موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
يستوقفنا لدى قراءة معجزة شفاء أعمى أريحا الأفعال الموجودة في النص، فهذا الأعمى الجالس على جانب الطريق يستعطي يسمع بمرور يسوع، يغتنم الفرصة فيصرخ وعندما يسكته الناس لا ييأس لئلا يفقد الفرصة فيصرخ بصوت أعلى، وعندما يسمعه يسوع ويدعوه يقف ويثب ويركض ويرتمي عند قدميه ويطلب الشفاء «يَا سَيِّدِي أَنْ أُبْصِرَ». فيشفيه يسوع في الحال: «اذْهَبْ. إِيمَانُكَ قَدْ شَفَاكَ». ولكنه لا يكتفي بشفاء العينين ولا يذهب بل يطلب شفاء القلب بالإيمان "أَبْصَرَ وَتَبِعَ يَسُوعَ فِي الطَّرِيقِ". لنتوقف عند هذه الافعال ونتأمل بها بروية لما فيها من معانٍ روحية إيمانية. "كَانَ جَالِساً عَلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي": جانب الطريق: ليست مُجَرَّد المكان الجُغرافي انما أيضًا الروحي، عبارة نَجِدها ايضاً في مثل الزارع، حيث تسقط البذار على جانب الطريق وتبقى عقيمة. البِذار المُلقاة إلى جانِبِ الطريق بَقيت خارِج سِرّ يسوع المسيح، بَقِيت جانب الطريق وبالتالي لا يُمكِن أن تَلتَقي مع يسوع المسيح. في هذا النَصّ انتقل الاعمى من قارِعَة الطريق إلى إِتِّباع يسوع. لقد كان الأعمى على هامش الوجود. إنه شخص فاقِد للمركز الاجتماعي وللهوية والمُستقبل. جالِسًا: كان جالِسًا لِمُدَّةٍ طويلة وكان بقي جالساً هناك لولا مرور يسوع في حياته. نوعية الفعل اليونانيّ تَدُلّ على الجمود والثَبَات وهذا قبلَ أن يَلتَقي بيسوع المسيح. بعد وصول يسوع المسيح تَغَيَّرت نوعِيَّة الافعال: "ألقَى رِداءَهُ وقام وجاء" هناك انتقال مِن حالَة الجُمود الذي كان يَعيش فيه الاعمى إلى حالة الحَرَكة، انتقال من حالة الانسان المُهَمَّش إلى حالَة الانسان الذي وَجَدَ هَوِيَّتَهُ، وَجَدَ الطريق الذي يجِب أن يَسْلُكَها وهي طريق يسوع المسيح. ابتدأ يصرخ: فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ ابْتَدَأَ يَصْرُخُ وَيَقُولُ: «يَا يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي!» ولما انْتَهَرَهُ كَثِيرُونَ لِيَسْكُتَ فَصَرَخَ أَكْثَرَ كَثِيراً: «يَا ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي» لأنه أعمى لم يبصر بل سمع عن يسوع وأنه سيمر من هذه الطريق فحضر نفسه واستعمل وسيلته الوحيدة وهي الصراخ وخاصة الاصرار على الصراخ بأعلى صوته حتى ولو أزعج الجمع الغفير الذين أخذوا ينتهرونه ليسكت.. فلن يسكت إلى أن يسمع السيد المسيح صرخته ويستجيب لطلبته. رَمَى رِداءَه: الرِداء لدى الشَحاذ هو كُلّ ما يَمْلِكُ، ليس فقط من الناحية الماديّة انما أيضا من ناحية المَقَام والمَركَز الاجتِماعي. الرِداء يُظهِر مَقام الانسان ويُظهِر أن لديه هوية رغم فَقرِه. بتركه ردائه، ترك الأعمى كلّ شيء في سبيل إتّباع يسوع المسيح. وفي الحادِثة التي تلي شِفاءِ الاعمى، أي رواية دخول يسوع الى أورشليم, نجد العمل ذاته يتكرّر: رمى الناس رِداءَهم على الطريق أمام يسوع. صَرَخَ الاعمى يا ابن داود ارحمني وصَرَخَ الشعب مُبارك المسيح ابن داود، هوشعنا يا رَبّ خَلِّصْنا. وتَبِعَ يسوع في الطريق: السير خلف يعني التتلمذ، سارَ الأعمى البصير خَلفَ يسوع في الطريق، تماماً كما فعل بطرس حين وجّه يسوع الدعوة نفسها اليه: قال له سِرْ خَلْفي. لقد صار الأعمى المشفيّ تلميذاً وبدأ يسير على الطريق التي سبقة بطرس في خطّها. هذه الطريق هي طريق اعتناق مَنْطِق يسوع المسيح والتَتَلْمُذ له والانطِلاق نحو أورَشليم إلى الموت والقِيامة، إنها دَعوة التلميذ المسيحي أن يسير خَلفَ يسوع المسيح نحو الموت والقيامة. لقد خطّ هذا الأعمى مسيرة إيمان على كلّ واحد منّا أن يسيرها: - الإيمان هي حالة انطلاق من الهامش الى عمق الوجود، ومن حالة الظلمة الى حالة النور. لقد بدأ الأعمى بالسماع لا بالمعاينة، يسمع عن يسوع، يخبره الآخرون عن قدرته، وهو باقٍ على هامش الطريق. في ذلك اليوم مرّ يسوع من هناك، عابراً المدينة، فاغتنم الأعمى فرصته الوحيدة. الإيمان يدعونا الى تغيير حالة لا الى اعتناق عقيدة أو ايديولوجيا، هو تغيير حالة وجودنا الإنساني من حالة الثبات في الروتين، من حالة البقاء على هامش طريق الحياة، الى حالة الإنسان "الواثب" مثل الأعمى، يلقي عنه رداء عاداته ومهنته، رداء حياته الفارغة وينطلق وراء يسوع، معلناً إيّاه المخلّص وطالباً منه الرحمة. - الإيمان هو صرخة لا بل صرخات تنطلق نحو شخص لا نراه، إنّما نعلم أنّه موجود وأنّه قادر على تغيير واقع حياتنا. الأعمى لم ير يسوع بنور العين الجسديّة، إنّما آمن به، وبدافع من رجائه العميق وثقته بقدرة الرّب صرخ له: «يَا سَيِّدِي أَنْ أُبْصِرَ». هي حقيقة إيماننا، لا ننطلق من المعاينة لنفهم، بل نؤمن بإله سمعنا عنه كما سمع ذاك الأعمى عن قدرته، نعلم أنّه يدعونا فنثب وراءه، نسمع صوته، نعلنه مخلّصاً، فنبصر. مسيرة الإيمان تنطلق دوماً من عدم المعاينة الى المعاينة، فلو كنّا نبصر ما نؤمن به لما كان إيماناً، لأضحى ضمانة ملموسة وحسيّة. لا يمكننا أن نفتّش عن الضمانات الحسيّة الملموسة لإيماننا، بل نثق ونؤمن، وعندها نبصر، لا بعين الجسد أو العقل، إنّما بواسطة الحبّ الّذي يبادلنا إياه الرّب. نلمس عمله في حياتنا، نختبر حضوره معنا، ينتشلنا مروره من هامش عبثية الحياة ليضعنا في صميم العلاقة الإلهيّة، يصبح لوجودنا معنى بدخولنا في علاقة مع السيّد. - العوائق التي كادت تمنع الأعمى من الوصول الى يسوع هي نفسها تمنعنا من التعرّف الى يسوع يمرّ في حياتنا ويدعونا للسير وراءه على طريق أورشليم نحو الجلجلة والقيامة. لقد أخذ الجمع ينتهره ليسكت، وينتهرنا عالم اليوم لنسكت نحن أيضاً، يخنق منطق العصر فينا الرجاء، يغلقنا على منطق العنف والقوّة والحرب، أو على منطق المادّة والاستهلاك، أو على السعي الى لذّة عابرة تنتهي فنبدأ بالتفتيش عن أخرى. العالم ينتهرنا لأن منطق الإيمان هو لا منطق بالنسبة إليه. الإيمان هو منطق الضعفاء والحمقى، أمّا الأقوياء بأفكار قلوبهم فيفتّشون عن ضمانات حسيّة. والعائق الآخر كان يمكن أن يكون الثوب الّذي كان يملكه، مُلكه الأوحد. لو تعلّق به لكان خسر يسوع، لو خاف من خسارة من يملك لكان مرّ يسوع وعبر، لو خاف من فقدان المكان على قارعة الطريق أو من رمي الثوب والركض خلف يسوع، لما كان قد شُفي. هي عوائق إيماننا نحن أيضاً: كم يخيفنا منطق الترك والتغيير؟ كم نرغب بالثبات ولو كان هذا الثبات لا يلذّ لنا. دعوة الإيمان هي الترك والانطلاق خلف يسوع. ترك أفكارنا الخاطئة، أو عاداتنا السيئة، أو خطايانا اليوميّة، أو منطقنا المغلوط. ترك كبريائنا أو حسدنا أو حقدنا أو كسلنا. اتّباع المسيح يستلزم كياناً قادراً على الوثب كما وثب ذلك الأعمى، كياناً غير خائف من التغيير، فإن لم نتخلَّ عن ثقل ما نملك، لا يمكننا التتلمذ ليسوع. - لقد أجاب يسوع على صراخ الأعمى فناداه. إن ديناميّة الإيمان تنطلق من نعمة الرّب، من مروره في حياتنا، هو دوماً صاحب المبادرة، مبادرةٌ تبقى عقيمة إن لم يقبلها الإنسان ويستجيب لها. مرور يسوع يجعلنا "ننهض"، نقوم من رتابة واقعنا، ننهض من تحت أثقال حياتنا، صوته يجعلنا نقلب معادلات حياتنا، نتحوّل من أعمى القى بذاته على هامش طريق الحياة الى كائن واثب وثبة الإيمان، كائن شجاع يترك كلّ ما يملك ليتبع يسوع، ليتتلمذ له. الجموع التي كانت تنهره ليصرخ قد بدّلت منطقها أيضاً، صارت صوتَ يسوع نفسه، تحوّلت بفضل الرّب من حاجز أمام الأعمى الى وسيلة تساعده للوصول الى السيّد: «ثِقْ. قُمْ. هُوَذَا يُنَادِيكَ».، السبب الأوّل هو دعوة الرّب، دعوة تحتاج لشجاعة في سبيل إتمامها، شجاعة في المغامرة، فيسوع لا يعطي ضمانات ملموسة، يطلب ثقة الصداقة، يطلب حريّة القلب وشجاعة الحبّ. عندها فقط يمكن لكياننا أن يقوم ويتتلمذ، ودون الشجاعة يبقى كياننا ميتاً كجثة تتخبّط في بحر حياة دون هدف ودون رجاء. - الإيمان هو لقاء خاصّ بيسوع المسيح: لم يعد مجرّد سماع عنه، بل هو اكتساب للرؤية من أجل معاينة الرّب وجهاً لوجه: النعمة الحقيقيّة ليست اكتساب النظر، بل هي رؤية يسوع، اكتساب النظر ما هو الاّ وسيلة، والنعمة الحقيقيّة هي رؤية يسوع الّذي سمعنا عنه كثيراً من الآخرين. اكتساب النظر هو الإيمان، والإيمان وسيلة تنتهي مع انتهاء حياتنا، وسيلة لا نحتاجها في العالم الآخر فسوف نعاين الرّب وجهاً لوجه. ما يبقى هناك هو الحبّ، هو النظر في عينيّ يسوع المسيح دون خجل. ما تمّ مع الأعمى هنا ما هو إلاّ استباق بسيط لما هو مدعوّ اليه في علاقة أبديّة لا تنتهي. - نتيجة الإيمان التتلمذ: فلا يمكننا أن نسمح أن يكون لقاؤنا بالرّب عقيماً، إيماننا هو فعل التزام بالطريق التي يسير عليها السيّد، وهي ليست سهلة. قام وتبعه في الطريق الصاعدة من أريحا إلى أورشليم، الطريق التي سوف تقوده الى الجلجلة، الى ألم الصليب، الى ظلمة القبر، والى القيامة. درب إيماننا وتتلمذنا ليسوع لا بدّ أن تنطوي على هذه كلّها. لا بدّ أن يكون إيماننا سبب ألم لنا، يتطلّب تضحيات وأعمال بطولة، يمنعنا من التفتيش عن الطريق الأسهل، ويجعلنا نسعى الى الخير رغم التضحيات الكبيرة. إيماننا يقودنا الى طريق الجلجلة، الى سخرية الآخرين كما سخر الجنود من يسوع وضربوه بقصبة على رأسه كعبد حقير. قد نصل في إيماننا الى ظلمة القبر، كلّ شيء حالك مظلم حولنا، لا نجد أجوبة على اسئلة كثيرة نطرحها، نظن أنفسنا وحدنا دون إله يقودنا ويحمينا، هي ظلمة الإيمان تشابه ظلام القبر حيث يرقد السيّد. إنّما لا بدّ أن يسطع نور القيامة، لا بدّ أن نخرج من ظلمة قبرنا، إذ تستطع علينا أنوار قيامة السيّد!. صرخات أعمى أريحا فتحت بصره وبصيرته ونقلته من الجلوس على قارعة الطريقة الى السير على الطريق المؤدية الى أورشليم وراء المعلم والتي قادته من الموت الى الحياة.. فهلا نصرخ ونقوم ونركض ونطلب الشفاء ونبصر ونتبع المعلم في طرق الحياة؟!