موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
كُلُّ ميلادٍ هُوَ حَدَثٌ تَتَفَجَرُّ فيهِ الحَيَاة، وَتَتَدَفَّقُ وَافِرةً مِنْ رَحمِ الأُمَّهَات! وَكُلُّ ولادَةٍ بَشَريَّة، تَتِمُّ في إِطَارِهِا الأخلاقيِّ وَالْمَشروع، هيَ نِتَاجُ الْمَحَبّةِ الّتي جَمَعَتْ بَينَ رَجُلٍ وَامْرَأة، قَدَّسَ اللهُ رِبَاطَهُمَا في سرِّ الزَّواج. فَكَيفَ يكونُ الحَال وَنَحنُ نَحتَفِلُ بِعيدِ ميلادِ مَريمَ العَذرَاء، ابنةِ يُواكيمَ وَحِنِّة، العَظيمَةِ بَينَ النِّسَاء، مَن اصْطَفَتها الإرادَةُ الإلهيّة، وحَفِظَتها مِن كُلِّ دَنَس، وَعَصَمَتها مِن كُلِّ شَائِبَة، لِتَكونَ أُمًّا للكَلِمَةِ الإلهيّ، يَسوعَ الْمَسيح؟!
الحَبلُ الطّاهِرُ بالعذراءِ مَريم ومِيلادُهَا الْمَجيد، هوَ البِدَايةُ الفِعلِيَّة لِتَحقيقِ وَعدِ اللهِ بالخَلاص، الّذي تمَّ في الْمَسيحِ يَسوع. فَكُلُّ شَأنٍ نُوليهِ لِلقِدّيسةِ مَريم، وكلُّ إكرامٍ نُقدِّمُهُ لَها، هوَ بالْمَسيحِ وفي الْمَسيح. لأنّها مِنَ الْمَسيحِ قَدْ حَازَت عَلَى هَذهِ الْمَنزِلَةِ الرَّفيعَة، ونَالَت هَذهِ الحُظوةَ الفَائِقةَ لِلطَّبيعَة، بإنعامٍ فَريدٍ مِنَ الله!
في رِسَالَتِهِ إلى أَهلِ أَفَسُس، يُعلِنُ القِدّيسُ بُولس قائِلًا: ﴿ذَلِكَ بأنّهُ اختارَنَا في الْمَسيحِ قَبلَ إِنشاءِ العَالم، لِنَكونَ في نَظَرِهِ قِدّيسينَ بِلا عَيبٍ في الْمَحَبَّة﴾ (أف 4:1). فَاليومَ وُلِدَتْ مَنْ تحقّقَ فيها مِلءُ الاختِيَارِ الإلهيّ! ثُمَّ أَنَّ دَعوَةَ اللهِ لَنا لِنَكونَ قِدّيسين، هيَ دَعوَةٌ تَحَقَّقَت بِكَمَالِهَا، في شَخصِ العَذراءِ مَريم، الْمُمتِلِئةِ نِعمَة، كُلّيةِ القَدَاسَة.
ميلادُ العَذراءِ مَريم يا أَحِبَّة يحمِلُ مَعاني الفَرحِ الكامِل والابتِهَاجِ الْمُقَدَّس، كَمَا سَبَقَ لِأشعيا أَنْ تهلَّلَ فَقَال: ﴿أُسَرُّ سُرورًا في الرّبّ، وتَبتَهِجُ نَفسي في إلهي﴾ (أش 10:61). هَذا السُّرورُ الّذي عَبّرَت عَنهُ مَريمُ فَأَنشَدَت: ﴿تُعَظِّمُ نَفسيَ الرّب، وَتَبتَهِجُ رُوحي باللهِ مُخلّصي﴾ (لوقا 46:1). فَسرورُ الْمُؤمنِ الحَقيقيّ هوَ سُرورٌ بالله، وفَرحُهُ نابِعٌ مِنَ اللهِ مَنبعِ السَّعَادَةِ الحَق.
مَريمُ العَذرَاء، وَإنْ كُنَّا لا نَعرِفُ عَنْ حَدَثِ مِيلادِها شَيئًا بحسبِ الأناجيلِ القَانُونيّة، إلّا أَنّنَا نَعرِفُ عَنهَا الكَثير بحسبِ البُشرَى الإنجيليّة! فَهيَ الْمُطيعَةُ لإرادَةِ ربّها، والْمُؤمِنَةُ بِمَا بَلَغَها مِن عندِ الرّب: ﴿أَنا أَمَةُ الرّب، فَلْيَكُن لي بحسب قولِك﴾ (لو 38:1). وهيَ الْمُرَبّيةُ بِحسبِ شَريعةِ الرّبِّ ووَصَايَاه، فَمِنَ البِدَايةِ قَرَّبَت مَولُودَهَا للهيكَلِ كَمَا تَقضي الشّريعَة (راجع لوقا 22:2-24). وهيَ النّصيرَةُ الّتي هَبَّت لِمساعَدةِ قَريبَتِها أليصابات (راجع لوقا 39:1-56). وهيَ الذّكيّةُ الحَكيمَة، الْمُنتَبِهةُ لحاجاتِ النّاس، الْمُبادِرَةُ لِنَجَدتِهم، كَمَا حَدَثَ في عُرسِ قانا الجليل (راجع يوحنّا 1:2-12). وهيَ الأمُّ الأمينَةُ لابنِها حتّى النِّهَايَة، والصّبورةُ الجَبّارةُ الّتي بَقيَتْ وَاقِفَةً عِندَ صَليبِ يَسوع، وَسَيفُ الحُزنِ مَزّقَ فُؤادَها (راجع يوحنّا 25:19-27).
هَذهِ الصِّفاتُ كُلُّها لَيسَت صُدفَة، إنّما هيَ أوَّلًا نِعمَةٌ مِنَ الله، ونَتيجَةٌ للتّربيةِ الصّالِحةِ والرّعايةِ الحَسَنة، الّتي تَلَقَّتها مريمُ في كَنَفِ أَبيهَا وَأُمِّهَا! ومِنْ هُنَا نَتَسَاءَل: كيفَ نُربّي أَولادَنا؟ وَعَلَى أَيِّ مَبَادِئٍ نُؤسِّسُهم؟ وَمَاذا نَغرِسُ فيهم؟ للأسف، هُناكَ أَمثِلَة كَثيرة عَلى "فَشَلٍ تَربويٍّ ذَريع". فَلِمَاذَا نُنجِبْ إذًا، إنْ كُنَّا غَيرَ قَادِرين عَلَى تَوفيرِ التّربيةِ الحَسَنة، وَغَرسِ الْمَبادِئِ الصّالِحة؟! هَل هوَ فَقَطْ إنجابٌ بِدَافِعٍ مِنَ الغَريزَة؟
في الْمَلحمَةِ الدَّرامية (Gladiator)، يُخاطِبُ الإمبراطور ماركوس أوريليوس ابنَه كومودس، قائِلًا: "أَخطاؤكَ كَابنٍ هيَ فَشَلي كَأَب!". أَتَمنّى أَلّا يَضطرَ البَعضُ لِقَولِ هَذا، بَعدَ فَوَاتِ الأوان! فَيَا أَيُّها الوَالِدون: اِتّعِظوا بالقِدِّيسَينِ يُواكيم وَحِنّة في تَربيةِ أَبنَائِكم، وَيَا أَيُّها الأبنَاء: اتَّعِظوا بالقدّيسةِ مَريم في نَقَاءِ سِيرتِها، وَصَفاءِ أَخلاقِهَا، وَحُسْنِ صِفاتِها، وَصَلابَةِ مَبَادِئِها!
وَنَصيحةٌ تَربَويّةٌ أَخيرَة: الاعتِرافُ بالذَّنبْ قُوّةٌ وَفَضيلَة، فَخَيرٌ الإقرارُ بالعيوبِ لإصلاحِهَا، بَدلًا مِنَ التَّستُّرِ عَلَيهَا فَتَتفَاقَم وتخرجُ عنِ السَّيطَرة، عِندَهَا البُكاء وصريفُ الأسنان! وَانْسوا الْمَثَلَ الكَاذِب الّذي يَقول: "مَا حَدَا بحكي عَنْ زيته عِكر". فَنَحنُ في العالم، حَيثُ لا مَدينة فَاضِلَة، وكُلُّ زَيتٍ تُصيبُه "العُكورة"، فَنَقّوه!