موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٠ أغسطس / آب ٢٠٢٤

"النبرة القاسيّة أم المُغريّة!" بين كاتبّي سفر يشوع والإنجيل الرابع

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (يش 24: 1- 17؛ يو 6: 60- 69)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (يش 24: 1- 17؛ يو 6: 60- 69)

 

الأحد الحادي والعشرين بالزمن العادي (ب)

 

مُقدّمة

 

نواجه في سلسلتنا الكتابيّة، بهذا المقال، موضوع حيويّ يتواصل مع علاقاتنا ويتواصل أيضًا مع أفكارنا. في بعض الأحيان قد نعتقد أنّ النبرة الّتي يتحاور بها الآخر العظيم وهو الله أم الآخرين، معنا تجعلنا نتألم بل ونُعاند بسبب الكلمات الموجهة إلينا لأن النبرة قد تحمل قسّوة وليس بها أي تجميل إغراء! هذا هو مضمون هذا المقال كما سنرى لاحقًا سواء حال بني إسرائيل أمام حزم يسوع القائد بحسب العهد الأوّل (24: 1-18)؛ حينما توجه بكلمات في الصميم ليجعل الشّعب يتخذ موقف أمام أعمال الله. وسنناقش أيضًا ردّ فعل التلاميذ الّذين عانوا أمام تعلّيم يسوع بحسب العهد الثاني (يو 6: 60-69) وعبّروا عن صعوبتهم بأنّ هناك نبرة تحمل القسّوة في كلمات يسوع. على ضوء هذين النصييّن، نهدف أنّ ينمو إيماننا من خلال التوقف لما نستمع إليه من تعاليم إلهيّة توجه حياتنا وتقودنا إلى عمق العلاقة مع الله والآخرين وفي ذات الوقت مدعويّن لعدم الإنسياق أمام الكلمات الّتي بها إغراءات مزيفة.

 

 

1. إلقاء نظرة للماضي (يش 24: 1-17)

 

في أوّل سفر بالكتب التاريخيّة، وهو سفر يشوع، نسمع صوت يشوع القائد لبني إسرائيل بعد الخروج من مصر وهو في نهاية حياته (يش 24: 1- 17) حينما حمل كلمات الرّبّ، والّتي تحمل نبرة قاسيّة في آخر حوار له مع الشعب. وتميّز صوت يشوع بالقسّوة في خطابه الأخير إذّ في الآيات (1-13) يروي كيف عمل الله في حياة شعبه ولصالحهم منذ إختياره إبراهيم وإسحق ويعقوب. وكيف أتمّ تحرير الشعب بخروجه من مصر وحتّى يتمتع بحريّة كاملة دافع عنه أمام باقي الشعوب دون أنّ يحمل سلاحًا حتى إنّه بدأ يأكل من مزروعات لم يتعب في زرعها، يسكن في مُدن لم يفكر في سكناها ولم تبنيها يديه، ... إلخ. فكل هذا ما أتمه الرّبّ الأمين لكلمته والّذي يشير لأمانته للعهد الّذي قطعه مع إبراهيم (راج تك 15: 1ت). مدعوين أن نعود بنظرتنا للوراء ليس لتأنيب النفس بل لإدراك أعمال الله الّتي تغمرنا بماضينا وحاضرنا.

 

أمّا بالآيات اللاحقة للنص المختار (24: 14- 17)، يحفز يشوع همّة الشعب ليتخذ قراره بالإنتماء للرّبّ أم لا، وفي ذات الوقت يعلن أمام الشّعب إتحاده بالرّبّ هو وأهل بيته.

 

إقترح يشوع بهذا النص وفور دخوله أرض الموعد، على الشعب تجديد العهد مع الرّبّ مقدمًا. وهذا الأمر ليس سهلاً، لكنه يؤكد خطورة إختيار الشعب لخدمة الرّبّ بحرية أم لا. ويبدو أنّ يشوع يحفز الشعب على تواصل العهد. فهو، لا يحاول تجميّل ما ينطوي عليه إختيار الرّبّ مقارنة بأصنام الشعوب المجاورة الزائفة. إنّ الإلتزام بالله وبكلمته لهو أمر ضروري وله مسئولية ولكنه خطير للغاية وحاسم. مدعويّن للتفكير جيداً قبل أنّ نقول إننا نريد أنّ نتبع الرّبّ وليس الأصنام.

 

نبرة صوت يشوع الّذي قاد بني إسرائيل لإتمام وعد الله الأخير لإبراهيم، وهو تملّك الأرض له من الأهميّة سواء إسمه أم دوره لإتمام مخطط الله لما فيه خير الشعب لذا بعد خبرته الحقّة بالرّبّ يعلن أمام الشعب قائلاً: «الآنَ اتَقوا الرَّبَّ واعبُدوه بِكمَالٍ ووَفاء [...] أَمَّا أَنا وبَيتي فنَعبُدُ الرَّبّ". فأَجابَ الشَّعْبُ وقال: "حاشَ لَنا أَن نَترُكَ الرَّبَّ ونَعبدَ آِلهَةً أُخْرى، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَنا هو الَّذي أَصعَدَنا، نَحنُ وآباءَنا، مِن أَرضِ مِصْر، مِن دارِ العُبودِيَّة، والَّذي صَنعَ أَمامَ عُيوننا تِلكَ الآياتِ العَظيمة، وحَفِظَنا في كُلِّ الطَّريقِ الَّذي سَلَكْناه» (يش 24: 14- 17). بهذه الكلمات الّتي بدت في المقدمة ذات نبرة قاسيّة وتهديديّة إلّا إنها دفعت الشعب للإعتراف بألوهيّة الرّبّ والتمسك به والسبب هو إدراك الشعب الدور الإلهي الجوهريّ في حياة الشعب الّذي إختار الرّبّ الإنتماء له. لذا يلي هذا النص تجديد العهد بشكيم وهو ذات المكان الّذي قطع فيه العهد يعقوب مع الرّبّ بالماضي. نحن اليّوم هذا الشعب، مدعوين لإدراك أهميّة الطّريق الّذي سلكه الرّبّ معنا.

 

 

2. مِن يشوع إلى يسوع! (يو 6: 60-69)

 

ننتقل الآن من نبرة يشوع القاسيّة بالعهد الأوّل إلى نبرة يسوع بالعهد الثاني. نعلّم أنّ جذر إسم يسوع تنتمي لإسم يشوع. كليهما رجلين من أصل عبريّ. يحملا إسميّ يشوع ويسوع وكليهما ينتميان للصيغة اللغويّة الّتي تعني الإنتصار والخلاص. ويشتركا كليهما أيضًا على ضوء النص اليوحنّاويّ (6: 60- 69) في النبرة القاسيّة، لإعلان الكلمة الإلهيّة، في خطبة يسوع الطويلة بذات الإصحاح والّذي نتتبع قراءته في هذه الأسابيع المتتاليّة، نجد يسوع في المقطع الإنجيليّ يتبع نفس الإستراتيجية الّتي إتبعها يشوع، كما نوهنا بأعلاه. يعلن خطابه أمام كثيّرين من المغادريّن له، وبعد إنّ إستمعوا إلى كلامه، إذ لا يحاول إقناعهم بالبقاء وبدلاً من ذلك وجه لهم تساؤله: «أَفلا تُريدونَ أَن تَذهبَوا أَنتُم أَيضاً؟» (يو 6: 67).

 

3. نبرة يسوع الواضحة (يو 6: 60-66)

 

وأصل نبرة يسوع القاسيّة بحسب اللّاهوت اليوحنّاويّ  هو بعد إتمامه خطبته عن الخبز النازل من السماء معلنًا إنه هو بذاته هذا الخبز، إذ للوهلة الأوّلى عانده اليهود وجادلوه ثم سأله تلاميذه قائلين: «هذا كَلامٌ عَسير، مَن يُطيقُ سَماعَه؟ فعَلِمَ يسوعُ في نَفْسِه أَنَّ تَلاميذَه يَتذمّرونَ مِن ذلك، فقالَ لَهم: "أَهذا حَجَرُ عَثرَةٍ لكُم؟ [...] والكَلامُ الَّذي كلَّمتُكُم به رُوحٌ وحَياة، فارتدَّ عِندَئِذٍ كثيرٌ مِن تَلاميِذه وانقَطعوا عنِ السَّيرِ معَه» (يو 6: 66).

 

هل كلمة يسوع واضحة أم قاسيّة؟ يمكننا القول أنّ هذا المضمون اليوحنّاويّ هو أحد المواضيع المشتركة بصفحات الكتب المقدسة. غالبًا ما نُقاد إلى تجميل وتلطيف الرسالة الإنجيلية، ومحاولة جعلها مُغريّة للمؤمنين كرجال وكنساء عصرنا. ومع ذلك، فإن التلاميذ، نحن اليّوم، الّذين نلتقي بيسوع، والّذين نستمع إلى كلمته، نشعر بدلاً من ذلك بأنّها عقاب ونصفها بكلمة قاسية. فهي ليست كلمة مغرية، بل واضحة. إن كلمة الله تجذبنا ليس لأنّها تنفذ إستراتيجيات، كالوعود البشريّة الباطلة، بل لأنّها تكشف أصالة الحياة البشريّة وحقيقتها، حتى من خلال قساوة الكلمة فهي غير مريحة أحيانًا، ولا تخشى الفشل وقبولها من أعداد قليلة. تدعونا كلمات يسوع اليّوم إلى التعلم بأنّ هناك فرق أساسيّ علينا فهمه وهو التميّيز بين ما هو مغري وما هو أصليّ حتى وإنّ به نبرة قاسيّة. ما هو مغري جميل في حد ذاته، حتى لو لم يكن من من السهل تحقيقه؛ ما هو أصيل وقاسيّ يميّز فبدلاً من تتبع إستراتيجية الإدانة، حتّى وإنّ كانت باطلة وكاذبة، فهي لا تجذب انتباه غير ضروري. اليّوم، الكلمة الـمُغريّة الّـتي لا تبني كثيرون يسيّرون ورائها أما الحقّة فيتركونها لأنها تُلزم!

 

 

4. تمييّز بطرس للنبرة (يو 6: 60- 69)

 

إنّ كلمات يسوع الّتي أعلنها في خطابه عن خبز الحياة، بالتأكيد ذات نبرة تتميز بالقساوة. ليس من السهل قبول كلمة تكشف حقيقتنا لكي نعيش حقًا كرجال ونساء ذات إيمان وهويّة وتدعونا لتحمل المسئوليّة. من الضروري إستيعاب حياة أولئك الّذين لمّ يتمكنوا من تحمل مسئولية وجودهم بشكل منفصل عن الله أي كـملكية لذواتهم بل مدعويّن للتعرف على أنّ حياتهم هي بمثابة نعمة من الله يعيشوها بحسب إتحادهم به.

 

مع ذلك، فإنّ طابع يسوع الخاص يرتكز في عدم محاولته لتُلطيف وتجميل كلماته بالزيّف. إنّه ليس مُغريًا بأنّ يُظهر لتلاميذه طّريق تبعيته كحياة جميلة وممتلئة بالورود. بلّ، منذ البدء، كشف بوضوح بأنّ طّريقه ليست هو الطّريق الّذي يؤدي إلى حياة سهلة.

 

بناء على هذا الوضوح من قِبل يسوع، يأتي تميّيز بطرس لنبرة يسوع، الّذي يعلن إيمانه بحسب حقيقة ووضوح طّريق يسوع قائلاً: «يا ربّ، إِلى مَن نَذهَب وكَلامُ الحَياةِ الأَبَدِيَّةِ عِندَك؟ ونَحنُ آمَنَّا وعَرَفنا أَنَّكَ قُدُّوسُ الله» (يو 6: 68- 69). بالرغم مما نعرفه عن بطرس من حماس وتهور إلّا إنّه يقرأ هويّة يسوع ويصغي بعمق لكلماته ويعطي إجابته الواضحة. وأنت ما هي إجابتك في عالم اليّوم الّذي يتلاشى فيه الحقيقي ويتمركز صاحب الكلمات الزائفة والمُغريّة؟     

 

 

الخلّاصة

 

بناء على نصي العهديّن ورسالتي يشوع (يش 24: 1- 18) ثم يسوع (يو 6: 60- 69)، نحن أيضًا مدعويّن اليّوم، في هذا المقال، أنّ نسمع نبرة كلمات يسوع، بالرغم من قساوتها فهي حقيقيّة وواضحة، إذّ يوجه تسأوله ليّ ولك اليّوم قائلاً: «أَفلا تُريدونَ أَن تَذهبَوا أَنتُم أَيضاً؟». إنّه لا يخدعنا من خلال طُّرق أو كلمات تشير للإغواء بتقديم طُرق مختصرة لنا؛ بل يقدم لنا يسوع مرة أخرى في الخبز المكسور وفي الكأس الّتي تحمل عصير الكرم، الطّريق الحقيقي لأولئك الّذين يخترون بحريتهم أنّ نخلّص حياتهم من خلال تقاسمها مع للآخرين، بل يقدمونها كعطيّة بالكامل. وحدها الحياة التي تُعاش بهذه الطريقة لها نكهة الخلود. ولهذا السبب، يمكننا نحن أيضًا، على مثال بطرس، أن نجيب اليوم: «يا رّبّ، إلى من نذهب؟ أنت وحدك تملك كلمة الحياة الأبدية!». دُمتم في تمتع بوضوح وحقيقة الكلمة وليس منساقين وراء كلمات الإغراء الكثيرة اليّوم.