موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (متَّى 16: 13-20)
13 ولَمَّا وصَلَ يسوعُ إلى نواحي قَيصَرِيَّةِ فيلِبُّس سأَلَ تَلاميذَه: ((مَنِ ابنُ الإِنسانِ في قَولِ النَّاس؟)) 14 فقالوا: ((بَعْضُهم يقول: هو يوحَنَّا المَعمَدان، وبَعضُهمُ الآخَرُ يقول: هو إِيليَّا، وغيرُهم يقول: هو إِرْمِيا أَو أَحَدُ الأنبِياء)). 15فقالَ لَهم: ((ومَن أَنا في قَولِكم أَنتُم؟)). 16 فأَجابَ سِمعانُ بُطرس: ((أَنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ)). 17 فأَجابَه يسوع: ((طوبى لَكَ يا سِمعانَ بْنَ يونا، فلَيسَ اللَّحمُ والدَّمُ كشَفا لكَ هذا، بل أَبي الَّذي في السَّمَوات. 18 وأَنا أَقولُ لكَ: أَنتَ صَخرٌ وعلى الصَّخرِ هذا سَأَبني كَنيسَتي، فَلَن يَقوى عليها سُلْطانُ الموت. 19 وسأُعطيكَ مَفاتيحَ مَلَكوتِ السَّمَوات. فما رَبَطتَهُ في الأَرضِ رُبِطَ في السَّمَوات. وما حَلَلتَه في الأَرضِ حُلَّ في السَّمَوات). 20 ثُمَّ أَوصى تَلاميذَه بِأَلاَّ يُخبِروا أَحَداً بِأَنَّهُ المسيح.
مقدمة
يُسلط النَّص الإنجيلي (متَّى 16: 13-20) الأضواء على شهادة بُطرس، باسم التَّلاميذ، على هويَّة المسيح الإلهيَّة وبالتالي تنصيبه من قبل يسوع رئيسًا للكنيسة لإدارتها الخارجية كنائب له على الأرض، ولرعايتها (يوحَنَّا: 15-17) ولضمان لها الوحدة والرُّسوخ (متَّى 7: 24). وهويَّة المسيح الإلهيَّة هي لُبُّ بشارة إنجيل متَّى، ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.
أولا: وقائع النص الإنجيلي (متَّى 16: 13-20)
13 ولَمَّا وصَلَ يسوعُ إلى نواحي قَيصَرِيَّةِ فيلِبُّس سأَلَ تَلاميذَه: ((مَنِ ابنُ الإِنسانِ في قَولِ النَّاس؟ ))
تشير عبارة "نواحي" في الأصل اليوناني μέρη (معناها إقليم) إلى منطقة لها وحدة سياسيَّة وإدارية. أمَّا عبارة "قَيصَرِيَّةِ فيلِبُّس" فتشير إلى مدينة بُنيت عند ينابيع الأردن عند سفح جبل حرمون (جبل الشيخ) على بعد 32 كم شمالي بحيرة طبريَّة قرب الحدود اللبنانية. وكانت تدعى قديمًا باسم "بعل جاد" (أي إله الحظ) (يشوع 11: 17) ثم أسماها اليونانيون "بانيون" نسبة إلى اسم إله من آلهة اليونانيين يدعونه "بان"، ومنه انبثق اسمها الحالي بانياس. وقد أعطى أوغسطس قيصر هذه المدينة إلى هيرودس سنة 20 ق.م. فبنى فيها معبدا من الرخام الأبيض على اسم الإمبراطور قيصر، وكان يُدعى أوغسطس في هذا المكان ابن الاله. وفي سنة 2 أو 3 ق.م جدَّد هيرودس فيلِبُّس، رئيس الربع، ابن هيرودس الكبير بناء المدينة ووسَّعها وزيَّنها وغيَّر اسمها من قَيصَرِيَّةِ إلى قَيصَرِيَّةِ فيلِبُّس إكرامًا لقيصر طيباريوس، إمبراطور روما، وأُضيفت إلى اسمه قَيصَرِيَّةِ تمييزًا عن البحريَّة (ستراتونيس) الواقعة على الشَّاطئ الغربي للبحر الأبيض المتوسط بين يافا وعكا، والتي كانت مركز الحكومة الرُّومانية آنذاك (أعمال الرُّسل 23: 33). ثم أسمّها هيرودس أغريباس "نيرونياس" إكرامًا للإمبراطور نيرون. وكانت قَيصَرِيَّةِ فيلِبُّس آخر المُدن التي زارها المسيح في جهة الشِّمال في فلسطين (مرقس 8: 27). وبعد ذلك صارت قَيصَرِيَّةِ مركزًا أُسقفيًا، ولا تزال فيها آثار هامَّة. وكان هذا المكان مناسبًا لتوجيه يسوع سؤاله إلى تلاميذه "مَن أَنا في قَولِ النَّاس؟" حتى يُزيل من أذهانهم أن القيصر هو ابن الإله، ويكشف لهم عن حقيقة ذاته ورسالته أنَّه " هو ابنُ اللهِ الحَيّ " (متَّى 16: 15). أمَّا عبارة " ابنُ الإِنسانِ" فتشير إلى يسوع المسيح الذي هو إنسان مثل سائر النَّاس، كما ورد في حزقيال "يا ابنُ الإِنسانِ " (حزقيال 2: 1) وهو أيضًا ذاك الآتي على سحاب السَّماء في اليوم الآخر ليدين الخاطئين ويُخلص الأبرار (دانيال 7: 13). وورد لُقب يسوع "ابنُ الإِنسانِ" في الأناجيل فقط، وعلى لسان يسوع ما عدا مرتين أحدهما في سفر أعمال الرُّسل (7: 56) والأخرى في سفر الرؤيا (1: 13 و14: 14). وأطلقت الجماعة المسيحية الأولى هذا اللقب على يسوع لتُبيِّن أنَّ يسوع يستبق الدَّينونة بسلطانه مخلصًا الخاطئين (متَّى 9: 6) وفاتحًا الزمن المسيحاني (متَّى 12: 8)، وهذا اللقب، بارتباطه بالوصف النَّبوي "لعبد الله المتألم"، الذي يوحّد بين الصَّليب والمَجد (مرقس 8: 31). أمَّا عبارة "مَنِ ابنُ الإِنسانِ في قَولِ النَّاس؟" فتشير إلى سؤال يسوع حيث يستجوب فيه التَّلاميذ حول هويّته الشَّخصيّة مما يُلمّح إلى اهتمام يسوع بما يقول النَّاس عن هويته، وليس شكّاً بنفسه، وإنَّما استطلاع أفكارهم عنه.
14 فقالوا: ((بَعْضُهم يقول: هو يوحَنَّا المَعمَدان، وبَعضُهمُ الآخَرُ يقول: هو إِيليَّا، وغيرُهم يقول: هو إِرْمِيا أَو أَحَدُ الأنبِياء)).
تشير عبارة "فقالوا" إلى تعداد التَّلاميذ بالآراء التي سبق أن نُقلت إلى هيرودس حول ابنُ الإِنسانِ (لوقا 9: 7-8). وهذه الأقوال تتعلق بالماضي القريب إلى حدِّ ما: إِيليَّا وإِرْمِيا ويوحَنَّا المَعمَدان (متَّى 16: 16). أمَّا عبارة "يوحَنَّا المَعمَدان" فتشير إلى ذكره الذي ظل عالقًا في القلوب في الكنيسة الأولى، لان بعض اليهود اعتقدوا أنَّ إِيليَّا عاد في شخص يوحَنَّا المَعمَدان (مرقس 11: 13). أو يشير إلى رأي هيرودس انتيباس أَميرُ الرُّبْعِ الذي سَمِعَ بِذِكْرِ يَسوع، " فقالَ لِحاشِيَتِه: "هذا يوحَنَّا المَعمَدان ، إِنَّه قامَ مِن بَينِ الأَموات، ولِذلكَ تَعمَلُ فيهِ القُدرَةُ على إِجراءِ المُعجِزات "(متَّى 14: 2) ؛ وفي إنجيل لوقا "كانَ الشُّعبُ يَنتَظِر، وكُلٌّ يَسأَلُ نَفسَه عن يوحَنَّا المَعمَدان هل هو الـمَسيح" (لوقا 3: 15)؛ أمَّا عبارة "إِيليَّا" فتشير إلى ابنُ الإِنسانِ الذي هو إِيليَّا النَّبي الذي رُفع إلى السماء (2ملوك 2/11-13) حيث أنَّ كثير من اليهود كانوا يتوقعون مجيئه قبل مجيء المسيح في الأزمنة الأخيرة بناء على نبوءة ملاخي "هاءَنَذا أُرسِلُ إليكم إِيليَّا النَّبي قَبلَ أَن يأتي يَومُ الرَّبِّ العَظيمُ الرَّهيب " (ملاخي 3: 23). فالعَالَم اليهودي كان ينتظر مجيئه. أمَّا عبارة "إِرْمِيا" فتدل على إِرْمِيا الذي كان اليهود يُشيرون إليه بالنَّبي الذي كان في اليهودية منذ ست مئة سنة قبل الميلاد والمُتنبَّئ عنه "يُقيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِثْلي مِن وَسْطِكَ، مِن إِخوَتكَ، فلَه تَسْمَعون"(تثنية الاشتراع (18: 15)، لذلك زاده متَّى الإنجيلي. أمَّا عبارة " أَحَدُ الأنبِياء" فتشير إلى أحد الأنبِياء الأوَّلين قام من الموت باعتبار يسوع نبيًا. كما يشهد على هذا الأمر متَّى الإنجيلي (21: 11) ومرقس (6: 15) ولوقا (7: 16). إذ أن موسى تنبَّأ بأن نبيًا مثله سيأتي لهم (تثنية الاشتراع 15:18). وبكلمة اعتبر النَّاسُ يسوع أنَّه من عُظماء الرِّجال. وهذا ما يقوله اليوم أيضًا أناس كثيرون أن يسوع هو رجلٌ نادرٌ، لا مثيل له بل هو أعظم رجل في تاريخ البشريَّة. ولكن كلمة نبي يأخذ كامل معناه في الإيمان المسيحي. إنَّ يسوع جاء في خط الأنبِياء، ولكن ما يطلبه يسوع يفوق ما يطلبه الأنبِياء. يطلب يسوع تعلقَا بشخصه، لا بتعليمه فقط؛ فالنَّبي يحمل الكلمة، أمَّا يسوع فهو الكلمة بالذات. وأن الأنبِياء يُعتبرون حلقة وصل يسير بهم الله بالتَّاريخ إلى كماله، وأمَّا المسيح هو من به نصل إلى الكمال، وهو الكمال نفسه، كما صرّح " أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة" (يوحَنَّا 14: 6). ونَحن كَيف نَنظُر إلى المَسيح؟ هَل نَنظُر إلى يسوع كنَبيّ بَين أنْبياء آخَرين؟
15 فقالَ لَهم: ((ومَن أَنا في قَولِكم أَنتُم؟ ))
تشير عبارة "ومَن أَنا في قَولِكم أَنتُم؟" إلى سؤال يسوع الموّجه إلى تلاميذه عن رأيهم الخاص حول المكانة التي يحتلها يسوع في قلوبهم. وهي المرة الأولى التي تحدّى فيها يسوع تلاميذه عندما سألهم للتعبير بوضوح عن آراءهم الخاصة تجاهه. ونقل هنا يسوع السُّؤال من المستوى العام "مَنِ ابنُ الإِنسانِ في قَولِ النَّاس؟" إلى المستوى الشخصي "مَن أَنا في قَولِكم أَنتُم؟"، يطرح يسوع هذا السؤال على تلاميذه ليرى كيف استمعوا إليه، وما الذي فهموه عنه. ويُعلق القديس كيرلس الكبير"إن يسوع كان يُهيّأ تلاميذه لآلامه حتى لا يتشكّكوا فيه". السَّيد المسيح يهتم جداً كيف نعرفه نحن خاصته. فالقرار في الإيمان في يسوع لا يعتمد على الأكثرية، لكن على الاقتناع الشَّخصي. من هو يسوع لنا ولحياتنا؟ وهل له مكانة في حياتنا؟
16 فأَجابَ سِمعانُ بُطرس: ((أَنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ)).
تشير عبارة "فأَجاب" إلى جواب بُطرس العفوي والفوري النابع من قلبه بالنِّيابة عن التَّلاميذ بسبب طبعه المُتسرِّع، ولكن إجابة منطلقة عن معرفة شخصية وعميقة بيسوع. أمَّا عبارة "سِمعانُ بُطرس " فتشير إلى اسم مركب سمعان اسم عبراني שִׁמְעוֹן معناه ((مستمع))، وبُطرس في اللغة اليونانية Πέτρος) وهي مشتقة من كلمة آرامية ((كيفا)) معناها صخرة أو حجر (متَّى 16: 18). وكان اسم أبيه يونا (متَّى 16: 17) واسم أخيه اندراوس، واسم مدينته بيت صيدا (يوحَنَّا ا1: 42 ومتَّى 16: 18) وكانت مهنته صيد السَّمك التي كان بواسطتها يحصل على ما يعيل عائلته المُقيمة في كفرناحوم، كما يستدل من زيارة يسوع لحماته وشفائها من الحمّى (متَّى 8: 14 و15). وبعد القيامة، يخبرنا الجزء الأول من سفر الأعمال أن بُطرس حقق ما أنبأ المسيح عنه ((وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي))، فقد نشط بُطرس لقيادة أعضاء الكنيسة الأولى بعد صعود يسوع فكان على راس الجماعة المسيحية الأولى: خطب في الجموع باسم الرُّسل يوم العنصرة مُوضِّحا معنى حلول الروح، وكيف انه من الآن يكون الخلاص بالإيمان بابن الله لمغفرة الخطايا، ودعا الجموع إلى الإيمان والمعمودية، يوم العنصرة (أعمال الرُّسل 2: 14-36). وهو الذي قاد التَّلاميذ إلى سدّ الفراغ في عدد الرُّسل (1عمال الرُّسل 1: 15) بانتخاب بديل ليهوذا، وقبل الوثنيين في الكنيسة، وتفقَّد الكنائس في كل مكان. وبعد أن مكث في أورشليم وأنطاكية، ذهب إلى روما، وأصبح أول اسقٍفًا عليها. أمَّا عبارة " أَنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ " فتشير إلى إعلان بُطرس بالمسيح الذي لا يجد مصدره في قوّة بُطرس، ولا في قداسته الشَّخصيَّة ولا في قوَّة إرادَته أو في حِكمَته الإنسانيَّة، إنما هذا الإعلان نابع عن إيمانه الثَّابت نتيجة ِخُضوعه ِلمَشيئته الله وتأثير الروح القدس في قلبه. فتح بُطرس ذاته لمَّا كشفه الآب له، وأُدرك عمق شخصية يسوع ليس فقط كانسان إنَّما كابن الله الحَي. فكان بُطرس من هؤلاء البسطاء الذين كشف الله لهم أسرار الملكوت، كما جاء في صلاة يسوع: "أَحمَدُكَ يا أَبَتِ، رَبَّ السَّمَواتِ والأَرض، على أَنَّكَ أَخفَيتَ هذه الأَشياءَ على الحُكَماءِ والأَذكِياء، وكَشفتَها لِلصِّغار (متَّى 11: 25). أمَّا عبارة "المسيح " في ألأصل اليوناني Χριστὸς وفي العبرية הַמָּשִׁיחַ "المشيح" (المكرس بالمسحة) فتشير إلى ذاك الذي أختاره الله ومسحه وأرسله مخلصًا، وقد تحدَّث عنه الأنبِياء ومهّدوا له السَّبيل، ومنهم يوحَنَّا المَعمَدان. المسيح هو الذي كان اليهود ينتظرونه مخلصًا. وكلمة المسيح تعني الممسوح من الله. وكانت المسحة في العهد القديم هي للملوك ورؤساء الكهنة والأنبِياء فقط (لوقا 76:1). فيسوع هو المسيح الملك والكاهن والنَّبي. وفي إنجيل مرقس ورد مرة واحدة أنَّ إنسانا اعترف بأن يسوع هو المسيح، لان لهذا اللقب رؤية دينيَّة وطنيَّة وسياسيَّة، ولهذا لم يستعمله يسوع إلاّ أثناء محاكمته (مرقس 14: 61-62)؛ لأنه يُشكِّل خطراً لفهم رسالته. فيسوع هو ليس فقط المسيح المُنتصر، بل أيضا المسيح المُتألم الذي سفك دمه لخلاص النفوس. وقد روى لوقا أن يسوع قد أُعلن مسيحًا على لسان الملائكة (لوقا 1: 32) وسمعان (لوقا 2: 26) والشَّياطين (لوقا 4: 41)، لكن بُطرس هو التلميذ الذي أطلق على يسوع هذا اللقب. كان اليهود يُضيفون إلى هذا اللقب معنى قوميًا وسياسيًا (لوقا 22: 67)، وسيظل تلاميذ يوحَنَّا المَعمَدان زمنا طويلا يتساءلون هل معلمهم هو المسيح (أعمال الرُّسل 13: 25). إن سمعان بُطرس تحقَّق عن ألوهية المسيح واعترف بذلك جهارًا، وكان هو أول من اعتراف بيسوع على أنَّه المسيح، لكن النَّاس لم يكونوا بعد مُستعدِّين لهذا الإعلان بسبب آرائهم المادية والسِّياسية عن الملكوت. وتُبرهن كل أعمال يسوع منذ شرع بتتميم وظيفته على انه المسيح، أي الممسوح لإتمام الوظائف الكبرى لشعبه باعتباره نبيٌ وكاهنٌ وملكٌ، كما أنبأ الأنبِياء (مزمور 2: 2). وهو يخص البشرية جمعاء. وأمَّا القديس مرقس فأعلن أن يسوع هو المسيح قائلا " أَنتَ المسيح" (مرقس 8: 29)، المسيح أي الممسوح كرئيس كهنة الذي سيقدِّم ذبيحة نفسه. ولوقا الإنجيلي أعلن بُطرس أن يسوع هو "مسيحُ الله (لوقا 9: 20) أي مسيح النبوءات الموعود به في الكتاب المقدس والذي ينتظرونه. أمَّا عبارة " ابنُ اللهِ الحَيّ " فتشير إلى عبارة متأصلة في العهد القديم "أَنَّا أَكونُ لَه أبًا وهو يَكون لِيَ ابنًا" (2صموئيل 7: 14 ومزمور 2: 7 و98: 27)، وقد قيلت في الملائكة والشَّعب اليهودي والمسيح. وهذه العبارة دلَّت عل علاقة خاصة مع الله ومَبنيّة على اختياره من أجل مُهمَّة يُكلف بها أبناءه. ولكن المسيحيُّون شدَّدوا من خلال هذا اللقب على ميزة فريدة بشخص يسوع. فهو في علاقة بنوية مع الله لا مثيل لها، والذي يُعدَّ إليه برسالة لا نظير لها في سبيل خلاص النَّاس (متَّى 1: 21 و2: 15). وهنا يُعبّر بُطرس عن حدس إيمانه وإيمان التَّلاميذ، فلا يكتفي بجواب غير وافٍ حول شخصية يسوع، بل يكشف أنه هو المسيح المُخلِّص. أمَّا عبارة " الحَيّ" فتشير إلى الله، كما ورد في النص اليوناني ὁ υἱὸς τοῦ θεοῦ τοῦ ζῶντος، وتدل أيضا على المسيح ابن الله الحي حسب الآراميّة בֶּן־אֱלהִים חַיִּים أي الله المُتجسِّد بصورة إنسان (ابن الله) الذي سكن بيننا (الحي بيننا) (يوحَنَّا 1: 14). وصُف الله بالحَي تمييزاً له عن آلهة الوثنيين (يشوع 3: 10) وإشارة إلى حضوره بين النَّاس وقدرته على معرفة أحزانهم، والاعتناء بهم، ومنحهم الحياة والقوة. وهذا اللقب عظيم ولائق بالمسيح. لقد سبق نَتَنائيلَ وقال هذا قبل بُطرس " راِّيي، أَنتَ ابنُ الله، أَنتَ مَلِكُ إِسرائيل" (يوحَنَّا 1: 49)، ولكن نَتَنائيلَ كان يقصدها بطريقة عامة، كما يقولون إسرائيل ابن الله. ولذلك لم نسمع أن السيد طَّوَّب إيمان نَتَنائيلَ كما فعل مع بُطرس. فقد أعلن بُطرس إيمانه بيسوع في إنجيل متَّى بقوله " المسيح ابن الله الحي" إشارة للاهوت يسوع، فهو الله المُتجسد. والكنيسة تؤسَس على هذا الإيمان الذي نطق به بُطرس، "المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ ". تؤسَّس كنيسة الرب على هذه الشهادة المتواضعة. هل نحن نشهد مع بُطرس بان المسيح " هو ابن الله الحي وكلمته القدوس؟
17 فأَجابَه يسوع: ((طوبى لَكَ يا سِمعانَ بْنَ يونا، فلَيسَ اللَّحمُ والدَّمُ كشَفا لكَ هذا، بل أَبي الَّذي في السَّمَوات.
تشير عبارة "طوبى لَكَ" إلى تهنئة يسوع لبُطرس نظرًا لانفتاحه على وحي الآب واعترافه بالإيمان بيسوع، أنه المسيح ابن الله؛ وهذا الإيمان الذي هو بفضل الله أظهر له نعمة سامية ليقرَّ بذلك. وهذا ما قاله بولس الرسول "لا يَستَطيعُ أَحَدٌ أَن يَقول: ((يَسوعُ رَبٌّ)) إِلاَّ بِإِلهامٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُس" (1 قورنتس 12: 3). ويُعلق البابا لاون الكبير "طوبى لك، يا بُطرس لأنّ أبي هو الذي علّمك؛ فلم تضللّك الأفكار الأرضيّة، بل تكفّل الوحي السَّماوي بتعليمك" "(العظة الرابعة في ذكرى سيامته). وهذا الإيمان أساس ملكوت المسيح. ويُعلق القديس هيلاريوس أسقف بواتيه "طوبى لذاك الذي يُمدَح لإدراكه وفهمه الذي فوق الرؤيا بالعيون البشريّة، وصار مُستحقًا أن يكون أول من اعترف بلاهوت المسيح". ولم يكن تطويب يسوع مقصورًا على بُطرس وحده، بل كان له أولا ثم لكل التَّلاميذ، لان سؤال المسيح كان للاثني عشر، وكان جواب بُطرس عن نفسه وعن بقية الرُّسل. أمَّا عبارة "سِمعانَ بْنَ يونا " فتشير إلى مناداة يسوع إلى بُطرس باسمه العائلي الأرضي دون الاسم الجَّديد الرُّوحي الذي عزم يسوع على تسميته بُطرس. أمَّا عبارة " ابن يونا" في الأصل اليوناني Βαριωνᾶ مشتق من العبرية בַּר־יוֹנָה أي ابن يونان ويونان هي الصيغة السِّريانية والعربية، ولفظة يونا יוֹנָה معناها حمامة) فيشير إلى الروح القدس أو نعمة الله أي عطيّة الرُّوح، لأن بُطرس اجبر على الذهاب إلى حيث لا يريد. كما قال له يسوع المسيح “الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكَ: لَمَّا كُنتَ شاباً، كُنتَ تَتَزَنَّرُ بِيَديكَ، وتَسيرُ إلى حَيثُ تشاء، فإِذا شِخْتَ بَسَطتَ يَدَيكَ، وشَدَّ غَيرُكَ لكَ الزُّنَّار، ومَضى بِكَ إلى حَيثُ لا تَشاء " (يوحَنَّا 21: 18). أمَّا عبارة "فلَيسَ اللَّحمُ والدَّمُ" فتشير إلى الإنسان بكامله، بصفته كائنًا مفطورًا على ضعف الطبيعة البشرية، كما ورد في تعليم سيراخ "فكَما أَنَّ أَوراقَ شَجَرهٍ كثيفةٍ تارةَ تَسقُطُ وتارةً تَنبُت كذلِكَ أَجْيالُ اللَّحْمِ والدَّم: بَعضُهم يَموتُ وبَعضهم يُولَد" (يشوع بن سيراخ 14: 18). ولم يُعلن بُطرس عن هوية يسوع بقوَّته البشرية، أو على يد إنسان آخر، بل بإرشاد روح الله الآب له. لا تأتي معرفة الرَّبّ بالعلم والعقل فقط، بل بنّور الإيمان الّذي يفيض من أبينا السّماوي ويُنير بصير الإنسان، وإلى محبّته الّتي تنسكب في قلبه. ولا أحد يعرف يسوع المسيح إلّا باختبار الإيمان. لم يعتمد بطرس على ذكائه، أو على قدراته الخاصة، بل كان منفتحًا على وحي الآب بنفسه، هو الذي يكشف أسراره للصغار (متى 11: 25) هو الذي كشف عن ذاته بإعلان ابنه الحبيب (متى 17، 5). أمَّا عبارة "كشَفا لكَ هذا" فتشير إلى مصدر كلمات بُطرس الذي هو ليس من بُطرس نفسه إنَّما هو من الوحي الإلهي (متَّى 11: 25-27)، أي إعلان إلهي يُشرق به الآب بروحه القدّوس على بُطرس. وقد بيَّنت مواقف بُطرس انَّه لم يُدرك هذا الوحي في عمقه، لكنَّه سيفهَمه ويفهمه الرُّسل فيما بعد على ضوء القيامة (متَّى 16: 22-23). لا ينبع قول بُطرس منه بل من إيمانه، والإيمان ليس ثمرة براهين أو ممارسة، بل ثمرة وحي، كما جاء في تعليم بولس الرسول: " ما أَبْعدَ غَورَ غِنى اللهِ وحِكمَتِه وعِلمِه! وما أَعسَرَ إِدراكَ أَحكامِه وتَبيُّنَ طُرُقِه! فمَنِ الَّذي عَرَفَ فِكْرَ الرَّبّ أَو مَنِ الَّذي كانَ لَه مُشيراً "(رومة 11: 33-34))؛ أمَّا عبارة " كشَف" في الأصل اليوناني ἀπεκάλυψέν (معناها أظهر الحقيقة) فتشير إلى الوحي: لا يكشف الإنسان شيئاُ مهماً سوى لأصدقائه الشخصيّين فهو علاقة ثقة واختيار ولقاء كما ورد في سفر النَّبي عاموس، " لِأَنَّ السَّيِّدَ الرَّبَّ لا يَفعَلُ شَيئاً ما لم يَكْشِفْ سِرَّه لِعَبيدِه الأنبِياء "(عاموس 3، 7). لذلك اختار الله بُطرس البسيط والمُتواضع كي يكشف له ذاته وسرَّ عمق ابن الله (متَّى 11: 25). وقد أكَّد يسوع هذه الحقيقة بقوله لتلاميذه " لا أَدعوكم خَدَماً بعدَ اليَوم لِأَنَّ الخادِمَ لا يَعلَمُ ما يَعمَلُ سَيِّدُه. فَقَد دَعَوتُكم أَحِبَّائي لأَنِّي أَطلَعتُكم على كُلِّ ما سَمِعتُه مِن أَبي" (يوحَنَّا 15: 15). أمَّا عبارة "أَبي الَّذي في السَّمَوات " فتشير إلى الله الذي سمح لبُطرس أن يسبر غور شخصية المسيح اللاهوتيَّة. أن المسيح هنا يؤكد ناسوته، والآب يُعلن لبُطرس لاهوت المسيح، وهذا هو إيمان الكنيسة أن ابن الله تجسَّد وتأنَّس، الله ظهر في الجسد، كما ورد في تعليم بولس الرسول " قد أُظهِرَ في الجَسَد وأُعلِنَ بارّاً في الرُّوح وتَراءَى لِلمَلائِكَة وبُشِّرَ به عِندَ الوَثَنِيِّين وأُومِنَ بِه في العالَم ورُفِعَ في المَجْد" (1 طيموتاوس 16:3).
18 وأَنا أَقولُ لكَ: أَنتَ صَخرٌ وعلى الصَّخرِ هذا سَأَبني كَنيسَتي، فَلَن يَقوى عليها سُلْطانُ الموت.
تشير عبارة "وأَنا أَقولُ لكَ" في اليونانية "κἀγὼ δέ σοι λέγω إلى التبادل في قول مع بُطرس، أي كما قلتَ أنتَ كذلك "أنا أقول لك"؛ أمَّا عبارة "صخر" في اليونانية بُطرس Πέτρος وفي الآرامية כֵיפָא” كيفا" (صخر)، وفي العربية صفا فتشير إلى سمعان بُطرس نفسه، وذلك بحسب النّصّ الآراميّ الأصليّ " אנת הו כאפא ועל הדא כאפא אבניה לעדתי" وهي قريبة من التّرجمة" السّريانيّة البسيطة. واستخدم المسيح مرّتين نفس الكلمة "كيفا"، وهي تعني "صخر" بحيث يتّضح جليًّا أنّ المقصود هو بُطرس. أطلقه المسيح على سِمعان، اسم "كيفا" (صخر) فأصبح اسم علم لسِمعان بُطرس (يوحَنَّا 1: 42). الاسم القديم هو سمعان والجديد هو بُطرس وتغيير اسمه دلالة على رمز للموت والولادة الجديدة. والواقع أنَّ الوحي لبُطرس في كشف ابن الله الحي الذي أصبح إنسانًا، يؤدي إلى تغيير في بُطرس فلا بد له أن يموت ويُولد من جديد. ويُعلق القديس أوغسطينوس " يسوع لم يقلْ له أنتِ صخرة Petra بل أنت بُطرس Petrus، فإن الصخرة كانت المسيح (1 قورنتس 10: 4)، التي اعترف بها سمعان، كما لو اعترفت الكنيسة كلها، لذلك دُعي "بُطرس". فقد أقام يسوع كنيسته، التي هي ملكوته، على الصخرة التي هي الإيمان بالمسيح المُعلن للقدّيس بُطرس؛ والواقع أنّ بُطرس هو الصخر ويسوع "صخرة الصّخرة"، كما كتب القديس أوغسطينوس، لأن الصخرة التي تبنى عليها الكنيسة هي المسيح الربّ نفسه (1قورنتس 4:10). والسيّد المسيح هو حجر الزاوية (1بُطرس 6:2). ويعلق القديس ايرونيموس "لقد أعطى لسمعان الذي آمن بالمسيح الصخرة أن يُدعى بُطرس "الصخرة". هذه الكلمة "صخر" لم تستعمل ابدًا قبل ذلك كاسم علم، لا عند اليهود ولا عند اليونانيين، إنها فكرة ابتكرها يسوع. والاسم يُحدِّد هوية الشخص عند السَّاميين. ومن هذا المنطلق، فانَّ بُطرس هو الحجر الأساسي للكنيسة وله أولوية بين الرُّسل كما يبدو من كلام بولس الرَّسول له " بَعدَ ثَلاثِ سَنَوات صَعِدتُ إلى أُوَرَشَليمَ لِلتَّعرُّفِ إلى صَخْر، فأَقَمتُ عِندَه خَمْسةَ عَشَرَ يَومًا"(غلاطية 1: 18). وجاء في تعليم بُطرس الرَّسول أنَّ المؤمنين هم الكنيسة المَبْنيَّة على أساس الرُّسل والأنبِياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية، كما صرّح بُطرس الرسول "اقتربوا مِنه فهو الحَجَرُ الحيُّ الَّذي رَذَلَه النَّاس"(1بُطرس 2: 4). المسيح هو الصخرة التي هي أساس الكنيسة، كما يؤكد ذلك بولس الرسول "هذه الصَّخرَةُ هي المسيح " (1 قورنتس 10: 4). ويُعلق البابا القدّيس لاوُن الكبير " أنت صَخْرٌ لأنّك صلب وتستمدّ الصلابة من قوة المسيح وتحصل على عظمته بمجرّد أنّك تشاركه بها"(العظة الرابعة في ذكرى سيامته). أمَّا عبارة "سَأَبني كَنيسَتي" فتشير إلى المسيح أساس الكنيسة وبانيها، والكنيسة هي من عمل يسوع المسيح، وفي الكنيسة يُقيم يسوع، وفيها يعمل بروحه. فمشروع يسوع هو مشروع الكنيسة. وبُطرس صار أسقف رومة، رئيس الكنيسة، وان أولويته هذه التي ورثها خلفاؤه الباباوات. وهنا يوضِّح يسوع أن هذا تطويب بطرس لا يقود للتمييز، بل إلى الخدمة. إن وحي الآب جعل بطرس مؤتمناً ومسؤولاً عن الكنيسة، وما رمز المفاتيح إلى أنه: يمكن الآن فتح باب الكنيسة للجميع. أمَّا عبارة كنيستي" في الأصل اليوناني ἐκκλησία وهي ترجمة لكلمة عبرية "كاهال" קְהִלָּתִי ، كما ورد في الترجمة السبعينية ، ومعناها الجماعة. ولم ترد كلمة كنيسة في إنجيل متَّى إلاَّ مرتين (متَّى 18: 17)؛ وهذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها يسوع عن الكنيسة. ويدل هذه اللفظ على الجماعة الجديدة التي أسَّسها يسوع على الرُّسل، وصار بُطرس صخرتها وقاعدتها "التي رسالتها هي أن تخلق مشروع الله العظيم الرامي إلى جمع البشر باسره في عائلة واحدة في المسيح "كما يعلق البابا بندكتس. قال يسوع كنيستي ولا كنائسي، وذلك لان كنيسة المسيح الجامعة الرسولية هي وحدة روحيَّة مقدَّسة تسمو على الطائفية والعنصرية والعرقية. فالكنيسة ليست محصورة بأمة أو زمان أو مكان بل هي مجموعة من الذين اغتسلوا بدم المسيح، ولبسوا ثوب بِرِّه، وتجدَّدوا بروحه، واتحدوا مع المسيح بالإيمان واعتمدوا باسمه. الكنيسة هي الارتباط الحي بالمسيح الذي هو راسها الوحيد (قولسي 1: 18). وقد سُمِّيت الكنيسة أيضًا " بيت الله" (1 طيموتاوس 3: 5) و "هيكلاً مقدسًا" (أفسس 2: 21). وقد عرّف المجمع الفاتيكاني الثاني الكنيسة أنها "شعب الله". بُطرس الذي قبل كلمة الآب سيتمكن من تأسيس كنيسته، كما على صخرة. أمَّا عبارة "فَلَن يَقوى عليها سُلْطانُ الموت" فتشير إلى قوى الشَّر التي لن تنتصر على كنيسة المسيح، وهي تعجز عن إهلاكها، كما تشير أيضًا إلى الموت الذي لن ينتصر على المؤمنين قط، لانَّ جميع أعضاء الجماعة المسيحيَّة سيقومون مع المسيح في النهاية، وإن هم ماتوا، ولن يقوى عليهم سلطان الموت. وعد يسوع الكنيسة هنا أيضًا الوقاية من المشورات والمؤامرات والمقاصد الشَّريرة التي تهدف إلى هلاك الكنيسة وفسادها وتدميرها. فلا داعي للخوف على أولئك الذين يعيشون بثقة تامة في الكنيسة المبنية على كلمة الله . ويعلق البابا القدّيس بيوس العاشر "إننا نشعر بالأمان التَّام ضمن حصن الكنيسة المقدّسة. فوعود الرّب يسوع لا تُخَيِّب أبدًا مَن ينتظرها "(الرّسالة العامة: التّذكار الفَرِح، (Iuncunda sane)، بتاريخ 12 آذار 1904). أمَّا عبارة " سُلْطانُ الموت " في الأصل اليوناني "πύλαι ἅ|δου " (معناها أبواب الجحيم ) فتشير إلى قدرة مثوي الأموات (أيوب 38: 17) و "أَبْوابِ المَوت"( مزمور 9: 14) " . إنَّ كلمة "ἅ|δου " تعني حرفيا القبر وفي العبرية שְׁאוֹל (شيول). وصُورتا الجحيم هنا قلعة ذات أبواب (أشعيا 38: 10)؛ وكانت الأبواب قديما للمدن المسوَّرة مكان اجتماعات للمشورة والحكم (2 صموئيل 15: 2) ولإجراء الأعمال المختلفة: مكان مجلس شيوخ البلد (أمثال 1: 23،) و "بابِ بَيتِ الرَّبّ" (إِرْمِيا 36: 10). وهي تدل على السُلطة والقدرة، فمن يسيطر على أبواب المدينة يسيطر على المدينة كلِّها. لا يستطيع “سُلْطانُ الموت" أن يحجز في الموت أعضاء الكنيسة التي أسسها يسوع. وإن هم ماتوا، فهو لا يحتفظ بهم، لأنهم يقومون مع المسيح. "سلطان الموت " أي قوى الشَّر لن تنتصر على الكنيسة، ولا الموت قادر أن يسود على المؤمنين، بل هم سيقومون من الموت في الأبدية. فالكنيسة أزليّة، مهما كانت الظُّروف والاضطهادات والبِدع الهرطقات والانقسامات وآفات العصر مثل الإجهاض، والمُخدرات والزواج المثلي، والإرهاب، والعنف، ومنطق الموت، فالكنيسة ستبقى موجودة حيَّة ومنتشرة في أرجاء المسكونة كلها. هل نجد في اسمنا هويّتنا ودعوتي الخاصّة لنشارك في الكنيسة وبناء العالم الجديد؟
19 وسأُعطيكَ مَفاتيحَ مَلَكوتِ السَّمَوات. فما رَبَطتَهُ في الأَرضِ رُبِطَ في السَّمَوات. وما حَلَلتَه في الأَرضِ حُلَّ في السَّمَوات))
تشير عبارة "وسأُعطيكَ" إلى وعد يسوع لبُطرس ورفقائه الرُّسل، لان بُطرس سبق إلى الإقرار، فأكرمه المسيح بان جعله أول من يفتح كنيسته لليهود وللأمم. أعطاه يسوع سلطة شرعية لا تنفصل عن سلطة الاثني عشر لكن يفوقهم كافة " الحَقَّ أَقولُ لَكم: ما رَبطتُم في الأَرضِ رُبِطَ في السَّماء، وما حَلَلتُم في الأَرضِ حُلَّ في السَّماء "(متَّى 18: 18). أمَّا عبارة "مَفاتيحَ مَلَكوتِ السَّمَوات" فتشير إلى سُلطة تفسير الشريعة في الدِّين اليهودي. وهنا تقوم هذه السُلطة على الاعتراف أن يسوع هو ابن لله. وتظهر هذه السُلطة خاصة في مغفرة الخطايا، وتمكين دخول ملكوت الله. فهذا الملكوت يرتبط إلى حدٍ ما بالكنيسة. وبينما يقول آخرون أنَّ المفاتيح هي سُلطة إعلان مغفرة الخطايا (يوحَنَّا 20: 23)، يقول البعض الآخر أن المفاتيح هي فرصة تمكن النَّاس من دخول ملكوت الله بتقديم رسالة الخلاص (أعمال الرُّسل 15: 7-9). وجاء في توبيخ يسوع أنَّ الكتبة والفِريسيِّين يظنون انهم يقبضون على مفاتيح الملكوت لكنهم يحاولون أن يمنعوا البعض من الدخول إليه، كما قال يسوع "الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون، فإِنَّكم تُقفِلونَ مَلكوتَ السَّمَواتِ في وُجوهِ النَّاس، فَلا أَنتُم تَدخُلون، ولا الَّذينَ يُريدونَ الدُّخولَ تَدَعونَهم يَدخُلون" (متَّى 23: 13-14). فالمفاتيح هي السلطة على فتح كنيسة المسيح وتوزيع كنوزها على الذين هم أهلاً لأخذها (لوقا 11: 52). ويُقّلد يسوع مفاتيح كنيسته التي بناها وخلّصها بسفك دمه على الصَّليب إلى بُطرس ورسله وخلفائه. أمَّا عبارة "مَلَكوتِ السَّمَوات" فتشير إلى كنيسة المسيح حيث شُبِّهت هنا بقَصرٍ، وشُبه حق الإدخال إليها أو الإخراج منها أو المنع منها بالمفاتيح. أمَّا عبارة "فما رَبَطتَهُ في الأَرضِ رُبِطَ في السَّمَوات. وما حَلَلتَه في الأَرضِ حُلَّ في السَّمَوات" فتشير إلى سلطان الرَّبط (رومة 7: 2) والحَلِّ (1 قورنتس 7: 27)، أي التحريم والتحليل، المنع وإعلان السَّماح، والفصل من الجماعة الدينية أو القبول فيها ثانية، والأمر والنهي، وتفسير ما هو مسموح وما هو ممنوع في شريعة موسى. قام بُطرس بفتح الكنيسة المسيحية لليهود (أعمال الرُّسل 2: 38-41) وفتح الكنيسة أيضا للأمم (أعمال الرُّسل 10: 48) واخرج منها الخائنين كحنانيا وسفيرة (أعمال الرُّسل 5: 3-5: 9) وسيمون الساحر (أعمال الرُّسل 8: 21). وهذه الآية تُحقق نبوءة أشعيا (أشعيا 22: 22) التي تجعل مفاتيح السماوات من اختصاص المسيح وحده، كما جاء في رؤية يوحَنَّا المَعمَدان "وأَجعَلُ مِفْتاحَ بَيتِ داُودَ على كَتِفِه يَفتَحُ فلا يُغلِقُ أَحَد ويُغلِقُ فلا يَفتَحُ أَحَد"(أشعيا 22: 22)، وهذه النبوءة تردَّدت في سفر الرؤيا "مَن عِندَه مِفْتاحُ داوُد، مَن يَفتَحُ فلا أَحَدَ يُغلِق، ويُغلِقُ فلا أَحَدَ يَفتَح" (رؤيا 3: 7). ولكن الحلّ والرَّبط مُنح لسائر الرُّسل، كما مُنح لبُطرس بدليل قول يسوع " الحَقَّ أَقولُ لَكم: ما رَبطتُم في الأَرضِ رُبِطَ في السَّماء، وما حَلَلتُم في الأَرضِ حُلَّ في السَّماء" (متَّى 18: 18). وأرسل الرُّسل هذا السُّلطان بإرشاد الرُّوح القدس في مجمع اورشليم وحكموا بجواز مخالطة اليهود للأمم وإلغاء التمييز بين الحلال والحرام في الأطعمة وإبطال الختان (أعمال الرُّسل 15: 10، 20، 28، 29). المسيح يصادق على ما يُعمل باسمه على الأرض. أمَّا عبارة " حُلَّ في السَّمَوات" فتشير إلى ما توافق عليه السماء، معنى ذلك أنَّ المسيح أعطى رسله سلطانا غير عادي لكي يُعصموا من الغلط في أحكامهم الدينية التي التزمت الكنيسة بها، فهم كانوا مُلهمين بالرُّوح القدس بدليل قوله تعالى" فَمتَّى جاءَ هوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدكم إلى الحَقِّ كُلِّه " (يوحَنَّا 16: 13).
20 ثُمَّ أَوصى تَلاميذَه بِأَلاَّ يُخبِروا أَحَداً بِأَنَّهُ المسيح
لا تشير عبارة "بِأَلاَّ يُخبِروا أَحَداً بِأَنَّهُ المسيح" إلى استنكار يسوع للقب "المسيح" بل حفظ السر في حوزة التَّلاميذ إلى ما بعد قيامة الرب وتحذير لهم بإفشائه قبل أوانه بسبب ملابسات هذا اللقب في الأوساط اليهودية، بان المسيح لم يكن قائدًا عسكريًا بل "عبدًا متألمًا، كما وصفه أشعيا النَّبي، لأنَّه عندما اعترف التَّلاميذ بان يسوع هو المسيح، لم يكونوا على علمٍ بعد بكل ما يُعنيه من آلام وموت. لم يرفض يسوع لقب المسيح، لكنَّه نهى بشدة أن يُخبر به (لوقا 9: 21). فسر المسيح لم يُكشف إلاَّ في أثناء آلام المسيح (مرقس 14: 61-62). لذلك بعد قيامة يسوع، اخذ التَّلاميذ إعلان أنَّ يسوع هو المسيح، كما جاء في عظة بُطرس الأولى " فَلْيَعْلَمْ يَقينًا بَيتُ إِسرائيلَ أَجمَع أَنَّ يَسوعَ هذا الَّذي صَلَبتُموه أَنتُم قد جَعَلَه اللهُ رَبًّا ومَسيحًا"(أعمال الرُّسل 2: 36). ومن هذا المنطلق، يتوجب على المسيح أن يموت ثم يقوم كي تنكشف هويته. لهذا لم يسمح المسيح لتلاميذه أن يعلنوه، بل طلب منهم الصَّمت، فلا بدّ من انتظار حدث الصليب والموت والقيامة لكي ما يقدروا أن يعلنوا هويّته الحَقّة، هويّة الميت والقائم من بين الأموات حبًّاً بالبشر والحاضر في حياة التَّلاميذ عبر القيامة. وتدل هذه الآية أن جميع التَّلاميذ اشتركوا جميعًا في اعتراف بُطرس بلاهوت المسيح.
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متَّى 16: 13-20)
بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متَّى 16: 13-20)، نستنتج انه يتمحور حول هوية يسوع الحقيقية: ابنُ الإِنسانِ وابن الله معًا وحول رئاسة بُطرس على الكنيسة.
1) هوية يسوع
بعد أن حذّر السيّد المسيح التزام تلاميذه من رياء تعليم الفِريسيِّين والصَّدوقيِّين (متَّى 16: 5-12) توجّه مع تلاميذه إلى قَيصَرِيَّةِ فيلِبُّس (بانياس اليوم). وهناك طرح عليهم سؤالين حول هويته أحدهما غير مباشر: "مَنِ ابنُ الإِنسانِ في قَولِ النَّاس؟ " (متَّى 16: 13) والسُّؤال الآخر مباشر لهم "مَن أَنا في قَولِكم أَنتُم؟ " (متَّى 16: 15). فأَجابَ سِمعانُ بُطرس: ((أَنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ)). (متَّى 15: 16). يسوع هو ابنُ الإِنسانِ وهو ابن الله.
ا) يسوع ابنُ الإِنسانِ
شرع يسوع في ذلك الوقت يُعدَّ التَّلاميذ لقُبول تعاليم يصعب عليهم التسليم بها، كيف لا، وهو من أعسر التعاليم فهمًا وابعدها منالاً، إذ علمّ أنه ينبغي عليه أن يتألم ويموت لتتميم عمل الفِداء. ومن هذا المنطلق، افتتح يسوع كلامه بسؤال طرحه على تلاميذه "مَنِ ابنُ الإِنسانِ في قَولِ النَّاس؟" (متَّى 16: 13)، وبهذا السُّؤال أبرز جانبًا هامًا في إيماننا بيسوع "ابنُ الإِنسانِ" تأكيدًا لتأنُّسه. ويُطلق يسوع على نفسه عادة في الأناجيل لقب ابنُ الإِنسانِ. ومن المحتمل أن يكون قد اختار هذا اللقب بسبب التباسه. وقد وردت هذه العبارة في الأناجيل سبعين مرة. ولقب "ابنُ الإِنسانِ" في الأصل اليوناني τὸν υἱὸν τοῦ ἀνθρώπου هي ترجمة للفظة العِبرية والآرامية בַר אֱנָשׁ، أي ابن البشر، وتظهر في معظم الأحيان كمرادفة للإنسان، كما جاء في المزامير " لِتَكُن يَدُكَ على رَجُلِ يَمينكَ على ابنُ الإِنسانِ (בֶּן־אָדָם) الَّذي أَيَّدتَه لَكَ" (مزمور 80: 18). انه " ابن آدم"، عضو من أعضاء الجنس البشري.
لمَّح دانيال النَّبي في لقب "ابنُ الإِنسانِ" إلى صورة ذلك الشَّخص السَّماوي الغامضة الذي يتولى سُلطان الدَّينونة في آخر الأزمنة. "فإِذا بِمِثلِ آبنِ إِنسان آتٍ على غَمامِ السَّماء فبَلَغَ إلى قَديمِ الأَيَّام وقُرِّبَ إلى أَمامِه. وأُوتِيَ سُلْطاناً ومَجداً ومُلكاً فجَميعُ الشُّعوبِ والأُمَمِ والأَلسِنَةِ يَعبُدونَه وسُلْطانُه سُلْطانٌ أَبَدِيّ لا يَزول ومُلكُه لا يَنقَرِض" (دانيال7: 13-14). عاد التقليد الرؤيوي اليهودي اللاحق لسِفر دانيال إلى رمز "ابنُ الإِنسانِ" حيث رأى فيه كائنًا عجيبًا غامضًا، مقيمًا بجوار الله، حائزًا على البِّر ومُعلنًا عن خيرات الخلاص المُدخّرة لنهاية الأزمنة حيث يستوي على عرش مجده، كديّان للجميع، ومُخلِّص الأبرار ومنتقم لهم، وهم سوف يَحيون بالقرب منه بعد قيامتهم من بين الأموات.
ربط يسوع من خلال لقب "ابنُ الإِنسانِ" الصورة الإسكاتولوجية (آخر الأزمنة) "تَرى ابنُ الإِنسانِ آتِياً على غَمامِ السَّماء في تَمامِ العِزَّةِ والجَلال" (متَّى 24: 30) مع النظرة اليهودية الرؤيوية "سَوفَ يَأتي ابنُ الإِنسانِ في مَجدِ أَبيهِ ومعَه مَلائكتُه، فيُجازي يَومَئِذٍ كُلَّ امرِئٍ على قَدْرِ أَعمالِ" (متَّى 16: 27).
قبل البلوغ إلى هذه الحالة في مجيء يسوع ديانًا، يجب أن يمرَّ ابنُ الإِنسانِ بحالة "العبد المتألم" الذي يموت من أجل الآخرين حيث يصعب على النَّاس خلالها أن يتعرّفوا عليه حتى يؤمنوا به (يوحَنَّا 9: 35). وهكذا ربط يسوع أيضًا من خلال لقب "ابنُ الإِنسانِ" مع دعوة "عبد الرب المتألم". وفي الواقع، جاء يسوع ليُحقِّق خلال حياته الأرضية دعوة "عبد الرب المتألم" الذي نبذه النَّاس وقرّروا بقتله، حتى ينال المَجد من الله، ويُخلِّص الجماهير. وقد صرّح يسوع أن ابنُ الإِنسانِ تحمَّل كل آثامنا من أجل خلاصنا، كما ورد في الإنجيل البشير "إنَّ ابنُ الإِنسانِ سَيُسْلَمُ إلى أَيدي النَّاس، فيَقتُلُونَه"(متَّى 17: 22-23). فلقب "ابنُ الإِنسانِ" حلّ محل آنذاك لقب "المسيح"، لانَّ لقب المسيح سابق لأوانه (مرقس 8: 29-31) وأبرز المزيد من التطلعات الزمنية لرجاء إسرائيل. وعليه يشير لقب "ابنُ الإِنسانِ "في الأناجيل إلى كلمات يسوع بالذات.
لقب ابنُ الإِنسانِ، بالإضافة إلى ذلك، يُجسّد الأبرار المُضطهدين حيث جاءت القيامة تنصيبًا ليسوع بصفته ابنُ الإِنسانِ، ومُحقِّقًا ما أنبأ به يسوع مرارًا " أَنتُم الَّذينَ تَبِعوني، متَّى جلَسَ ابنُ الإِنسانِ على عَرشِ مَجدِه عِندما يُجَدَّدُ كُلُّ شَيء، تَجلِسونَ أَنتم أَيضاً على اثنَي عَشَرَ عَرْشاً، لِتَدينوا أَسباطَ إِسرائيلَ الاثَنيْ عَشَر" (متَّى 19: 28)؛ وفي موضع آخر قال يسوع " وتَظهَرُ عِندَئِذٍ في السَّماءِ آيةُ ابنُ الإِنسانِ. فتَنتَحِبُ جميعُ قبائِلِ الأَرض، وتَرى ابنُ الإِنسانِ آتِياً على غَمامِ السَّماء في تَمامِ العِزَّةِ والجَلال." (متَّى 24: 30). ولذلك جاز ليسوع أن يكون تجسيدًا لجميع المُضطهَدين وجميع الصِّغار والمساكين الذين أصبح واحدًا منهم " كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متَّى 25: 40).
في بداية المسيحية نظرت الجماعة المسيحية الأولى التي هي من أصل يهودي إلى عمل يسوع انطلاقًا من لقب "ابنُ الإِنسانِ" الوارد في سِفر دانيال (7: 13-14)، وكانوا يرون في المصلوب ذلك الذي به تمّت دينونة البَشر " فتَأتِيَكُم مِن عِندِ الرَّبِّ أَيَّامُ الفَرَج ويُرسِلَ إِلَيكُمُ المسيحَ المُعَدَّ لَكم مِن قَبْلُ، أَي يسوع، ذاكَ الَّذي يَجِبُ أَن تَتَقبَّلَه السَّماءُ إلى أَزمنَةِ تَجديدِ كُلِّ ما ذَكَره اللّهُ بِلِسانِ أَنبِيائِه الأَطهار في الزَّمَنِ القَديم" (أعمال الرُّسل 3: 20-21).
بعد ذلك، خسر اللقب بُعدَه مع الجماعات المسيحية اليونانية (الهلنستية)، وحلَّ محله لقب "ابن الله"، ولقد لعب بولس دورًا كبيرًا في هذا التطور. وبسبب السُّلطة الخارقة التي يطالب بها يسوع كابنُ الإِنسانِ، انطلاقًا من نصوص دانيال استطاع المسيحيون أن ينسبوا إليه لقب "ابن الله"؛ وهذا ما يستند إليه سلطانه ويُمكنه أن يرسل تلاميذه إلى العالم كله (متَّى 28: 16-20).
لمَّا جاء آباء الكنيسة، فهموا لقب ابنُ الإِنسانِ حرفيًا: فقالوا: أنه الإنسان مُمثل الإنسانية، ولكن، لم يكن هذا ما عناه المسيحيُّون الأوَّلون في اورشليم، وما كان يُهمهم هو الأصل السَّماوي لابنُ الإِنسانِ والعمل الإلهي التي يُتمّه. لقد سال يسوع تلاميذه من هو ابنُ الإِنسانِ لكي يقودهم إلى الإقرار بما هو أسمى من ذلك وهو لقب "ابن الله".
ب) يسوع ابن الله
كي نفهم لقب يسوع "ابن الله "لا بُد َّمن البحث عنه بحسب شهادة بُطرس الرَّسول الصَّادرة عن الوحي الإلهي، وعلاقة هذا اللقب في تجسده المسيح وموته وقيامته وكيف فهم بولس الرَّسول هذا اللقب مفهوم ابن الله.
يسوع ابن الله في العهد القديم:
قيلت عبارة "ابن الله" في الملائكة والشَّعب اليهودي والمسيح المنتظر (2 صموئيل 7: 14، مزمور 2: 7)، وتشير هذه العبارة إلى علاقة خاصة مع الله واختياره من أجل الرِّسالة التي يعهد بها الله "أبنائه". وانطلقت المسيحية من هذه المُعطيات، فشدَّدت على الميزة الفريدة الخاصة بشخص يسوع. فهو الذي يقيم مع الله علاقة بنوية لا مثيل لها، والذي عُهد إليه برسالة لا نظير لها، وهي خلاص النَّاس (متَّى 1: 21).
يسوع ابن الله في الإنجيل
التجسد وابن الله:
تتجلى عقيدة التجسُّد بكل أبعادها. فقد أرسل الله ابنه الواحد إلى العالم ليُخلص العالم " ما ظَهَرَت بِه مَحبَّةُ اللهِ بَينَنا هو أَنَّ اللهَ أَرسَلَ ابنَه الوَحيدَ إلى العالَم لِنَحْيا بِه" (1 يوحَنَّا 4: 9). وهذا الابن الواحد هو الذي أخبر عن الله " إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه"(يوحَنَّا 1: 18) ويمنح البشر الحياة الأبدية التي تأتي من الله "إنَّ اللهَ وَهَبَ لَنا الحَياةَ الأَبدِيَّة وأَنَّ هذهِ الحياةَ هي في ابنِه. مَن كانَ لَه الابنُ كانَت لَه الحَياة. مَن لم يَكُنْ لَه ابنُ الله لم تَكُنْ لَه الحَياة"(1 يوحَنَّا 5: 11-12) والعمل المطلوب هو الإيمان بالابن "عَمَلُ اللهِ أَن تُؤمِنوا بِمَن أَرسَل" (يوحَنَّا 6: 29) من يؤمن بالابن له الحياة الأبدية "أَنَّ كُلَّ مَن رأَى الِابنَ وآمَنَ بِه كانَت له الحياةُ الأَبَدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" (يوحَنَّا 6: 40) ومن لم يؤمن به يحكم عليه "مَن آمَنَ بِه لا يُدان ومَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد" (يوحَنَّا 3: 8).
تحدّث يسوع بالإضافة إلى ذلك، بعبارات واضحة عن العلاقات بين الابن والآب: تقوم بينهما وحدة في العمل والمجد (يوحَنَّا 5: 19، 23)، إذ يمنح الآب كل ما له لابنه لأنه يُحبُّه "إِنَّ الآبَ يُحِبُّ الابن فجَعَلَ كُلَّ شيءٍ في يَدِه "(يوحَنَّا 3: 35)، ويعطيه سُلطة إحياء الموتى "فكَما أَنَّ الآبَ يُقيمُ الموتى ويُحيِيهِم فكَذلِكَ الِابنُ يُحيِي مَن يَشاء."(يوحَنَّا 5: 21) وسُلطة القضاء "لِأَنَّ الآبَ لا يَدينُ أحَداً بل أَولى القَضاءَ كُلَّه لِلاِبْن" (يوحَنَّا 5: 22) وعندما يرجع يسوع إلى الله، يُمجِّد الآب الابن لكي يُمجِّده الابن، كما جاء في صلاة يسوع الكهنوتية "يا أَبتِ، قد أَتَتِ السَّاعة: مَجِّدِ ابنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابنُكَ (يوحَنَّا 17: 1).
شهادة بُطرس وابن الله:
لم يكتف بُطرس أن يعلن أن يسوع نبيًا؛ أي ذاك الذي يحمل الكلمة، بل هو الكلمة. ولم يكتف أن يعلنه "ابنُ الإِنسانِ" أي يسوع الناصري الإنساني الذي يخلص البشر، بل هو المسيح ابن الله". شهد بُطرس باسم التَّلاميذ جميعاً انطلاقا من قوة إيمانه وبنعمة خاصة من الروح القدس أن يسوع هو " المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ" (متَّى 16: 16). لقد صدر هذا الاعتراف عن إيمان حق. فالإيمان مثل إيمان بُطرس هو أساس ملكوت المسيح. بُطرس لم يتعلق بتعاليم السَّيد المسيح فحسب، إنَّما بشخصه أيضًا. وفي شهادة بُطرس " المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ" (متَّى 16: 16) تفخيم واستعمال التعريف، بالإضافة إلى تطويب يسوع لبُطرس، يحملنا على أن نرى في هذه الشهادة كمال الإيمان المسيحي. كما اكتشفه الرُّسل شيئا فشيئا بعد القيامة. وقد أعلن الآب بنفسه هوية ابنه قائلا: " هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِيت" (متَّى 3: 17)
تؤكد تطويبة يسوع لبُطرس "طوبى لَكَ يا سِمعانَ بْنَ يونا، فلَيسَ اللَّحمُ والدَّمُ كشَفا لكَ هذا، بل أَبي الَّذي في السَّمَوات (متَّى 16: 17) بأننا أمام وحي من الآب وفي الجملة شهادة بُطرس " المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ" (متَّى 16: 16) تفخيم واستعمال التعريف، بالإضافة إلى تطويب يسوع لبُطرس، يحملنا على أن نرى في هذه الشهادة كمال الإيمان المسيحي، كما اكتشفه الرُّسل شيئا فشيئا بعد القيامة.
الآلام والقيامة وابن الله:
لا يكفل للمسيح لقب ابن الله مصير مجد ارضي، بل كان لزامًا على المسيح كابنُ الإِنسانِ أن يموت حتى يصل إلى مجده، كما جاء في الإنجيل " وبَدأَ يسوعُ مِن ذلِكَ الحينِ يُظهِرُ لِتَلاميذِه أَنَّه يَجِبُ علَيهِ أَن يَذهَبَ إلى أُورَشَليم ويُعانِيَ آلاماً شَديدة مِنَ الشُّيوخِ وعُظَماءِ الكَهَنَةِ والكَتَبَة ويُقتَلَ ويقومَ في اليومِ الثَّالث"(متَّى 16: 21). ولن يُكشف هذا اللقب حقيقته إلاّ بالآلام والقيامة. ولدى موت المسيح تَبدّد كل التِباس، فاعترف فيه قائد المائة " كانَ هذا الرَّجُلُ ابنَ اللهِ حَقّاً!" (مرقس 15: 39). وفي مخاطبته الله الذي يدعوه " أَبَّا، يا أَبَتِ" (مرقس 14: 36)، ظهرت أُلفة عميقة بين الله والمسيح، وهذ الآلفة تتطلب "المعرفة" المتبادلة الكاملة والمشاركة الشاملة " قد سَلَّمَني أَبي كُلَّ شَيء، فما مِن أَحَدٍ يَعرِفُ الابنَ إِلاَّ الآب، ولا مِن أَحدٍ يَعرِفُ الآبَ إِلاَّ الابْن ومَن شاءَ الابنُ أَن يَكشِفَه لَه "(متَّى 11: 25-27). وهكذا يعطي يسوع المعنى كاملاً على التصريحات الإلهيَّة " أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضيت " (مرقس 1: 11).
ابن الله في رسائل بولس الرَّسول
يصبح موضوع ابن الله في رسائل بولس الرَّسول نقطة انطلاق لاهوتي أكثر عمقًا، كما جاء في تعليمه " لَمَّا تَمَّ الزَّمان، أَرسَلَ اللهُ ابنَه مَولودًا لامرَأَةٍ، مَولودًا في حُكْمِ الشَّريعةْ" (غلاطية 4: 4) لكي يتمَّ بموته الصُّلح بيننا وبينه "فإِن صالَحَنا اللهُ بِمَوتِ َابِنه ونَحنُ أَعداؤُه، فما أَحرانا أَن نَنجُوَ بِحَياتِه ونَحنُ مُصالَحون!" (رومة 5: 10). إنَّ الحياة المسيحية هي حياة في الإيمان بابن الله الذي أحبَّنا وضحّى بنفسه من أجلنا، كما اختبرها بولس الرَّسول " فإِنِّي أَحْياها في الإِيمانِ بِابنِ اللهِ الَّذي أَحبَّني وجادَ بِنَفْسِه مِن أًجْلي" (غلاطية 2: 20).
نستنتج مما سبق أنَّ لقب " ابن الله " يكتسب في إنجيل متَّى معنًا قويًا، لا مجرد مرادف للمسيح ابن داود، إنَّما يضفي على سائر القاب يسوع كل معناها. فإذا كنا في حيرة، يجب أن نُعلنه على مثال بُطرس " أَنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ " (متَّى 16: 16). وعلينا أن نراه مع "قائدُ المِائةِ والرِّجالُ الَّذينَ كانوا معَهُ يَحرِسونَ يسوع، فإِنَّهم لَمَّا رَأَوا الزِلزالَ وما حَدَث، خافوا خَوفاً شديداً وقالوا: كان هذا ابنَ اللهِ حقّاً"(متَّى 27: 54).
2) رئاسة بُطرس للكنيسة:
رئاسة بُطرس للكنيسة والكتاب المقدس
على أثر شهادة بُطرس بإيمانه أن يسوع " هو ابن الله الحَي"، أقامه يسوع رئيسًا للكنيسة، كما تبيّن النقاط التالية:
أطلق يسوع على "سمعان" اسم "صَخر"، "أَنا أَقولُ لكَ: أَنتَ صَخرٌ " (متَّى 16: 18). فإعلان الإيمان مِن قِبَل بُطرس بالمسيح الإله، يُقابِله إعلان المسيح بإيمانِه بِقُدرةِ بُطرس على الثَّبات رُغم ضُعف الطَّبيعة، فالمسيح يُقَوّي بُطرس ويُثَبِّته ويَجعَل مِنهُ الصّخرة الأساسية لِلكَنيسة، ويبقى يسوع القوَّة التي تُعطي بُطرس هذا الثَبات.
رئاسة الكنيسة موجّهه إلى بُطرس وحده، لانَّ إيمانه بالمسيح كان كالصخرة التي لا تتزعزع، حيث التَّسمية تدل على مهمة جديدة، كما في كل مرة يحصل تغيير اسم في العهد القديم. ويُذكّر اسم "صَخر" بـ"حجر الأساس" الذي يدل على المسيح، كما تنبأ عنه أشعيا (أشعيا 8: 14). وحصل سمعان بُطرس على مُهمة تجعله أساس الجماعة، وهي على هذه الصخر سيبني يسوع "كنيسته". هنا أعلن يسوع لبُطرس انه هو المُكلّف بحماية الإيمان، وممارسة العدالة من خلال الإيمان وإدارة الكنيسة على ضوء هذا الإيمان.
لفظة كنيسة تذكِّر بكلمة "كاهال" קְהִלָּתִי العبرية (معناها كنيستي) كما ورد في الترجمة السبعينية التي تعني الجماعة، وهي تعني جماعة الله، ولكنَّ الجديد هنا هو استعمال ضمير المُتصل المتكلم "ي" قال يسوع " كنيستي. "أَنتَ صَخرٌ وعلى الصَّخرِ هذا سَأَبني كَنيسَتي" (متَّى 16: 18)، وبذلك أضفى على الكلمة عمقًا ومعنى جديداً، ولذلك ستكون جماعة الله بعد اليوم الجماعة التي يدعوها يسوع المسيح، الجماعة التي يَبنيها على الصَّخر وهو بُطرس. فالكنسية هي عمل المسيح ابن الله، فيها يُقيم، وفيها يعمل بروحه.
بفضل النعمة المرتبطة باسم بطرس الجديد "صخر" الذي يعبّر عن المهمّة المعينة له، يشترك سمعان بُطرس في هذه الصفات التي يُنسبها الكتاب المقدس إلى الله ومسيحيه، ألا وهي الصلابة التي تدوم والأمانة التي لا تتزعزع. وهذا ما يُبين مركزه الفريد. ولا يرجع اختيار بُطرس إلى شخصيته، إنَّما على الرسالة التي عهد المسيح إليه بها، والتي يمَّمها في الأمانة والمحبة (يوحَنَّا 21: 15-17). ويعلق البابا القدّيس لاون الكبير "اختار الرّب يسوع المسيح بُطرس ليسهر على نداءات الشُّعوب كلّها، وعلى قيادة الرُّسل وآباء الكنيسة أجمعين. أنه قائدٌ بشخصه في حين أنّ الرّب يسوع المسيح يقودهم أيضًا بصفته الرأس"(العظة الرابعة في ذكرى سيامته). فالكنيسة تستطيع أن تعتمد على صلابة إيمان بُطرس الذي يقوم بمهمة رئيسية فيها.
بالإضافة إلى ذلك، قام المسيح بتسليم مفاتيح الكنيسة لبُطرس، "سأُعطيكَ مَفاتيحَ مَلَكوتِ السَّمَوات. فما رَبَطتَهُ في الأَرضِ رُبِطَ في السَّمَوات. وما حَلَلتَه في الأَرضِ حُلَّ في السَّمَوات" (متَّى 16: 19)، جعل يسوع من بُطرس رئيسًا على الكنيسة كما ورد في نبوءة أشعيا " وأَجعَلُ مِفْتاحَ بَيتِ داُودَ على كَتِفِه يَفتَحُ فلا يُغلِقُ أَحَد ويُغلِقُ فلا يَفتَحُ أَحَد" (أشعيا 22: 22)، وسلَّمه ذلك السُّلطان الذي تولاَّه بحسب ما ورد في رؤية يوحَنَّا الرَّسول " ما يَقولُ القُدُّوسُ الحَقّ، مَن عِندَه مِفْتاحُ داوُد، مَن يَفتَحُ فلا أَحَدَ يُغلِق، ويُغلِقُ فلا أَحَدَ يَفتَح" (رؤيا 3: 7). والواقع إن عبارة "الربط والحل" تُعبِّر في مفهوم الربانيين عن السُلطة، إمَّا عن وضع القوانين، وإما عن الفصل عن الجماعة والضم إليها عن طريق الإدانة والمغفرة. ومن هذا المنطلق، فان سلطان المفاتيح الذي سُلم إلى بُطرس، لا بل إلى مجمل الجماعة أيضًا (متَّى 18: 18)، هو سلطان روحي يستمد أهميته من الله الذي يُصادق عليه.
أخيرًا، يؤكد إعلان يسوع "أَنا أَقولُ لكَ: أَنتَ صَخرٌ وعلى الصَّخرِ هذا سَأَبني كَنيسَتي" على دور بُطرس الذي لعبه في الأيام الأولى للكنيسة (متَّى 4/18، 17/1) وتستند الكنيسة الكاثوليكية إلى هذا النص وتبني عليه تعليمها القائل بأن بُطرس هو رئيس الكنيسة وان خُلفاءه الباباوات يرثون رئاسته.
رئاسة بُطرس للكنيسة وآباء الكنيسة
يشهد آباء الكنيسة أنَّ المسيح أقام الكنيسة على بُطرس، ويعترفون له على الرُّسل جميعهم بالرِّئاسة الأولى، وهم بذلك على اتفاق مع الوعد الذي قطعه له المسيح بها. فقد وصف القديس أغناطيوس الأنطاكي وتلميذ الرُّسل، كنيسة روما "الكنيسة التي ترأس جماعة المسيحية كلها". وشهد القديس ايرينيوس، أسقف ليون في فرنسا، لكنيسة روما بقوله: "إلى هذه الكنيسة يجب أن ترجع كل الكنائس بسبب سيادتها العُليا، ولأنَّ تقليد الرُّسل حُفِظَ فيها". وسمّى العلامة ترتليانوس الأفريقي أسقف روما "الحبر الأعظم" و"أسقف الأساقفة". وان " الكنيسة: بُنيت عليه بُطرس"، وأضاف مؤكِّدا رئاسة بُطرس على الكنيسة بقوله "كنيسة روما ترأس هامّة المحبة، أي الكنيسة جمعاء، وإنه يلزم أن تقود الكنائس في إيمان". واقليمندس الإسكندري يسمِّي القديس بُطرس "المختار، المصطفى، الأول في التَّلاميذ، الذي دفع المسيح لنفسه وله الجِزْية" (متَّى 17: 25). ويدعوه القديس كيرلس الاورشليمي: "رأس الرُّسل وأمامهم" (التعليم المسيحي 19:2). ويذكر القديس لاون الكبير "إنَّ بُطرس قد اختير ليكون وحده في العَالَم كله رئيسًا لكل الشُّعوب المدعوة، ولكل الرُّسل، ولكل آباء الكنيسة" (العظة 2:4). وأمَّا القديس قبريانس الأفريقي فيعلق قائلا "لقد بنى المسيح الكنيسة على واحد" (في وحدة الكنيسة 6)، ووصف كنيسة روما "الكنيسة الرئيسية التي هي مصدر الاتحاد الكهنوتي". وأمَّا القديس أوغسطينوس العلامة الأفريقي فقد قال " روما تكلمت فقضي الأمر". يقول القديس أمبروسيوس " حيث بُطرس فهناك الكنيسة". وهكذا يُعتبر أساقفة روما خلفاء للقديس بُطرس وخدامًا لوحدة الكنيسة الجامعة. ويقول البابا القديس يوحَنَّا بولس الثاني "إنّ أسقف روما هو أسقف الكنيسة التي لا تزال موسومةً بشهادتيّ بُطرس وبولس".
قابل آباء الكنيسة كثيرون في جهادهم ضد الآريوسيه، بين الصَّخرة التي عليها بنى المسيح كنيسته والإيمان بألوهة المسيح الذي اعترف به بُطرس، دون أن يقطعوا فيما بين الاثنين من صله بشخص بُطرس. فالإيمان الذي اعترف به بُطرس كان الداعي لاختيار المسيح له أساسًا تقوم عليه الكنيسة.
نستنتج مما سبق أن الأولوية والسُّلطان الأعظم هما للحبر الروماني. بنى السيّد المسيح كنيسته على بُطرس وحده، وإليه عهد برعاية خرافه، وإن كان فوَّض بعد قيامته للرسل سلطانًا مثل الذي أعطاه لبُطرس. الكنيسة الكاثوليكية استندت إلى قول المسيح لبُطرس "أَنتَ صَخرٌ وعلى الصَّخرِ هذا سَأَبني كَنيسَتي" وبنت عليها تعاليمها القائل بأن خلفاء بُطرس هم من يرثون الرئاسة، ويعلق البابا إنّوقنطيوس الثالث (بابا روما من 1198 إلى 1216) " لقد طلب الرَّبّ من بُطرس الإيمان عندما أودعه مفاتيح ملكوت السَّماوات، والمحبّة عندما أودعه خِرافه. وعلى صَخرة الإيمان هذه بُنيت الكنيسة. لقد نال بُطرس بهذا شرفين: أساس الكنيسة ورئيسها " (العظة رقم 21). ويكفل بُطرس استمرارية التّواصل بين يسوع، كما عاش على الأرض، والجماعة الكنسية، إذ صار بُطرس وكيلاً ونائبًا عن المسيح على الكنيسة، فكان له سُلطان شرعي لا ينفصل عن سُلطان الاثني عشر (متَّى 18: 18)، لكن يفوقهم كافة.
رئاسة بُطرس للكنيسة والتقليد الأرثوذكسي
يعتقد التقليد الأرثوذكسي أنَّ جميع الأساقفة المُعترفين بالإيمان القويم هم خلفاء بُطرس وخلفاء الرُّسل نظرًا لِمَا قاله يسوع لبُطرس "أَنتَ صَخرٌ وعلى الصَّخرِ هذا سَأَبني كَنيسَتي، فَلَن يَقوى عليها سُلْطانُ الموت" (متَّى 16: 16) حيث أنَّ حلامه موجَّه إلى بُطرس كنائب عن سائر الرُّسل. والرِّئاسة هي أيضًا إلى جميع الرُّسل معًا. وجاء أيضا في تعليم بولس الرُّسل "بُنيتُم على أَساسِ الرُّسل والأنبِياء، وحَجَرُ الزَّاوِيَةِ هو المسيحُ يسوعُ نَفْسُه" (أفسس 2: 20 4). وقد صرَّح بطرس الرَّسول انه واحد من الرُّسل وشريك المجد الذي سيُعلن "فالشُّيوخُ الَّذينَ بَينَكم، أَعِظُهم أَنا الشَّيخُ مِثلَهم والشَّاهِدُ لآلامِ المسيح ومَن لَه نَصيبٌ في المَجْدِ الَّذي يُوشِكُ أَن يَتَجَلَّى" (1 بُطرس 5: 1). وكان بُطرس في مجمع الكنيسة الأول في اورشليم كسائر الأعضاء وكان الرئيس يعقوب (أعمال الرُّسل 15: 13)
أمَّا مفسرو الإصلاح فلا ينكرون ما كان لبُطرس من مكانة ودور مميّز في نشأة الكنيسة، لكنَّهم لا يرون أن المسيح أقامه رئيسًا على جميع الرُّسل ورأسًا منظورًا للكنيسة كلها، بتقليده إيَّاه مباشرة وشخصيًا رئاستها، فهم لا يعترفون بمنصب البابا، وإنَّما يقولون بان المسيح فوّض ملْ السلطة الروحية مباشرة إلى الكنيسة، وبواسطة الكنيسة إلى الرَّسول بُطرس، بحيث أنَّ الرَّسول بُطرس كان الخادم الأول للكنيسة التي اختارها لها. ويُبرِّرون ذلك بأن سُلطة البابا تتعارض مع تعاليم الكتاب المقدس، ومن أجل ذلك لا يوجد كرسي بابوي في الكنائس البروتستانتية.
وماذا ينتظر منا يسوع اليوم؟ انه لا يزال يطرح السُّؤال: "مَن أَنا في قَولِكم أَنتُم؟". يريد يسوع الإيمان به والوحدة بيننا. لنقتفي خطى بُطرس الرَّول ونعترف بإيمان أن يسوع هو ربَّنا ومسيحنا الذي مات وقام من أجلنا ليُدخلنا في ملكوته السَّماوي.
الخلاصة
عندما سأل السيد المسيح سؤاله "من ابنُ الإِنسانِ في قول النَّاس"، ردَّد التَّلاميذ ما يقوله النَّاس، فمثلًا هيرودس قال إنه يوحَنَّا (متَّى 2:14). وهناك من قالوا إنه إِيليَّا أي أنه سابق المسيح (ملاخي 5:4)، وآخرون تصوَّروا أنه واحد من الأنبِياء، لأن موسى تنبأ بأن نبيًا مثله سيأتي لهم (تثنية الاشتراع 15:18).
لم يُكَوِّن بُطرس رأيه عن السيّد المسيح من كلام النَّاس، بل الرَّبّ كشفه لهُ. وبناء على هذا الوحي، شهد بُطرس بلاهوت المسيح، ويسوع منحه مهمة رئاسة الكنيسة. لقد أقام المسيح بُطرس صخرًا لجماعته، كما ورد في نبوءة أشعيا " اسمعوا لي أَيُّها المُتَّبِعونَ لِلبِرّ المُلتَمِسونَ لِلرَّبّ أُنظُروا إلى الصَّخرِ الَّذي نُحِتُّم مِنه وإلى المَقلعَ الَّذي آقتُلِعتُم مِنه" (أشعيا 51: 1) وكلفه برسالة ينبغي أن يفيد منها جميع الشعب.
وعهد يسوع إلى بُطرس، الذي اعترف بان يسوع هو ابن الله الحَي رسالة جمع بني البشر في جماعة تمنح لها العون والحياة الأبدية. والكنيسة المُقامة على بُطرس تضمن الانتصار على قوى الشَّر، التي هي سلطات الموت. وهي تعتمد على إيمان بُطرس الذي يقوم بمهمة رئيسية في الكنيسة. فلا بدَّ لبُطرس أن يكون حاضرًا على الدوام من خلال خليفته من أجل توصيل حياة المسيح إلى المؤمنين دون توقُّف. ويعلق البابا القدّيس بيوس العاشر بوصية إلى المؤمنين "وجهّوا خطوات نفوسكم نحو صلابة هذه الصَخرة كما في البداية: فعلى هذه الصخرة بنى مخلّصنا الكنيسة في العالم أجمع كما تعلمون بحيث لا تتعثر القلوب الطيبّة التي تتبع خطاها"(الرّسالة العامة: التّذكار الفَرِح، (Iuncunda sane)، بتاريخ 12 آذار 1904).
دعاء
أيها الآب القدوس، يا من أوحيت إلى بُطرس أن يعترف أنَّ ابنك يسوع هو " المسيح ابن الله الحي" فنال سُلطة الرئاسة في الكنيسة، هبنا نعمة الإيمان في العيش في حضن الكنيسة في الوحدة مع يسوع المسيح من خلال البابا خليفة القديس بُطرس فلا تقوى علينا قوى الشَّر بل نبق في الأمان والسلام والوحدة. آمين.