موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
أعلن قداسة البابا يوبيلاً استثنائياً مخصصاً للرحمة الالهية، وستبدأ هذه السنة المقدسة في 8 كانون الأول 2015 يوم عيد الحبل بها بلا دنس حيث سيُفتح الباب المقدس لتنتهي في 20 تشرين الثاني 2016 يوم عيد المسيح الملك. وفي نص الاعلان تكلم قداسة البابا عن أعمال الرحمة الجسدية والروحية بهذه العبارات: "أتمنى بشدة أن يفكر الشعب المسيحي خلال اليوبيل في أعمال الرحمة الجسدية والروحية. وستكون هذه الطريقة كفيلة بإيقاظ ضميرنا الذي ينزلق غالباً إلى السبات إزاء مأساة الفقر وبالغوص أكثر في قلب الإنجيل، حيث الفقراء هم المفضلون لدى الرحمة الإلهية. إن عظات يسوع تقدم لنا أعمال الرحمة هذه كي نفهم ما إذا كنا نعيش على غرار تلاميذه. دعونا نعيد اكتشاف أعمال الرحمة الجسدية: نطعم الجائع، نسقي العطشان، نُلبس العاري، نستقبل الغريب، نعتني بالمريض، نزور المسجون وندفن الميت. ودعونا لا ننسى أعمال الرحمة الروحية: ننصح الشاكّ، نعلّم الجاهل، نحذّر الخاطئ، نعزي المحزون، نغفر الإساءة، نتحمّل الشخص المزعج بصبر، ونصلي إلى الله من أجل الأحياء والأموات". رسالة يسوع ونريد التركيز على أعمال الرحمة الجسدية في هذا المقام ونبدأ بيسوع المسيح الذي أعلن منذ بداية رسالته العلنية عندما قال في مجمع الناصرة: "روح الرب علي لأنه مسحني لأبشر الفقراء وأرسلني لأعلن للمأسورين تخلية سبيلهم وللعميان عودة البصر إليهم وأفرج عن الـمظلومين وأعلن سنة رضا عند الرب" اذن إن مهمته الرئيسية شفاء المرضى "وكان يشفي الجميع من كل مرض وعلة" وطرد الشياطين "وكان يطرد الارواح الشريرة" وبالتالي كان يهتم بالإنسان نفساً وروحاً وجسداً. يسوع يعمل وبالفعل فقد قام السيد المسيح باجتراح المعجزات والأعاجيب، فنجده في الإنجيل يشفي حماة بطرس التي كانت طريحة الفراش محمومة، فدنا منها فأخذ بيدها وأنهضها، ففارقتها الحمى وأخذت تخدمهم. كما نقرأ في الإنجيل عينه "وعند المساء بعد غروب الشمس، أخذ الناس يحملون إلى يسوع جميع المرضى والممسوسين. واحتشدت المدينة بأجمعها على الباب. فشفى كثيراً من المرضى المصابين بمختلف العلل، وطرد الشياطين ولم يدعها تتكلم لأنها عرفته". وهنا نرى بأن يسوع لم يهتم بصحة الجسد فحسب عن طريق الشفاء من الأمراض ولكنه اهتم بصحة النفس أيضاً عن طريق طرد الأرواح الشريرة والشياطين من الممسوسين وبذلك كان يريد أن يخلص الإنسان نفساً وجسداً قلباً وقالباً. ونجد في إنجيل القديس مرقس روايات لشفاءات تشمل جميع العلل التي يمكن أن يُصاب بها الإنسان من العمى والطرش والخرس والشلل والعرج والكسح والنزف والبرص وحتى الموت أيضاً. وبهذا يمكن أن نقول بأنه كان طبيب النفوس والأجساد القادر على كل شيء لدرجة أن الجموع كانت تندهش وتتعجب مما كان يحدث قائلة "ما رأينا قط مثل هذا الرجل من قبل". يسوع يعلم وفي تعليمه ربط السيد المسيح محبة الله بمحبة القريب "أحبب قريبك كنفسك" وأعطى مثل السامري الرحيم الذي أسعف الغريب الذي وقع بين أيدي اللصوص: "ولكن سامريًا مسافرًا جاء إليه ولما رآه تحنن. فتقدم وضمد جراحاته وصبَّ عليها زيتًا وخمرًا وأركبه على دابته وأتى به إلى فندق واعتنى به. وفي الغد لما مضى أخرج دينارين وأعطاهما لصاحب الفندق وقال له اعتن به ومهما أنفقت أكثر فعند رجوعي أوفيك" (متى 10: 36) وعندما سأل يسوع: "فمَن كان في رأيك، من هؤلاء الثلاثة، قريب الذي وقع بأيدي اللصوص؟ فقال: "الذي عامله بالرحمة". فقال له يسوع: "اذهب فاعمل أنت أيضاً مثل ذلك". وهو يقول لنا اليوم نفس الكلام، أي أن نعامل كل انسانٍ بالرحمة. والكتاب المقدس يحذّر من خطر تحجّر القلب بنوع من "المخدّر الروحي" الذي يُعمي البعض عن رؤية معاناة الآخرين. يذكر لوقا الإنجيلي اثنين من الأمثال التي أعطاها يسوع، يقدّمان مثالين عن وضع التحجر الذي يمكن أن ينشأ في قلب الإنسان. ففي مثل السامري الصالح الذي ذكرناه، نرى كيف أن الكاهن واللاوي "مالا عنه ومضيا"، لامباليين بحال ذاك الرجل العاري والمتعرّض للضرب على أيدي اللصوص (لوقا 10، 30-32). وفي مثل الغني، لم يأبه هذا الرجل المُتخَم بالخيرات إلى حالة لعازر الفقير الذي مات جوعاً على عتبة بابه (لوقا 16، 19). ففي كلتا الحالتين، علينا بدلاً من ذلك أن "نهتمّ" وننظر بحب وتعاطف إلى كل من الرجلين. فما الذي يعيق نظرة الإنسانية والحنو تجاه أخينا الإنسان؟ غالباً ما يكمن السبب في الثروة المادية والفيض، ولكن ثمة أسباب أخرى ومنها تفضيلنا مصالحنا واهتماماتنا الشخصية على أي شيء آخر. ولكننا يجب ألّا نبدو مطلقاً عاجزين عن "إبداء بعض الرحمة" تجاه من يعاني، ويجب ألّا ندع مصالحنا ومشاكلنا الشخصية تستولي على قلوبنا لدرجة أن نمسيَ صُماً لا نسمع صرخة الفقراء. وعلى العكس، إنّ تواضع القلب والاختبار الشخصي للمعاناة يمكنهما أن يشكلا مصدراً للصحوة الداخلية والانفتاح على الشفقة والتعاطف: "البار يعرف قضية الفقراء والشرير لا يفطن لمعرفتها" (أم 29،7). على ضوء ذلك نفهم تطويب "الودعاء" (متى 5، 4)، أي أولئك القادرين على الخروج من ذواتهم ليتمكّنوا من الشعور بالأسى والشفقة إزاء معاناة الآخرين. لذا فإنّ لقاء الآخر وفتح قلبنا لاحتياجاته هما فرصتان للخلاص والتقديس. سنُدَان على أعمال الرحمة ليس من باب الصُدفة أن تنتهي سنة الرحمة في عيد يسوع الملك، لأننا نحتفل بالمسيح ملك الملوك ورب الأرباب ولكن أيضاً الديان العادل الذي في يده مقاليد الحُكم والدينونة، وأعتقد بأن الأساس الانجيلي لأعمال الرحمة ما علمه عن الدينونة الأخيرة وكيف أن الله سيحاسبنا على تعاملنا مع اخوته: "تعالوا، يا من باركهم أبي، فرثوا الملكوت المُعد لكم منذ إنشاء العالم: لأني جعتُ فأطعمتموني، وعطشتُ فسقيتموني، وكنتُ غريباً فآويتموني، وعرياناً فكسوتموني، ومريضاً فعدتموني، وسجيناً فجئتم إلي" (متى 25: 34) وخاصة عندما يضيف: "الحق أقول لكم: كلما صنعتم شيئاً من ذلك لواحدٍ من إخوتي هؤلاء الصغار، فلي قد صنعتموه"(متى 25: 40). وهنا يعتبر السيد المسيح بأن كل إنسان هو أخوه وخاصة الضعيف والمحتاج لأن كل إنسان مخلوق على صورة الله ومثاله. يوضح لنا متى في هذا النص بأن سيدنا يسوع المسيح، ديان العالمين، سيبني حكمه في الدينونة الأخيرة للفصل بين الأبرار والأشرار من خلال أعمال الرحمة التي يمكننا جميعاً القيام بها كل يوم. وهذه الاعمال لا تتوقف على الثروة أو القدرة أو الذكاء، بل هي أعمال بسيطة لا غنى عنها كالأكل والشرب والملبس والمسكن، تُقدّم مجاناً. وقد وصَّى الله بالفقير قائلا: "اِفتحْ يَدَكَ لأَخيكَ المِسْكينِ والفَقيرِ الَّذي في أَرضِكَ" (تثنية 15: 11). وأهم أعمال الرحمة الجسدية هي سبعة: إطعام الجياع وإرواء العطاش وكسو العُراة وإيواء الغرباء وزيارة المرضى والمسجونين ودفن الموتى. وقد عدَّدها يسوع في خطابه عن الدينونة (متى 25: 35-36) وقد تكلم عنها أشعيا النبي: "أَلَيسَ هو أَن تَكسِرَ للجائِعِ خُبزَكَ أَن تُدخِلَ البائسينَ المَطْرودينَ بَيتَكَ وإذا رَأَيتَ العُرْيانَ أن تَكسُوَه وأَن لا تَتَوارى عن لَحمِكَ؟ (اشعيا 58: 7). وزيارة المرضى لا تعني فقط تعزيتهم، بل الاعتناء بهم وخدمتهم ومساعدتهم كما فعل السامري الرحيم (لوقا 10). ولا تنحصر زيارة المسجونين بتوجيه كلمات التعزية والمواساة لهم، بل افتقادهم في حاجاتهم واتخاذ الوسائل المشروعة اذا كانوا أبرياء لتخلية سبيلهم من السجون كما وصّى بولس الرسول "أُذكُروا المَسْجونينَ كأَنَّكم مَسْجونونَ مَعَهم" (عبرانيين 13: 2). أما دفن الموتى باحترام فهو مقتبس من سفر طوبيا (طوبيا 2: 1-9). الكنيسة على خُطى المعلم قلنا بأن السيد المسيح علَّم وعمل هو القائل "أريد الرحمة لا الذبيحة" والقائل "إن ابن الانسان لم يأتي ليُخدَم بل ليَخدِم ويفدي بنفسة جماعة الناس" وهو الذي أوصى تلاميذ عند غسل الأرجُل "فإذا كنتُ أنا الرب والمعلم قد غسلتُ أقدامكم، فيجبُ عليكم أنتم أيضاً أن يغسل بعضكم أقدام بعض" (يوحنا 13: 14) بالتالي كان لنا قدوة ومثالاً نحتذي به في الخدمة والرحمة. كما أنه قام بالكثير من الشفاءات كما ذكرنا، فليس عند الكثيرين موهبة الشفاء، ولكن الكنيسة تكمل عمله الخلاصي عن طريق العناية بالمرضى والمتألمين، وحتى ولو أنها لا تستطيع أن تقوم بمثل ما كان يقوم المعلم من الأعاجيب إلا أنها تضرب للعالم مثالاً رائعاً يُحتذى في عالم المحبة وخدمة أفقر الفقراء والمنبوذين والمصابين بالعاهات المزمنة والإعاقات العقلية والجسدية المستديمة والمسنين والعجزة وحتى مرضى الأمراض المعدية مثل البرص والإيدز. وقد كانت الأم تريزا في الهند، وتكمل المشوار راهباتها في جميع أنحاء العالم، خير تلميذات للمعلم الذي كان يشفق على المرضى وتتحرك أحشاؤه حزناً وتغرورق عيونه بالدموع أمام الألم والموت. وقد شدد قداسة البابا في رسالته لسنة الرحمة على دور الكنيسة في هذا المجال بهذه الفقرة الرائعة: "في هذه السنة المقدسة، يمكننا أن نختبر انفتاح القلب على من يعيشون في أقاصي الضواحي والتي يخلقها غالباً العالم المعاصر بطريقة مأساوية. كم هي كثيرة في عالم اليوم أوضاع الألم وانعدام الثبات! كم من الجراح المطبوعة في أجساد أشخاص كثيرين لا صوت لهم، لأن صراخهم اضمحل وانطفأ بسبب لامبالاة الشعوب الغنية. في هذا اليوبيل ستُدعى الكنيسة أكثر من أي وقت مضى للاعتناء بهذه الجراح ومداواتها بزيت العزاء وتضميدها بالرحمة ومعالجتها بالتعاضد والعناية الواجبة. دعونا لا نقع في فخ اللامبالاة التي تذل وفي الاعتياد الذي يخدّر النفس ويحول دون اكتشاف الحداثة من خلال التهكّم الذي يدمّر. لنفتح أعيننا كي نرى بؤس العالم، جراح العديد من الأخوة والأخوات المحرومين من الكرامة، لنشعر بأننا مستفَزون للإصغاء لصرخة النجدة التي يطلقونها. لنشد بأيدينا على أيديهم، لنجذبهم إلينا كي يشعروا بحرارة حضورنا وصداقتنا وأخوّتنا. لتصبح صرختهم صرختنا، ولنهدم معا حاجز اللامبالاة التي غالبا ما تسود لتخفي الخبث والأنانية". أين نحن من أعمال الرحمة الجسدية اذا كانت الكنيسة تقوم بكل هذا العمل الانساني عن طريق مؤسساتها الاجتماعية فهذه رسالتها لأنها "الأم والمعلمة" الحنونة التي تداوي جراحات الانسانية على مثال معلمها الالهي، فكم بالأحرى أن نقوم نحن بذلك على قدر المستطاع وبحسب الموهبة التي منحها الله لنا، ولا يتعلق الأمر بأن نقوم بأعمال جبارة مثل الأم تريزا أو القديس منصور دي بول وغيرهم من أبطال المحبة، ولكن بأمور بسيطة ويومية: زيارة لمريض، والجلوس بجانبه، والحديث اليه، أو اطعام لفقير مما لدينا من خيرات تفيض عن حاجتنا، تقديم كأس ماء بارد لعطشان "ومن سقى أحد هؤلاء الصغار، ولو كأس ماء بارد لأنه تلميذ، فالحق أقول لكم إن أجره لن يضيع" أن نكسي عرياناً، ونزور سجيناً، أما دفن الموتى فهو واجب ولكن الأهم هو مواساة الحزانى والوقوف معهم في شدتهم. ولا ننسى المسنين والعجزة والمنازعين والمعاقين والأرامل واليتامى واللاجئين والمشردين وخاصة الأمهات الثكالى والأطفال المتروكين.. كل هذه من أعمال الرحمة التي تبرهن على صدق محبتنا "لا تكن محبتنا بالكلام أو باللسان بل بالعمل والحق" حتى ولو اقتضى الأمر أن نمدَّ أيدينا الى جيوبنا. وأخيراً وليس آخراً أعظم عمل رحمة ليس معجزة باهرة بل كلمة صادقة، ابتسامة أو ضحكة، لمسة حنان ويد ممدودة، نظرة انسانية وأذن صاغية وقلب رقيق متعاطف. أخيراً: كلمة الرحمة في العربية تأتي من الرحم، والرحم هو المكان الذي تنمو فيه الحياة في أحشاء الامهات لمدة تسعة شهور، فعندما نتكلم عن الرحمة أي أننا نتشبه بالأمهات اللواتي يهتممن بأولادهن في جميع حاجاتهم المادية والروحية.. من هنا ندعو الله بالرحمان الرحيم أي أنه أب لا بل أم يُحب الجميع كما تُحب الأمُ ابناءَها.. ومن هنا نفهم ما ورد عن السيد المسيح عندما كان يشفق على المرضى كانت تتحرك احشاءه، ودعوة السيد لنا "كونوا رحماء كما أن اباكم السماوي رحيم".