موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الإخوةُ والأخواتُ الأحِبَّاء في الْمَسيحِ يَسوع. مَع عيدِ العَنصرة، نَكونُ قَد طَوَينَا زَمَنًا لِيتُورجِّيًا نَدْعُوهُ الزَّمَنَ الفِصْحِي، وَمَعَهُ تُزاحُ الشَّمعةُ الفِصحيّة، وَالَّتي أَشْعَلنَاها عَلى مَدى خَمسين يَومًا، اِحتِفَاءً بالْمَسيحِ القَائِم. دُونَ أنْ تَنتَقِصَ هذهِ الحركةُ مِن قِيمةِ الفِصحِ، أَو تَختزِلَ مَعنَاهُ بِهذِه الفترةِ فَقَط، فَالفِصحُ هُوَ زَمنٌ أَبَدي، لِأنَّ الْمسيحَ فِصحَنَا حَيٌّ أبدَ الدُّهورِ، وَلَنْ يَكونَ لِلمَوتِ عَليهِ مِن سُلطان، وَقَد أَعَدَّنَا لِحياةٍ أَبَديّةٍ لا تَزول!
عِيدُ العَنصَرة هو عِيدُ مِيلادِ الكَنيسةِ وَنَشأَتِها! وهوَ العيدُ الّذي فِيهِ نَالَت الكنيسَةُ الْمَسحَةَ بِالرّوحِ القُدُس، وَانْطَلَقَت تُذيعُ بُشرَى الخَلاصِ، وَتَشْهَدُ لِلمَسيحِ الرّب! عيدُ العَنصرة هو عيدُ الشَّرعيّةِ والتّأييد، فَروحُ اللهِ الّذي يُؤيِّدُ الكنيسةَ مُنذُ نَشأَتِها وَحَتّى اليوم، وَبِالرّغمِ مِن كلِّ ما أَصابَها من شَدائِدَ وضيقاتٍ ومِحنٍ واضْطِهاداتٍ وَحتّى اِنْقسامَاتٍ وَتَمَزُّقات، لَدَليلٌ عَلى أَصلِها الإلهي، وَشَرْعيِّتِها الْمُستَمَدَّة مَنَ اللهِ نَفسِه! وَنَذكُر هُنا كَلماتِ جملائيلَ مُعلِّمِ الشّريعةِ الفِرِّيسي، حِينَ قال: ﴿فَإنْ يَكُن هَذا الْمَقصَدُ أَو العَمَلُ مِن عِندِ النّاسِ فَإنّهُ سَيَنتَقِض، وَإنْ يَكُن مِن عِندِ الله، لا تَستطيعوا أن تَقضوا عَليهم﴾ (أعمال 39:5).
العَنصَرة، هَذِه الكَلِمَةُ ذاتُ الأصولِ العِبريّة (عَتْصِيرِت)، تَعني "اجتِماع"! فالرُّسلُ، كَمَا يَروي سِفرُ أعمالِ الرّسل، كَانوا "مُجتَمِعين" في اليومِ الخَمسين لِقيامةِ الرّب، وَالعَاشِرِ لِصعودِه! وَهذا مَا أَعطَى العِيدَ اسمَهُ اليوناني (Pentacosteen)، والّلاتيني (Pentecostes)، وَكِلاهُما يأتي بِمَعنى خَمسين!
كُلَّنا نَعلَم، وَبِمَعزَلٍ عَن السَّياسَة، أَنَّ الْمَسيحِيّةَ مُرتَبِطةٌ بِاليهوديّة، مِن نَاحِيةٍ دِينيّة، اِرتباطًا وَثيقًا. ولكنَّ أَهمَّ نُقطةِ اختِلافٍ هيَ يسوعُ الْمسيح، الّذي هو نَفسُه كانَ يَهودِيًّا! فَفي الوَقت الّذي يرفُضُ فيهِ اليهودُ الإيمانَ بالمسيحِ يَسوع، نَرى فيهِ نحنُ كَمَسيحيّين، وَبِنَاءً عَلَى شَهادةِ الرُّسُلِ الّذين نَقَلوا إلينا ما سَمِعوا وَعَايَنوا، مُخلِّصَ الجنسِ البَشَريّ، وَمُتمِّمَ الشَّريعَةِ، وَمُحَقِّقَ النَّبوءَاتِ وَخَاتَمَها! وهوَ مفتاحُ التّفسير للعهدِ القَديم! فَإذا كانَت العنصرةُ عندَ اليهودِ عِيدًا زِراعيًّا للاحتفالِ بِبَواكيرِ الحصادِ، تَعبيرًا عَن الشّكرِ للهِ عَلى مَا أَعطَتِ الأرضُ وَأَنتَجَت من محاصيلٍ وثَمار، عَمَلِ أَيديِهم. فَالعَنصرةُ عندَنا نحنُ الْمسيحيين باكورةٌ من نوع آخر، فَفي ذلك اليوم، وبعدَ أن أُفيضَ الرّوح القدسُ على الْمجتَمِعين في البيت، وبعدَ عِظة سِمعان، آَمنَ بالرّب نحوَ ثلاثةِ آلافِ نَفس، هم باكورةُ الّذينَ آَمَنوا، فَكانوا أُولى ثمارِ الإيمان!
يَا أَحبَّة، مَا قبلَ العَنصَرةِ شَيء، وَمَا بَعدَ العَنصرة شيءٌ آخر مُختَلِفٌ تَمامًا! فَمِن مجموعةٍ من الأشخاصِ تُلازِم البيتَ، تَحسُّبًا مِمّا قَدْ يُصيبُهم، إلى مَجموعَةٍ من الرّسلِ خَرجوا يُذيعونَ البُشرَى، دونَ خَوفٍ مِمّا قَدْ يحدُثُ لَهُم! كَانوا رِجالًا عُزَّل، فَأَصبَحوا جُنودًا مُسلّحينَ بالقوّةِ والشّجاعةِ وكلامِ النّعمة، لأنَّ المؤيّدَ قَد أُرسِلَ إليهِم، وَحلَّ عَلَيهم، مُبَدِّدًا كلَّ مَا كانَ يَعتَرِيهِم من فَزَعٍ وجَزَعٍ وخوفٍ وقَلق. وَمِن سِمعانَ الّذي أَنكَرَ سَيّدَهُ وَمُعلِّمَهُ ذُعرًا، قَبلَ ثَلاثةٍ وَخمسينَ يومًا، أمامَ جاريةٍ وزُمرةٍ من الحَرسِ والخَدَمِ، إلى بُطرسَ الجَريءِ الْمِقدَام الّذي يتحدّثُ إلى الشّعبِ وَيَعِظُ الجموعَ دونَ خِشيةٍ، عَن الْمسيحِ الرّبِّ والْمخلّص (راجع أعمال الرّسل 14:2-41)
نَذكر في إنجيلِ عيدِ الصُّعود كَيفَ طَلَبَ الرّبُ من رُسُلِهِ أن: ﴿امْكُثوا أَنتُم في الْمَدينَة إلى أَنْ تُلبَسوا قُوّةً مِن العُلى﴾ (لوقا 49:24) هَذِه القُوَّة أُلبِسَت للرُّسُلِ اليوم في حَدَثِ العَنصرة! هُم مُسِحوا بِروحِ القوّة، روحِ اللهِ عينِه، الّذي حلَّ عَليهم وَمَلَأهُم، وَوَهبَهم كُلَّ ما يحتاجونَ إليهِ مِن نِعَمٍ، وَزَيَّنَهمُ بالْمَواهِبِ لِخدمةِ البِشارَة! فَنَراهُم بعد العَنصرةِ يَنتَقِلونَ مِن مَرحلةِ الْمُكوثِ والجمودِ والسُّكون، إلى مَرحلةِ الانطلاقِ والحركة والعَمل!
وإنْ كانَ الْمسيحُ هو الْمْخَلّصُ الوَحيد، والّذي فيه تمَّ عَملُ الخلاصِ كامِلًا غيرَ مَنقوص. فالكَنيسةُ بِأَعضائِها، مِن يَومِ العَنصرة وحتّى مَجيءِ الرّبِّ الثّاني في الْمجد، هي الْموكَلَة بحملِ رِسَالةِ الخلاص! فالْمُخلّصُ واحدٌ وهوَ الْمسيح، أَمّا حَامِلو البُشرى فَهُم كلُّ مسيحيٍّ مَدعوٌّ لِحملِ رسالةِ الخَلاصِ إلى الخَلقِ أَجمَعين! فَنحنُ كُلُّنا رُسلٌ، وكُلُّنا حَمَلَةُ رِسالَة، وَمَسؤولونَ عَن تَأديةِ الرّسالةِ والشّهادةِ لَها. فَالعَنصرةُ بِاختِصارٍ هي اليومُ الّذي فيه أَصبحَ الرّسلُ رُسُلًا بالْمعنى الكامِل للكلمة، إذْ فيه يُتَوِّجُهم الْمسيحُ بِتَاجِ روحِ الْمَواهِب، لِيَكونوا قَادرينَ عَلى حملِ الرّسالةِ وَنَشرِها وإذاعَتِها، حتّى أَقاصي الأرضِ ولِجَميعِ الأُمَم، إلى انقِضَاءِ الدّهَر!
أَيُّهَا الأحبّة، روحُ الله هوَ الصّديقُ الوَفيّ والْرّفيقُ الْمُخلِص! هو الّذي يُرافِقُنا مُنذُ بدايةِ حكايَتِنا مَع الله وحتّى سَاعَةِ انتِقَالِنا! كانَ حاضِرًا مَعنا عندَ جُرنِ الْمَعموديّة. كَانَ حاضِرًا يَومَ مُسِحنَا بالزّيتِ في سِرّ التّثبيت! وَهوَ حَاضِرٌ لِغُفرانِ خَطَايانَا، في كُلِّ مَرَّةٍ تَطَأُ فِيهِا أَقدامُنا كُرسيَّ الاعترافِ لِنَيلِ سِرِّ الُمْصَالَحة! دون أن نَنسى حُضورَهُ عندَ مَرَضِنا وضعفِنا، لكي يَعضُدَنا في سرّ مَسحَةِ الْمَرضَى! وَقَبلَ دَفنِنَا نُنْضَحُ بالْمَاءِ الْمُبَارَك وَنُبَخّرُ، لأنَّ هذا الجَسدَ الْمَائِت هو هَيكلُ الرّوحِ القُدس، وَمَدعوٌّ لأنْ يُشارِكَ في الْمجدَ الأبدي، على صورةِ الْمسيحِ القائم!
في النّهاية، نَسألُ الرّبَّ أَن يَملَأَنا مِن نِعمَةِ رُوحِهِ الصَّالحِ الْمُحي، مَانِحِ الهِبَاتِ وَمُوزّع النِّعَم. نَسأَلُهُ أَنْ يَهَبَ الحكمةَ وَيُبَدِّدَ الجَهلَ والحَمَاقَة! نَسأَلُهُ أَنْ يَهَبَ الفَهم وَيُبدِّدَ الغَبَاوَةَ والرّعونَة! نَسأَلُهُ أَنْ يَهَبَ الْمَشورةَ الصّالِحة وَيُبَدِّدَ الطَّيشَ والضَّيَاع! نَسأَلُهُ أَنْ يَهَبَ القُوّةَ وَيُبدِّدَ الخوفَ والجَزَع! نَسأَلُهُ أَنْ يَهَبَ العلمَ ويُبدّدَ الضَّلالَ وَالبَاطِل! نَسأَلُهُ أَنْ يَهَبَ التّقوَى وَيُبَدِّدَ الخُبثَ والنَّجَاسَة! نَسأَلُهُ أَنْ يَهَبَ مَخافَة الله وَيُبدّدَ أَشكالَ الصَّلَفِ والعَجرَفةِ وَالغَطرسةِ والكبرياء!
وَأخيرًا، نَسأَلُهُ أَنْ يَهَبَ الإلهامَ الْمُؤدّي للإيمان، إِذْ :﴿لا يَستَطيعُ أَحَدٌ أَن يَقول: "يَسوعُ رَبٌّ"، إلّا بِإلهامٍ من الرّوحِ القُدس﴾ (1قورنتوس 3:12)