موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٦ يوليو / تموز ٢٠٢٤

"شَّفَقَةُ الرَاعِي" بين كاتبّي نبؤة ارميا والإنجيل الثّاني

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (ار 23: 1-6 ؛ مر 6: 30-34)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (ار 23: 1-6 ؛ مر 6: 30-34)

 

الأحد السادس عشر بالزمن العادي (ب)

 

مُقدّمة

 

يحثنا كلّا النصين بمقال اليّوم، في مسيرتنا الكتابيّة للبحث عن إجابة عن بعض التساؤلات الّتي يدفعنا للتفكير بها كلمات الوحي الإلهي الواردة بحسب نبؤة ارميا وبُشرى مرقس الإنجيلي.

 

من هذه التساؤلات: الفرق بين الراعي الإلهي والرعاة البشريين؟ أين نحن من راعينا الإلهي اليّوم؟ هل نعرفه؟ هل نضع ذواتنا أمامه ليعرفنا بحقيقتنا؟ أم هناك فجوة تثير التشتت بين علاقتنا بالراعي السماويّ والرعاة البشريين اليوم بحسب كلمات النص النبوي الواردة بسفر ارميا (23: 1-6) بالعهد الأوّل، الّذي يهدف لإدانة الراعي الإلهي للرّعاة البشريين بسبب إهمالهم للشعب وإهتمامهم بمصالحهم الشخصيّة. وتحملنا الكلمة الإلهيّة إلى التوقف أمام كلمات الرّبّ من خلال النبي الّتي تحمل التهديد والتحذير. تكشف أيضًا عن الخطة الإلهيّة الجديدة الّتي تأتي لصالح الشعب الـمُشتت من قِبل الرّبّ.

 

على ضوء هذا الإعلان النبويّ، تأتي كلمات وأفعال يسوع بحسب السرد المرقسيّ (6: 30- 34)، ليؤكد أنّ نظرته للشعب الـمُشتت الّذي يسير "بلا راعي"، يأتي صوت الإنجيلي حاملاً رسالة خاصة بيسوع فقط وهو الراعي السماويّ الّذي سيأتي كنبت جديد في حياة الشعب ويفاجئنا يسوع بتغيير خطته مع تلاميذه ليرافق هذا الشعب الـمُشتت الّذي يلجأ له. نهدف من خلال هذا المقال البقاء تحت نظرة يسوع ليحول تشتتنا كشعب ينتمي له، من خلال شّفقته، إلى قطيع محبوب يتمتع براعي إلهي أمين ويهتم بكل مَن ينتمي للقطيع ويلجأ له بثقة سواء بشكل فردي أم جماعي.

 

 

1. الحكم الإلهيّ (ار 23: 1- 6)

 

ينطلق ارميا، النبي الشاب، في رسالته تجاه رعاة زمنه برسالة تحذيريّة يحمل فيها رسالة إلهية لرعاة عصره. لقد عاش ارميا، وهو أحد الأنبياء الكبار، معاناة الشعب الإسرائيلي القاسيّة، وهي الفساد الّتي تتمثل في عدم أمانة الرّعاة فكانوا بمثابة الرعاة الكذبة. في هذا النص سنتوقف أمام رسالة الرّبّ الّتي يوجهها بشكل مباشر للرّعاة الّذين يهتمون بمصالحهم ويهملون الشعب.رسالة الأنبياء بشكل عام كانت تتلخص في عنصرين جوهرييّن: الأولى تتلخص في إعلان النبي رسالة الخلاص وتحرير أي الخلاص حينما يصغي القادة والشعب معًا من خلال التوبة والعودة للرّبّ بكلّ أمانة. الثانية هي إعلان العقاب والدينونة من قبل الرّبّ على لسان النبي، حينما ينحرف الشعب والرعاة عن الطّريق الّذي يهيئه لهم الرّبّ.

 

نقرأ في هذا المقطع الرسالة الجوهريّة الّتي يبثّها الصوت الإلهي لفئة خاصة وهي الرعاة. الّذين يمثلون السلطة الدينيّة والّذين بدورهم يقومون بدور الوسيط بين الله والشعب ورسالتهم هو رعاية الشعب كقطيع للراعي الإلهي. فيواجه النبي قضية الفساد الدينيّ ويعلن الرسالة النبويّة ضد الرّعاة المزيفيين والكذبة الّذين يعيشون حياة لا تتناسب مع رسالتهم مُعلنًا الويل وهو بمثابة العقاب الّذي سيحل بهم من قِبل الرّبّ قائلاً: «وَيلٌ لِلرُّعاةِ الَّذينَ يُبيدونَ ويُشَتِّتونَ غَنَمَ رَعِيَّتي، يَقولُ الرَّبّ» (ار 23: 1). يُشبه الشعب بقطيع الغنم الّذي على الرّعاة الموكلين بالرعايّة أنّ يقود القطيع نحو حياة كريمة بحسب مخطط الراعي السماويّ. إلّا أنّ في زمن النبي الشاب، كان تشتت الشعب وإنحرافه كقطيع عن الرّبّ بسبب الرّعاة أنفسهم. وهنا يعلن النبيّ على لسان الرّبّ أفعالهم الرذيلة قائلاً: «إِنَّكم قد شَتَّتُّم غَنَمي وطَرَدتُموها ولم تَفتَقِدوهافهاءَنَذا أَفتَقِدُ علَيكِمِ شَرَّ أَعْمالِكُم، يَقولُ الرَّبّ، وأَجمعُ بَقِيَّةَ غنمي مِن جَميعِ الأَراضي الَّتي طَرَدتُها إِلَيها، وأَرُدُّها إِلى مَراعيها، فتُثمِرُ وتَكثُر. وأُقيمُ علَيها رُعاةً يَرعَونَها، فلا تَعودُ تَخافُ وتَفزَع، ولا يَكونُ مِنها مَفْقود، يَقولُ الرَّبّ» (ار 23: 2- 4). إذن اللّاهوت النبوي في هذه الرسالة التحذيريّة تكشف عن البقيّة القليلة الّتي سيرعاها الرّبّ، من قطيع الشعب قائداً بذاته لرعيته من شعبه، من خلال إختياره لرّعاة آخرين يتسّمون بالأمانة للرّبّ ورعاية الشعب الأمينة.

 

ثم تأتي كلمة الرّبّ على لسان ارميا لتعلن النبت الجديد قائلاً: «ها إنَّها ستأتي أَيَّامٌ، يَقولُ الرَّبّ أُقيمُ فيها لِداوُدَ نَبْتاً بارّاً ويَملِكُ مَلِكٌ يَتَصَرَّفُ بِفِطنَة ويُجري الحُكمَ والبِرَّ في الأَرض. في أَيَّامِه يُخَلَّصُ يَهوذا ويَسكُن إِسْرائيلُ في أَمان. والِاسمُ الَّذي سيُدْعى بِه هو الرَّبُّ بِرُّنا» (ار 23: 5- 6). تحمل هذه الرسالة النبويّة إستباق حول رسالة راعي الرعّاة الحقيقي الّذي سيحقق هذا الوعد الأبدي بشكل يحمل الأمان للقطيع ويتميز دوره بالبرّ. هذا الكشف الغير مباشر يشير لما سنقرأه لاحقًا بحسب مرقس الّذي يصف يسوع في دوره الرعوي تجاه الجمع الّذي يجمعه من تشتته بسبب إستغلال وفساد الرّعاة المزيفيّن.

 

 

2. تشتت الشّعب (مر 6: 33)

 

بعد أن توقفنا بالمقال السابق، حسب مرقس، على إرسال يسوع للتلاميذ، نستكمل حديثنا بعودة التلاميذ من الرسالة، هادفين أنّ يستكملوا حوارهم مع يسوع. إلّا أنّ الجمع الغفير يحمل يسوع على تغيير هدف هذا اللقاء بسبب شعوره بتشتته، فيذهب لاجئًا ليسوع. بحسب السرد المرقسيّ يعلن الإنجيلي: «فرآهُمُ النَّاسُ ذاهبين [يسوع وتلاميذه]، وعَرَفَهُم كثيرٌ مِنهُم، فأَسرَعوا سَيراً على الأَقدامِ مِن جَميعِ الـمُدُن وسبَقوهم إِلى ذلك المَكان» (مر 6: 33). خطوات الجمع الـمُشتت تسبق خطوات يسوع الراعي. يثير تشتت الشعب حالة من الذعر والبحث عن ملجأ للخروج من هذا الإنحراف. بينما يسوع والتلاميذ بالسفينة، يسرع الناس بالسّير على الأقدام للوصول إلى المكان المرغوب من يسوع ويصل بخطواته المشتتة وسيره على الأقدام، قبل وصول السّفينة. في هذا دليل يؤكد مدى إحتياج القطيع لراعي يقوده بعدل وبدون قيادة مُزيفة من قبل الرّعاة. اليّوم نحن مع الشعب مدعويّن للسّير نحو يسوع مع الجمع الـمُـشتت. كمؤمنين قد نفقد الطّريق بسبب تشتت شخصي أو سوء قيادة الرّعاة، علينا أنّ نتعلم من هذا الجمع الـمُشتت الّذي لا يلجأ للرؤساء بل يذهب متتبعًا المكان الّذي يقيم فيه يسوع دون تمهل.

 

 

3. شَّفَقَةُ الرَاعِي (مر 6: 30- 34)

 

يستعيد مرقس في تعبيراته ما ذكره ارميا النبي من وعد مُسبق حيث أعلن عن النبت الجديد (راج ار 23: 5) الّذي سيختاره الرّبّ ليرعي شعبه بأمانة قائلاً: «فلَمَّا نَزَلَ إِلى البَرّ [يسوع] رأَى جَمعاً كثيراً، فَأَخذَتْه الشَّفَقَةُ علَيهم، لِأَنَّهم كانوا كَغَنَمٍ لا راعِيَ لها، وأَخَذَ يُعَلَّمُهم أَشياءَ كثيرة» (مر 6: 34). حينما تلتقي المأساة البشريّة بالشَفقة الإلهيّة من خلال نظرة إلهيّة تجعل يسوع النبت الجديد يتجه للأكثر إحتياجًا وهو الجمع في هذا الحالة. الأفعال الّتي يستخدمها مرقس ببراعة ليصف ردّ فعل يسوع يجعلنا كمؤمنين نشعر بهذا الإنتظار، يسوع لا يقف كمتفرج بل يتفاعل من خلال رؤيته لنا كقطيع مُشتت ملجأ له فهو الوحيد الّذي يتمكن من مرافقتنا في التشتت ويرشدنا بقيادته الحكيمة إلى الأفضل.

 

لفظ الشّفقة بحسب مرقس من اللغة اليونانيّة، كلغة أصليّة للعهد الثاني، يشير إلى قدرة يسوع في الربط بين أفكار عقله بأحاسيس قلبه ويجعلها تتفاعل في أحشائه، فتصير مصدر للولادة الجديدة للشعب الـمُشتت. يترك يسوع تلاميذه العائدين من الرسالة ليرعى القطيع الـمُستهلك. هذا الراعي الّذي يجسّد نبؤة ارميا من خلال علاقة الراعي بالرعيّة بحسب إرادة الله الآب. مدعوين في وقت تشتتنا بألّا نجزع، فهناك الراعي الّذي ينتظر لجوئنا إليه ليقودنا للآب.

 

 

الخلّاصة

 

الدور الرعوي بين حقبة ارميا (23: 1-6)، الّذي تميز بالإنحلال وإنحراف قطيع الرّبّ، أدى إلى إعلان حكم الله لصالح الشعب وضد الرّعاة المزيفييّن. فقد أعلن النبي عن مستقبل لنبت جديد حيث يختار الرّبّ راعي يرعى شعبه بالأمانة. وعلى ضوء هذه النبؤة نكتشف براعة مرقس الإنجيلي الّذي يقدم لنا يسوع الّذي يتحلى بسّمَة الشّفقة الإلهيّة ويبدأ في تحمل مسئوليته كراعي حينما يلجأ الشعب له ويراه كشعب بلا راعي أي منحرف ويعاني الإهمال من قِبل رعاتهم. يسوع النبت الجديد بين الرعاة الّذي إختراه الآب وأرسله ليقودنا إليه، لازال ينتظرنا ليحمل تشتت وإنحراف حياتنا ليعيدنا من جديد للعلاقة مع الآب. ينبغي علينا بأنّ نثق في إننا لسنا بمفردنا بل مدعويّن للتعلم من الجمع وهو السّير والبحث عن يسوع لنضع أمامه كلّ تشتتنا وكل ما نعانيه من لا عدالة وإهمال وفساد في مجتمعاتنا سواء السياسيّة، أم الإجتماعيّة وحتّى الدينيّة. ولازال الإختيار لنا لنستعيد علاقتنا بالراعي الّذي ينتظرنا بشّفقة لا مثيل لها. دُمتم في التمتع بشّفقة الراعي الأبديّ.