موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٣٠ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٤

عودة المسيح في آخر الأزمِنَة والصَّلاة

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد الأول من المجيء: عودة المسيح في آخر الأزمِنَة والصَّلاة (لوقا 21: 25-28، 34-36)

الأحد الأول من المجيء: عودة المسيح في آخر الأزمِنَة والصَّلاة (لوقا 21: 25-28، 34-36)

 

النَّص الإنجيلي (لوقا 21: 25-28، 34-36)

 

25 ((وسَتَظهَرُ عَلاماتٌ في الشَّمسِ والقمَرِ والنُّجوم، ويَنالُ الأُمَمَ كَرْبٌ في الأَرض وقَلَقٌ مِن عَجيجِ البَحرِ وجَيَشانِه، 26 وتَزهَقُ نُفوسُ النَّاسِ مِنَ الخَوف ومِن تَوَقَّعِ ما يَنزِلُ بِالعَالَم، لِأَنَّ أَجرامَ السَّماءِ تَتَزَعزَع، 27 وحينَئذٍ يَرى النَّاسُ ابنَ الإنسان آتِيًا في الغَمام في تَمامِ العِزَّةِ والجَلال. 28 وإِذا أَخذَت تَحدُثُ هذِه الأُمور، فانتَصِبوا قائمين وَارفَعوا رُؤُوسَكُم لِأَنَّ اِفتِداءَكم يَقتَرِب)). 34 ((فاحذَروا أَن يُثقِلَ قُلوبَكُمُ السُّكْرُ والقُصوفُ وهُمومُ الحَياةِ الدُّنيا، فَيُباغِتَكم ذلِكَ اليَومُ 35 كأَنَّه الفَخّ، لِأَنَّهُ يُطبِقُ على جَميعِ مَن يَسْكُنونَ وَجهَ الأَرضِ كُلِّها. 36 فاسهَروا مُواظِبينَ على الصَّلاة، لكي توجَدوا أَهْلًا لِلنَّجاةِ مِن جَميعِ هذه الأُمورِ التي ستَحدُث، ولِلثَّباتِ لَدى ابنِ الإنسان)). 37 وكانَ في النَّهارِ يُعَلِّمُ في الهَيكلَ، ثُمَّ يَخرُجُ فيَبيتُ لَيلًا في الجَبَلِ الَّذي يُقالُ لَه جَبَلُ الزَّيتون. 38 وكانَ الشَّعبُ كُلُّه يأتي إِلَيه بُكرَةً في الهَيكَلِ لِيَستَمِعَ إِلَيه.

 

 

مقدمة

 

يَفتتح الأحد الأول من زمن المجيء السَّنة اللِّيتورجيَّة، وهي السَّنة التي تُساعدنا على مواكبة يسوع من تجسّده وميلاده وحتّى صعوده، وإلى يوم العنصرة، في انتظار الرَّجاء السَّعيد لعودته المجيدة في آخر الأزمنة. يصف لوقا الإنجيلي خطاب يسوع المسيح في هذه الأحد مجيئه في نهاية العَالَم ديانًا للعَالَمين، وعن أهميَّه السَّهر بالصَّلاة لحسن لقائه لنيل الرَّحمة والخلاص (لوقا 21: 25-28، 34-36)، لآنَّه بدون استعداد للقاء ربنا يسوع المسيح بالصَّلاة، لا نجاة ولا ثبات في حياتنا "يوم مَجيئه يُواكِبُه جَميعُ قِدِّيسيه!" (1 تسالونيقي 3: 13).  وهذا هو الخبر العظيم الّذي يُقدّمه إنجيل هذا اليوم: الرَّبّ آتٍ، لذلك فتاريخ البشريَّة لا يسير نحو نهايته، نحو الموت؛ بل إنّه يسير نحو لقاء الرَّبّ. لذلك يدعون إلى اليقظة من خلال السَّهر والصّلاة. ومن هنا تكمن أهميَّه البحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولًا: تحليل وقائع نص إنجيل لوقا (لوقا 21: 25-28، 34-36)

 

25 وسَتَظهَرُ عَلاماتٌ في الشَّمسِ والقمَرِ والنَّجوم، ويَنالُ الأُمَمَ كَرْبٌ في الأَرض وقَلَقٌ مِن عَجيجِ البَحرِ وجَيَشانِه. 

 

تشير عبارة "عَلاماتٌ في الشَّمسِ والقمَرِ والنُّجوم" إلى ظواهر طبيعية مقتبسة من كلمات تقليديَّه من الأسلوب الرُّؤيوي بحسب لغَّة العصر آنذاك. وهذه العلامات يصفها إنجيل متى: " تُظلِمُ الشَّمس، والقَمَرُ لا يُرسِلُ ضَوءَه، وتَتَساقَطُ النُّجومُ مِنَ السَّماء، وتَتَزعزَعُ قُوَّاتُ السَّمَوات" (متى 24: 29)؛ وهذا الوصف مقتبس من أشعيا النَّبي: "كَواكبَ السَّماءِ ونجومَها لا تَبعَثُ نورَها والشَّمسَ تُظلِمُ في طُلوعِها والقَمَرَ لا يُضيءُ بنورِه" (أشعيا13: 10). تختفي المعالم التي كانت تبدو راسخة وتفقد دعائم الوجود ثباتها. أمَّا عبارة "عَلاماتٌ" فتشير إلى أحداث نهاية العَالَم عبر تقلبات التَّاريخ كانقلاب الأنظمة القوميَّة وسقوط الإمبراطوريات العظيمة (أشعيا 13:10 وحزقيال 32: 7)، وانتشار الفوضى في أرجاء الكَوْن. وفي الواقع يميّز لوقا الإنجيلي بين علامات النِّهاية في آخر الأزمنة (21: 21: 25-27) وعلامات التَّاريخ أي الشِّدة التي تسبق الأزمنة الأخيرة من الاضطهادات والسُّجون والبُغض والكراهيَّة بين الوالدين وأبنائهم (لوقا 21: 12-19) والاضطرابات الحربيَّة والسياسيَّة مثل حصار اورشليم (لوقا 21: 20-24). أمَّا عبارة " ويَنالُ الأُمَمَ كَرْبٌ في الأَرض كَرْبٌ" فتشير إلى حزن شديد ومشقة.  هذا مثل قوله " فتَنتَحِبُ جميعُ قبائِلِ الأَرض" (متى 24: 30) وذلك بالنَّظر إلى الكوارث التي تحدث والى ما يخافوه من أمثالها في المستقبل.  أمَّا عبارة "قَلَقٌ مِن عَجيجِ البَحرِ وجَيَشانِه" فتشير إلى العَالَم المُضْطرب كالبحر. هذا ما حدث في أمواج تسونامي التي ضربت النَّاس بارتفاع 10-20مترًا وبسرعات مخيفة. هذه العلامات هي جزء من الوصف الذي يقدِّمه التَّقليد عن يوم الرَّبّ. وهي تدل من جهة على أهميَّه الحدث، ومن جهة أخرى على جهلنا لزمن هذا اليوم وكيف يكون. هذه العلامات تتحدث عن الضِّيقة الّتي يتعِّين على التاريخ أنّ يمر بها. لكن هذه العلامات تكون، عادة، مصدر تعزية وتشجيع في الدَّرب الرُّوحيّ، ومساعدة قويّة للخلاص، لأنها تقودنا إلى معرفة الله المتجسّد بما أنّها تشهد لصلاحه وتواضعه وخلاصه، وتقوّي إيماننا بأنّه هو كلمة الله المُتجسد.

 

26 وتَزهَقُ نُفوسُ النَّاسِ مِنَ الخَوف ومِن تَوَقَّعِ ما يَنزِلُ بِالعَالَم، لِأَنَّ أَجرامَ السَّماءِ تَتَزَعزَع

 

تشير عبارة "تَزهَقُ نُفوسُ النَّاسِ مِنَ الخَوف ومِن تَوَقَّعِ ما يَنزِلُ بِالعَالَم" إلى ردود أفعال البشر تجاه هذه الأحداث الكونية كالاضِّطرابات، والخوف، والألم والشَّدائد التي تعيق قدرات النَّاس على العمل والحركة ورؤية النًّور. أمَّا عبارة " الخَوف " فتشير إلى ردة الفعل الطبيعية تجاه الاضطرابات مما يشلُّ الإنسان ويعطل الحياة ويمنع الرؤية المستقبلية وبالتالي إلى عدم القدرة على إتِّخذ قرارات حقيقيّة. أمَّا عبارة "أَجرامَ السَّماءِ" فتشير إلى الكواكب والقوى السَّماويَّة، وهي مُستوحاة من أقوال أشعيا النَّبويَّة (أشعيا 13: 10، 34: 4) حيث يدلّ هذا الانقلاب الكَوْني على مجيء الرَّبّ في نهاية العَالَم مع التَّركيز على مجد ابن الإنسان وظهور قدرته التي تهتزّ الكَوْن كله من جرائه رغم ثباته.  أمَّا عبارة " أَجرامَ السَّماءِ تَتَزَعزَع " فتشير إلى نهاية الكَوْن كله وعودته إلى البداية من اجل خلق جديد، حيث يبدو أن الطّبيعة تستعدُّ لمجيء ابن الإنسان ودينونته، كما جاء في رؤية يوحنا الحبيب: "رَأَيتُ سَماءً جَديدةً وأَرضًا جَديدة، لأَنَّ السَّماءَ الأُولى والأَرضَ الأُولى قد زالَتا، وللبَحرِ لم يَبقَ وُجود"(رؤيا 21: 1). ويعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم: "أَجرامَ السَّماءِ تَتَزَعزَع عندما ترى جماهير بلا حصر لها تسقط تحت الدَّينونة! لأنَّه عندما يثير الأشرار الاضطهاد يرتعب بعض المؤمنين الأقوياء". تؤكد لنا تلك الصُّور أن مجيء المسيح لا شكَّ فيه، وأنّه علينا أن ننتظره في الإيمان والمواظبة على الصَّلاة.

 

27 وحينَئذٍ يَرى النَّاسُ ابنَ الإنسان آتِيًا في الغَمام في تَمامِ العِزَّةِ والجَلال

 

تشير عبارة "حينَئذٍ" إلى التَّاريخ الذي لا يسير نحو نهايته والفناء والفوضى والموت؛ بل إنّه يسير نحو لقاء الرَّبّ؛ أما عبارة "يَرى النَّاسُ ابنَ الإنسان" فتشير إلى النَّاس المؤمنين، وغير المؤمنين، الذين يرون عودة المسيح دليل أنَّ الرَّبّ يسوع يُحب الجميع، يُكرّم السَّامري والأممي تمامًا مثل اليهوديّ، ويدعو الجميع للتَّرحيب والاهتمام والمشاركة. أمَّا عبارة "ابنَ الإنسان" فتشير إلى شخصيَّه سماويَّة. ولم يرد لقب "ابن الإنسان" في الإنجيل أو على لسان يسوع، لكن وجدت فيه الجماعة المسيحيَّة الأولى إحدى الألقاب المميَّزة ليسوع النَّاصري.  يُعُزى بعض المفسِّرين هذه اللَّقب إلى ما ورد في حزقيال (حزقيال 2: 1-3) لكن أكثر المفسرين يردّونها إلى التَّقليد الرُّؤيوي (دانيال 7: 13)؛ وفي هذا التَّقليد، سيأتي ابن الإنسان في اليوم الأخير ليدين الخاطئين ويُخلص الأبرار. وهذا اللَّقب، من حيث انه مرتبط بلقب "عبد الله المتألم" الوارد في نبوءة أشعيا، فانه يوحِّد بين الصَّليب والمجد (مرقس 8: 31). ومن هذا المنطلق، فان الجماعة المسيحيَّة الأولى أطلقت هذا اللَّقب على يسوع لكي تُرينا أنَّ يسوع ذاك الذي يستبق الدَّينونة بسلطانه مخلصًا الخاطئين (متى 9: 6) وفاتحًا الزَّمن المسيحاني (متى 12: 8). أمَّا عبارة "ابنَ الإنسان آتِيًا في الغَمام في تَمامِ العِزَّةِ والجَلال" فتشير إلى قلب الحدث الحضور الإلهيّ في الابن الآتي يسوع المسيح. هناك علاقة واضحة بين ابن الإنسان ونبوءة دانيال (دانيال 7: 13) للدلالة على مجيء المسيح المُنتصر كديَّان؛ وهي صورة عن مجيء الله وتجلياته، كما يصوِّرها العهد القديم (خروج 19: 16 وحزقيال 1: 4). يسوع يُرى ذاته منذ الآن بصفة "ابن الإنسان" الذي سيعود مُمجَّدا ً "ويَجلِسُ بَعدَ اليَومِ عن يَمينِ اللهِ القَدير" كما سيعلنه أمام مجلس عُظماء الكهنة (لوقا 22: 69). يُعلق البابا بندكتس السَّادس عشر: "وجدت الكلمات القديمة للأنبياء مركزة في شخص المسيح: فهو الحدث الحقيقي الذي يبقى الصَّخرة الثَّابتة وسط اضطرابات العَالَم؛ إنَّه يربط الحاضر بالمستقبل. يريد يسوع أن يُظهر قوّته العظيمة ومجده الذي ليس له مثيل. بينما يمضي التَّاريخ نحو نهاية ما، يأتينا الرَّبّ، ويدخل في التَّاريخ. إن قدرة الله أعظم من كلّ شيء، وهو أقوى من كلّ شيء.  أمَّا عبارة "الغمام" فتشير إلى رمز كتابي لحضور الإلهي الذي يرافق مسيرة الإنسان (خروج 34: 5)؛ وعندما يعود يسوع فأنَّه يرافق الإنسان في حياته اليوميَّة في الظروف المظلمة والصَّعبة. فيسوع يظهر ثانية من الغمام الذي حجبه عن أعين الرُّسل عند صعوده إلى السَّماء (أعمال الرسل 1: 9-11). ويبدو أن يسوع يشير هنا إلى نبوءة دانيال (8: 13: -14). وتبرز هذه الآية حقيقة نصرة يسوع المسيح المُتألِّم الذي يدخل في النِّهاية إلى مجده. ويُعلِّق القديس أوغسطينوس: " إنَّه يأتي الآن في كنيسته كما في الغمام، أمَّا فيما بعد فيتحقق مجيئه بسلطان أعظم وجلال، إذ يظهر بقوَّة كي يتبعوه المؤمنون فيهبهم فضيلة عظيمة حتى يغلبوا ذلك الاضطهاد المريع. كما سيأتي بجسده... الذي صعد به". إن يسوع سيعود ليُقيم حُكْمَه، حكم السَّلام والبرّ. هل لدينا رجاء في الرَّبّ يسوع وفي وعده بالمجيء ثانية كي يقيم ملكه وحُكْمَه على كلّ ما قد صنع؟

 

28 وإِذا أَخذَت تَحدُثُ هذِه الأُمور، فانتَصِبوا قائمين وَارفَعوا رُؤُوسَكُم لِأَنَّ اِفتِداءَكم يَقتَرِب

 

تشير عبارة "إِذا أَخذَت تَحدُثُ هذِه الأُمور" إلى صورة الاضطهادات القادمة والكوارث الطّبيعيَّة الوارد ذكرها في (آية 25)، وهي صورة مُظلمة وكئيبة، لكنَّها في النِّهاية ستكون سببًا لا للقلق والاضطراب بل للفرح. لأنَّه عندما يرى المؤمنون هذه الأحداث يعلمون أن عودة المسيح أصبحت وشيكة على الأبواب، ويتطلَّعون نحو العدل والسَّلام والخلاص. ومن هذا المنطلق يتوجب على المؤمنين أن ينتظروا مجيئه بكل ثقة ورجاء بدلًا من أن يرتعبوا مما يحدث في العَالَم. أمَّا عبارة "فانتَصِبوا قائمين وَارفَعوا رُؤُوسَكُم" فتشير إلى دعوة يسوع لتلاميذه إلى عدم الخوف والانشغال بأمور الحياة بل إلى اليقظة في الانتظار برفع رؤوسهم بعد أن انحنت تحث ثِقل المِحن والاضطهادات. ويعلق البابا فرنسيس: " وإن اشتدّت قوّات الشَّرّ، فعلى المسيحيِّين أن يلبّوا الدَّعوة، ورؤوسهم مرفوعة، مستعدّون للمقاومة في هذه المعركة حيث الكلمة الأخيرة تكون لله. وهذه المحبّة سوف تكون كلمة محبّة وسلام"!  وما يبدو لكثير من النَّاس أنَّه دمار، يظهر للمؤمنين أنّه بداية الخلاص.  أمَّا عبارة "فانتَصِبوا" فتشير إلى دعوة يسوع إلى عدم الاستلام إلى اليأس والخوف مثل الخطأة بل إلى الثَّبات بفخر وفرح واعتزاز، وإلى الوقوف كرجالٍ روحيِّين بلا تراخ ولا كسل. فالمسيح سيتمجَّد ويتمجَّد تلاميذه معه. أمَّا عبارة "قائمين" فتشير إلى اختيار الله لتلاميذه، مع أنَّه لم يكن لهم وجود في أعين النَّاس (1قورنتس 1: 26)، بل بما هم عليه في يسوع المسيح كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "بِفَضْلِه أَنتُم قائمونَ في المسيحِ يسوعَ الَّذي صارَ لَنا حِكمَةً مِن لَدُنِ الله وبِرًّا وقَداسةً وفِداء"(1 قورنتس 1: 30). أمَّا عبارة " وَارفَعوا رُؤُوسَكُم " فتشير إلى رفع العقول نحو السَّماويات، مما يجعلنا قادرين على فحص أفق التاريخ وفقًا لمشروع الله، أي الخلاص الّذي يتحقق فينا ولأجلنا من خلال انتظار مجيء الرَّبّ، لأنَّ نجاة الإنسان الأبديَّة تقترب. ويأتي ربُّ المجد لنجاتنا، ليس على مستوى خلاص النَّفس فحسب، وإنَّما على مستوى قيامة الجسد أيضًا، حيث يتمجَّد الإنسان بكليته؛ أمَّا عبارة " اِفتِداءَكم يَقتَرِب " فتشير إلى الظُّهور المهيب للربّ في نهاية الأزمنة للخلاص والتَّحرير الحاسم للبشر، وبالتَّالي، فإنّ نهاية العَالَم، بالنِّسبة للمسيحيِّين، هو لحظة اللِّقاء الشَّخصي بالرَّبّ الممجّد، وهو العمل الّذي يختتم تاريخ خلاص البشر. وذلك الأمر موافق لقول متى الإنجيلي: " يُرسِلُ ملائِكَتَه ومَعَهُمُ البُوقُ الكَبير، فيَجمَعونَ الَّذينَ اختارَهم مِن جِهاتِ الرِّياحِ الأَربَع، مِن أَطرافِ السَّمَواتِ إِلى أَطرافِها الأُخرى. (متى 24: 31).  أمَّا عبارة "افتداء" في الأصل اليوناني ἀπολύτρωσις (معناها النَّجاة) فتشير إلى لفظة تقليديَّة في العهد القديم للدَّلالة على خلاص شعب الله (مزمور 111: 9)؛ وقد استعملها لوقا عدة مرات إمّا للدَّلالة على خلاص شعب الله (لوقا 1: 68)، أو لفداء الإبكار (لوقا 2: 38)، أو لافتداء إسرائيل (لوقا 24: 21). الافتداء هي كلمة رجاء من خلال الضِّيق والاضطهاد. وهذه اللَّفظة لا ترد في الأناجيل ألاّ في هذا النَّص، لكنها من المفردات التي ردَّدها القديس بولس الرَّسول مرارًا في رسائله (1 قورنتس 1: 30، ورومة 3: 24 و8: 23 وقولسي 1: 14). بعبارة أخرى، تشير صورة الاضطهادات القادمة والكوارث الطّبيعيَّة إلى صورة مظلمة وكئيبة، لكنَّها في النِّهاية ستكون سببًا لا للقلق والاضطراب بل لفرحٍ عظيمٍ، لأنَّها دلالة على أن الخلاص قد اقترب.

 

34 فاحذَروا أَن يُثقِلَ قُلوبَكُمُ السُّكْرُ والقُصوفُ وهُمومُ الحَياةِ الدُّنيا، فَيُباغِتَكم ذلِكَ اليَومُ

 

تشير عبارة "فاحذَروا" إلى النَّظر من حولكم من كل جانب بعيون دائمة السَّهر لحراسة أنفسكم خوفًا من الخطيئة استعداد لمجيء ابن الإنسان. ينبِّه بولس الرَّسول المؤمنين بقوله: " ْلنَخلَعْ أَعمالَ الظَّلام ولْنَلبَسْ سِلاحَ النُّور. لنَسِرْ سيرةً كَريمةً كما نَسيرُ في وَضَحِ النَّهار. لا قَصْفٌ ولا سُكْر، ولا فاحِشَةٌ ولا فُجور، ولا خِصامٌ ولا حَسَد، بلِ البَسوا الرَّبّ يسوعَ المسيح، ولا تُشغَلوا بِالجَسَدِ لِقَضاءِ شَهَواتِه" (رومة 13: 12-13)، وهي محبة العَالَم والملذَّات الجسديَّة وزيادة الاهتمام بأمور هذه الحياة. هذه الأمور التي حذّر المسيح تلاميذه منها لأنَّها  تعيقهم عن الاستعداد لمجيئه الثَّاني. أمَّا عبارة " يُثقِلَ قُلوبَكُمُ " فتشير إلى تنويم الضَّمير وقلب مشتت ومنغلق على نفسه بسبب تعلقه بشهوات الحياة الأرضيَّة التي تُخدِّر القلب ويُنسي "ذلك اليوم".  إن لم يكترث الإنسان للقاء الرَّبّ والاتحاد معه الآن، فأنه يملئ فراغه بالسُّكْرُ والقُصوفُ وهُمومُ الحَياةِ الدُّنيا للهروب من الشُّعور بالوحدة، وبالتَّالي يُخاطر بوجوده ونجاته في الحياة الآخرة. أمَّا عبارة "السُّكْرُ" في الأصل اليوناني κραιπάλη (معناها الخمرة) فتشير إلى شرب الخمر الذي يُفقد الإنسان سيطرته على ذاته، فلا تعود إرادته تتحكّم في حياته، والإنسان الّذي لا يتحكّم بذاته يكون ضعيفًا وفريسةً للشَّر، لأنه فاقد الإرادة والرُّشد، وبالتَّالي فاقد الاتجاه الصَّحيح. فالسكِّير يُشبه مركبًا دون دفّة قيادة؛ أمَّا عبارة "القُصوفُ " في الأصل اليوناني μέθῃ (معناها السُّكر) فتشير إلى غياب عقلُ المرء وإدراكُه ووعيه نتيجة شرب الخمر. هذا هو وضع أولئك الذين ليس لديهم أفق آخر لحياتهم الخاصة، سوى اللَّحظة الآنيَّة وهذه الدُّنيا بملذاتها، فيبحثون عن الطُّرق لملء الفراغ، وللهروب من الشُّعور بالوحدة. ويُعلق القديس باسيليوس الكبير: "يوجد حولكم غنى وفنون وكل مباهج الحياة، يلزمكم ألا تهتمُّوا إلاَّ بنفوسكم اهتمامًا خاصًا". أمَّا عبارة " هُمومُ الحَياةِ الدُّنيا" فتشير إلى معنى تبديد الحياة في ألف شيء صغير، لا معنى له؛ فنُصبح عبيدًا للأشياء، ولا نبقى أسياد أنفسنا بعد ذلك، بل تكون الأشياء هي أسيادنا؛ وقد حذَّرنا منها يهوذا الرَّسول: "سيَكونُ في آخِرِ الزَّمانِ مُستَهزِئُونَ يَتبَعونَ شَهَواتِ كُفْرِهم"(يهوذا 1: 18). أمَّا عبارة "َيُباغِتَكم" فتشير إلى مجيء المسيح غير المنتظر بصورة مفاجئة، ومتى جاء لن تكون هناك فرصة أخرى. وهو يشبه دينونة الله في الطُّوفان في أيام نوح حيث "كانَ النَّاسُ يأكُلونَ ويشرَبون، والرِّجالُ يَتَزَوَّجونَ والنِّساءُ يُزَوَّجْنَ، إلى يَومَ دخَلَ نُوحٌ السَّفينة، فجاءَ الطُّوفانُ وأَهلَكَهُم أَجمَعين"(لوقا 17: 27)؛ كما يشبه أيضا خراب سدوم في أيام لوط " إِذ كان النَّاس يأكُلونَ ويَشرَبون، ويَشتَرونَ ويبيعون، ويَغرِسونَ ويَبْنون، ولكِن يَومَ خَرَجَ لوطٌ مِن سَدوم، أَمطَرَ اللهُ نارًا وكِبريتًا مِنَ السَّماء فأهلَكَهم أَجمَعين " (لوقا 17: 28-29). ما كان النَّاس قبل الطُّوفان وخراب سدوم يتوقعون شيئًا، وما كانوا يُدركون شيئًا، وما كانوا يشعرون بشيء. ويوضِّح بولس الرَّسول هذا الأمر بقوله " فحِينَ يَقولُ النَّاس: سَلامٌ وأَمان، يأخُذُهمُ الهَلاكُ بَغتَةً كما يأخُذُ المَخاضُ الحامِلَ بَغتَةً، فلا يَستَطيعونَ النَّجاة (1تسالونيقي 5: 3).  لذلك يدعونا بولس الرَّسول إلى خلع أعمال الظَّلام بما فيها من السُّكر والقصوف وشهوات العَالَم (رومة 13: 13) التي تخدّر القلب وتُنسينا يوم مجيء الرَّبّ فنتغافل عنه، أمَّا عبارة "ذلِكَ اليَومُ" فتشير إلى اليوم الأخير بالتَّحديد يوم مجيء الرَّبّ، للدَّينونة والحساب.  فالرَّبّ يسوع لا يريدنا أن نعرف الأزمنة وننشغل بحساباتها، بل بالحري أن نسهر بقلوبنا، مترقِّبين بالحياة الجادة مجيئه ليَملك علينا أبديًا. هل نحن مستعدون لهذا اللِّقاء ونحن نعلم انه يموت شخص في كل ثانيةـ ويموت كل يوم عشرات الآلاف على وجه الأرض؟  هل نعرف كم من الثَّانية بقي لنا على قيد الحياة؟

 

35 كأَنَّه الفَخّ، لِأَنَّهُ يُطبِقُ على جَميعِ مَن يَسْكُنونَ وَجهَ الأَرضِ كُلِّها

 

تشير عبارة "الفَخّ" إلى استعارة تدل على خطر يأتي فجأة، لا نجاة منه، وهذ الأمر هو أزمة "يوم الرَّبّ". لان مجيء الرَّبّ سيكون لبعض النَّاس بمثابة حدث غير متوقِّع نظرًا لانشغالهم في أمور الدُّنيا وملذاتها، وبالتَّالي تصبح الحياة لهم مثابة فخ وخطر، لأنَّهم لا يسهرون على أنفسهم، بل يعيشون دون هدف ومعنى، كريشة في مهبِّ الرِّيح. استعارة الفخ هنا كاستعارة السَّارق في رسالة بولس الرَّسول: " أَنَّكم تعرِفونَ حَقَّ المعرِفَة أَنَّ يَومَ الرَّبِّ يَأتي كَالسَّارِقِ في اللَّيل" (1 تسالونيقي 5: 2). وبالعكس سوف يكون مجيء الرَّبّ بالنِّسبة للمؤمنين المواظبين على الصَّلاة، افتداءً وتحريرًا (لوقا 21: 38). أمَّا عبارة "جَميعِ مَن يَسْكُنونَ وَجهَ الأَرضِ" فتشير إلى البشريَّة كلها وليس فقط إلى الشَّعب اليهودي، كما كان الأمر في دمار أورشليم عام 70م. إن علامات اقتراب المجيء سوف تكون ضيقًا وسط الشُّعوب واضطرابات مفزعة في النِّظام العَالَمي بأكمله. ولكن يحوّل الحذر إلى الفخ الذي يسقط فيه جميع الجالسين على وجه كل الأرض إلى يوم نجاة ووقوف قدام ابن الإنسان ومعاينة وجهه على الدَّوام.

 

36 فاسهَروا مُواظِبينَ على الصَّلاة، لكي توجَدوا أَهْلًا لِلنَّجاةِ مِن جَميعِ هذه الأُمورِ التي ستَحدُث، ولِلثَّباتِ لَدى ابنِ الإنسان

 

تشير عبارة "اسهَروا" في الأصل اليوناني ἀγρυπνεῖτε (معناها تنبَّهُوا) إلى دعوة يسوع إلى السَّهر والصَّلاة انتظارًا لأحداث الآخرة (1 تسالونيقي 5: 3). يحثُّ يسوع هنا تلاميذه هنا على السَّهر والتَّنبّه الدَّائم إلى علامات الملكوت في حياتهم وفي التَّاريخ حتى لا يُؤخذوا بتلك الدَّينونة، وإنما يُمكنهم الوقوف لدى ابن الإنسان عند مجيئه. ويُعلق الطُّوباويّ يوحنّا هنري نيومان: "أن نسهر؟ لماذا؟ لأجل ذلك الحدث العظيم، ألا وهو مجيء الرَّبّ يسوع المسيح. يبدو أنّ في ذلك نداءً خاصًّا وواجبًا لم يخطر في بالنا أبدًا، لو لم يُشِرْ إليه الرَّبّ يسوع". وهذا السَّهر يُمّيز المسيحي الذي ينتظر عودة الرَّبّ (مرقس 13: 33-37). ويربط بولس الرَّسول بين فكرة الرُّقاد في اللَّيل، رمز سيطرة الشَّر، وفكرة السَّهر، رمز الانتظار: " أَمَّا أَنتُم، أَيُّها الإِخوَة، فلَستُم في الظُّلُماتِ حتَّى يُفاجِئَكم ذلِك اليَومُ مُفاجَأةَ السَّارِق، لأَنَّكم جَميعًا أَبناءُ النُّورِ وأَبناءُ النَّهار. لَسْنا نَحنُ مِنَ اللَّيلِ ولا مِنَ الظُّلُمات.  فلا نَنامَنَّ كما يَفعَلُ سائِرُ النَّاس، بل علَينا أَن نَسهَرَ ونَحنُ صاحون " (1 تسالونيقي 5: 4-6).  يطلب يسوع من تلاميذه الاحتراز في زمن الأمان، من الغفلة والتَّرفة والكسل، وفي زمن الضِّيق، من التَّذمر واليأس. يُعلق القدّيس باشاز رادبيرت الرَّاهب الدُّومنيكاني: " يجب أن يتصرّف كلُّ واحِدٍ مِنَّا وكأنَّه سيُحاكم في ذلك اليوم. لذا، يجب أن يحرص كلُّ شخص على أن يبقى مُتَيَقِّظًا، كي لا يُباغِته الرَّبّ يوم مجيئِه. فمن يصل إلى اليوم الأخير من حياتِه بدون تحضير، سيكون أيضًا بدون تحضير في اليوم الأخير من العَالَم" (شرح لإنجيل القدّيس متّى). أمَّا عبارة "مُواظِبينَ على الصَّلاة" فتشير إلى تركيز لوقا الإنجيلي على المداومة على الصَّلاة بثباتٍ استعدادًا لمجيء يسوع في نهاية العَالَم وإن أبطأ (لوقا 18: 1 1-8). الصّلاة تعلن ثقتنا بالرّبّ الآتي. ويستعين لوقا الإنجيلي بعبارات امتاز بها بولس الرَّسول وهي "المداومة على الصَّلاة" (2 تسالونيقي 1: 11، وفيلبي1: 4). يسهر الإنسان عندما يصلي فقط، وإذا لم يصلِّ ينم، مثل الرُّسل في بستان الزَّيتون. والسَّهر والمواظبة على الصَّلاة هما وسيلتان تجعلان لفرق في استقبال يوم الرَّبّ: إمَّا أن يكون مجيئه فخًا أو أن يكون نجاة. فالصَّلاة، في الواقع، تستمد من الرَّبّ القوَّة للبقاء في داخل الأحداث أمام حضور الرَّبّ، متيقِّنين أننا لسنا وحدنا. ويعلق القدّيس مكسيمُس الطُّورينيّ: "الصَّلاة تُغذّي النَّفس المُتديّنة، والسَّهر يُبعِد مكائدَ الشَّيطان" (العظة 28). أمَّا عبارة "لكي توجَدوا أَهْلًا لِلنَّجاةِ" فتشير إلى نعمة الله بيسوع المسيح ربِّنا، إذ لم يقل لوقا الإنجيلي: "لكي تكونوا أَهْلًا لِلنَّجاةِ بل قال: " لكي توجَدوا أَهْلًا لِلنَّجاةِ"؛ إذ كلمة توجَدوا في الأصل اليوناني κατισχύσητε (معناها تقووا). أمَّا عبارة "الثَّباتِ لَدى ابنِ الإنسان" فتشير إلى تحمّل محنة حكم المسيح أثناء الدَّينونة بلا خوف ولا خجل، كما ترنَّم صاحب المزامير: "لا يَنتَصِبُ في الدَّينونةِ الأَشْرار ولا الخاطِئونَ في جَماعةِ الأَبْرار"(مزمور 1: 5)، والوقوف بثبات أمام حضور الله بقلوب يقظة وأعين قادرة على معرفة علامات الأزمنة والبقاء في الواقع وعدم الهروب منه، مع الثقة بأنّ وعد الرّبّ آت كديَّان. ويعلق البابا القدّيس يوحنّا بولس الثَّاني: " أرغب أن يكون كلّ ما في حياتي على هذه الأرض سبيلًا لأستعدّ لتلك اللَّحظة. لا أعلم متى سيأتي ولكنّي أضع تلك اللَّحظة بين يَدَيْ والدة معلّمي، تمامًا كما أضع كلّ شيء بين يديها: "كُلّي لك" "(الوصيَّة)".  إن ابن الإنسان هو صاحب الكلمة الأخيرة. "فان سهَرنا مُواظِبينَ على الصَّلاة، كنا أَهْلًا لِلنَّجاةِ لِلثَّباتِ أمامه. فالإنسان الذي استعد للقاء يوم مجيء الرَّبّ بالصَّلاة يتحقق له يوم الخلاص الذي آمن به. لذلك يدعو البابا بندكتس المسيحيِّين: "لتقبل الخلاص من الله في وسط تقلبات العَالَم، وصحاري اللَّامبالاة والماديَّة، والشَّهادة له بطريقة عيش مختلفة". ومن هنا نسأل: كيف نعيش كمؤمنين في التاريخ وفي زّمن عودة يسوع؟ بأي عيون يجب أنّ ننظر إلى الحاضر والمستقبل؟

 

 

ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنجيلي (لوقا 21: 25-28، 34-36)

 

بعد دراسة وقائع النَّص الإنجيلي (لوقا 21: 25-28، 34-36) نستنتج أنَّه يتمحور حول الانتظار لمجيء المسيح في آخر الأزمنة بالصَّلاة، لأنَّ الصَّلاة هي الإمكانيَّة الحقيقيَّة للبقاء في الحياة دون هروب، ودون ضياع أمام الشَّدائد والآلام. لأنَّنا بها نستمدُّ من الرَّبّ القوَّة للبقاء في داخل الأحداث، متيقِّنين أنَّنا لسنا وحدنا، وأنَّ كل شيء يُمكن أن يُفقد، ما عدا حضور الرَّبّ، وأنَّ المجيء الأول للمسيح قبل ألفي سنة دلالة على مجيئه النِّهائي في آخر الأزمنة. وهذا المجيء هو بمثابة حلول النُّور والحُبِّ والرَّحمة والحياة بين النَّاس والدَّينونة. لذا ينصحنا يسوع بقوله: "فاسهَروا مُواظِبينَ على الصَّلاة، لكي توجَدوا أَهْلًا لِلنَّجاةِ مِن جَميعِ هذه الأُمورِ التي ستَحدُث، ولِلثَّباتِ لَدى ابنِ الإنسان" (لوقا 21: 36).

 

ومن هنا نتساءل: كيف علينا أن نصلِّي لكي ننجو يوم مجيء المسيح في نهاية العَالَم ونثبت لديه؟ في الكتاب المقدس تعليماتٌ واضحة في كيفية الصَّلاة بروح الإنجيل: صلاة موجّهة لله ألآب، باسم يسوع وبروح التَّبني بمفعمة بالثِّقة والإيمان والثَّبات والشُّكر والمداومة على اللِّيتورجيا المقدسة:

 

1) صلاة موجّة لله الآب

 

يطلب يسوع منَّا أن نرفع صلاتنا إلى الله الآب، فعلمنا في الصَّلاة الرَّبّانيَّة، التي تعتبر قلب تعليمه عن الصَّلاة (لوقا 11: 2-4)، أنَّ نوجّه صلاتنا إلى الله بصفته "أبانا". لأنَّنا بالإيمان أصبحنا أبناء الله، كما جاء في تعليم يوحنا الحبيب: " جاءَ إلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه. أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله"(يوحنا 1: 11-12). فقد أرادَ يسوع أن ندعوَ الله أبانا إذا ما مثَلْنا أمامَه لنصلِّيَ. كما أنَّ المسيحَ هو ابنُ الله، كذلك نُدعَى نحن أيضًا أبناءَ الله بالتبنِّي. لم يكنْ أحدٌ منّا يتجرّأْ فيدَّعِيَ لنفسِه هذا الاسمَ لو لم يَسمحْ لنا هو بذلك.

 

نقولُ "أبانا" لأنَّنا ندركُ ونؤمنُ أنّ الله أبونا، ويُعلق البابا فرنسيس: "الصَّلاة هي وقفة حقّ أمام النَّفس وأمام الله. نقابل خلالها وجهنا الحقيقي، الذي يعرفه الله، ونتحدَّث في شأنه مع الله تمامًا كالابن مع أبيه". فإنَّنا بالإيمان أصبحنا أبناء الله. ومن هنا جاءت وصيَّة بولس الرَّسول: " لِتُرفَعْ طَلِباتُكم إلى اللهِ بِالصَّلاةِ والدُّعاءِ مع الشُّكْر (فيلبي 4: 6-7). وقد عرّف القديس يوحنا الدِّمشقي الصَّلاة بقوله: "الصَّلاة هي رفعُ العقل والقلب إلى الله".

 

هذا الابتهال إلى الأب السَّماوي هو فعل إيمان، وهبة ذات، من شانه إدخالنا في نطاق المحبَّة. فنطلب الله ومشيئته قبل كل طلب، ونهتم باسمه تعالى وبملكوته وبتحقيق إرادته (متى 9: 38). هذا هي الصَّلاة الحقيقيَّة حيث يتُّم الانتقال من الرَّغبة في عطايا الله إلى الرَّغبة في هبة الله ذاته. وهذا هو شأن المرأة السَّامريَّة التي انتقلت رغبتها من طلب ماء البئر نحو الرَّغبة في الماء الحي أي عطاء الله، كما ورد في كلام يسوع "لو كُنتِ تَعرِفينَ عَطاءَ الله ومَن هوَ الَّذي يقولُ لَكِ: اسقيني، لَسَأَلِته أَنتِ فأَعطاكِ ماءً حَيًّا" (بوحنا 4: 10)؛ وكذلك نرى الجمهور ينتقل من الرَّغبة في الطّعام الفاني إلى "الغذاء الباقي للحياة الأبديَّة" كما علّمهم يسوع: "لا تَعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَفْنى بلِ اعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَبْقى فَيَصيرُ حَياةً أَبَدِيَّة" (يوحنا6: 27). إن مركز الصَّلاة هو الله وليس أنفسنا، أي أن نعرف الله بصورة أفضل، وان نُميّز إرادته بصورة أفضل، وان نتعلم أكثر أن نعبده ونكرمه.  وباختصار أن نعيش في مخافته. وفي هذا الصَّدد قالت القديسة تريزا الأفيليَّة: "الصَّلاة بالنِّسبة لي ليست إلا علاقة صداقة حميمة، والاختلاء مع مَن نعرف أنَّه أبٌ يُحبُّنا".

 

2) الصَّلاة "باسم" المسيح

 

يطلب يسوع منَّا أن نصلي باسمه القدوس: " إِنَّ سَأَلتُمُ الآبَ شَيئًا بِاسمي أَعطاكم إِيَّاه " (يوحنا 16: 23)، وصرّح لتلاميذه: "حتَّى الآن لم تَسألوا شَيئًا بِاسمي" (يوحنا 16: 24). ورفع بولس الرَّسول صلواته بالمسيح إلى الآب بقوله: "اشكُروا اللهَ الآبَ كُلَّ حينٍ على كُلِّ شَيءٍ بِاسمِ رَبِّنا يسوعَ المسيح" (أفسس 5:20). ويؤكد بولس أيضًا: "كُلُّ مَن يَدْعو بِاسمِ الرَّبّ يَنالُ الخَلاص" (رومة 10: 13)، ويضيف قائلا: " مَهمَا يَكُنْ لَكُم مِن قَولٍ أو فِعلٍ، فلْيَكُن بِاسمِ الرَّبّ يَسُوعَ تَحمَدُون بِهِ اللهَ الآب" (قولسي 3: 17)، لأنَّ َّيسوع بعد قيامته أصبح حاضرًا لأجلنا أمام الله وحيًا أبدًا للشَّفاعة فينا. وخير مثال على ذلك صلاة الرَّسول بطرس لمّا صعِدَ إلى الهيكلِ، وطلبَ منه المُقعَدُ حَسَنةً، قالَ له: "لا فِضَّةَ عِندِي وَلا ذَهَبَ. وَلَكِن أُعطِيكَ مَا عِندِي: بِاسمِ يَسُوعَ المَسِيحِ النَّاصِرِيِّ قُمْ وَامشِ" (أعمال 3: 6).

 

 الصَّلاة باسم يسوع هي بمثابة إقامة علاقة حقيقيَّة معه. والصَّلاة في هذه الحالة لا تعني أن يقتصر الطّلب على الأمور السَّماويَّة، بل أن يشاء الإنسان ما يشاء يسوع؛ ومشيئة يسوعٍ إنَّما هي إنجاز رسالته. ورسالته هي أن يصبح اتحاده "بالآب أساسا لاتّحاده بالمدعوّين "فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِدًا: كَما أَنَّكَ فِيَّ، يا أَبَتِ، وأَنا فيك ... لِيَكونوا واحِدًا كما نَحنُ واحِد (يوحنا 17: 22-24). لذا الصَّلاة باسم يسوع معناها أن نريد ما يريده، أي أن نعمل بوصاياه، وأولى هذه الوصايا هي المحبَّة. فالمحبَّة إذا هي كل شيء في الصَّلاة، بدايتها ونهايتها. والآب يمنح كل شيء من أجل هذه الوحدة في المحبَّة.

 

الصَّلاة باسم يسوع تعني أيضًا الصَّلاة بسلطته، والطّلب من الله الآب قبول صلواتنا، لأنَّنا نأتي باسم ابنه، يسوع. والصَّلاة باسم يسوع تعني أيضًا طلب مشيئة الله، "والثِّقةُ الَّتي لَنا بِه هي أَنَّه إذا سأَلْناه شَيئًا مُوافِقًا لِمَشيئَتِه استَجابَ لَنا وإِذا كُنَّا نَعلَمُ أَنَّه يَستَجيبُ لَنا في كُلِّ شَيءٍ نَسأَلُه إِيَّاه فنَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا ننالُ كُلَّ شَيءٍ نَسأَلُه إِيَّاه" (1 يوحنا 14:5 – 15).

 

أخيرًا الصَّلاة باسم يسوع هي طلب أشياء تُمجِّد الرَّبّ يسوع. وفي الواقع، نرى التَّلاميذ في سفر أعمال الرُّسل يصلون في العِليَّة بعد الفصح، ويصلون في الهيكل، ولكن بيسوع وإلى يسوع. في حين لمّا كان يسوع على قيد الحياة، لم يصلِّ إليه أحد. فهو لا يُصبح ربَّا وموضوع عبادة إلا في قيامته المجيدة (أعمال الرسل 4: 24 -30).

 

3) الصَّلاة بحسب روح الابن

 

يطلب يسوع منَّا أن نصلي بروحه القدوس. ويُبيّن لنا بولس الرَّسول دور الرُّوح في الصَّلاة التي توحِّدنا بالثَّالوث الأقدس. فأسوة بيسوع، نقول "يا أبتا"، إذ: "أَنَّ اللهَ أَرسَلَ رُوحَ ابنِه إلى قُلوبِنا، الرُّوحَ الَّذي يُنادي: "أَبَّا، يا أَبتِ" (غلاطية 4: 6). إنَّ روح التَّبني يجعلنا أن نصلي بروح الابن، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: "لم تَتلَقَّوا روحَ عُبودِيَّةٍ لِتَعودوا إلى الخَوف، بل روحَ تَبَنٍّ بِه نُنادي: أَبًّا، يا أَبَتِ!" (رومة 8: 15). وهذا ما نفعله جميعنا لدى مشاركتنا في صلاة ليتورجيا الكنيسة، كالقداس والأسرار المقدسة وصلوات ليتورجيا ساعات الفرض الإلهي.

 

نستنتج مما سبق أن الصَّلاة ليست قبل كل شيء عملا من أعمالنا، نتّجه بها نحو الله، بل إنَّها عمل الله نحونا فهو الذي يصلي فينا من خلال الرُّوح القدس. لذلك لا عجب إن يَحثنا يهوذا الرَّسول على الصَّلاة بالرُّوح: "صَلُّوا بِالرُّوحِ القُدُس، واحفَظوا أَنفُسَكم في مَحَبَّةِ الله وانتَظِروا رَحمَةَ رَبِّنا يسوعَ المسيح مِن أَجْلِ الحَياةِ الأَبَدِيَّة" (يهوذا 20-21).

 

4) الصَّلاة بثقة

 

يطلب يسوع منا أيضًا أن نصلي بثقة، لأنَّ صلاة الرُّوح تُضفي على صلاتنا الثِّقة كما جاء في رسالة إلى العبرانيين: "فلْنتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إلى عَرْشِ النِّعمَة لِنَنالَ رَحمَةً ونَلْقى حُظْوَةً لِيَأَتِيَنا الغَوثُ في حِينِه" (عبرانيِّين 4: 14-16). والثِّقة بالعبريَّة "بطح" בטח (مزمور 25: 2). وهذه الثِّقة باللّه تتراوح بين التَّوسل ورفع الشكر. يشكر المرء قبل أن يُستجاب ثقة بالله، كما صلى يسوع لدى إحياء لعازر: " شُكرًا لَكَ، يا أَبَتِ على أَنَّكَ استَجَبتَ لي" (يوحنا 11: 41). والثِّقة نابعة من الرُّوح المحبَّة الذي قد أفيض علينا "لأَنَّ مَحَبَّةَ اللّه أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرُّوحَ القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا" (رومة 5: 5) ومع ذلك نطلب الرُّوح كما طلب منا السَّيد المسيح" فما أَولى أَباكُمُ السَّماوِيَّ بِأَن يهَبَ الرُّوحَ القُدُسَ لِلَّذينَ يسأَلونَه " (لوقا 11: 13). وهذا الرُّوح هو أصل الصَّلاة وغايتها؛ ومن هذا المنطق، عندما نصلي نثق أن صلواتنا مستجابة من قبل الله، والاَّ فنحن نصلي كما يصلى الوثنيون "وإِذا صلَّيْتُم فلا تُكَرِّروا الكلامَ عَبَثًا مِثْلَ الوَثَنِيِّين، فهُم يَظُنُّونَ أَنَّهُم إِذا أَكثَروا الكلامَ يُستَجابُ لهُم " (متى 6: 7).

 

5) الصَّلاة بإيمان

 

يطلب منَّا يسوع أيضًا أن نصلي بإيمان. والإيمان ليس شرطًا للصَّلاة فحسب إنَّما هو نتيجتها ومفعولها، كما يبدو واضحًا من إيمان عامل الملك بالمسيح في شفاء ابنه المريض (يوحنا 4: 50 و53) وإيمان مرتا ومريم بالمسيح في إحياء أخيهم لعازر (يوحنا 11: 25-27 و45). لذلك يتوجب علينا إن نصلي ونحن على يقين من استجابة يسوع لصلاتنا. وهذا اليقين هو منبع الصَّلاة وشرطها، كما جاء في حوار يسوع مع يائيرس، رَئيسِ المَجمَعِ بقوله: "لا تَخَفْ، آمِنْ فحَسْب تَخلُصِ ابنَتُكَ " (لوقا 8: 50). ويعبّر مرقس عن ذلك بصورة مباشرة: "مَن لا يَشُكُّ في قَلبِه، بل يُؤمِنُ بِأَنَّ ما يَقولُه سيَحدُث، كانَ له هذا" (مرقس 11: 23).

 

يتوجَّب علينا أن نكون على يقين، لأنَّنا ندعو الله الآب: "فإِذا كُنتُم أَنتُمُ الأَشرارَ تَعرِفونَ أَن تُعطوا العَطايا الصَّالِحَةَ لأَبنائِكم، فما أَولى أَباكُمُ السَّماوِيَّ بِأَن يهَبَ الرُّوحَ القُدُسَ لِلَّذينَ يسأَلونَه"(لوقا 11: 13). فلا نكثر من الكلام أو نطيله عبثًا (متى 6: 7) كأن الله بعيد عنَّا، كما كان شأن بعل الذي سخر منه إيليا (1 ملوك 18: 26-28)، لأنَّ جاء في توصيات يسوع "إِذا صلَّيْتُم فلا تُكَرِّروا الكلامَ عَبَثًا مِثْلَ الوَثَنِيِّين، فهُم يَظُنُّونَ أَنَّهُم إِذا أَكثَروا الكلامَ يُستَجابُ لهُم. فلا تتَشَبَّهوا بِهِم، لأَنَّ أَباكُم يَعلَمُ ما تَحتاجونَ إِلَيه قبلَ أَن تَسأَلوه"(متى 6: 7-8). فالإيمان يُثمر الحُبَّ، والحُبُ يدفع لخدمة القريب، والخدمة تُعطينا السَّلام الدَّاخلي مع الله. وفي هذا الصَّدد تقول القديسة الأم تريزا الكالكوتيَّة: " ثمرة الصَّلاة بالإيمان الحُبُ، وثمرةُ الحبِّ الخدمة، وثمرة الخدمة السَّلام".

 

6) الصَّلاة في انتظار وصبر

 

يطلب منا يسوع أيضا أن نصلي في انتظار. وقد شدَّد يسوع على الإلحاح في الصَّلاة والثَّبات فيها " فاسهَروا مُواظِبينَ على الصَّلاة لِلثَّباتِ لَدى ابنِ الإنسان " (لوقا 21: 36). لا بدَّ من السَّهر والصَّلاة في انتظار فعّال لمجيء ملكوت الله والثِّقة في انتظار تلك الدَّينونة، على الرَّغم من إبطائها (لوقا 18: 1-8). مطلوب منا صلاة الانتظار، ولكن كثيرًا ما نفقد الصَّبر في الصَّلاة، مطالبين الله أن يلبّي حاجاتنا بدل أن نخضعها لإرادته ولمجيئه.  فهل القيمة الّتي نعطيها لعمل الله فينا أقلّ من أن تكلّفنا انتظارًا؟ الزَّمن يأخذ معناه من انتظارنا. الزَّمن يعطي الأرض خصوبتها، "الَّذينَ بِالدُموعِ يَزرَعون بِالتَّهْليلِ يَحصُدونَ" (مزمور 126: 5). من سيلتقي بالرَّبّ عند مجيئه؟  ذاك الذي واظب على الصَّلاة منتظرًا الرَّبّ، مُصغيًا بانتباه إلى كلمته، راغبًا في ملكوته.

 

إنّ الصَّلاة في انتظار مجيء يسوع ضروريَّة، لأنّه لا أحد يعرف لحظة نهايته. إنّها ضروريَّة كي نظلّ دائمًا في حقيقة ومحبّة الرَّبّ يسوع المسيح. إنّها ضروريَّة كي نحصل على كلّ نعمة من الرَّبّ، وكلّ بركة، وكلّ عطيَّة سماويَّة، وكلّ معونة، إنّها ضروريَّة كي نتمكّن من السَّير على هدى كلمته وإنجيله وعهده. دون الصَّلاة لا نعمة وبدون نعمة، لا يمكننا أن نسير أبدًا في الحقيقة وفي محبّة الرَّبّ يسوع المسيح. وفي هذا الصَّدد يقول الأب يوحنا كرونستادت: "إذا كنتَ عَالِمًا أو طالبًا أو موظفًا أو ضابطًا أو باحثًا أو عاملًا، فاذكر أن أول وأهم ما يجب أن تتعلمه في الحياة يتركز في معرفتك الخلاص بالمسيح، وإيمانك بالثَّالوث الأقدس، وصلاتك كل يوم مع الله، ومواظبتك على الخدمات الكنسيَّة، وترديدك اسم يسوع المسيح في قلبك، لأنَّه قوة الله لخلاصك".

 

7) الصَّلاة بشكر

 

يطلب يسوع منَّا أن نشكر الله بصلواتنا. تشمل الصَّلوات في الإنجيل بوجه عام تقديم الشَّكر إلى جانب الطّلبات الأخرى. يدعونا يسوع إلى طلب ما نحن بحاجة إليه، لكنه يطلب أن نُعبِّر له عن شكرنا طما جاء في شفائه عشرة برص فقالَ يسوع: " أَليسَ العَشَرَةُ قد بَرِئوا؟ فأَينَ التِّسعَة؟  أَما كانَ فيهِم مَن يَرجعُ ويُمَجِّدُ اللهَ سِوى هذا الغَريب؟" (لوقا 17: 1717-18). لذا يوصي بولس الرَّسول المؤمنين بقوله "اشكُروا اللهَ الآبَ كُلَّ حينٍ على كُلِّ شَيءٍ بِاسمِ رَبِّنا يسوعَ المسيح" (أفسس 5: 20).

 

نلاحظ في صلاة الشَّكر عند بولس الرَّسول أن صلاته تتراوح بين التَّضرع والحمد": فأَسأَلُ قَبلَ كُلِّ شَيءٍ أَن يُقامَ الدُّعاءُ والصَّلاةُ والاِبتِهالُ والشُّكرُ (طيموتاوس 2: 1). وهو نفسه يستهل رسائله بحمد الله على تقدم المرسل إليهم، ويعرض صلواته لكي يتمِّم َالله نعمه عليهم: " أَشكُرُ إِلهي كُلَّمَا ذَكَرتُكم ... وإِنِّي على يَقينٍ مِن أَنَّ ذاكَ الَّذي بَدَأَ فيكم عَمَلًا صالِحًا سيَسيرُ في إِتمامِه إلى يَوم المسيحِ يسوع" (فيلبي 1: 9). ويبدو أن رفع الشُّكر يجلب معه سائر مقومات الصَّلاة. فبعد كل ما تلقيناه دفعة واحدة في المسيح يسوع، لا يمكننا أن نصلي إلا إذا بدأنا بالشُّكر على هذا العطاء: "فإِذا اغتَنَيتُم في كُلِّ شيَء، جُدتُم كُلَّ جُودٍ يَأتي عن يَدِنا بآياتِ الشُّكرِ لله. ...فالشُّكرُ للهِ على عطائِه الَّذي لا يُوصَف" (2 قورنتس 9: 11-15).

 

8) الصَّلاة مِن غَيرِ مَلَل

 

طلب منا يسوع أن نواظب على الصَّلاة بلا ملل: "فاسهَروا مُواظِبينَ على الصَّلاة " (لوقا 21: 36)؛ لأننا في حاجة كليَّة إلى "المُداوَمةِ على الصَّلاةِ مِن غَيرِ مَلَل" (لوقا 18: 1) وذلك في انتظار مجيئه في إطار الأزمنة الأخيرة (لوقا 18: 1-7). وإلاَّ فسوف تغرقنا "جميع الأمور التي ستحدث" (لوقا 21: 36). ألم يقل لتلاميذه: "ما بالُكُم نائِمين؟ قُوموا فصَلُّوا لِئَلاَّ تَقَعوا في التَّجرِبَة " (لوقا 22: 46). فلا بدّ وأن نختبر مواظبتنا وأن نُظهر يقظة قلوبنا "فلا تَفْتُرُ هِمَّتُنا "(2 قورنتس 4: 1). ويعلق القدّيس أوغسطينوس: " الصَّلاة التي تستمرّ مِن غَيرِ مَلَل هي الصَّلاة الدَّاخليَّة أي الرَّغبة.  إذا رغبتَ براحة السَّبت لن تكفَّ عن الصَّلاة. لن تصمت إلّا إذا توقّفتَ عن الحبّ" (حديث عن المزمور 38). إنّ الله موجودٌ في القلبِ المُتجرِّد المُحب، في صمت الصَّلاة. أن نصلّي كثيرًا، يعني أن نقرع طويلًا ومن كلّ قلوبنا باب مَن نصلّي له.  الصَّلاة في الواقع هي آهات ودموع أكثر ممّا هي خطب وكلمات.

 

 يتوجب علينا أن نتضرع إلى الله كي يُنقذنا من تجربة الأزمنة الأخيرة التي يتعذّر تحملها. ويقرن بولس الألفاظ الدَّالّة على الصَّلاة، بعبارة " دائما" (رومة 1: 10) “دون انقطاع"، أو "في كلّ حين" (أفسس 6: 18،) أو "ليل نهار" (1 تسالونيقي 3: 10)، أو "المواظبة على الصَّلاة " كما نقرا في أعمال الرسل "كان جماعة الرُّسل يُواظِبونَ جَميعًا على الصَّلاةِ " (أعمال الرسل 1: 14) متّحدِين، مُعلِنين بوحدتِهم أنّ الله الذي "يُسكِنُ الوحيدَ بيتًا" (مزمور 67: 7) ولا يُدخِلُ بيتَ الأبديّةِ أي بيتَه الإلهيَّ إلاَّ هؤلاء الذين يُصَلُّون صلاةً واحدة. ويعلق القديس غريغوريوس الكبير: "يجب علينا لا أن نصلي فقط بلا انقطاع باسم يسوع المسيح، ولكن نحن ملزَمون أن نعلم صلاتنا للآخرين، لكل إنسان على وجه العموم، إذ أنها لائقة ونافعة للجميع: لرجل الدَّين ولرجل العَالَم، للخادم والمخدوم، للعالِم والأُمي، للرجل والمرأة، للشيخ والطّفل. نوحي إليهم جميعًا بأهميَّة هذه الصَّلاة وندربهم على الصَّلاة بها بغير انقطاع"، كما يوصي بولس الرَّسول "لا تَكُفُّوا عن الصَّلاة"(1 تسالونيقي 5: 17). ‏

 

9) الصَّلاة بمراسيم اللِّيتورجيا الطّقسيَّة

 

يطلب يسوع منا أن نصلي ليس بالرُّوح فقط، بل بالجسد أيضًا من خلال طقوس الكنيسة. خشوع الجسد مطلوب، لأن الجسد يشترك مع الرُّوح في مشاعرها، ويُعبِّر عنها. فخشوع الرُّوح يُعبِّر عنه خشوع الجسد. وتراخى الرُّوح وعدم اهتمامها، يظهر كذلك في حركات الجسد، مثل انشغال الحواس بشيء آخر أثناء الصَّلاة سواء النَّظر أو السَّمع وما إلى ذلك.

 

يتوجب علينا أن نشارك أجسادنا في الصَّلاة كما كان فعل الرُّسل: فكانوا يرفعون الأيدي نحو السَّماء (1 طيموتاوس 2: 8)، وأحيانًا يجثون على الرُّكبتين (أعمال 9: 40) ويرنّمون بالمزامير (أفسس: 19، كولسي 3: 16). والاهم من ذلك أن نكون قلبًا واحدًا على مثال الجماعة المسيحيَّة الأولى: "كانوا يُواظِبونَ جَميعًا على الصَّلاةِ بِقَلْبٍ واحِدٍ" (أعمال 1: 14). فعندَما نجتمعُ مع الإخوةِ ونحتفلُ بالذبيحةِ الإلهيَّة مع كاهنِ الله، يجبُ أن نتذكَّرَ واجبَ الاحتشامِ والنِّظام، فلا نُرسِلُ الكلامَ هنا وهناك بأصواتٍ منكَرَة. والطّلَباتُ التي يجبُ أن نرفعَها بخشوع لا نعبِّرُ عنها بالثَّرثرةِ والضَّجيج، لأنَّ الله لا يسمعُ الصَّوتَ بل القلب، ولا هو بحاجةٍ لأنْ يُنَبَّهَ بالضَّجيج. فهو يرى الأفكارَ كما قالَ الرَّبّ نفسُه: "لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ السُّوءَ فِي قُلُوبِكُم؟" (متى 9: 4).

 

نستنتج مما سبق انه يتوجب أن تكون صلاتنا وكلامنا بنظامٍ وهدوءٍ وخشوع حيث أنَّنا ماثلون أمامَ حضرةِ الله. إذ علينا أن نحترمَ الحضرةَ الإلهيَّة بمظهرِ جسمِنا وطريقةِ كلامِنا. الصُّراخُ والضَّجيجُ هما عدمُ احترام، ولا يَليقان بالهيبةِ والتقوى والخشوعِ في الصَّلاة. لأنّنا نعلمُ أنّ الله حاضرٌ، وهو يسمعُ الجميعَ ويرى الجميعَ، كما كُتِبَ: “أنَا إلهٌ قريبٌ، ولسْتُ إلهًا بعيدًا. أيَختَبِئُ إنسَانٌ في الَخَفايَا وَأنَا لا أرَاهُ؟ ألَسْتُ ماَلِئَ السَّمَاوَاتِ وَالأرضِ؟" (إرميا 23: 23-24).

 

 

الخلاصة

 

قبل روية الآلام (لوقا 21) يتناول لوقا الإنجيلي خطاب الأزمنة الأخيرة قبل عودته.  الرَّبّ عَالَم بأحداث التَّاريخ كله ويسخرها كعلامات لمجيئه. وعلامات مجيئه سوف تكون ضيقًا وسط الشُّعوب واضطرابات مفزعة في النِّظام العَالَمي بأكمله.  وهذا المجيء له عنصران بحسب طريقة الاستعداد له: إمَّا أن يكون هذه المجيء فجأة وغير متوقع لانشغال الإنسان بعيدًا عن استعداده لهده اللقاء، إمَّا أن يكون هذا اللقاء افتداء وتحرير من كل الشدائد بسبب استعداد الإنسان بالصَّلاة لهذا للقاء مع الرّبّ.  لذلك عندما تبدأ تحدث هذه الأمور، على المؤمنين أن يصلوا لكي يقفوا أمام ابن الإنسان بثبات عند مجيئه. 

 

 ليس في الإنجيل ما يكشف أن الصَّلاة ضرورة مطلقة، أفضل من المكانة التي تحتلها في حياة يسوع. إنه يصلّي كثيرًا على الجبل (متى 14: 23)، وحده على انفراد في حوار حميم ومستمر مع الآب (لوقا 9: 18)، وصلاته كما أشار لوقا الإنجيلي كانت تتعلق خاصة برسالته؛ فقد صلى يسوع عندما اعتمد (لوقا 3: 21)، وقبل اختياره رسله الاثني عشر (لوقا 6: 12)، وعند التَّجلّي (لوقا 9: 29)، وعندما علّم تلاميذه "الصَّلاة الرَّبّانيَّة " (لوقا 11: 1). لقد كانت صلاته هي السِّر الذي اجتذب إليه أشد النَّاس قربًا منه (لوقا 9: 18). والعلاقة بين صلاته ورسالته تبدو جليَّة واضحة أيضا في فترة الأربعين يومأ التي افتتح بها عمله في الصَّحراء. (متى 4: 7)، وصلى في بستان الزَّيتون في الجسمانيَّة قبل اجتيازه فترة آلامه (مرقس 14: 36).

 

يلخص صاحب الرِّسالة إلى العبرانيِّين صلاة يسوع بقوله "وهو الَّذي في أَيَّامِ حَياتِه البَشَرِيَّة رفعَ الدُّعاءَ والاِبتِهالَ بِصُراخٍ شَديدٍ ودُموعٍ ذَوارِف إلى الَّذي بِوُسعِه أَن يُخَلِّصَه مِنَ المَوت، فاستُجيبَ لِتَقْواه" (عبرانيِّين 5: 7) وإن قيامة المسيح وهي اللَّحظة الأساسيَّة لخلاص الإنسانيَّة، هي الاستجابة لهذه الصَّلاة من يسوع الإله التي تستوعب كلّ الطّلبات الإنسانيَّة في تاريخ الخلاص. وفي هذا الصَّدد كتب أحد الفلاسفة المفكرين " من قال لك إن الله لا يساعدنا في صلاتنا؟ ابدأ بالصَّلاة إليه، وسترى". وإذا عجزت عن الصَّلاة، فاجعل من عدم قدرتك على الصَّلاة صلاةً.

 

يوصينا يهوذا الرسول بالصَّلاة استعداد لمجيء الرَّبّ "أما أنتم أيها الأحباء، فابنوا أنفسكم على إيمانكم المقدس وصلوا بالرُّوح القدس. واحفظوا أنفسكم في محبة الله وانتظروا رحمة ربنا يسوع المسيح من أجل الحياة الأبديَّة" (يهوذا 20-21). وذلك تلبية لوصيَّة يسوع "لِتَكُنْ أَوساطُكُم مَشدودة، ولْتَكُنْ سُرُجُكُم مُوقَدَة، وكونوا مِثلَ رِجالٍ يَنتَظِرونَ رُجوعَ سَيِّدِهم مِنَ العُرس، حتَّى إِذا جاءَ وقَرَعَ البابَ يَفتَحونَ لَه مِن وَقتِهِم" (لوقا و12: 35-36). "الصَّلاة سلاح عظيم، وكنز لا يفرغ، وغنى لا يسقط ابدأ، ميناء هادئ وسكون ليس فيه اضطراب" كما يقول القديس يوحنا الذَّهبي الفم.

 

 

دعاء

 

أيها الآب السَّماوي، نسألك باسم يسوع ابنك الوحيد، الذي سيعود في تَمامِ العِزَّةِ والجَلال ليدين العَالَم، ساعدنا على المواظبة في الصَّلاة، بثقة وانتظار وبغير ملل كي نتمكّن من أن نظلّ ثابتين في الصَّلاة بك وفيك ومنك واليك حتّى النِّهاية، فنرى في كل حدث من أحداث التَّاريخ خطوة نحو خلاصنا انتظارا في رجاء سعيد لمجيئك في العزة والجلال. آمين.