موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١ يونيو / حزيران ٢٠٢٣

عظة عيد الزّيارة

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
عِيدُ الزِّيَارةِ لَم يَكُنْ مُجرّدَ لِقَاءٍ عَاديٍّ جَمعَ بَينَ امْرَأَتَينِ اثْنَتَين

عِيدُ الزِّيَارةِ لَم يَكُنْ مُجرّدَ لِقَاءٍ عَاديٍّ جَمعَ بَينَ امْرَأَتَينِ اثْنَتَين

 

﴿اِحْمَدوا الربَّ لأنّهُ صَالِحٌ، فَإنَّ إلى الأبدِ رَحمَتَهُ﴾ (مزمور 1:136)

 

عِيدُ الزِّيَارةِ لَم يَكُنْ مُجرّدَ لِقَاءٍ عَاديٍّ جَمعَ بَينَ امْرَأَتَينِ اثْنَتَين: الأولَى طَاعِنَةٍ في السِّنِّ في خَريفِ العُمر، وَالثّانية فَتَاةٍ شَابّةٍ في مُقتَبَلِ العُمر. بَلْ كَانَ لِقاءَ عِمَّانُوئيل، اللهِ الّذي صَارَ مَعنَا وَبينَنَا، مَعِ البَشَريّةِ بِرُمَّتِهَا، عِندَمَا تَجسَّدَ وَحَلَّ في حَشَا مَريمَ الطَّاهِرَةِ النَّقيَّة. وَأَليصَابَاتُ لَمَّا شَعَرتْ هِيَ وَجَنِينُهَا بهذا الحُضورِ الإلهيِّ العَظيم، هَتَفَتْ بِأَعلَى صوتِهَا مُلْهَمَةً: ﴿مِن أَينَ لي أنْ تَأتيني أُمُّ ربّي؟﴾ (لوقا 43:1).

 

فَالرّوحُ القُدسُ هوَ كَالعِطرِ الفَوَّاح، الّذي لا يَشُمُّهُ واضِعُهُ فَقَط، بَلْ يَسْتَنشِقُ أَيضًا أَريجَهُ كُلُّ مَنْ يَقترِبُ مِنهُ وَيَكونُ في مُحيطِه. وَمَريمُ العَذراء، تِلكَ الّتي حَلَّ عَلَيها الرّوحُ القُدس، وَامْتَلَأتْ مِنْ مَواهِبِهِ وَثِمارِه، صَارَتْ وَردَةً سِرّيّةً فَوَّاحَةً، تَنْشُرُ عَبيرَ الرّوحِ الطَّيب، أَينَمَا ذَهَبَتْ وَحَيثُمَا حَلَّت.

 

وَهذا هوَ الْمَعنى الأوّل لِعيدِ الزّيارَة! فَنحنُ يَا أَحبَّة قَدْ حَلَّ عَلَينَا الرّوحُ القُدسُ يومَ الْمَعموديّة، مِثلَمَا حَلَّ عَلى مَريم يومَ البِشارَة، وَيَسكُنُ فينَا الْمَسيحُ في كُلِّ مَرّةٍ نَتَنَاوَلُ فيهَا القُربانَ الأقدَس، سِرَّ جَسدِهِ وَدَمِهِ الأقدَسين، كَمَا سَكَنَ في مرَيم. وَعَليهِ، نُصبِحُ كَمَريمَ العَذراء: حَامِلي الإله، نُعْطيهِ كَمَا أَعطَتْ مَريم! لأنَّ حَياتَنَا وَسيرَتَنا تُصيرُ مُعَطَّرَةً بِرَائِحةِ الرّوحِ القُدسِ الذّكيّةِ، الّتي تَفوحُ مِنَّا.

 

أَمّا الْمَعنى الثّاني لِهذا العَيد، فَهوَ مُرتَبِطٌ بالْمَعنَى الأوّل. فَنَحنُ نُعطي الإله، عِندَمَا نُذيعُ صَنَيعَهُ وبُشْرَاه، كَمَا يَقولُ الْمزمورُ السّادِسُ والتّسعون: ﴿حَدِّثوا في الأمَمِ بِمَجدِه، في جَميعِ الشُّعوبِ بِعَجَائِبه﴾ (مز 3:96). وَهَذَا مَا فَعَلتهُ مَريم، يَومَ مَضَتْ قَاصِدَةً بَيتَ قَريبَتِهَا أَليصابَات. فَهيَ بَعدَ أَنْ سَمِعَتْ تَحيّةَ أَليصاباتَ الّتي قَالَتهَا بِوَحيٍ، رَدَّتْ مَريمُ بِوَحيٍ أَيضًا، مُخبِرَةً بِعَجَائِبِ الْمَولى، وَعَظَائِمِهِ الّتي صَنَعَها إليهَا. فَنَشيدُ (تُعَظِّم نفسيَ الرّب)، هوَ نَشيدُ حَمدٍ للهِ، وَاعْتِرافٍ بإِنْعَامَاتِه.

 

وَهَذَا يَجعلُني أَعودُ إلى كَلماتِ بولسَ الرّسول، في الرِّسَالَةِ الأولَى إلى أَهلِ تَسالونيقي: ﴿أُشْكروا عَلى كُلِّ حَال. لا تُخمِدوا الرّوح﴾ (1تس 18:5-19). فَالرّوحُ القُدسُ الّذي وُهِبَ لَنَا، هو روحُ شُكْرٍ واعْتِراف. والإنسانُ الّذي لا يَشكُر، دائِمُ التَّشَكّي وَالتَّذَمُّر، هُوَ إنْسَانٌ رُوحُ اللهِ لا يُقيمُ فيه، أَو أَخمَدَ الرّوحَ فيه. فَمَن لا يَشكُر الله، ولا يَشكُر النَّاس: إِمَّا مُتَكبِّرٌ مَغرور، وَإمَّا أَعمَى البَصيرةِ ضَريرُ الضَّمير.

 

فَمريَمُ العَذراء بِزيارتِها الْمُبَارَكة، تُعَلِّمُنَا أَنْ نَشكُرَ اللهَ دَومًا، وَأَنْ نَحُثَّ الآخرينَ أَيضًا عَلَى شُكرِ اللهِ وَحَمدِه، وَعَلَى شُكرِ بَعضِنا البَعض. وأَليصاباتُ لَمَّا قالَت مُخاطِبَةً مَريم: ﴿مِن أَينَ لي أنْ تَأتيني أُمُّ ربّي؟﴾، فَهيَ تَشْكُرُهَا عَلَى زيارتِها، الّتي أَحَلَّت بَركةَ السَّمَاءِ عَلَيهَا وَعَلَى جَنينِهَا وَعَلَى بَيتِها. وكَأنّها تَقولُ لَها بِلَهجَتِنا العَامِيَّة: "لويه مَغلبه حالكي؟!". فَكَمْ يَكونُ جَميلًا أَنْ تَكونَ لَدَينَا فَضيلَةُ الشُّكرِ وَثقافَةُ التَّقدير، وَكمْ يَكونُ مُؤلِمًا عِندَمَا تَصنَعُ الخيرَ، ولا تُلاقي سِوَى الإجْحَافِ ونُكرانِ الجَميل!

 

هَتَفَت مريمُ فَقالَت: ﴿تُعَظّمُ الرّبَّ نَفسي، وَتَبتَهِجُ رُوحي باللهِ مُخلّصي، لأنَّهُ نَظَرَ إلى أَمَتِهِ الوَضيعَة. لأنَّ القَديرَ صَنَعَ إليَّ أمورًا عَظيمَةً: قُدّوسٌ اسمُهُ. وَرَحمَتُهُ مِن جيلٍ إلى جيلٍ لِلّذينَ يَتّقونِهُ﴾ (لوقا 49:1-50). هَذا الهُتافُ الْمُوحَى يُذكِّرُنا أوّلًا بِهُتافِ مُوسَى وَشَعبِ إسرائيلَ يَومَ خَرَجوا مِن أَرضِ مِصرَ، فَأنْشَدوا حَامِدينَ اللهَ وَقَائِلين: ﴿أُنْشِدُ لِلرّبِّ فَإنَّهُ تَعظَّمَ تَعظيمًا. الرّبُّ عِزّي وَنَشيدي، لَقَد كانَ لي خَلاصًا. هَذا إلهي فَبِهِ أُعْجَب، إلهُ أبي فَبِهِ أُشيد﴾ (خروج 1:15-2). وَأيضًا يُذَكِّرُنا بِنَشيد حَنَّةَ أُمِّ صموئيل يومَ هَتَفَت فَقالَت: ﴿اِبْتَهَجَ قَلبي بالربّ، وارتَفَعَ رَأسي بالرّب. لا قُدّوسَ مِثلُ الرّب، وليسَ صَخرَةٌ كَإلَهِنَا﴾ (1صموئيل 1:2-2). وأيضًا يُذَكّرُنا بالْمَزمورِ السّادسِ والثّلاثين بعدَ الْمِئة: ﴿اِحْمَدوا الربَّ لأنّهُ صَالِحٌ، فَإنَّ إلى الأبدِ رَحمَتَهُ. صَانِعَ العَجائِبَ العِظامَ وَحدَهُ، فإنَّ إلى الأبدِ رَحمَتَهُ﴾ (مز 1:136، 4).

 

وَأخيرًا، كَانَ بِإمْكانِ مَريم، عِندَما سَمِعَت نَبَأَ حَبلِ أَليصابات، أنْ تَضعَ مُبرِّراتٍ تَمنَعُها مِن زيارةِ قَريبَتِها، ولكَنَّها لم تَضَعْ شَيئًا، بَل بادَرَتْ مُسرِعَةً إلى مَعونَتِها. وَنحنُ أيّها الأحبّة، بحاجَةٍ أنْ نَكونَ عَلَى مِثال مريم، نُبادِرُ إلى إغاثَةِ ومعونَةِ بَعضِنَا البَعض، نَمدُّ يَدَ الْمُساعَدَةِ إلى بعضِنا البعض. لأنَّ الّذي: ﴿رَأى بِأخيهِ حاجَةً، فَأغلَقَ أحشاءَهُ دونَ أَخيه، فَكيفَ تُقيمُ فيه مَحبّةُ الله؟﴾ (1يوحنّا 17:3). ولأنَّ الّذي يَرى أَخَاهُ مُصابًا مُتَضرِّرًا، وَيميلُ عَنهُ وَيَمضي، بحاجَةٍ أن يَقرأَ ثَانيةً مَثلَ السّامريِّ الرّحيم (راجع لوقا 30:10-37)، لأنَّ اللهَ رَحمانٌ رَحيم، يُريدُنا أنْ نُعامِلَ بعضُنا بَعضًا بالرّحمة. فَعيدُ الزّيارةِ هوَ أوّلًا وأخيرًا، عِيدُ الْمَحبَّةِ وَالرَّحمَة، فاصْنَعوا كَمَا صَنَعتْ مَريم.