موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١٤ أغسطس / آب ٢٠٢٤

"اللَحْنُ الأبَدْيّ" بين كاتبّي سفر المزامير والإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (مز 45: 1- 18؛ لو 1: 39- 56)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (مز 45: 1- 18؛ لو 1: 39- 56)

 

عيد إنتقال مريم إلى السماء بالنفس والجسد (ب)

 

مُقدّمة

 

نتغنى في هذا اليّوم الـمُميز بالكنيسة والّذي نحتفل فيه بعيد مريمي خاص وهو عيد إنتقال أُمنّا مريم إلى السماء بالنفس والجسد. مريم هي المرأة الّتي نجحت في عزف نغمات أبديّة بحضورها وبحياتها وبكلماتها في مسيرتها الأرضيّة نحو الأبديّة. في عيد اليّوم، نستعيد ككنيسة إكتشاف، مريم سيدة الإنتقال، كإمرأة الله الّتي لها من القدرة العزف والغناء من خلال دورها في مسيرة إبنها الخلّاصيّة. وسنناقش بمقالنا هذا نوتتين موسيقيتين كتابيتين: النوتة الأوّلى إخترناها من العهد الأوّل وهي تحوي كلمات كاتب سفر المزامير الّذي يدعونا للتركيو في كلمات الملك الّذي فَضّلَ جمال الصّبيّة لتكون مختارته (مز 45: 1- 17). والنوتة الثانيّة من النشيد المريمي الّذي رددت مريم نشيدها لـ "تعظيم للرّبّ" بالإنجيل اللوُقاويّ بالعهد الثاني (1: 39- 56). نهدف من خلال هذا المقال أنّ نتعلم أنّ ندخل في هذا اللحن الإلهي الّذي يكشف لنا بدء مسيرة الخلاص في نوتات مريميّة حَمَلتها لإختيار الله الثاني لها بنعمة خاصة وهي الإنتقال إلى السماء بالنفس والجسد بجوار إبنها الإلهي.

 

تعترف الكنيسة الكاثوليكيّة بهويّة مريم، وما عاشته، وما تمتعت كنعمة إلهيّة. نعم، لقدّ جازفت مريم بنتُ عصرها بعزف نوتة جديدة وأبديّة لتكون مثلاً بشريًا أمامنا لنعلم أنّ الرّبّ الإله لازال لديّه الكثير من النعم الّتي سيفاجئنا بها.

 

 

1. سرّ الإختيار الملكيّ (مز 45: 1- 18)

 

في الكتاب المقدس، هناك بعض الشخصيات الكتابيّة الّتي لها قيمة تتجاوز حالتهم أو دورهم الفرديّ. وهذا ما يرويّه على مسامعنا كاتب سفر المزامير إذ يكشف لنا سرّ إختيار الملك للملكة الّتي ستجلس عن يميّنه. فيصف هذا الملك بوصف خاص قائلاً: «إِنَّكَ أَجمَلُ بني آدم والظرفُ على شَفَتَيكَ اْنسَكَب فلِذلِكَ بارَكَكَ اللهُ لِلأَبَد [...] أَحبَبتَ البِرَّ وأَبغَضتَ الشَّرّ. لِذلِكَ مَسَحَكَ اللهُ إِلهُكَ بِزَيتِ الاِبتِهاجِ دونَ أَصْحابِكَ» (مز 45: 3- 8). وها هنا الـمُرنم يعلن بشكل إستباقي دور الابن الممسوح من أبيّه الإلهي ليستعد لرسالته الخلّاصيّة.

 

بنفس الصورة الإستباقيّة يكشف إيضًا عن الملكة الأمّ الّتي سيتم إختيارها من الرّبّ داعيًا إياها للسمع قائلاً: «إِسمَعي يا بِنتُ واَنظُري وأَميلي أُذُنَكِ إِنسَي شَعبَكِ وبَيتَ أَبيكِ فيَصْبُوَ المَلِكُ إِلى حُسنِكِ إِنَّه سَيِّدُكِ فلَه اْسجُدي [...] سأَذكر اْسمَكَ مِن جيلٍ إلى جيل لِذلك تَحمَدُكَ الشُّعوبُ أَبدَ الدُّهور» (مز 45: 11- 18). ها هي الصّبيّة الّتي سيتمّ إختيارها من قِبل الرّبّ الملك وسرّ إختياره يعتمد ليس فقط على جمال قلّبها بل على إصغائها لما هو إلهيّ. لذا يعد الـمُرنم بتذكر إسمها من جيل لجيل فهي الفريدة الّتي وقع إختيّار الملك الإلهيّ على الملكة المستقبليّة، الّتي ستجلس عن يميّن إبنها الإلهي. هذه هي النوتة الأوّلى الّتي عزفها كاتب سفر المزامير داعيًا إيانا لنتفهم أساس لحن الملكة الأمّ والمستقبليّة، مريم.

 

 

2. مريم على عتبة العهد الجديد (لو 1: 39- 56)

 

على ضوء كلمات كاتب سفر المزامير سنتوقف أمام إحدى هذه الحقائق في العهد الأوّل هي إتمام الصورة الـمُسبقّة، مريم، الّتي ترمز لأورشليم الجديدة ليس كمكان جغرافي، بل مكان رمزي يُلخص الله كل ما يمكن أن يتممّه من مخطط إلهيّ. وفي مستقبل أورشليم المجيد، يتم التعبير عن رجاء شعب الله حتى الوصول إلى صراع الفناء، حيث تنزل أورشليم الجديدة من السماء جاهزة كعروس مُزينة، رمز لإتمام كلمات كاتب سفر المزامير (راج رؤ 21: 2؛ 2: 21).

 

بالنسبة للعهد الجديد وللكنيسة، مريم العذراء هي هذه الملكة المستقبليّة وهي أيضًا إبنة صهيون فهي شخصيّة فريدة لا يتم إنكار قيمة فرديتها، إذ ستتوسع وتصبح أحد الشخصيّات الّتي ستنال بامتياز ليس الإختيار الإلهي بل التعلق البشري من كلّ الأجيال الّتي ستفهم جوانب مركزية للحياة المسيحيّة والكنسيّة من خلال اللحن الّذي ستعزفه هذه المرأة القديرة. فقد قدمها لُوقا الإنجيليّ في صورة إمرأة السمع والإصغاء، حيث بنهايّة البشارة تعلن قبولها لمشروع الله (راج لو 1: 26- 38). أيّ إنّها بدأت تندمج في عزف أبديّ وليس فقط بل بدأت تضع النوتة الخاصة بها وبدورها في المخطط الإلهي من خلال نشيدها التعظيميّ، لحن خاص.

 

 

3. Magnificat - نُوتة مريميّة (لو 1: 45- 56)

 

في نشيد التعظيم الّذي وضعه لوقا على لسان مريم (1: 39- 56)، نكتشف ككنيسة قدرتها على الترنيّم والتسبيح وتظهر هويتها العميقة في هذا النشيّد التسبيحي كنوتة مريميّة تعزفها وتدوم للأبد. يحمل هذا النشيد أو اللحن علاقتها بالله إذ تشير لنتائج حبه وجوده بحياتها. من أهم ملامح وخصائص هذا النشيّد الّذي نتعّرف فيه كأبناء لمريم، من خلال يسوع الأخ الأكبر وإبنها بالطبيعة، على سرّ ماضيها وحاضرها ومستقبلها. مريم الّتي لم تتكلم كثيراً، إلّا إنها حينما تكلّمت أبدعت، فقالت في هذا اللحن الأبديّ:

 

تُعَظِّمُ الرَّبَّ نَفْسي وتَبتَهِجُ روحي بِاللهِ مُخَلِّصي لأَنَّه نَظَرَ إِلى أَمَتِه الوَضيعة. سَوفَ تُهَنِّئُني بَعدَ اليَومِ جَميعُ الأَجيال لأَنَّ القَديرَ صَنَعَ إِليَّ أُموراً عَظيمة: قُدُّوسٌ اسمُه ورَحمَتُه مِن جيلٍ إِلى جيلٍ لِلذَّينَ يَتَقّونَه كَشَفَ عَن شِدَّةِ ساعِدِه فشَتَّتَ الـمُتَكَبِّرينَ في قُلوبِهم. حَطَّ الأَقوِياءَ عنِ العُروش ورفَعَ الوُضَعاء. أَشَبعَ الجِياعَ مِنَ الخَيرات والأَغنِياءُ صرَفَهم فارِغين نصَرَ عَبدَه إسرائيل ذاكِراً، كما قالَ لآبائِنا، رَحمَتَه لإِبراهيمَ ونَسْلِه لِلأَبد.

 

إنّ اللحنُ الأبديّ Magnificat هو بعض النوتات الّتي شكلّت لحن التعظيم المريميّ داخل لحن إلهي مُتكامل. فهو أولاً وقبل كل شيء، نشيّدُ الفقراء. فالجماعة الّتي ولدّ فيه هذا اللحن المريميّ ما هي إلّا جماعة من الفقراء، فهو بمثابة أوّل جماعة مسيحيّة بأرض إسرائيل. هذه الأرض الّتي كانت تعيش في فقر وإضطهاد. إنها ليست مجرد مسألة الفقر كحالة إجتماعية، بل هي حالة الفقر الـمُحمل أيضًا بمعناه اللّاهوتيّ. الفقير في هذا الوقت القديم هو شخص الّذي يعرف كيف يقف أمام الله، عالـمًا بأنّه ليس لديّه ما يطالب به، بل كلّ ما يناله فهو نعمة وعطيّة مجانيّة من فيض حيّ الله. فالفقير هو الوحيد القادر على التهليل والتسبيح والشكر، وبالتالي فهو الوحيد القادر على أنّ يقدم للرّبّ معزوفة حبّه له من خلال لحنه الخاص الّذي يعلن التعظيم للرّبّ ولأعماله.

 

إن لحنُ Magnificat هو إذن لحنُ لّاهوتيّ. مريم، سيدة الإنتقال، تعلمنا ككنيسة في هذا اللحن اللّاهوتيّ أنّ لا نُغني ونهيّم بأنفسنا، بل نسبح لله وأعماله بحياتنا. في نشيد التعظيم، ندرك ككنيسة، أنّ مريم-أمّ الكنيسة، أنّ قلّب هذا اللحن هو إعلان رحمة الله.

 

 

4. التعظيم هو العزف الملّكيّ (لو 1: 39- 56)

 

من خلال ترديّد هذا اللحن العذب، نكتشف ككنيسة مع مريم، بأننا مدعويّن لنُجدد الوعيّ بأنّها قد تركت ذاتها كأداة في يّد الله. بل نالت من القدرة على عدم تَلْحّين صفاتها وجمالها وفضائلها الشخصيّة، بل جوهر لحنها هو الله وحده بإعتباره الرّبّ الحقيقي الوحيد القادر على التحرير والخلاص. فقد وضعوا الليتورجيين، هذا اللحن المريميّ، كتسبيحنا ونردده يوميًا في صلاة المساء ككنيسة تنتمي للّربّ ومدعوة أن تضعه في مركز حياتها.

 

وأخيرًا، لحن التعظيم هو ترنيمتنا ككنيسة واحدة، هذه هي بمثابة اللحن الّذي يشير لوحدتنا. فقد سافرت مريم من الناصرة بالجليل إلى اليهوديّة، من مملكة الشمال القديمة إلى مملكة الجنوب، إذ كانتا المملكتان منقسمتان والسبب هو خيانة الشعب في تاريخ شعب الله القديم. إعلن تحرك مريم من مدينة الناصرة  نحو بيت كارم، علامة وحدة الشعب الجديدة وعلامة على تحقيق الوعود الإلهيّة الّتي ستكشفها مريم في لحنها بشكل مُسبق. ويكشف أيضًا أنّ هذه الوحدة تظهر مُتجسدة في مريم الّتي أصبحت مكان يتحقق فيه وحدة المملكتين. وسبب الوحدة الحقيقيّ هو يسوع، الّذي تحمله مريم في أحشائها، هو في الواقع مَن يخلق هذه الوحدة ليس فقط بين شعب الله، بل بين البشرية جمعاء، مُحطمًا كل جدار الفصل ومُدمرًا العداوة في داخله (راج أفس 2: 13 – 14).

 

 

الخلّاصة

 

ناقشنا بمقالنا هذا، سرّ إلهيّ كُشف منذ القِدم، على لسان كاتب سفر المزامير، وهو يشير إلى هويّة الصّبيّة الـمُستقبليّة بالعهد الأوّل (مز 45: 1- 17). هذه الصّبيّة الّتي سيتمُّ إختيارها بشكل فائق للعادة من قبل الله. ليس فقط بل نجد تجسّد هذا الإختيار في معزوفة موسيقيّة نتنغم بها كلحن إلهي صاغت نوتاتها الموسيقيّة مريم لأنها قبلت هذه الأصابع الإلهيّة أنّ تعزف في حياتها وأحشائها كلمة إلهيّة تدوم إلى الأبد. فقبل ولادة يسوع منها تعلمنا وهي سيدة الإنتقال، أنّ ما نالته من نعم إلهيّة ليس بفضلها بل بعمل الله فيه فقرأت عمله بماضيها وحاضرها ومستقبلها كأبنة إسرائيل. ومن خلال كلمات التسبيح نجحت مريم في أن تعزف مقطوعة موسيقيّة فريدة تمّ تلحينها من خلال الإصغاء للرّبّ وتأليفها بتأملها في أعماله. في اللحن المريميّ نجد لحننا ككنيسة، فيصير تعظيم سيدة الإنتقال، بمثابة اللحن الأبديّ. بل يصير لحن تسبيح وتعظيم وحدة البشرية الّتي تتغنى بها كنيسة الله. رجائنا في أنّ سنصير مع مريم أمنّا بالملكوت نرنم للرّبّ عندما نلتقي بحياتنا كاملة بها وبابنها لنعزف معًا لحنًا أبديًا لا نهايّة له. دًمتم إمتداد لهذا اللحن الأبديّ هنا والآن.