موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٥ مارس / آذار ٢٠٢٣

عظة عيد البِشَارة: فيدخُل مَلِكُ الْمَجد

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
عظة عيد البِشَارة: فيدخُل مَلِكُ الْمَجد

عظة عيد البِشَارة: فيدخُل مَلِكُ الْمَجد

 

﴿فيدخُل مَلِكُ الْمَجد﴾ (مزمور 7:24)

 

عِيدُ البِشَارة هوَ عِيدُ تَجسُّدِ سِيّدنِا يَسوعَ الْمَسيح! فِفي الَّلحظَةِ الّتي قَالَتْ فِيهَا أُمُّنَا الْمَجيدَةُ مريمُ: ﴿أَنَا أَمَةُ الرَّب، فَليَكُنْ لي بِحسَبِ قَولِك﴾ (لوقا 38:1)، ﴿صَارَ الكَلمَةُ بَشَرًا، وَسَكَنَ بَينَنا﴾ (يوحنّا 14:1). فَعيدُ البِشارةِ يَا أَحبّة هوَ مِن جُملَةِ الأعيادِ السَيّديَّة، الْمُرتَبِطَةِ بِسَيّدِنا يَسوعَ الْمَسيح، مِثلُهُ مثلُ عيدِ الْمِيلادِ وَالقِيامَةِ وَالصُّعود.

 

وَفي الوَقتِ عَينِه، لا نَستطيعُ أَنْ نَغفَلَ عَن دَورِ سَيّدتِنَا مريمَ العَذراء في حَدثِ البِشَارة، لأنَّ قُبُولَها في تِلكَ الَّلحظَة، لاصْطِفاءِ اللهِ لَها وَدَعوتِه إِيَّاهَا، كَانَ بمثابَةِ البَابِ الّذي مِن خِلالِهِ دَخلَ سَيّدُنا يَسوعُ الْمَسيح إلى عَالَمِنا، وَبِدخُولِهِ تمَّ عَمَلَ فِدَائِنا. وَهُنا تُراوِدني كَلماتُ الْمَزمورِ الرّابعِ وَالعشرين: ﴿اِرْفَعنَ رُؤوسكُنَّ أيّتُها الأبواب، وارْتفِعنَ أيَّتُهَا الْمَداخِلُ الأبديّة، فيدخُلَ مَلِكُ الْمَجد﴾ (مز 7:24).

 

عِندَ البشَارَة، خاطَبَ البَشيرُ العُلوي أُمَّنَا قَائِلًا: ﴿إنَّ الرّوحَ القُدسَ سَينزِلُ عَليكِ، وَقُدرَةَ العَليِّ تُظَلِّلُكِ﴾ (لوقا 35:1). فَفي البِشَارَة نُحي ذِكرَى حُلولِ اللهِ عَلى مَريم وفي مَريم! وَلكنَّ هَذَا الحُلولَ الإلهيَّ الفَريدَ العَجيب، ما كانَ لِيَتم دونَ قُبولِ مَريم! فَحلولُ الله يِتَطَلَّبُ قُبولَ الإنسان، وَنعمَةُ اللهِ تَتَفاعلُ مَع مُوافَقةِ الإنسانِ، وَانْفتَاحِهِ عَليها، وَتَعاوُنِهِ مَعَها.

 

وَإذا كانَ كَلمَةُ الله، يسوعُ الْمسيح، في البِشَارةِ قَدْ حَلَّ في مَريم، وَأَثمرَ لَنَا خَلاصًا عِندَ مُوافَقَتِها، فَكَلِمَةُ اللهِ قَدْ لا تُثمِرُ مَرّاتٍ كَثَيرة، في نُفوسٍ كَثيرَة، لا لِعَيبٍ فِي الكَلِمَة، بَل لِعَيبٍ في الأرضِ الّتي وَقَعَتْ عَلَيها، أَو لِعَيبٍ في صَاحِبِها، الّذي لَم يُجِدْ الاعتِناءَ بِها، فَخَنَقَها وَقَتَلَها (راجع مثل الزّارِع متّى 3:13-9، 18-23). فاللهُ يُكَلِّمُنا كَثيرًا، وَلَكن كَم هوَ مِقدارُ تَفَاعُلِنا مَع الكَلِمَة، وَكمْ هيَ ثِمارُهَا في حَياتِنا؟!

 

يا أَحبَّة، أَشيَاءُ كَثيرة قَدْ نَقولُها عَن حَدَثِ البِشَارَة، وَلكِنْ كُلُّ شَيءٍ كَانَ مُتَوقِّفًا عَلَى قُبولِ مَريمَ وَمُوافَقَتِها! وَهَذَا إنْ دلَّ عَلَى شَيء، إِنَّما يَدلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ لا يُدخُلُ عُنوَةً في حَياةِ الإنسان، بَل هوَ ينتظِرُ القُبولَ الطَّوعي، وَالْمُوافَقةَ الحُرَّةَ للإنسان! وَها نحنُ نَسْمَعُهُ في سِفر الرّؤيا يَقول: ﴿هَاءَنذا وَاقِفٌ عَلى البَابِ أَقرَعُه، فَإنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوتي وَفَتَحَ البَاب، دَخلتُ إليهِ وَتَعشَّيتُ مَعَهُ وَتَعشَّى مَعي﴾ (20:3). واللهُ قَرَعَ بابَ مريم، وَبِدورِها سَمِعَتْ مريمُ الصّوتَ، وفَتَحتْ البَابَ، فَدَخَلَ اللهُ إلى حَياتِها، دُخولًا غَيّرَ وَجهَ التّاريخ!

 

فَهَل إِذَا قَرعَ اللهُ بَابَي، سَمِعتُ صَوتَهُ، وَفَتحتُ لهُ البابَ، وَأَدخَلتُهُ حَياتي؟! وهوَ بالْمُناسَبَةِ دُخولٌ مُتَطلِّب، يَتَطلَّبُ مِنّا أُمورًا كَثيرة، بَعضُها يحمِلُ تَضحيَةً، يحمِلُ تَنازُلًا، يحمِلُ تَخلِّيًا، ويحمِلُ أَيضًا أَلَمًا وَصُعوبَة! وَلِذلِكَ صُرِعَ إِعجَابُ الشَّابِ الغِنيِّ بِيَسوع، عَلَى عَتَباتِ مَذبحِ التَّخلّيّ والتّنازُلِ عَنْ أَموالِهِ وَمُمتلكاتِه! (راجِع مرقس 17:10-22). ذَلِكَ أنَّ: ﴿جَماعَةَ النّاسِ مَدعوُّون، ولكنَّ القَليلينَ همُ الْمختارون﴾ (متّى 14:22).

 

فَسَمَاعُ صَوتِ الله، وَتَلبيَةُ دَعوتِه، لَيَستْ بالأمرِ الهيّنِ دَائمًا، وَهوَ قَدْ نَبَّهَنا فقالَ: ﴿مَنْ أَرادَ أَنْ يَتبَعني، فَلْيَزهَد في نَفسِه، وَيحمِلْ صَليبَهُ كُلَّ يَومٍ وَيَتبَعني﴾ (لوقا 23:9). وَعَليه، نَستَطيعُ القَول أنَّ قُبولَ مَريم لِدَعوةِ اللهِ لها سَاعَةَ البِشَارَة، كَانَ الخُطوَةَ الأولى الّتي خَطَتها مَريم، في دَربِ الصَّليبِ نحوَ الجُلْجُلَة.

 

أَخيرًا، أختُمُ بِبعضٍ مِن كَلماتِ البابا القدّيس لاون الكَبير، في حَدثِ البِشارةِ كَتبَ يَقول: "تَنَازَلَ الجَلالُ فَظَهرَ في تَواضُعِنَا، وَالقَويُّ أَخَذَ ضَعفَنا، والأزَليُّ أَخَذَ طَبيعتَنَا الْمَائِتَة... اِتَّخذَ صُورةَ العَبد، وَلم يتَّخِذْ وَصمَةَ الخَطيئَة، رَفَعَ الإنسانَ ولم يَحُطَّ مِنْ قَدَرِ الله. تَّجَرَّدَ مِنْ ذَاتِهِ فَغَدا غيرُ الْمَنظورِ مَنْظورًا... إنَّهُ ابنُ اللهِ حَقًّا وابنُ الإنسانِ حَقًّا. هوَ اللهُ من حيثُ إنَّ الكَلمَةَ كَانَ مُنذُ البَدء، وَالكَلِمَةُ كَانَ لَدَى الله، وَالكَلمَةُ هوَ الله. وهوَ إنْسَانٌ من حيثُ إنَّ الكلمةَ صَارَ بشرًا وَسَكنَ بَينَنا"