موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد الثالث والعشرون بالزمن العادي (ب)
مُقدّمة
برّوح الإمتنان للرّبّ الّذي لازال يرغب في التواصل معنا مُحاوراً إيانّا وكاشفًا عن هويته، نستمر في سلسلتنا فيما بين العهدين لنتناول مقطعين الأوّل من نبؤة اشعيا بالعهد الأوّل (35: 4- 7)، حيث يحمل النبيّ رسالة الله وداعيًا إيانّا لليقظة والتحليّ برّوح الفرح بسبب مجيء الرّبّ الّذي يحمل إنتصارات لحياتنا. ثم سنناقش على ضوءه نص بحسب مار مرقس وهو يسرد حدث واقعي للقاء رجل أصّمّ وأبكّم مع يسوع. من خلال كلّا النصيين سنناقش بهذا المقال موضوعًا كتابيًّا حيث يلّمس حياتنا الإيمانيّة ليشفي الله بكلمته لما نتعرض له كبشر مؤمنين من تجارب حيث تميل محاولاتنا العديدة نحو نوال نعمة الخلاص لذاواتنا وبذاواتنا. ونتمادى في إقتناعاتنا بإنّنا نستطيع أنّ نُحرر ذواتنا بذاتنا حتّى نتمكن من التوصلّ إلى الله بقوتنا الخاصة. هذا هو الفخ الّذي علينا أن نحاربه، وتأتي كلمات الرّبّ بكلّا النصييّن ليكشف لنا إنّه حينما نعتقد إننا نستطيع إنّ نجد الكلمات الّتي نُخاطب بها إلهنا ونعتقد إننا مُبادرين بالكلمة كشخص أوّل. إلّا أنّ مقالنا اليّوم يخبرنا بواقع مختلف تمامًا عما نتواصل به مع الله، فسلطان الكلمة له فقط، وهذا ما سنتعرف عليه لاحقًا.
1. إستعادة رّوح الفرح (اش 35: 4- 7)
يكشف النص النبويّ لاشعيا (35: 1–7) عن التدخّل الإلهي الّذي يُعزي بني إسرائيل ويعيدهم من المنفى من خلال صور خلاصيّة يستعين بها النبي بإعلانه رسالة الله الّتي تحمل الفرح والإبتهاج قائلاً: «لِتَفرَحِ البَرِّيَّةُ والقَفْر ولْتَبتَهِجَ الباديَةُ وتُزهِرْ كالنَّرجِس لِتُزهِرْ ازْهاراً وتَبتَهجِ إبتهاجاً مع هُتاف. قد أُتِيَت مَجدَ لبْنان وبَهاءَ الكَرمَلِ والشَّارون فهم يَرَونَ مَجدَ الرَّبَ وبَهاءَ إِلهِنا» (اش 35: 1-2). كما نقرأ إنّ أهم هذه الصور تنتمي إلى إزدهار الصحراء أي المستحيل؛ وبالأخص صورة الله الّذي لا يتدخل ليديّن بل ليُخلّص من خلال شفائه للعميان وللصُّم وللعُرج وللبُكّم من بني إسرائيل. نعم، حين يتدخل الرّبّ يفاجئنا بما هو غير متوقع: «حينَئِذ تتَفتَّحُ عُيوِنُ العُمْيان وآذانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّح وحينَئذٍ يَقفِزُ الأَعرَجُ كالأَيِّل ويَهتِفُ لِسانُ الأَبكَم فقَدِ إنفَجَرَتِ المِياهُ في البَرِّيَّة والأَنْهارُ في البادِيَة الأَرضُ الحامِيَةُ تَنقَلِبُ غَديراً والمَعطَشَةُ ينابيعَ مِياه» (اش 35: 5-7). كلّ أعمال الرّبّ تستعيد إبتهاج قلب شعب الله. هذا بالإضافة إلى الطّريق الـمُقدس الّذي يعلن الإنتصار والّذي يمكن للناس أنّ يسيروا فيه بأمان. كلّ هذه الصور الزراعيّة والشفائية قوية جداً إذ توحي بملء الأمل والعزاء. تعبر هذه الصور أيضًا عن الأحداث الّتي لا يمكن كبتها فهي أحداث غير متوقعة تُولّد ابتهاج القلب. ولا يتناسى الرّبّ ضُعاف القلوب فيقول لهم على لسان النبي: «قَوُّوا الأَيدِيَ الـمُستَرخِيَة وشَدِّدوا الرُّكَبَ الواهِنَة. قولوا لِفَزِعي القُلوب: "تَقَوَّوا ولا تَخافوا هُوَذا إلهُكم [...] يَأتي فيُخَلِّصُكم» (اش 35: 3- 4). أين نحن من هذه الصور الكتابيّة، قد نكون بين المفزوعين والخائفين أم العميان والصُّمّ والبُكّم؟ مدعوين إلى التحرر مما يفزعنا وتدعيم رجائنا أنّ الله آتٍ!
2. رجل الكلمة (مر 7: 31- 32)
على ضوء دعوة الفرح الّذي أشار إليها النبي اشعيا بالعهد الأوّل، نتناول النص الثاني بحسب مرقس والّذي يعرض أمامنا صفحة إنجيليّة ترويّ حدث واقعي تمّ بين يسوع ورجل أصّمّ وأبكّم، حيث تتجلى من جديد أعمال الله العجائبية الّتي تحمل الشفاء لشعبه. يُؤتى بهذا الرجل إلى يسوع: «فجاؤوه [يسوع] بِأَصَّمَّ مَعقودِ اللِّسان، وسأَلوه أَن يَضَعَ يدَه عليه» (مر 7: 32). يمكننا أنّ نُترجم لفظ أصمّ بالإنسان الّذي يتكلم بصعوبة، أي الـمُتلعثم وذو لسان ثقيل. وهذا قد يكون بسبب ضعف حاسة السمع. ففي هذا الواقع نحن نتعامل مع شخص، بسبب عدم قدرته على الإستماع، يُعاني أيضًا من صعوبة في التحدث وبصعوبة يستطيع أنّ يتفوه بأبسط الكلمات. هذه حقيقة ترتبط إرتباطًا وثيقًا بتطور لغة التواصل بيننا كأنُاس اليّوم، مما يعني أنّ أساس إمكانياتنا للكلام والتواصل، هناك دائمًا تجربة إستماع تسبقها. لنّ نتمكن من القدرة على التحدث ما لمّ يوجه إلينا الآخر سواء الله العظيم أم الإنسان كلمته، بكل حب واهتمام، بكلمة واحدة. إذّ أنّ قدرتنا على الكلام أو الحوار، هي خبرة تبادل التواصل بالآخر العظيم وبالآخرين البشريين وأساسها الكلمة. تتطلّب الكلمة أنّ هناك مَن يتكلم وهناك مَن يسمع. إذن مَن يسمع عليه أنّ يعطي ردّاً. هذا يؤكد أنّ نبع الكلمة الّتي سبقتنا وتوجهت إلينا من الآخر أو مِن الآخرين تنتظر تفاعل وتواصل، لذا بدون الآخرين سيكون محكومًا علينا بالصمت. حمل رفقاء الأصمّ رفيقهم إلى مصدر الفرح الّذي يمكنه أن ينتصر على عائق التواصل مع الآخرين، بفضل كلمة منه. هذه هي أيضًا حالتنا كأُناس أمام الله، بدون كلمة تسبقنا، يُحكم علينا بالصمت أمامه، ولا يمكنه إلّا أنّ نتلعثم وبالكاد ننطق بالقليل. ولهذا السبب كان إيمان بني إسرائيل دائمًا يعتمد على أنّ يضع صلاة السمع shama’ على أفواه اليهود الأتقياء مرتين يوميًا: «اسمع يا إسرائيل!» (تث 6: 4). فقد كان ينبغي على شّعب إسرائيل أنّ يعرف أنّ حياته وإمكانية التواصل وإمكانية العلاقة مع إلههم تعتمد على الإصغاء. هذا يكشف بأن لهم من القدرة على معرفة إنّهم مخلوقيّن، ومولوديّن ومحفوظيّن على قيد الحياة بفضل كلمة إلهيّة تسبقهم دائمًا. وقد أعلن بني إسرائيل هذا الإيمان أيضًا في روايتي الخلق (راج تك 1: 1- 2: 4) عندما روى كاتب سفر التكوين خلق الله للأرض والسماوات كثمرة كلمة تُنطق في الأصل، وهي كلمة تسبق جذريًا.
3. الكلمة الخلّاقة (مر 7: 33-36)
حينما نقرأ صيغة مُكّررة لمرات عديدة، بالكتب المقدسة، تقول: «قال الله»، هذا بالإضافة إلى أنّ هناك عشر كلمات، وهي ما نطلق عليها الوصّايا العشر الّتي أعطاها الله لبني إسرائيل ليحفظوا كلمته في الطّريق السائرين فيه أمامه. في كلتا الحالتين الرسائل الإلهيّة تسبق كلماتنا. كلمات الله هي الّتي يبادر بها ليتواصل معنا فهي كلمة إلهيّة سابقة لكلمتنا. قد نظن كنساء ورجال اليّوم بأنّه لدينا كلمة لنلقيها نحن أولاً وبشكل مستقل عن الكلمة الّتي سبقت كلمتنا، إلّا إنّنا نصبح مُتلعثمين وغير قادريّن على التواصل، وليس لدينا أي إختيار سوى الإختباء بسبب الخوف من لقاء الله بسبب سماعنا لذاواتنا أو لأشخاص آخرين دون أنّ نُميز في السّمع لكلمة الله الّتي وجهها إلينا قبلاً.
في روايّة الخلق الأوّلى (راج تك 1: 1- 2: 4)، على سبيل المثال، يشير تكرار تعبير: «قال الله: ...» لثماني مرات (راج تك 1: 4. 8. 10. 12. 18. 21. 25. 31) إلى إنّه من خلال الكلمة نكتشف أنّ الله في كلّ مرة ينظر إلى خليقته يليها تعبير «حسن جداً!». هذا يكشف لنا في إنّه عندما يتأمل الله في خليقته الوليدة بفضل كلمته، يؤكد جمالها وصلاحها. ما يُولد مِن هذه الكلمة السابقة، ما يُولد من العلاقة الأصليّة هو حسن. لكن عندما تُفسد العلاقة، تتجه نظرة الله إلى الخليقة لتلاحظ بمرارة أنّ الخير والجمال الّذي خرج من كلمته لخليقته قد لحقها الفساد: «ورأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنسانِ قد كَثُرَ على الأَرض وأَنَّ كُلَّ ما يَتَصوَّرُه قَلبُه مِن أَفْكار إِنَّما هو شَرٌّ طَوالَ يَومِه» (تك 6 :5).
تأتي رواية مرقس، من جديد، كاشفة عن الكلمة الإلهيّة المتجسدة، في شخص يسوع، لتنطق بأفعال الخلق وبكلمة تعيد الخلق الجديد لآذن ولسان هذا الأصمّ والأبكّم، لينتصر الإله بكلمته على شرّورنا البشريّة. يصف مرقس الحدث قائلاً: «فانفَرَدَ [يسوع] بِه [بالأصمّ] عنِ الجَمْع، وجعَلَ إِصبَعَيه في أُذُنَيه، ثُمَّ تَفَلَ ولَمَسَ لِسانَه. ورَفَعَ عَينَيْهِ نَحوَ السَّماءِ وتَنَهَّدَ وقالَ له: ”إِفَّتِحْ!“ أَيِ: انفَتِحْ. فانفَتَحَ مِسمَعاه وانحَلَّتْ عُقدَةُ لِسانِه، فَتَكَلَّمَ بِلِسانٍ طَليق» (مر 7: 33- 35). هذه هي ذات الأفعال الإلهيّة الّتي تجعل الإنسان يستعيد لغة التواصل ليس فقط مع الآخرين بل مع الله. فقد أرسل الله إبنه لنستعيد الإنسجام في علاقتنا به ويبدأ من حواسنا لنستعيد التواصل به أولاً ثم مع مخلوقاته، فالله يبدع في عمله معنا كبشر وينتصر على شرّورنا.
4. الإندهاش البشري (مر 7: 36-37)
بالتدرج في قرائتنا لنص مرقس، نقرأ بنهاية المقطع الإنجيليّ، تعبيرًا مشابهًا وضعه مرقس على أفواه شهود العيّان الّذين شهدوا عمل يسوع للرجل الأصمّ الّذي تكلم بصعوبة فقالوا: «قَد أَبدَعَ في أَعمالِه كُلِّها، إِذ جَعلَ الصُّمَّ يَسمَعون والخُرْسَ يَتَكَلَّمون!» (مر 7: 37). ما يميز اللغة اليونانية نجد ظرفًا له نفس جذر المصطلح الّذي تستخدمه الترجمة السبعينية، وهي الترجمة اليونانيّة للعهد القديم، لترجمة توازي تعبيرات الخلق، الّتي نوهنا عنها، بسفر التكوين. يهدف مرقس من خلال شفاء يسوع للأصمّ والأبكم، الإشارة إلى أنّه في يسوع وفي إقترابه منا وفي مخاطبته لنا بكلمته الأصليّة وهي كلمة تسبقنا وتحمل لنا الشفاء وتُعيّد خلقنا متى قبلناها (راج يو 15: 16؛ 1يو 4: 19). فالخليقة، بيسوع، تصل إلى إكتمالها. في يسوع، بحضوره بيننا، يمنحنا الله إمكانية جديدة للتواصل والحبّ، ويفتح أفواهنا ويسمح لنا بأنّ نتكلم بشكل صحيح (مر 7: 35).
الخلّاصة
ناقشنا في مقالنا هذا، التوازي بين كلمات اشعيا النبي (35: 4-7)، وكلمات مرقس الّلاتان يلحّا على قدرة الكلمة الإلهيّة، فهي الكلمة الخلّاقة بالرغم من شرّ الإنسان. بالكلمة يخلق الله شيئًا جديدًا دون تشوياتنا، بل يجعلنا صالحين وذوي جمال خاص في كلّ مرة يوجه إلينا كلمته. الفرح الّذي هو دعوة الله وتصير رسالة اشعيا لنا تحول حياتنا بقبول كلمة الله المنتصر. والكلمة الّتي وجهها يسوع لامسًا آذان وفم الأصّمّ والأبكّم، الّذي يمثل حالتنا الإنسانية، حيث يلمس ذلك البُعد الّذي يقطع العلاقة بالله فيختار طريقة الكلام البشرية لإعادة خلق إمكانية العلاقة في الإنسان. إنّ السماع لكلمة الآخر العظيم لا يعيد خلقنا فقط بل يسمح لنا بالتحدث بشكل صحيح وينقذنا من الصمت الّذي يسكنه اللاشيء والتلعثم. والأهم هو إنّه يعيد إكتشاف الكلمة الّتي تسبق كلمتنا كبشر. قرار الله اليّوم هو توجيه كلمته الخلّاقة ليّ ولك حيث يساعدنا على إعادة اكتشاف طّريق ليعيد خلقنا متّى أصغينا له. فلنترك الله يحاورنا ويدهشنا ليجعلنا بحسب مخططه. دُمتم صاغيّن للكلمة الخلّاقة لتحمل الفرح بقلوبكم وحياتكم.