موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٣ يونيو / حزيران ٢٠٢٤

عظة عيد الصّعود الْمجيد 2024

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
عيد الصّعود الْمجيد

عيد الصّعود الْمجيد

 

﴿اللهُ عَلَى الأُمَمِ مَلَك، اللهُ عَلَى عَرشِ قُدْسِهِ جَلَس﴾ (مز 9:47)

 

بَعدَ مُرورِ أَربَعينَ يومًا عَلَى قِيَامَتِهِ الْمَجيدَة، حَيثُ تَرَاءَى الْمَسيحُ القَائِمُ لِرُسلِهِ وصَحبِه، فَجَبَرَ قُلوبَهم الّتي تَصَدَّعَتْ حُزنًا، وتَفَطَّرَتْ أَلَمًا يومَ الجَمعَةِ العَظيمَة، وأَعَادَ السَّكينَةَ والسَّلامَ إلى نُفُوسِهم البَائِسَة، حَانَ الوَقتُ لِكَي يَمضي صَاعِدًا إلى العُلَى، كَمَا تُخبِرُنا بذلِكَ بُشرَى الإنْجيليِّين مَرقُس ولوقا، وسِفرُ أَعمَالِ الرُّسُل (ف1)، الّذي هو سِفرُ وِلادَةِ الكَنيسَةِ ونَشأَتِهَا. فَحَدَثُ الصُّعودِ هوَ الحَدَثُ الفَاصِلُ بَينَ زَمَنَين: الأوّل حَياةُ السَّيدِ الْمَسيحِ الأرضِيَّة، والثَّاني زَمَنُ الكَنيسةِ وحَمْلُ بُشرَى الخَلاص.

 

حَدَثُ الصُّعودِ هو مِنْ أَهَمِّ مُكَوِّنَاتِ إيمانِنَا. فَفِي كُلِّ مَرَّةٍ نُعلِنُ فِيهَا قَانونَ الإيمان، نَقُول: "وصَعِدَ إلى السَّمَاء، وجَلَسَ عَنْ يمينِ الآب". وكَمَا أنَّ الْمَسيحَ قَدْ صَعِدَ إلى السَّمَاء، فَكَذلِكَ سَيَعودُ يَومًا في تَمامِ العِزّةِ والجَلال، كَمَا نُعلِنُ أيضًا قَائِلين: "وسَيَأتي بِمَجدٍ عَظيم، لِيَدينَ الأحيَاءَ والأموَات، الّذي لا فَنَاءَ لِمُلكِهِ".

 

وبَينَ الصُّعودِ الْمَجِيد والْمَجيءِ الثَّاني للرّبّ، هَا هو الرُّوحُ القُدس، رُوحُ الحَقِّ الْمُؤَيِّد، يَقُودُ الكَنيسَةَ ويُرشِدُهَا، لِتَظَلَّ مَنَارَةً تَقُودُ النَّاسَ صَوبَ مِيناءِ الخَلاص. تَقُودُنَا إلى حَيثُ قَدْ سَبَقَنا رَاعِينَا الصَّالِح، كَمَا وَعَدَنَا فَقَال: ﴿إنّي ذاهِبٌ لِأُعِدَّ لَكم مُقَامًا. وإذا ذَهبتُ وَأَعدَدتُ لَكُم مُقامًا، أَرجِعُ فَآخُذُكمُ إليَّ، لِتَكونوا أنتُم أيضًا حيثُ أنا أكون﴾ (يوحنّا 2:14-3).

 

وعَليهِ، حَدَثُ الصُّعودِ لا يَقِلُّ أَهمّيَةً عَنْ حَدَثِ القِيَامَة، فَهوَ أَوَّلًا يَقَعُ ضِمنَ فَترَةِ البَهجَةِ الفِصحِيَّة، وهو أَيضًا يُحيِ رَجَاءَنَا نَحنُ الْمُبَارَكين، ويُوَطِّدُ إيمانَنَا في القِيَامَةِ الّتي تَنتَظِرُنَا ونَسعَى إِليهَا، بَعدَ أَنْ يَحينَ دُورُ كُلٍّ مِنَّا لِيُغَادِرَ هَذَا العَالَمَ الفَاني، ويَمضِي عِندَ انْتِهَاءِ شَوطِهِ مِن هَذهِ الغُربَةِ إلى ذَاكَ الوَطَن، ويَصعَدَ إلى حَيثُ الْمَسيحُ الرَّبُّ قَدْ صَعد، ويَرِثَ مَا سَبَقَ لَهُ أَنْ أَعَدَّهُ لَنَا، بِقَولِه: ﴿تَعَالَوا يَا مَنْ بارَكَهم أَبي، فَرِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُم مَنْذُ إِنْشَاءِ العَالَم﴾ (متّى 34:25).

 

يَا أَحِبَّة، إِنَّ الْمَسيحَ بِموتِهِ وقِيَامَتِه قَدْ كَسَرَ شَوكَةَ الْمَوت، وحَطَّمَ قُيودَهُ، ودَمَّرَ أركَانَهُ، وحَرَّرَنَا مِنْ سَطْوَتِهِ وطُغْيَانِه. فَلَمْ نَعُدْ نَخْشَى الْمَوت، كَمَن لا رَجَاءَ لَهُم، لِأنَّ فَادِينَا قَدْ اجتَازَ هَذَهِ الطَّريقَ قَبلَنَا، وأَنَارَهَا بِضِيَاءِ قِيَامَتِه، فَلَمْ تَعُدِ الطَّريقُ مُوحِشَةً. وكَشَفَ لَنَا أَنَّ الْمَوتَ مَا هُو إلّا لَحظَةُ عُبُورٍ وانْتِقَال، مِنْ حَيَاةٍ إلى الحَيَاة، ومِنْ دَارٍ إلى الدَّار، ومِنْ مُقَامٍ إلى الْمُقَام. أَمَّا بِصُعودِهِ الْمَجيد، فَقَد فَتَحَ لَنَا الْمَسيحُ الإلَهُ أَبوابَ السَّمَاء، وشَرَّعَ أَمَامَنَا مَدخَلَ الْمَنزِلِ الأبديِّ الّذي أَعَدَّهُ لَنَا اللهُ أَبُونَا! فَمَا أَغلَقَهُ آَدمُ الأوّلُ بالخَطيئَةِ والعِصيَان، أَعَادَ فَتحَهُ الْمَسيحُ، آَدَمُ الجَديدُ، بِطَاعَتِهِ وصُعُودِهِ الْمَجيد. وإنْ كُنَّا مَع آَدمَ قَدْ هَبَطنَا إلى الدَّرَكِ الأَسفَل، فَمَعِ الْمَسيحِ صَعدنَا إلى الْمَنزِلَةِ العُليَا!

 

وعَليه، نَحنُ الحَاجِّينَ في سُبُلِ الأَرض، والْمُحتَفِلينِ بِعِيدِ صُعودِ الرّبِّ الْمَجيدِ إلى العُلَى، فَلْنَذكُرْ أنَّ حَيَاتَنَا الآنَ وهُنَا هي فِعلُ طَاعَةٍ للهِ أَبينَا. فَلْنَذكُرْ أنَّ هَذهِ الدَّارَ وإنْ طَالَت لَيسَت بَاقِيَة. وإنْ كَانَت قُلوبُنَا في الأرضِ، إِلَّا أَنَّها تَرتفِعُ إلى العُلَى لَدَى الرَّبّ. وإنْ كُنَّا نَحيا في العَالَم، إِلّا أَنَّنَا: ﴿لَسنَا مِنَ العَالم﴾ (يو 14:17).

 

نَسيرُ اليَومَ حُجَّاجًا في رِضَى الرَّبّ، ونَصعَدُ شَيئًا فَشيئًا مُدَّةَ حَياتِنا الأرضيّة، حَتّى نَبلُغَ أُورشَليمَ السَّمَاويَّة، إلى ذَاكَ الْمُقَامِ السَّعيد، الّذي نَحيَاهُ اليَومَ بالرَّجَاءِ والإيمان، إلى أنْ نُكَلِّلَهُ يَومًا بالحَقيقَةِ والعَيَان. وكَمَا أَنَّ الْمَسيحَ يَومَ صُعُودِهِ قَدْ "جَلَسَ عَنْ يمينِ الآب"، فَهَكَذَا نَحن، يَومَ نَصعَدُ إلى تِلكَ الدَّار، سَنَجلِسُ مَعِ الْمسيحِ إلى تِلكَ الْمَائِدَةِ الْمُعدَّةِ لِلْمُنتَصرين، ونَتَنَاوَلُ مِنْ وَليمَةِ الحَمَلِ الأزليّة، وَلِيمَةِ الأَفراحِ الأَبَدِيَّة!