موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٦ أغسطس / آب ٢٠٢٤

"آاحيا أم أاكُلْ؟" بين كاتبّي سفر الأمثال والإنجيل الرابع

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (أم 9: 1- 6؛ يو 6: 51- 58)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (أم 9: 1- 6؛ يو 6: 51- 58)

 

مُقدّمة

 

في سلسلتنا الكتابيّة فيما بين العهدين، نستمر في تحليل النصوص الكتابيّة الّتي يتناولها كاتب الإنجيل الرابع بالفصل السادس. وهذا يشير إلى عمق موضوع الخبز الّذي يتناوله الكاتب والّذي يكشف الكثير والجديد معًا على بسان يسوع في خطبته الطويلة عن الخبز. لذا سنتاول بعض الآيات بحسب الإنجيل اليوحنّاويّ (6: 41- 51) الّتي تهدف إلى. كثيراً ما نجد النّور الإلهي، بناء على كلمات الإنجيليّ، في نص العهد الأوّل لكاتب السفر الحكميّ وهو سفر الأمثال (9: 1-6). حيث يضعا كِلّا الكاتبين موضوع هام سواء لّاهوتيًا أم كتابيًا، وهو ما أعطيناه عنوان الـ  "آاحيّا أم أاكل؟".

 

نهدف بهذا المقال التعّرف على حقيقة جوهريّة تجاه الأكل. نحن لا نأكل لنعيش فقط، بل نجلس على المائدة لنعيش. إن تناول الطعام هو جزء عميق من حياتنا الإنسانية، الأكل هو مرتبط بالحياة وبإمكانية نموها وتطورها فيمَن يعيش ملء الحياة حقًا، لدرجة أنّ إستهلاك الطعام، في كلّ ثقافة إتخذ معنى يتجاوز مجرد حاجة المرء إلى إطعام نفسه مِن أجل أنّ يحيا. إنّ تناول الطعام، وخاصة تناول الطعام معًا، ليس مجرد واقع وظيفيّ، ينتمي فقط إلى نطاق ضرورة الأسرة او الأفراد الّذين يعيشون معًا أنّ يتناولوا الطعام، ولكنّ البقاء معًا على المائدة يضمن نطاق المجانيّة والفيض معًا. وبهذا المعنى يمكننا أنّ نشير إلى إننا لا نأكل لنعيش فقط، بل نجلس على المائدة لنعيش ليس بفضل ما نتناوله فقط بل بفضل مَن بجوارنا على المائدة.

 

 

1. وليمة الحكمة (أم 9: 1- 6)

كاتب سفر الأمثال الحكميّ، يُشّبه بكلماته أنّ الحكمة بمثابة ربّة المنزل الّتي بعد أنّ أعدت المائدة، تسعى لتدعو آخرين للجلوس لتناول الطعام معها مناديّة، فئات خاصة، من خلال جواريها قائلة: «"مَن كانَ ساذِجًا فليَملْ إِلى هُنا" وتَقولُ لِكُلِّ فاقِدِ الرُّشْد: "هَلُمُّوا كُلوا من خبْزي واْشرَبوا من الخَمْرِ الَّتي مزَجتُ". اترُكوا السَّذاجَةَ فتَحيَوا اسلُكوا طَريقَ الفِطنَة» (أم 9: 4- 6). الحكمة هي بمثابة الأمّ الّتي تدعو بنيها، خاصة الـمُهملّين (السُذَّج، فاقدي الرُّشد). كلّا منا يحمل بداخله جزء يميل للسذاجة وغير طبيعي أي فاقد الرُّشد في جزء ما بداخله. إلّا أنّ البقاء معًا يطور مما هو ساذج بداخلنا، التمسك بالجلوس معًا في ذات الوقت لتناول الوجبات لهو فيه الكثير من النمو فالتعامل مع الآخرين هو أوّل خطوة في طريق الحكمة والنمو الفرديّ. لنّ يستطيع إنسان ما أنّ ينمو بمفرده، حتى الزاهدين والناسكين، من حين لآخر يعود لمعلم  له أو لجماعته باحثًا عن إجابات لأسئلة ما لم يتوصل إليها بمفرده. مدعوين أن نسعى وبجد أنّ تكون حياتنا ذات علاقة حميمة بالآخر ولننظر مِن الآن وصاعداً أنّ الجلوس على المائدة لهو سرّ التطور والنمو الشخصي قبل أنّ يكون جوهر لبناء علاقات أُسريّة أم جماعيّة. هذا الوقت ضروري، فهو ميعاد للتعرف على ما يفقدنا الرُّشد ونقاط سذاجتنا لنُصلح ما بنا.

 

 

2. لغة يسوع (يو 6: 51- 58)

بُناء على كلمات كاتب سفر الأمثال، نجد أنّ لغة يسوع تحملنا للجلوس معًا على مائدة سريّة وذات نوع خاص الطعام الموضوع عليها. تشير لغة يسوع لمصدر التغذية السلّيمة، إذّ يكشف في حديثه عن ذاته وعن علاقاته بتلاميذه أنّ الخبز الحقيقيّ والشّراب الحقيقيّ، ليس بالقدرة على إفراط الإنسان في التغذية أو بتناول القليل منه. إنّ هذا الطعام والشراب الـمُقدمين في وليمة السيدة الحكمة، من نص العهد الأوّل، هما على لسان يسوع طعام وشّراب محددين للغاية: «لأَنَّ جَسَدي طَعامٌ حَقّ وَدمي شَرابٌ حَقّ» (يو 6: 55). هناك إستعارتين هامتين يشير بهما يسوع من طعام وشّراب حقيقييّن، إلى المؤمن وهما:

 

2.1. الدم (يو 6: 54- 56)

 

من خلال لغة يسوع في هذا الخطاب الشهير بحسب اللّاهوت اليوحنّاوي يستخدم لفظ «الدم». يشير هذا اللفظ في الكتب المقدسة إلى حياة المرء ذاتها، تلك الحقيقة الغير الملموسة الّتي تخص الله الخالق وحده منذ الخلق، إذ يبثّ الدم نعمة حياة الله في كل إنسان. هذه الحقيقة الغير ملموسة والغير مرئية معًا، لا يستطيع الإنسان التخلص منها. إنّ حقيقة دعوة يسوع لتلاميذه بقوله: «مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير [...] مَن أَكَلَ جَسدي وشَرِبَ دَمي ثَبَتَ فِيَّ وثَبَتُّ فيه» (يو 9: 54. 56) . إذن دعوة يسوع لتلاميذه، نحن اليّوم، هي أنّ نشرب من دمه تشير إلى أنّ هذه النعمة هي عطيّة خالصة من الله وإنّها تتمثل في مشاركتنا في حياته، دون أي إستحقاق منّا فهي حياته الممنوحة للجميع بحبّ وبمجانيّة مُطلقة.

 

2.2. الجسد (يو 6: 51- 53)

أما بالنسبة للجسد فهو لفط يشير معناه من اللغة اليونانيّة إلى sarxs، وفي اللغة العبريّة  bessar وهو يشير حالة الإنسان الضعيفة والّتي تتميز بالوهن والفناء والزوال والّتي تتسم نهايتها بالموت. في الواقع أن لفظ الجسد لا يدل على حالة سلبية أو واقع الخطيئة، بل بحسب الإيمان المسيحي ما هو إلّا بداية تنتظر الإكتمال.

 

فنحن قد لا نستطيع أنّ نفهم، بشكل مباشر، معنى ما يريد الإنجيلي قوله بإستخدام مُصطلح جسد، وما يعنيه أكل لحمه، إذا لم نأخذ بعين الإعتبار إعلان خاص بوجه يسوع، كشف عنه كثيراً الإنجيليّ وهو يُشكل أحد أجرأ وأقوى تعبيراته اللّاهوتيّة في الإنجيل الرابع. وأهم هذه التعبيرات قوله: «في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله [...] والكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا» (يو1: 1. 14). ولم يُقال إنّ الكلمة صار إنسانًا، بل إنّ الكلمة صار جسدًا. أي إنّه شارك بشكل كامل في بُعد المحدوديّة والفقر والموت الّذي يُميز الطبيعة البشريّة. لقد تولى البداية ليكملها في جسده، هذا هو إذن الواقع البشري الملموس والهش والمحدود الّذي تتخذه كلمة الله.

 

بناء على سرّ تجسده الإلهي يكشف يسوع في خطابه ما يود أن يتركه للأبد كنعمة تعطي حياة أبديّة للمؤمنين به: «أَنا الخبزُ الحَيُّ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء مَن يَأكُلْ مِن هذا الخُبزِ يَحيَ لِلأَبَد. والخُبزُ الَّذي سأُعْطيه أَنا هو جَسَدي أَبذِلُه لِيَحيا العالَم [...] إِذا لم تَأكُلوا جَسدَ ابنِ الإِنسانِ وتَشرَبوا دَمَه فلَن تَكونَ فيكُمُ الحَياة» (يو 6: 51- 53). إذن كلام يسوع وتقديمه ذاته واضح جداً ولنا من الحريّة أنّ نستمر في أنّ نحيا لنأكل أم نأكل فقط لنحيا!

 

 

3. أحيا أم أاكل؟ (أم 9: 1- 6؛ يو 6: 51- 58)

 

لقد أشار كاتب الإنجيل الرابع كثيراً، بحسب اللّاهوت اليوحنّاويّ إلى أهميّة كلمات يسوع إلى تلاميذه بينما يتقاسمون الخبز. فهناك النص الّذي ينفرد به كاتب الإنجيل الرابع وهو غسل الأرجل (راج يو 13: 1- 13)، إذ يشير في هذا النص قائلاً: «فقامَ عنِ العَشاءِ فخَلَعَ ثِيابَه، وأَخَذَ مِنديلاً فَائتَزَرَ بِه» (يو 13: 4). بينما الجميع متكئين لتناول عشاء الفصح، يقوم يسوع ليؤسس سرّ الإفخارستيا مبتدأً بغسل أرجل تلاميذه، متخذاً صورة خادمهم. هذا هو قيمة البقاء معًا على المائدة. السعي لتناولنا الوجبات العاديّة تجعلنا نكشف عما بقلوبنا وعن حقيقتنا الضعيفة والّتي لا نقبلها. فكم بالأحرى البقاء معًا ككنيسة لتناول الطعام الجوهري وهو جسد ودم الرّبّ فهو مصدر الغذاء ويصير منبع لحياتنا.

هذا هو نفس المنطق الّذي يدعونا إليه يسوع في قوله: «أَنا الخبزُ الحَيُّ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء مَن يَأكُلْ مِن هذا الخُبزِ يَحيَ لِلأَبَد» (يو 6: 51). مدعوين أن نتسأل هل نعيش لنأكل أم نأكل لنعيش؟ نعم فهناك طعام ضروري، ليس الطعام الماديّ فقط، يساعدنا على أنّ نحيا ملء الحياة الّتي يسعى يسوع أنّ يعيدها إلينا وهي الحياة الّتي خُلقنا عليها بحسب فكر الله منذ الخلق.

 

 

الخُلّاصة

 

تطرقنا من خلال سفر الأمثال (9: 1- 6) للتعرف على قيمة البقاء على مائدة الحكمة الّتي كشف يسوع عن حقيقتها السريّة في خطابه عن الخبز بحسب الإنجيل الرابع (يو 6: 51- 58). مدعوين الجلوس على وليمة يسوع الّذي يدعونا بذاته إليها تاركًا أثمن ما لديه. نعم بقوله إنه الخبز الحيّ الّذي نزل من السماء، يؤكد يسوع ليّ ولك اليّوم، إنّه بحياته، في جسده، يكمن الجواب على الجوع، والتوقعات، والتساؤلات، والقلق الّذي يرافق قلوبنا كبشر. إنّ تناولنا اليّوم من جسد يسوع وشربنا من دمه، يعني أنّ إيماننا بأنّ حياته البشريّة، كما عاشها، تحمل إجابة كافية لبحثنا ولكل بحث يقوم به قلبنا البشري.

 

لا يمكن أن تكون هناك لغة أكثر ملاءمة من لغة الوليمة، والأكل والشرب، للتعبير عن سرّ تقدمة يسوع لحياته وإتحاده بنا تصير إجابة على كل توقعاتنا للحياة الحقيقية، للحياة الأبدية. فهو قدم حياته ولم يعيش من أجل البقاء، بل من أجل الحياة بملئها إلى درجة بذل حياته من أجل الآخرين. في الواقع، مَن منا يرغب في أنّ يخلص حياته مدعو ليخسرها، ولا يخلصها إلا مَن يقدمها بحريّة. إذا قرأنا الأناجيل نكتشف أنّ هناك الحقائق المجانيّة وغير المجديّة عن يسوع هي فقط الّتي نتذكرها: صلاته، وتعاليمه، وشفاءاته الّتي قام بها دون أنّ يفعل أي شيء إستثنائي كالولائم الّتي تقاسمها مع الخطأة والمستبعدين، وأخيرًا نجح في تقديم حياته وفقدانها ليظل أمينًا لإعلانه الملكوت.

 

اليّوم أكلنا جسد يسوع وشرب دمه، يعني أن نتقبل حياة يسوع ذاتها، ونتعلم منه المعنى الحقيقي لوجودنا البشري وهو يكمن في أنّ نبادله كما يحيا هو بتقدمة ذاته لحياتنا هكذا مدعوين لنعيش له ومثله. مدعوين أن نُركز في معنى الحياة الّتي نحياها كما قال بولس: «مِن أَجْلِهِم جَميعًا ماتَ [المسيحِ]، كَيلا يَحْيا الأَحياءُ مِن بَعدُ لأَنْفُسِهِم، بل لِلَّذي ماتَ وقامَ مِن أَجْلِهِم» (2كو 5: 15). دُمتم في التمتع بملء الحياة.