيّدَةِ الوَرديَّةِ في الكَرك، كُنَّا بِمنْأَى عَنهَا، اِرتَأَيتُ أَنْ أَتَحَدَّثَ إِلَيكُم بِلسانِ "خوري قَريَةِ آَرس" في فَرنَسا، القِدّيسِ يُوحَنّا مَاري فَيانّيه، والَّذي كَانَ مَعرُوفًا بِتَعَبُّدِهِ الحَارِّ لِلْمَسيحِ القُربَانيّ، في عِظَةٍ لَهُ حَولَ سِرِّ الإفخَارستيّا، تَرجَمتُهَا عنِ الفَرنسيّة، يَقول:

 

"الإفْخَارِستيَّا هيَ السَّمَاءُ النَّازِلَةُ في نُفوسِنَا! يَا لِسَعَادَةِ أُولئِكَ الَّذينَ يَقبَلُونَ الرّبَّ يَسوعَ في الْمُنَاوَلَةِ الْمُقَدَّسَة، وهُمْ عَلَى أَتمِّ الاستِعدَادِ ومُنْتَهَى الإدرَاك. وإِنْ كَانَت أَليصَابَاتُ وجَنِينُهَا الْمَعمَدَانُ قَدْ اهتَزَّا فَرَحًا بمُقَابَلةِ الْمَسيحِ وهوَ في بَطنِ أُمِّهِ مَريم، فَكَمْ بِالأحرَى تَكونُ فَرحَتَنُا أَعظَمُ، نَحنُ الَّذينَ نَقبَلُ الْمَسيحَ بِنَاسُوتِهِ وبِلاهُوتِه، في أَعمَاقِ قُلُوبِنَا بالْمُنَاوَلةَ الْمُقدَّسَة؟! وإذا كَانَ سِمعانُ الشَّيخُ قَدْ حَمَلَ الطِّفلَ يَسوعَ بَينَ ذِراعَيهِ وتَأَمَّلَ بَهَاءَ الْمُخَلِّصِ لِلَحَظَات، فَكَيفَ تَكونُ حَالُنَا نَحنُ الّذينَ نحمِلُ الْمَسيحَ في قُلوبِنَا بالإفخارستيّا؟!

 

وإذا كَانَ الْمَسيحُ قَدْ دَخَلَ بَيتَ زَكّا العَشَّار، وَاهِبًا إيَّاهُ الخَلاص، ومُحوِّلًا إيَّاهُ مِنْ خَاطِئٍ كَبيرٍ إلى قِدّيسٍ عَظيم، فَكَمْ هو وَاجِبٌ عَلينَا، نَحنُ الّذينَ نَقبَلُ في بُيوتِنَا الرّبَّ يَسوعَ بالْمُنَاولَة، أَنْ نَتَحوَّلَ مِنْ حالَةِ الخَطيئَةِ إلى حَالَةِ القَدَاسَةِ والنِّعمَة؟! إنَّ الّذينَ يَقبَلونَ الْمُناولَةَ الْمُقدَّسَةَ، وهُمْ عَلَى كَمَالِ الوَعيِ بِعَظَمَةِ هَذَا السِّر، يُصبِحونَ عَلَى الأَرضِ سَمَاءً صَغيرَة، يَسْكُنُهَا رَبُّ الْمَجد، ويَغْتَنُونَ غِنىً لا يَفُوقُهُ أَيُّ غِنَى! فَيَا لَيتَنَا نُدرِكُ فِعلًا حَقيقَةَ مَا نَحنُ مُتَنَاوِلُون.

 

وعَلَيهِ نَتَسَاءَل: لِمَاذَا يَظلُّ السَّوادُ الأعظَمُ مِنَ الْمَسيحيّين غَيرَ مُبَالِينَ بِعَظَمَةِ هَذا السِّر، ولا يَأبهونَ بالسَّعَادةِ الّتي تَحمِلُهَا الْمناوَلَةُ لِنُفوسِهم، ويَظَلُّونَ حِيَالِهُ فَاتِرينَ وَمُسْتَهتِرين؟! يا لِحَسرَةِ أُولئِكَ الَّذينَ يَقبَلُونَ الْمُنَاوَلَةَ دُونَ إِدْرَاكٍ لِمَاهِيَّةِ القُربَانِ الأقدَس! يَا لَيتَنَا نُدرِكُ بِحقٍّ أَنَّ السَّمَاءَ كُلَّهَا قَدْ أَضحَتْ فِينَا لَحظَةَ الْمُنَاوَلَة. يَا لَيتَنَا نُدرِكُ بِحقٍّ أَنَّ الْمَسيحَ نَفسَهُ يُضحِي زَادَنا الّذي يَقُوتُنَا. يَا لَيتَنَا نُدرِكُ بِحقٍّ أَنَّنَا أَصبَحنَا مَسَاكِنَ يحيَا فِيهَا الإلَه.

 

إنَّ الجَهلَ والَّلامُبَالاةَ نَحوَ سِرِّ القُربَان، هو مَا يُفسِّرُ إحجَامَ كَثيرٍ مِنَ الْمَسيحيّين عَنْ قُبُولِ الْمَناولةِ الْمُقَدَّسَةِ مُدَدٍ طَويلَة، لِشُهورٍ وربّما سَنَوَات. فَيَا لِبُؤسِ تِلكَ النُّفوسِ العَميَاء! أَيُّ فَائِدَةً تَجِدُها تِلكَ النُّفوسُ التَّعيسَةُ في العُزوفِ عَنِ الْمُنَاوَلَة؟ وكَيفَ لَها أنْ تَطمَئِنَّ إلى أَمرِ خَلاصِهَا وهيَ تَرفُضُ التَّقرُّبَ مِن سرِّ القُربَان؟! أَلا يَخشَى هَؤلاء سَاعةَ الْمُفَاجَأَة، حِينَ يُبَاغِتُهم الْمَوتُ، وتُسَاقُ نُفُوسُهم إلى عَذابِ جَهنَّم؟!

 

بِحَقٍّ قَالَ الآباءُ القِدّيسين أَنَّنَا بِقُبولِنَا الْمَسيحَ الإفخارستيّ، إنَّمَا نَقبَلُ كُلَّ أَشْكَالِ البَركَةِ لِحَياتِنا الأرضِيّةِ وأَيضًا لِحَيَاتِنَا الأبَديَّة! فالْمُنَاوَلَةُ تُمنَحُنَا اتِّحادًا حَمِيمًا بالربِّ يَسوع، وتَحُدُّ مِنْ مَيلِنَا نَحو الخَطيئَة، وتَزيدُ فينَا حَالَةَ النِّعمَة، وتُقَوّينَا أَمَامَ التَّجارِب، وتَجعَلُ نَوايانَا أَكثرَ نَقَاءً وعِفَّة، وتَزيدُ مِنْ تَمَسُّكِنَا باللهِ بِحيثُ لا نَرغَبُ بِشَيءٍ آخرَ سِوَاه، وهيَ ضَمَانَتُنَا لِلحَيَاةِ الأبَدية، لِأنَّها تُوقِدُ فِينَا الرَّغبَةَ نَحوَ الاتِّحادِ الأَبَديِّ بالله.

 

إِنَّ هَذَا الاتّحادَ العَميقَ بالربِّ يَسوع، هوَ مَا سَبقَ لَهُ أنْ عبَّر عَنهُ لَنَا قَائِلًا: ﴿مَنْ أَكَلَ جَسَدي وشَرِبَ دَمِي فَلَهُ الحَياةُ الأَبدِيَّة... مَنْ أَكَلَ جَسَدي وشَرِبَ دَمي، ثَبَتَ فِيَّ وثَبَتُّ فيه﴾ (يوحنا 54:6-56). فَبِالْمُناوَلَةِ الْمُقدَّسَة، دَمُ سَيِّدِنا يسوعَ الْمَسيحِ الثَّمينِ يَسري في عُرُوقِنَا، وجَسَدُهُ الكَريمُ يَتَّحِدُ بأِجَسَادِنَا. فَيَتمّ فِينَا قَولُ القِدّيسِ بُولس: ﴿فَمَا أَنَا أَحْيا بَعدَ ذلِك، بلِ الْمَسيحُ يَحْيا فِيَّ﴾ (غلاطية 20:2).

 

إنَّ قَلبًا وَاعِيًا قَبِلَ اللهَ كُلِّيَ النَّقَاءِ والقَدَاسَة، يَشعُرُ بالرُّعبِ أَمَامَ السُّقُوطِ في الخَطيئَة، لَيسَ فَقَط خَطايا الفِعل، بَلْ أيضًا خَطايا الفِكرِ النَّجِسَة. لِذلِكَ نَتَسَاءَلُ مِن جَديدٍ عَنْ مَدَى إِدْرَاكِنَا لِحقيقةِ مَا نَحنُ لَهُ مُتَنَاوِلُون! لِأنَّنَا لَو كُنَّا نُدرِكُ فِعلًا لَكانَ سُقُوطُنَا في الخَطيئةِ أَكثرَ صُعوبَةً، ولَيسَ بالسُّهولةِ الّتي نَختَبِرُهَا! وكَيفَ يُمكِنُ لِقَلبٍ مُدْرِكٍ لِحَقيقَةِ القُربَانِ الأقدَس، الّذي هوَ الرَّبُّ يسوعَ، مَن: ﴿افتَقَرَ لأجلِنَا وهو الغَنيّ﴾ (2قورنتوس 9:8)، أنْ يَظَلَّ قَلبًا مُعَلَّقًا بخيراتِ الدُّنيَا الفَانِيَةِ وعَبدًا لِمَتَاعِهَا الزَّائِل؟! وكَيفَ لِلسَانٍ أَصبحَ عَرشًا جَلَسَ عَليهِ رَبُّ الْمَجد، أَنْ يَجرُأَ عَلَى الإتيَانِ بِقبيحِ الكلامِ، والتَّفَوُّهِ بِنَجِسِ الحَديث؟! أَو كَيفَ لِعَينٍ رَأَتْ جَمالَ خَالِقِهَا وصَفاءَهُ، أَنْ تَتَأَمَّلَ بَعدَ ذَلِكَ الأُمورَ غَيرَ النَّقيَّةِ والْبَشِعَة؟!

 

لَو كُنَّا نُدرِكُ حَقًّا حَقيقةَ الْمُنَاوَلَة، ونَعي السَّعَادَةَ الّتي تَحمِلُهَا لَنَا، والنِّعَمَ الّتي تُغدِقُهَا عَلَينا، لَجَعلنَا حَيَاتَنَا كُلَّ يَومٍ أَكثَرَ استعدَادًا وجُهوزيَّةً لِقُبولِ هَذَا السّرِّ العَظيم! ولَمَا رَغبنَا في هَذهِ الحَياةِ سِوَى أنْ نَكونَ أَكثرَ نَقاءً لاستقبالِ الرّبِّ يَسوعَ الّذي يَهبُنَا ذاتَهَ، بجَسَدِهِ ودَمِه الأقدّسينِ في القُربانِ الأقدس.

 

ولَكِنْ، مَع كُلِّ أَسَفٍ، إيمانُنَا لا يَزالُ طَريًّا ومَعرِفَتُنَا نَاقِصَة، وعَلَى كَثيرينَ يَنطبِقُ قَولُ هُوشَعَ النّبيّ: ﴿لَقَدْ دُمِّرَ شَعْبي لِعَدَمِ الْمَعرِفَة﴾ (هو 6:4).